منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By ممدوح تيسير النفيعي
#69633
ان دراسة السياسات العامة هى أحد الاتجاهات الحديثة نسبيا فى دراسات النظم السياسية والسياسية المقارنة، تكشف عن النظام السياسى وهو فى حالة حركة وتركز على مخرجاته. وأهمية تحليل السياسات العامة من الناحية الاكاديمية هى انها تساعد على فهم ديناميات النظام السياسى والقوى المؤثرة فيه وتمكن من دراسة قدرات النظم السياسية وتأثيرها على اشباع حاجات الفئات المستهدفة. ومن الناحية العملية، فان هذه الدراسات تحقق امكانية الاقتراب من المشاكل اليومية للمواطن وتزيد من الارتباط بالمجتمع ومشاكله.
نشأة الاهتمام بالسياسات العامة: كان الاهتمام التقليدى بعلم السياسة منصبا على البناء المؤسسى للحكومة والتبرير الفلسفى لوجودها. ومع تطور علم السياسة بعد الحرب العالمية الثانية انتقل التركيز من المؤسسات الى العمليات والسلوك، وهو ما استتبع دراسة الأسس الاجتماعية والنفسية للسلوك الفردى والجماعى وانماط سلوك الفاعلين السياسيين وتحت تأثير حركة مابعد السلوكية التى وجهت الباحثين نحو الاسهام فى حل مشاكل المجتمع عن طريق البحوث العلمية، راح علم السياسة فى السنوات الأخيرة يفرد حيزا كبيرا للسياسة العامة انواعها، محتواها، اعدادها، تنفيذها وتقييمها فى ضوء آثارها المتوقعة وغير المتوقعة على المجتمع وعلى النظام السياسى.
وقد ادى الاهتمام بتحليل الشاسات العامة الى تغيرات هامة فى النقاط التى يرتكز عليها علماء السياسة.
الاولى: انها تنقل التركيز من المدخلات الى الخرجات، In-put out put الثانية: انها تنقل التحليل من المستوى الكلى للسياسة macro politics الى التحليل الجزئى Micro politics مفهوم السياسات العامة: ظهر مفهوم علوم السياسات فى بداية الخمسينات وكان اول من استخدمه هو العالم الامريكى هارولد لا سويل. وتتناول هذه العلوم بصفة عامة الموضوعات المتصلة بعمليات اتخاذ القرارات الكبرى فيما يتعلق بالنظام العام.
وهناك عدة تعريفات لمفهوم السياسة العامة فقد عرفها ايراشاركنسكى بأنها القرارات الحكومية الاساسية التى تحدد وترسم حياة المواطنين".
وعرفتها الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية بانها مجموعة من الأهداف تصاحبها مجموعة من القرارات أو البرامج الأساسية تحدد كيف تصنع الاهداف وكيف يمكن تنفيذها.
وفى حين ركز توماس داى على عناصر السياسة العامة فذكر بانها"هدف أو مجموعة من الاهداف ومجموعة من الافعال تقود الى هذه الاهداف مع توافر اعلان النية حولها "ابرز ميشيل اهمية الاختيار فحدد مفهوم السياسة العامة بأنه" الاختيار المتروى المدروس لأهداف جماعية ولوسائل تحقيق هذه الأهداف اعتمادا على قرارات عامة لها صفة سلطوية ملزمة لكل اعضاء المجتمع. وهذا التعريف يتفق مع مفهوم دافيد ايستون لمفهوم السياسة العامة بأنها التخصص السلطوى للقيم على مستوى المجتمع ككل.
ويركز الباحث السياسى على سمتين أساسيتين لتحليل السياسات العامة.
السمة الاولى: هى المدخل العلمى المتعدد والسمة الثانية: هى نزوعها نحو ترشيد القرار وهو يرى ان تحليل السياسات العامة هو: (بحث علمى تطبيقى للعلم الاجتماعى يستخدم مناهج بحثية متعددة لكى ينتج معلومات أساسية تتعلق بسياسة ما تؤدى الى حل المشكلات الخاصة بالفعل السياسى).
وتحليل السياسات بالمعنى الدقيق للكلمة يهدف الى توضيح الآثار التى يمكن ان تترتب على اختيار أحد البدائل سواء اكانت آثارا متوقعة قبل أو بعد تطبيق السياسة. لذلك فتحليل السياسات العامة لا يكتفى بدراسة مضمون السياسة وانما يتطرق الى كيفية صنعها وتكلفتها وبدائلها وكيمة تنفيذها ومطابقة الاهداف المعلنة والنتائج العملية لتطبيق ثم تحليل الآثار المتوقعة وغير المقصودة من تنفيذ سياسة ما.
والسياسات العامة هى وسيلة لتحقيق اهداف النظام السياسى وغاياته وهى تعكس توازنات القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة فى النظام السياسى. ومن هنا كان ارتباطها بالقيم والايدولوجية والاهداف السياسية التى تتبناها النخبة الحاكمة، والقيم والأهداف السياسية البديلة التى تتبناها احزاب وقوى المعارضة.
إشكاليات البحث فى السياسات العامة: بالرغم من طرح مفهوم السياسات العامة منذ الخمسينات، إلا أن معظم النظم السياسية فى الدول النامية على درجة عالية من الحذر بخصوص الاقتراب من مؤسسات صنع القرار وتوفير المعلومات عنها.
- القضية قد تتسم بالحساسية من منظور علاقتها وآثارتها لقضية اكبر وهى الشرعية.
- ان المفهوم ليس محايدا حيث ان عملية صنع السياسات العامة ليست مسألة تكتيكية ولا محايدة من منظور القوى الاجتماعية وتخصيص الموارد والمصالح، فكل تغير فى المدخلات يرتبط بتغير فى الخرجات والعمليات التى يتضمنها والعكس صحيح. والجماعات واصحاب الامتيازات قد لا يسلمون بنتائج وتوصيات بحوث السياسات العامة اذا رأوا فيها تهديدا لمصالحهم.
- صعوبة التنبؤ: المشكلات الاجتماعية معقدة للغاية الأمر الذى يحد من قدرة الباحث على اجراء تنبؤات دقيقة بخصوص تأثير السياسات المقترحة.
- لا يستطيع الباحث فى مجال السياسات العامة ان يضع حلولا للمشكلات إلا اذا كان هناك اتفاق عام عليها. وعدم وجود هذا الاتفاق العام يعنى ببساطة وجود صراع قيمى لا يمكن حسمه عن طريق تحليل السياسة العامة. لا وبالرغم من صعوبات البحث فى مجال السياسات العامة، فقد تزايد الاهتمام بها. فهذا العلم يسمح بالتشخيص والتوصية والانجاز فى مجالات متعددة منها تحسين عمليات صنع السياسات واتخاذ القرارات فى المجالات الختلفة، ومواجهة مشكلات التنمية والتحديث الى جانب النظر فى بدائل المستقبل فى مجالات الحكم والامكانية السياسية.
مراحل عملية صنع السياسة العامة: السياسة العامة تتضمن تبسيطا شديدا لعمليتين أساسيتين: الاولى: هى التحليل بمعنى تحديد المجالات المختلفة للمشكلات المطروحة وتحديد القضايا التى تتضمنها، ثم حصر البدائل الختلفة الممكن اتباعها لحل المشكلات بناء على بحوث جادة ومتعمقة.
الثانية: اتخاذ القرار بمعنى الاختيار الرشيد لأحد البدائل ووضعه موضع التنفيذ ومتابعتة عن طريق مقارنة النتائج المتوقعة بالأهداف القائمة.
وبناء على ذلك، فان مراحل عملية صنع السياسات العامة تشمل:
أ- مرحلة تحديد اطار صنع السياسة Mega policy Making Stage يتم فيها تحديد المشكلة فى اطار من القيم والواقع، وحصر الموارد التنظيمية المتاحة، مع تحديد جهاز رسم السياسة وتقييم عمله وتحديد استراتيجية صنع السياسة.
ب- مرحلة صنع السياسة ويتم فيها تخصيص الموارد، وتحديد الأهداف والاولويات مع اعداد مجموعة من البدائل الاساسية والتوقعات بخصوص منافعها ونفقاتها وتقدير نفقة ومنفعة البديل الأفضل.
ج- مرحلة ما بعد صنع السياسة post policy Making stage وتشمل تنفيذ السياسة مع تقييمها اثناء تنفيذها وبعد التنفيذ.
د- مراحل التغذية العكسية للمعلومات feedback تقوم فيها القنوات المتعددة بالاتصال والتغذية العكسية للمعلومات يربط جميع هذه المراحل ببعضها البعض. وفى هذه المرحلة يعلم واضعو السياسة اوجه القوة والضعف ومارتبتهه من اثار متوقعة وغير متوقعة، وبالتالى فالتغذية العكسية تتكفل بإعادة فتح دائرة السياسة لصياغة بدائل تعدل أو تلغى تلك السياسة.
تحليل السياسات العامة كأحد مداخل دراسة النظم السياسعة: يرتبط تطور الاهتمام بالسياسات العامة بالأهتمام بالبحث عن أسس واقعية للمقارنة بين النظم السياسية، وذلك اعتمادا على المخرجات.
وموضوع العلاقة بين النظم السياسية والسياسات العامة يطرح عدة تساؤلات منها.
- هل النظم السياسية المتماثلة فى مؤيسساتها أو توجهاتها الايديولوجية تنتج بالضرورة نفس السياسات العامة؟ - وهل يمكن لنظم سياسية مختلفة ان تؤدى الى نفس السياسات العامة؟ - وهل يؤدى التغير فى شكل النظام السياسى - المؤسسات أو التوجه الايديولوجى- بالضرورة الى إحداث تغيير فى السياسات العامة؟ بمعنى آخر هل يمكن ان تكون معرفة النظم السياسية بمثابة خريطة تحدد عليها السياسات العامة؟ وما الدور الذى يلعبه المتغير السياسى وغيره من المتغيرات كمحددات للسياسات العامة؟
أ- محددات السياسات العامة: لقد اهتمت بعض الأدبيات الغربية بدراسة اثر المتغير السياسى فى صياغة جدول اعمال السياسة العامة، فى حين قام البعض الآخر بإبراز اهمية المتغيرات الاقتصادية والبيئة الاجتماعية كمحددات للسياسات العامة.
فنظرية التحليل النظمى لديفيد ايستون تعتبر السياسات العامة بمثابة مخرجات او استجابات النظام السياسى للمدخلات الصادرة اليه من البيئة. وهكذا توجه نظرية النظم الباحث الى تأثير الظروف البيئية وخصائص النظام السياسى على محتوى السياسات العامة ثم تأثير هذه الأخيرة على البيئة والنظام السياسى.
ريرى روبرت داهل ان السياسات العامة تتأثر بالمتغير الاقتصادى سواء كان ذلك يتعلق بمستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو بسمات النظام الاقتصادى والاجتماعى. وأكد داهل ان المتغيرات الخاصة بالنمو الاقتصادى (التحضر، التصنيع التعليم والدخل) لها تأثير اكبر من سمات النظام السياسى فى التأثير على السياسات العامة فى الولايات المتحدة الامريكية، لذلك فلقد نادى داى بضرورة تنمية فكرة ضرورة تغير النظام السياسى من أجل تغيير السياسات العامة.
كما قام كل من ريتشارد داوسون وجيمس روبنسون بالبحث فى العلاقة بين بعض المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية (الدخل التحضر - والتصنيع) ومستويات مختلفة من المنافسة الحزبية وبين تسع سياسات عامة تتعلق بالرفاهة وقد فشلا فى ايجاد دليل على ان النظم السياسية التنافسية تكرس موارد للوظائف الخاصة بالرفاهة اكثر من النظم غير التنافسية عند نفس المستوى من النمو الاقتصادى . لذلك فلقد تشككوا فى وجود علاقة بين المتغير السياسى (التنافسى بين الأحزاب) والسياسات العامة.
وعلى الصعيد الآخر، أبرزت الادبيات التقليدية للسياسة الامريكية اهمية المتغير السياسى واوضحت ان سمات النظام السياسى وخاصة متغير النظام الانتخابى (المنافسة الحزبية والمشاركة الانتخابية) لها تأثيرها الهام على محتوى السياسة العامة. فقد وجد ايرا تشاركنسكى انه بالنسبة لبعض انواع الخرجات مثل سياسة التعليم والرفاهة فان العامل السياسى هو متغير تفسيرى هام. وقام كل من انتونى كينج والكسندر جروث بتفسير الاختلاف بين السياسات نتيجة لأختلاف الثقافة السياسية.
واهتم ريتشارد هوفربرت بدور النخبة وسلوك القادة السياسيين كمحدد هام فى تحديد الانفاق والخدمات العامة.
ب- النظم السياسية كمحدد للسياسات العامة: الأدبيات التى تناولت بالدراسة النظم السياسية كمحدد للسياسات العامة عديدة ومتنوعة. وقد بنيت هذه الدراسات على مجموعة من المتغيرات لتوضح وجود تلك العلاقة من عدمها.
ا- فالدراسة المقارنة التى اجراها سميث على النظم السياسية فى كل من انجلترا وامريكا وكندا وفرنسا والمانيا وهى جميعها نظم ديمقراطية ابرز فيها انه ليست جمع النظم السياسية المتشابهة تعمل بنفس الآليات لتؤدى الى سياسات عامة متشابهة. ففى هذه النظم امسكت الحكومة بزمام المبادرة فى كل من بريطانيا والمانيا، فى حين هددت الجمعية الوطنية والنواب فى الجمهوريتين الثالثة والرابعة فى فرنسا حكومة الائتلاف الضعيفة بتصويتهم بسحب الثقة منها.
وهذا ينطبق ايضا على النظم الحزبية. وهنا تذهب اغلب الادبيات الى ان نظام الحزبين يتفق مع القدرة على توفير الاستقرار، وذلك بن منطلق تمثيل مصالح الاغلبية وامكانية طرح مطالب محددة وبالتالى سياسات معينة يمكن الاتفاق حولها. أما فى النظم الديمقراطية التى تملك نظاما حزبيا تعدديا يتسم بالتجزئة فانه يصعب توفيرهذه الغالبية.
2- وهناك محاولات لربط السمات الهيكلية للانظمة السياسية المتشابهة بالاختيارات التى تطبقها. واحدى هذه المحاولات صنفت النظم السياسية الديمقراطية على أساس متغيرين.
الاول: سلوك النخبة، والثانى: الثقافة السياسية للنخبة والعامة وذلك لتوضيح العلاقة بينهما وبين السياسات العامة المتبعة على المستوى القومى. وقد قصروا التحليل على دول متقدمة لعزل التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية عن النتائج.
3- وهناك دراسات اخرى ربطت بين طبيعة النظم السياسية والمجالات التى تحظى بالمساندة والمجموعات المستفيدة وبين بعض السياسات المتبعة فأبرزت ان النظم الديمقراطية تعطى الاولوية لبرامج التنمية الريفية والاسكان منخفض التكاليف والصحة العامة والتعليم العام وتتبع سياسة اعادة التوزيع. والوضع العكسى يسود فى النظم السلطوية التى تتبنى السياسات التنظيمية.
4- وتناولت بعض الادبيات العلاقة بين الانظمة السياسية ومدى كفاءة أداء السياسات العامة ومنها الدراسة التى حاولت البحث فى مدى العلاقة بين النظم السلطوية والعسكرية وتحقيق سياسات اقتصادية فعالة تأسيسا على التجارب الناجحة فى تايوان وكوريا الجنوبية واسبانيا واندونسيا. وقد ثبت عدم صحة الربط بين الاثنين باستقرار نماذج لسياسات اقتصادية ناجحة فى ظل حكومات ديمقراطية منها استراليا.
والدراسات السابقة تؤكد ان محاولة فهم الاختلاف بين السياسات يجب الا يقتصر على دراسة العلاقة بين النظم السياسية والسياسات العامة. ولفهم التغير والثبات فى السياسة لابد من معرفة النظام السياسى من الداخل والفاعل الحقيقى فى عملية صنع القرار والشبكة المؤسسية التى تتفاعل مع نظام صنع القرار والأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتأثيرات الخارجية التى يعمل فى ظلها النظام السياسى. ومن هنا يتضح ان السياسات العامة تتشابك فى منظومة متكاملة تتربع على قمتها الايدلوجية السياسية للنظام لأنها تحدد دور الدولة وتوجهاتها واولوياتها التى تترجم فى حجم الانفاق العام الذى يخصص للسياسات الختلفة.
أهمية خاصة لدراسة السياسات العامة فى الدول النامية: تكتسب منهاجية السياسة العامة اهمية خاصة بالنسبة للدول النامية التى يكاد يتطابق فيها تعريف السياسة العامة مع نشاط الدولة لما تضطلع به الدولة فى غالبية تلك المجتمعات من دور اساسى.
ولاشك ان الدول النامية اكثر احتياجا الى الاساليب المنهجية التى يقدمها علم السياسات العامة والى الاساليب الفنية المرتبطة بهذه الدراسات. فحاجة هذه الدول الى التخطيط الاستراتيجى بعيد المدى والدور الاساسى للحكومة وللسياسات العامة فى تسيير شئون المجتمع وندرة الموارد الاقتصادية التى تجعل الإنفاق على أحد المجالات على حساب حرمان إشباع حاجات اساسية اخرى قد تتساوى أو تتعاظم اهميتها. واثر ذلك على المسألة المتعلقة بشرعية النظام. كل ذلك اكثر وضوحا فى معظم الدول النامية عن غيرها من الدول.
ولكن المنهج النظمى الذى تستند اليه الدراسة العلمية للسياسات يفترض التنسيق والتكامل بين المنظمات والأنشطة المختلفة وهى اشياء ترتبط بمرحلة معينة من مراحل التقدم الاجتماعى لم تصل اليها معظم الدول النامية، كما ان مثل هذه الدراسة تطلب ان تتوافر فى المجتمع ثقافة سياسية ديمقراطية تسمح بتبادل وجهات النظر واحترام المصالح المتباينة وقبول الحلول غير التقليدية ولذلك كان لابد من التركيز عن نشر هذه الثقافة الديمقراطية.