منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص باستقبال أسئلة الطلاب
#59343
مقدمة:
إن المتتبع لنظم العلاقات الدولية في القانون الدولي الوضعي يجدها مبنية على أساس المصالح و الإطماع للبعض التي تحميها القوة، و لهذا تبتعد قواعد تلك النظم في أغلب الحالات عن السير على أسس من الحق أو العدل أو المساواة فيها خاصة إذا تعارضت المصالح و تصادمت مما يؤدي في كثير من الحالات إلى نشوب الحروب المدمرة التي تقضي على الإنسان و تدمر حضارته و قيمه و تؤدي إلى أن يستعيد القوى المنتصر، الضعيف المهزوم، فتستذل الأمم و الأفراد استنادا على عنصرية أو قومية أو إيديولوجية عدوانية أو غير ذلك. و لما جاء الإسلام خاتم رسالات السماء و ليس من وضع إنسان أو قوم من الإنس، و لذلك فدعوته بالخير جاءت للناس جميعا و ترمي إلى هداية البشر و نشر المحبة و الفضيلة بدل أعمال القوة.
كما جاء الإسلام دعوة للناس كلهم إلى إعمال العقل و اكتساب المعرفة لتسخيرها في خدمة الإنسانية و ليس لاحتكارها كما تفعل النظم الوضعية و تقرها النظم الدولية و مؤسساتها. و في هذا الصدد نطرح الإشكال التالي:
الإشكالية: ما هي الإسهامات التي قدمتها النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية؟
و للإجابة لهذا التساؤل طرحنا جملة من الفرضيات المتمثلة في أن:
الفرضيات: - النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية نظرية شمولية.
- النظرية الإسلامية ترتكز على قواعد الشريعة الإسلامية.



مدخل:
مبادئ العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي
إن التصور الذي يحكم العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي ينطلق بشكل عام من الإطار الذي يحكم كل مناهج النظر في قضايا الوجود و الفكر و هو الإطار الذي يحدد ضوابط التطبيق الإنساني لتلك المناهج بما يحقق إرادة الله تعالى في اعمار الحياة على الأرض، ذلك أن الله سبحانه و تعالى قد شرع المنهج الإسلامي لكل البشرية في جميع أزمانها و أطوارها، ليكون ذلك أصلا ثابتا تتطور في حدوده و في إطاره.
و بالتالي فإن الثوابت الإسلامية هي التي تضبط الحركة البشرية و التصورات الحيوية، فلا ينفلت زمامها كما وقع لأوروبا عندما أفلتت من عروة العقيدة و يمكن النظر إلى جملة هذه الثوابت من خلال المبادئ التالية:
- أولا: التوحيد الإسلامي: ينفرد المنظور الإسلامي بتصور التوحيد الكامل، الخالص من بين سائر التصورات الإعتقادية و الفلسفية السائدة في جنيات الأرض و التوحيد "هو أول الثوابت الإسلامية و مصدر باقي المسلمات الفكرية و الإيمانية، طالبنا الحق سبحانه و تعالى به في أول ما نزل من آيات القرآن الكريم ليكون بمثابة نقطة الانطلاق و حجر الزاوية في بناء أي نسق عملي سليم، يوجه رؤية الإنسان الصائبة لحقائق الحياة و الفكر و الوجود و يساعده على فهم و قراءة كلمات الله القرآنية في كتابه المسطور و كلماته الكونية في كتابه المنظور"[1]
إن تأكيد هذه الحقيقة في منظور الفكر الإسلامي باعتبارها أهم مقومات الشخصية المسلمة فرديا و جماعيا يجعلها هي الضابط لمختلف التصورات و لمختلف التصرفات سواء في بعدها الذاتي أو فيما يربطها بغيرها من علاقات و بذلك يتحقق الانسجام الكامل بين الفكر و العمل بعيدا عن التصورات الفلسفية الوضعية المبنية أساسا على الفردية الإنسانية و المصلحة الخاصة.
- ثانيا: الاستخلاق و صلاح النظام الكوني: إن الإيمان بوحدانية الله سبحانه و تعالى يستلزم بالضرورة أن يرد الإنسان كل شيء في هذا الكون إلى الخالق الحكيم الذي أوجد هذا العالم بإرادته المباشرة المطلقة و خلقه على أعلى درجة من الترتيب و الجمال و أخضعه لقوانين معينة ثابتة لا يحيد عنها و حفظ تناسقه و توازنه في ترابط محكم بين عوالم الكائنات و تنسيق معجز بين آحادها و مجموعاتها و جعل بناءه آية في الروعة و الكمال ليس فيه اختلاف و لا تنافر و لا نقص و لا عيب و لا خلل، قال تعالى: "تبارك الذي بيده الملك و هو على كل شيء قدير (1) الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا و هو العزيز الغفور (2) الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير"[2]
و قد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في مواقع مختلفة و نبه العباد إلى الحكمة السامية وراء التناسق و الإبداع في خلق هذا الكون و ذلك في مثل قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه و بدأ خلق الإنسان من طين (7)"[3]
و على ذلك فإن المنظور الإسلامي يوجب حماية هذا الكون و عدم الإضرار به و بالتالي فإن كل القواعد التي تتقرر في إطاره يجب أن تأخذ بهذا البعد الإسلامي و على ضوئه تتقرر مختلف الأحكام و القواعد التي تضبط العلاقات الدولية.
و من هذا المنظور تهدف المنظومة الإسلامية للعلاقات الدولية إلى المحافظة على الكون و جعل المنظومة العلائقية بين البشر فيه في خدمته و خدمة جميع مكوناته و على رأسها الإنسان.
- ثالثا: وحدة الإنسانية: و قد تقرر هذا المبدأ وفقا لآيات القرآن الكريم و منها قوله تعالى: "يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بت منها رجالا كثيرا".
كما أكد الرسول صلى الله عليه و سلم على هذا المبدأ في خطبة الوداع، و قد ارتكزت المنظومة الإسلامية للعلاقات الدولية على هذا الأصل منذ بدايتها حيث حرص المسلمون على التواصل الدائم مع غيرهم من بين البشر بما يضمن سلامة المعمورة و يحقق المنافع المشتركة بين الناس و يضمن حقوق الإنسان من حيث هو إنسان، فقد اهتم الرسول (ص) و سلم منذ بداية دعوته بالاتصال بالمحيط الخارجي، فراسل الملوك و الأمراء و أرسل القراء و الدعاة و قد ضرب الخلفاء الراشدون و الصالحون من الأمراء و الحكام المسلمون أروع المثل في تجسيد معنى الوحدة الإنسانية، إذ خاطبوا الناس بالحكمة و الموعظة الحسنة فدخل الناس من غير العرب في دين الله أفواجا حتى صار الأعاجم اليوم أكثر عددا في أمة الإسلام، و أقام المسلمون علاقات تعاون متميزة مع غير المسلمين في مختلف المجالات و أمدوا البشرية بكل ما وصلوا إليه من ابتكارات علمية و انجازات أدبية بكل سخاء، ذلك أن الإسلام إنما أرسل للناس كافة و أن رسالة الإسلام إنما جاءت رحمة للعالمين، قال تعالى: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"[4]
1- مبدأ المساواة: تعتبر المساواة من الدعائم البارزة في النظام العالمي الذي يقيمه الإسلام للعلاقات بين أفراد الأمة الإسلامية و في علاقاتهم مع الأمم الأخرى.
و وفقا لهذا المبدأ نبذ الإسلام فكرة التمييز بين الجماعات البشرية و أمر بوجوب مراعاة المساواة القائمة بين البشر جميعا، فلا يفرق بين طائفة و أخرى أو بين فرد و آخر استنادا إلى معايير النوع و اللون أو العنصر أو كل ما من شأنه بث الفرقة و الخلاف لذلك فالمصادر الإسلامية تؤكد على أن لا تكون الاختلافات الخارجة عن إرادة البشر مدعاة للتمييز الجائر المؤدي إلى التنافر أو التقاتل أو التنازع، بل تدعو أن يكون واقع الاختلاف المشار إليه بين طوائف البشر مدعاة لتحقيق الاتصال و التعارف و التآلف بين البشر جميعا و التعاون على إشباع حاجاتهم المتبادلة.
و بناء على هذا المبدأ فقد جاء الخطاب الإسلامي موجها إلى كافة الناس و من تم فإنه كان لزاما على المسلمين بين الجنس البشري من التزام المسلمين جميعا بإيصال الدعوة الإسلامية إلى كافة أنحاء المعمورة.
و من النتائج المترتبة على هذا المبدأ، ضرورة الالتزام بعدم التمييز بين المخاطبين بالدعوة استنادا إلى الأصل أو الوضع الاجتماعي مهما كان مركز الأفراد الاجتماعي أو المالي، حيث لم تعطي المكانة الاجتماعية للفرد أي ميزة تميزه عن المخاطبين و قد دل ذلك على أنه لا مجال للمجاملة أو المعاملة التفضيلية على حساب مبدأ المساواة بين البشر في مجال الدعوة الإسلامية و أنه يتعين ألا يكون الوضع الاجتماعي مدعاة لأي تمييز في صدد تحديد قواعد و أسس التعامل مع الناس طبقا لما يكون عليه موقفهم من الدعوة الإسلامية[5]
2- مبدأ العدل: يعتبر قاعدة أساسية في تنظيم علاقة المسلم يغير و يشمل ذلك العلاقات الدولية و يعير عنه أحيانا بالقسط و إقامة الميزان، و في علاقة المسلمين بغيرهم يجب مراعاة العدل في تعريفهم بالدعوة إلى الله و بناء على موقفهم من الدعوة تتحدد شكل علاقة -تكون في كل الأحوال عادلة- و على هذا تشير آيات القرآن إلى مراعاة العدل في العلاقات بين المسلمين.
رابعا: السيادة الإسلامية: إن السيادة المطلقة في الإسلام هي لله سبحانه و تعالى و بالتالي إذا أسندت إلى جماعة من البشر فهي نسبية و في ذلك حماية للأفراد من طغيان الحكام استبدادهم و بالتالي السلطة المطلقة ترتكز في يد الله سبحانه و تعالى.
و في مجال العلاقات الدولية يهدف الإسلام إلى ترسيخ هذه الحقيقة لتكون كلمة الله هي العليا و بمقتضى هذا المبدأ لا تقوم الفرد في الإسلام إلا على ضمان سيادة المسلمين على قرارهم و تشريحاتهم و ثرواتهم في بلادهم و منع حالات الظلم و الهيمنة و الطغيان و إدعاء الألوهية
و لو ضمنيا في المجال الدولي.[6]
خامسا: الوفاء بالعهود و احترام المواثيق: إن هذا المبدأ في نطاق العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية يشكل مرتكزا أساسيا في تنظيم هذه العلاقات، و من أهم ما يبرز أهمية الوفاء بالعهود و المواثيق التي يعقدها المسلمون مع غيرهم من غير المسلمين أنه يجب احترامها و لو كانت على حساب بعض المسلمين كما حدث للرسول (ص) حينما اضطر أن يسلم من جاؤوه مسلمين بمقتضى صلح الحديبية. و على هذا الأساس يعطي الإسلام الأولية ضمن شروط معينة للوفاء بأحكام العهود المبرمة مع الدول الغير الإسلامية على نداء أو مطلب الاستثمار و الاستغاثة الذي يطلقه المسلمون المقيمون في أي من هذه الدول و هذا مراعاة لمبدأ قدسية المواثيق و المعاهدات.
سادسا: الولاء و البراء:
بمعنى موالاة المؤمنين و البراء من أعدائهم و يعتبر ذلك مبدأ أساسي في نطاق المبادئ الحاكمة لعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول و الجماعات التي لا تدين بالإسلام. و الجدير بالملاحظة في هذا الشأن أن مبدأ البراء يرتبط ارتباطا وثيقا بحركة الدعوة الإسلامية التي تتجه في الأصل إلى من تعين البراء منهم و تصبح موجبات البراء بعد ذلك أقوى و أشد عند رفض غير المسلمين الدخول في الإسلام و الإصرار على مقاومته.
و ما يجب تأكيده بهذا الشأن أن مبدأ البراء في صورته هذه لا يتعارض مع مبدأ التسامح الإسلامي الذي تقتضيه المعاملات الشخصية حيث أن الإسلام لم يمنع من أن تتعايش الأديان جنبا إلى جنب.
و بالتالي يأمر الإسلام بحث المعاملة مع هؤلاء الأعداء، انتظارا لليوم الذي يقنعون فيه بأن
الخير في دخولهم الإسلام و التزم بأحكامه.



الفصل الأول: أسس النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية
المبحث الأول: عالمية الإسلام و تقسيم الديار
أقام الإسلام حضارة إنسانية عالمية كانت النبراس المضيء في عصر كان يسوده الظلم و الظلام ترتكز أساسا على تعاليم الإسلام الخالدة التي انتشلت الإنسان من مواطن الجهالة و العبودية و ارتقت به إلى المكانة التي تتفق و جلال الخلافة الذي منحه الله إياها.
و قد أحدثت الدعوة الإسلامية منذ ظهورها أثرا مباشرا في كل المفاهيم السائدة آنذاك سواء كانت الدينية منها أم غيرها في شتى مجالات الحيات و فروعها. و هي بهذه تكتسب صفة الشمولية إلى جانب العالمية في الدعوة يقول سبحانه و تعالى: " إن هو إلا ذكرى للعالمين " (سورة الأنعام آية 90).
و تتجسد الشمولية و العالمية في دعوة القرآن الصريحة إلى الوحدة في العقيدة و الانضواء تحت راية الإسلام فيقول سبحانه: " و إلهكم و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم " ( سورة البقرة آية 163)
بهذا أقام الإسلام الحضارة الجديدة التي استهدفت سعادة الإنسان في المقام الأول حتى يكون في بمقدوره النهوض بأعباء الحياة و متطلباتها و ينبذ كل سبب من أسباب الخلاف التي تؤدي إلى فساد المجتمع الإنساني بكامله و هو الذي جاء الإسلام من لجل إصلاحه و إقامة النظام العالمي الجديد في ظل الأخوة الإنسانية.
و حتى يؤكد الشارع هذه الأخوة ذكر أن الاختلاف في اللون و الطبع و اللسان و المعتقد هي من عنده سبحانه حتى لا تكون بعد ذلك سببا غي نشؤ أي خلاف أو الوقوع في المكروه، يقول تعالى: " و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم.
و نخلص إلى أن الإسلام قد اقر مبدأين منذ الوهلة الأولى و هما الشمولية و الأخوة الإنسانية. و هناك أمر ثالث أكدته السنة تجلى في أمر الرسول صلى الله عليه و سلم الصحابة بالهجرة إلى الحبشة. فقد أكدت جواز الهجرة عند وقوع المظالم و يسمى في العرف الدبلوماسي المعاصر " باللجوء السياسي " الذي تأكد بنص قرآني حيث يقول سبحانه: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ( سورة النساء أية 96)
تقسيم الديار
انتشر المسلمون الأولون في شتى بقاع الأرض يبشرون بهذه التعاليم السمحة و استطاعوا خلال فترة قصيرة من الزمن أن يصلوا بتعاليم الإسلام إلى مداخل أوروبا في الغرب و مجاهل الهند و الصين شرقا، الأمر الذي نجم عنه بروز مشاكل بين رسل الدعوة و بين الكفار الذين تمسكوا بضلالهم الأمر الذي تطلب وضع أسس تنظيم علاقة التعايش بين المسلمين و غيرهم فاجتهد السلف و وضعوا إستراتيجية كانت تتطلبها المرحلة فقسموا الدنيا عسكريا إلى دارين هما:
- دار للإسلام.
- دار للكفر.
و قد قال بهذا التقسيم جل الفقهاء، في الوقت الذي أضاف فيه البعض الآخر دارين آخرين هما:
- دار العهد.
- دار الحياد.
و ذلك حتى يتسنى من خلال هذا التقسيم المؤقت في نظر الإسلام معالجة الأمور السياسية و العسكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و ما يندرج تحتها من أحكام تتعلق بالمعاملات الحيوية على اختلافها و التي تمس الإنسان في صميم حياته الدينية و الدنيوية، حيث رتب الفقهاء على هذا التقسيم اختلافا في أحكام الشريعة بسبب الحرب الدائرة بين المسلمين و أعدائهم و لا يعني هذا التقسيم في الإسلام أن الإسلام يعترف بانقسام العالم إلى دول متعددة ذات سيادة و قانون مختلف و إن كان هذا صحيحا في الظاهر على اعتبار أن الإسلام لا يهتم بما بين الدول الأخرى من اختلاف في الأنظمة و الشرائع لمخالفتها لشريعة الإسلام. بيد أن الإسلام يقر بوجودها من الناحية الواقعية كما سنرى من خلال الأدلة النقلية الصحيحة قال تعالى: " و لا تكونوا كالتي نقضت غزالها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به و ليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ".
و لما كانت غاية الإسلام في شمولية الدعوة لم تتحقق في الوقت الذي كانت فيه الحرب قائمة بين المسلمين و غيرهم كان لا بد و ترتيبا على هذا من أن يجتهد الفقهاء في تقسيم الدنيا إلى ديار يضعون على أساسها أنظمة للتعايش بين المسلمين و غيرهم من الأمم غير الإسلامية يضعون لها الضوابط التي يمكن التفريق بها بين دار و أخرى.
و الحياد مشروع في الإسلام بدلائل في القرآن ، أما تقسيم الدنيا الباقي فقد قرره الفقهاء بحكم الواقع لا بحكم الشرع.
الضابط الذي يميز بين الدارين:
دار الإسلام:
فدار الإسلام هي إقليم السلام الذي يشمل جميع البلاد التي تدين بالخضوع لسيادة الدولة أو الدول الإسلامية و التي تجري عليها أحكام الشرع الإسلامي، أما ما خرج عن هذا الإقليم فهو دار الحرب.
و تقسم دار الإسلام بدورها إلى ثلاثة أقسام:
الحرم أو الأراضي المقدسة.
الحجاز.
سائر الأراضي الإسلامية.
" و هذا الرأي مستنبط من آراء جمهور الفقهاء الذي يعرف دار الإسلام بأنها التي دخلت في محيط الإسلام و نفذت فيها أحكامه و أقيمت فيها شعائره ".

دار الحرب:
ما خرج عن دار الإسلام هو دار الحرب أو بلاد العدو، و هذه تشمل البلاد التي هي بحالة حرب مع الإسلام و التي تقع خارج اختصاص الشرع الإسلامي.
و بمجرد أن تدخل في نطاق سلطان الإسلام و تجري فيها أحكامه تتحول إلى دار للإسلام و يتم هذا بأحد الأمور الثلاثة:
الفتح أو الاستسلام أو الصلح و اختلف الفقهاء في كيفية تحويل الأرض التي تم الاستيلاء عليها صلحا أيتم تحويلها فورا إلى دار للإسلام كما رأى ذلك الإمام أبو حنيفة أو تصير نوعا ثلاثا من الديار هو دار الصلح أو العهد بشكل مؤقت كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي و يصبح أهلها أهل عهد.
تقسيم الدنيا في ظل القانون الدولي الحديث:
إن جميع الدول تعتبر في عرف القانون الدولي الحديث مستقلة و متساوية و إن علاقتها المتبادلة لا تخضع للتشريع الداخلي لأية واحدة منها بل لنظام خارجي يدعى القانون الدولي.
و هذا القانون الدولي قانون مستقل و مختلف عن القانون الداخلي في موضوعه و أحكامه و ماهيته. فموضوعه يشمل سيادة كل دولة بالقياس إلى الدول الأخرى و علاقاتها فيما بينها في حالات السلم و الحرب و الحياد، و الحقوق و الالتزامات المتبادلة بينها جميعا و الهيئات الدولية و اختصاصاتها.
و أحكام هذا القانون تستمد من مصادر خاصة و تجري على مجالات دولية. أما ماهيته فإنه لم يكتسب صفة القانون الإلزامي إلا بعد تردد و إبطاء و منذ مدة غير بعيدة و لا تزال هذه الصفة ضعيفة فيه بالنسبة لأحكام القانون الداخلي.
أما في الدولة الإسلامية ففكرة الشمول التي تتصف بها و تهدف إليها هذه الدولة إنما تؤدي حتما إلى وحدة التشريع في الأمور الداخلية و الخارجية فلذا كان القانون الدولي في هذا التشريع جزءا لا يتجزأ من القانون الداخلي و كان محترما مثله و إلزاميا في جميع أحكامه، و كانت الدولة تطبقه كما تطبق أي قانون آخر، على الرغم من أن فكرة التشريع كنظام عالمي شامل لم تتحقق في الواقع و لم تكن إلا نظرية و مثلا أعلى ذلك لأنها تفترض تحقيق هدف الدولة الإسلامية بالشمول العالمي، و من ثم تقتضي وجوب دار واحدة هي دار الإسلام.
المبحث الثاني: العلاقات الدولية في وقت السلم

الأصل في العلاقات هو السلم:
إن بعض علماء الغرب الذين كتبوا في الثقافة الإسلامية بوجه عام و في الشرع الإسلامي بوجه خاص قد أهملوا المراجع الأصلية المعتبرة و اعتمدوا على مراجع ثانوية قليلة الأهمية أي أنهم اتخذوا بعض الحلول الخاصة الواردة في مسائل معينة و طبقوها بوجه التعميم على أنها قواعد عامة فتوصلوا بهذا الخطأ المنطقي إلى نتائج مغلوطة أو سطحية. و هذا التفكير على هذا النحو أدى إلى كثير من المغالطات. فالصورة الحقيقية لأي مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية ينبغي أن تستند إلى أصولها و مراجعها الصحيحة، و إلا كانت مشوهة و مغلوطة مردودة.
من هذه المغالطات المنوه إليها سابقا القول بأن الشرع الإسلامي في مسائل السير و العلاقات الدولية هو في غالبه قانون حرب. و قد يكون لهذا القول أحيانا شيء من السنة في تصرف بعض الولاة في التاريخ الإسلامي.
غير أن النصوص الشرعية الأصلية المعول عليها وحدها تؤيد العكس و هو أن الإسلام يعتبر السلام قاعدة أساسية في نظامه التشريعي، و أن هذه النصوص لم تتناول أحكام الحرب إلا في الأحوال الاستثنائية التي تعد فيها الحرب مشروعة.
و توضيحا لذلك، نشير بداية إلى أن كلمة "الإسلام" بالذات مشتقة من نفس الجذر الذي اشتقت منه كلمة "السلم" و "السّلم" و "السلام" و "السلامة". و في مفهومها جميعا نفس معنى الاستسلام لنواميس الكون و لسنن الله التي قدرها.
و قد صورت هداية الإسلام في القرآن الكريم بأنها تخرج المؤمنين من ظلمات الجاهلية إلى نور الحق و تهديدهم إلى طريق السلام، كما وردت في الآية الكريمة: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الإسلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم".[7]
و أيضا يمكن الإشارة أن السلام من أسماء الله الحسنى و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في الآية: "هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام…"[8]
بم عرب هذا الاسم في الدعاء النبوي "اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام".[9]
لقد دعا الإسلام إلى السلم في كافة أحواله، و اعتبر الحرب من إغراء الشيطان و من يسير فيها إنما يسير في خطوات الشيطان، و صرح بأن من يلقى السلام لابد من الامتناع عن قاتله، هذا صريح في نصوص القرآن الكريم الذي هو سجل الشريعة الإسلامية الخالد الذي يخاطب الأجيال كلها، لا فرق بين عصر و عصر و لا جيل و جيل.
إن الإسلام يقرر السلم على أنه أصل من أصول العلاقات الإنسانية بين الدول، و لا شك في أن الحرب في الإسلام ليست هي الأصل في العلاقات فالمبادئ المقررة في قواعد العلاقات لا تسمح بابتداء المسلمين بالحرب.
و من هنا يمكن القول أن الأصل في العلاقات هو السلم الدائمة[10] و ورد في هذا المعنى آيات كثيرة من ذلك قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين".[11] و من الأهمية أن نشير أخيرا إلى أن كلمة "السلام" و مشتقاتها قد وردت في أكثر من مئة (100) آية من آيات القرآن الكريم، على حين أن كلمة الحرب و مشتقاتها لم تذكر إلا في ست آيات فقط.
فالخلاصة التي لا مراء فيها أن السلم و السلام و السلامة و المسالمة من صميم الإسلام، بحسب نصوصه المقدسة، و أدلته الشرعية، و مقاصده السامية، و تعاليمه الحقيقية، و تقاليده الثابتة، و أن الحرب "هو كره" كتب لحالات استثنائية. و فيما عدا ذلك، فكل زعم آخر باطل و مغلوط.
أي يمكن القول بأن السلم هو الأصل في العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية و هو الحالة العادية لهذه العلاقات، و الحرب لا تعدو أن تكون حالة استثنائية على هذا الأصل العام لا يصار إليها إلا لأسباب تقتضيها دواع تحتمها و كلها أسباب و دواع لا تنطوي على ما يفيد أو يجيز مقاتلة غير المسلمين لمجرد بقاءهم على غير ديانة الإسلام.[12]
و الجدير بالملاحظة في هذا الإطار أن تأسيس العلاقات بين المسلمين و غيرهم على السلم لا يعني من وجهة نظر هذا الاتجاه ترك الجهاد أو عدم الاستناد له ليكون المسلمون في حالة سلبية مطلقة و إنما قد يكون لهم دور إيجابي في البدء بالقتال عند توافر مقتضياته كما أن حق الحرية يخول للدولة الإسلامية حق التدخل دفاعا عن نفسها و حقوقها و رعاياها أو دفاعا عن الإنسانية، و يتعين على ولاة الأمر العمل الدائم بمقتضى قوله تعالى: "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".[13] و على هذا الأساس يتعين التقوي بكل ما هو آلة للجهاد في عصره و جنبه، لإرهاب العدو البين الظاهر و العدو الخفي الباطن، إلى غير ذلك مما يندرج في نطاق ما يسمى بالقاموس السياسي المعاصر "بالسلم المسلح" أو "سلاح الردع" الذي يخيف العدو، فلا يجعله يفكر في العدوان فيحصل بذلك السلم المنشود. و من جهة أخرى فإن حالة السلم التي أصل العلاقات الدولية الإسلامية بغيرهم لا تعني الولاية أو المحبة أو التواد بين المسلمين و غيرهم، فالأصل في ذلك هو الحذر منهم حتى تتبين سلامة نواياهم و عدم موالاتهم أو مناصرتهم دون المسلمين، و كذلك عدم الدخول في علاقات تعاون معهم إلا إذا ثبتت نواياهم الحسنة و استقاموا على عهودهم مع المسلمين في ذلك عمل لقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في البيت و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".[14]
العلاقات الدولية في حالة السلم
تنظم الشريعة الإسلامية العلاقات الدولية أثناء السلم كما أثناء الحرب وفق معالم محددة فيما يخص العلاقات الدولية في حالة السلم نذكر:
بناء على ما تقدم و وفق الرأي الذي رجحناه فإن الدعوة إلى الله و توفير السلم اللازم لها أصل ثابت في تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول و الجماعات التي لا تدين بالإسلام. و عليه فإن السلم يتجاوز كونه مجرد صورة من صور العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية إلى هدف عام تنشده هذه الدولة ليعم المعمورة عامة. و في سبيل ذلك تتجه السياسة الخارجية للدولة الإسلامية إلى ترسيخ كل أنواع التعاملات الخارجية الإيجابية بينها و بين الدول الأخرى، بما يحقق الازدهار البشري و الرقي الإنساني في مختلف الجوانب السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها.
- إن الأدوات التي يمكن للدولة الإسلامية أن تستعين بها في إدارة و تنظيم علاقاتها مع الدول و الجماعات غير الإسلامية في وقت السلم تتعدد و تتنوع لتشتمل: التفاوض و التعاهد، و التبادل الاقتصادي و التجاري، و تبادل الرسل و السفارات (الدبلوماسية) إلى غير ذلك من الوسائل و الأدوات التي يستعان بها عموما لتصريف الشؤون الخارجية وقت السلم.[15]
أولا: التفاوض كأداة في العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي
يعد "التفاوض" من مظاهر العلاقات الدولية للدولة المسلمة في حالة السلم حيث يعتبر: "منهج أو أسلوب عملي تتبعه الأطراف المتفاوضة دول كانت أو غير دول من أجل التوصل إلى اتفاق يضمن لها أقصى قدر ممكن من المصالح أو الأهداف".
و بهذا فإن التفاوض يحتل بالمعنى السالف الذكر مكانة معتبرة في نطاق العلاقات الخارجية و تتلخص هذه المكانة في كون أن المفاوضات تعتبر: "وسيلة ذات طبيعية سلمية، تتحصل في تبادل الحوار و المجادلة و الإقناع العقلي في جو من التفاهم و الاحترام المتبادل… كما هو الشأن بالنسبة للتمكين لنشر الدعوة الإسلامية في الأرض، و تسوية ما قد ينشأ من منازعات بين المسلمين و غيرهم، هذا فضلا عما تلعبه المفاوضات من دور مهم و أساسي في بناء و تدعيم السلم و الأمن و إشاعة روح التعاون بين الدولة الإسلامية و الدول الأخرى غير الإسلامية".
و هذا الذي سار عليه النبي صلى الله عليه و سلم و هو يبني منظومة العلاقات مع الغير فقد جرت مفاوضات بينه عليه الصلاة و السلام و وفد يثرب من الخزرج في وقت الحج، قبل الهجرة إلى المدينة، و فيها دعا الرسول عرب يثرب إلى الإسلام و معاونته في تبليغ رسالة ربه، و كذلك فإن ما تم في معاهدة صلح الحديبية[16] من تبادل الرسل و المفاوضين بين الرسول و مشرعي مكة… و ما تم في معركة بدر الكبرى. و في حروب المسلمين ضد الفرس و ما تم في هذا الإطار من مفاوضات مضنية و شاقة بين المسلمين و غيرهم من أجل الاتفاق على تبادل الأسرى و فداءهم أو إطلاق سراحهم.
كل ذلك دليل على أهمية المفاوضات في إبرام المعاهدات و الاتفاقيات، و من أبرز ما تحفل به ممارسات الدولة الإسلامية في عصور ما بعد الخلافة الراشدة بما يؤكد أهمية و ضرورة استخدام التفاوض كأداة من أدوات تنظيم هذه العلاقات و الوصول بها إلى الغاية المنشودة، ما كان يتم من مفاوضات بين كل من دولتي العباسيين و الأمويين و بين الروم و الفرنجة و هكذا سارت الخبرة الإسلامية بشأن عملية التفاوض مسنودة بالأحكام الشرعية الصريحة و واقع الخبرة العلمية لتجعل من هذه العملية حلقة مهمة أساسية في علاقات الدولة الإسلامية الخارجية. و مرحلة معتبرة في سبيل الوصول إلى اتفاقيات و معاهدات مع الأطراف الأخرى بما يحقق مصالح جميع الأطراف في مختلف المجالات.[17]
ثانيا المعاهدات:
تعد المعاهدات أبرز مظهر للعلاقات الدولية في حالة السلم، و قد عني القرآن الكريم في مواضع كثيرة للتأكيد على وجود وفاء المسلم بالعهد و تحريم الإخلال به، فقد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعهود"[18]. و قال سبحانه: "أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لا تنقصوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم الله كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون"[19].
و قال أيضا: "و لا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا، إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون"[20].
و القرآن الكريم ينظر للمعاهدات و يأمر بالوفاء بالعهد وفاءا مطلقا غير مقيد بضعف أو قوة، و لكنه مقيد فقط بوفاء من تعاقد معهم فالوفاء بالعهد ليس علاجا لحال وقتية، و لكنه لإنشاء حال السلم و إذا كان الأصل في العلاقة هو السلم، فالمعاهدات تكون إما لإنهاء حرب عارضة و العودة إلى حال السلم الدائمة، أو أنها تقرير للسلم و تثبيت لدعائمه.
و سنذكر بعض معاهدات النبي، و منها يستبيه مقدار ما فيها من تقرير للسلم أو تنظيم للجوار. و من الأخيرة معاهدته مع اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنه صلى الله عليه و سلم لما جاء إليها كان بها من القبائل العربية الأوس و الخزرج و اليهود، و قد أسلم من أسلم من القبيلتين و بقي منها مشركون و يهود، فعقد معاهدة قوامها حسن الجوار و اشترط عليهم شروطا و التزم لهم بحقوق، و الأساس فيها تنظيم السلم فيما بينهم و بينه صلى الله عليه و سلم[21].
المعاهدات واجبة الوفاء سواء أكانت بصلح دائم أو مؤقت، أم كانت تنظيما للعلاقات في دائرة السلم المستمرة كالمعاهدات التي تؤمن طرق الاتصال، و كالمعاهدات التي تنظم الجوار و غيرها.
و الوفاء بالعهد أصل من أصول العلاقات الإنسانية دول و أحادا، و إذا كانت واجبة الوفاء فهي لا تنقض إلا إذا نقض المعاهد من جانبه أو استعد لنقضها و بدت البوادر التي تدل على ذلك.
و المعاهدات قسمان: مؤقتة و مطلقة.
المعاهدات المؤقتة: تكون بمدة معلومة يجب الوفاء بها طول هذه المدة، و لا يصح نقضها إلا إذا لم يوف العدو بالتزامه فيها، أو ثبت لدى المسلمين قصده إلى نقضها، و إن النبي صلى الله عليه و سلم قد التزم الوفاء بصلح الحديبية و لم يفكر في النكث في عهده بها حتى نقض المشركون من جانبهم فلم يوفوا بالتزامهم.
معاهدات مطلقة عن الزمان: لم يفسر جمهور الفقهاء الإطلاق بالتأييد بل فسروه مقيدا بالأسباب التي في ظلها عقدت المعاهدات، فما دامت هذه الأسباب قائمة فالمعاهدة قائمة، فإذا تغيرت الأسباب يكون للمسلمين نقضها.
و مع أننا نجد دقة عند تحرير الفقهاء القول في المعاهدات التي لا تقيد بزمن و لا تنص على التأييد نقرر أن العهود المطلقة عبر الزمان واجبة من غير نظر إلى الأسباب التي أوجدتها، لأن العبرة في العقود و المعاهدات بنصوصها لبواعثها، و نقول أن العهود المطلقة عبر الزمان كالعهود التي نص فيها على التأييد واجبة الوفاء و لا تنقض إلا عند الخيانة أو توقعها بأمارات لا تقيل الشك بل تقيد الظن الراجح.
لقد أعطى الإسلام أهمية دينية على جانب كونها ضرورة دنيوية اقتضتها الظروف فأوجبت احترامها، باعتبار ذلك واجبا دينيا له دور هام في المحافظة على السلم، و هو ذو أهمية كبيرة في فض المنازعات و تسوية المشاكل و استقرار العلاقات في داخل المجتمع الواحد، و فيها بين الجماعات المختلفة[22].
و في ضوء كل هذا فإن المعاهدة وفقا لما استقر عليه العمل و تواترت عليه أعراف الدول و الجماعات تتضمن كل ما يعقد من اتفاقات و ما يبرم من تعهدات بين المسلمين و غيرهم من أجل تحقيق مصالح المسلمين و مصلحة الدعوة الإسلامية[23].
و للمعاهدات عدة أنواع تختلف باختلاف مضمونها، فهناك المعاهدات التجارية و السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها، و قد عقدت الدولة الإسلامية أنواعا كثيرة من المعاهدات مع الأطراف الأخرى منها:
1- معاهدات الصداقة و التبادل التجاري.
2- معاهدات الصلح.
3- عقد الذمة: و الذي يعقد بين رئيس الدولة الإسلامية و بين شخص أو أشخاص لا يدينون بدين الإسلام على أن يسمح لهم بالإقامة الدائمة في الدولة الإسلامية و يكون لهم ما للمسلمين، و عليهم ما عليهم من حقوق و واجبات، مقابل ضريبة يدفعونها تسمى الجزية نظير حمايتهم و أمنهم و الدفاع عنهم.
4- وثائق الأمان: و هو عقد يفيد ترك القتال مع الحربيين أو هو رفع استباحة دم الحربي، و رقه، و ماله حين قتاله أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما.
5- معاهدات الهدنة و التي تعني وقف القتال بين الطرفين المتحاربين لمدة معينة[24].
ثالثا: التبادل التجاري و الاقتصادي:
للتجارة و المعاهدات الاقتصادية مكانة هامة في حقل الأحكام العامة للشريعة الإسلامية و ذلك لما لهما من دور بارز في الإنماء الاقتصادي و التنمية بصفة عامة.
- و في إطار التعاون و التنسيق لتحقيق المصالح المشتركة في إطار العلاقات الخارجية بين الدول، تعتبر التجارة و التعاملات الاقتصادية واحدة من أهم الأدوات التي تستعين بها الدولة الإسلامية في صدد إدارة و تنظيم علاقتها بالدول و الجماعات، فالتبادل التجاري و الاقتصادي من شأنه أن يشجع جميع أنواع العلاقات السلمية و التعاون على البر بما يعود بالنفع على المسلمين بشكل خاص و على البشرية بشكل عام و هذا خلاف لبعض أعراف القرون الوسطى التي منعت على الفرنجة تعاطي التجارة مع المسلمين[25].
و إذ تنطلق التجارة و المعاهدات الاقتصادية من أحكام الشريعة الإسلامية فقد أوجب الإسلام على المسلمين في مختلف معاملاتهم التقيد بأحكام العقود العامة للتجارة و منها أحكام الشريعة التي تحدد و شروط التعاقد و أركانه بحيث تكون التجارة خالية من عقود الربا و الاتجار بالسلع المحرمة كالخمر و لحم الخنزير و غير ذلك من المحرمات و دون هذه الحدود و هذه الضوابط لم تقف أحكام الشريعة الإسلامية حائلا دون قيام المبادلات التجارية و غيرها في تلبية حاجات الأفراد و سد النقص القائم من متطلبات حياتهم عن طريق الاستيراد و كان ذلك يمكن أن يؤدي إلى "جلب الربح و تحقيق الكسب الناجم عن تحقيق الفائض مما تتخصص الدولة الإسلامية في إنتاجه…. في إطار الشريعة التي تجعل الإباحة هي الأصل العام في صدد تبادل التجارة و قيام التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية و الدول غير الإسلامية طالما كان ذلك يتم في نطاق الضوابط و الحدود التي رسمتها الأحكام العامة للشريعة في هذا الخصوص"[26].
و بناء على ذلك:
- فإن للمعاملات الإسلامية فيما يخص التجارة الخارجية حدودا و ضوابط سواء تم التبادل عن طريق الأفراد أو اضطلعت به الحكومات و من هذه الضوابط يمكن أن نذكر الأحكام التالية:
1- إعطاء الأولوية و الأفضلية في تبادل العلاقات التجارية و الاقتصادية للدول و الجماعات الإسلامية.
2- تحقيق المصلحة العامة للمسلمين شرط أساسي في مشروعية العلاقات التجارية و التبادل الاقتصادي مع الدول غير الإسلامية.
3- الدولة هي المسؤولة عن تنظيم التجارة الخارجية.
4- مراعاة أحكام الدخول و الإقامة بالنسبة لوضع التجار و المستثمرين غير المسلمين في الدول الإسلامية.
5- مراعاة مبدأ المعاملة بالمثل في فرض المكوس (الضرائب) أو الرسوم الجمركية على الواردات من الدول الإسلامية غير الإسلامية.
6- مراعاة مقتضى الأمانة و العدالة في العلاقات التجارية و الاقتصادية الخارجية[27].
رابعا: الدبلوماسية:
تتخذ الجماعات السياسية في تنظيماتها الحديثة و المعاصرة شكل الدولة تدخل مع الدول الأخرى في علاقات متبادلة أثناء السلم و الحرب، و بالطبع مع التطور و تشابك العلاقات صدار في كل دولة جهاز يتولى تنظيم عمليات الاتصال و تبادل العلاقات، وفقا لتلك النظم فإن الشخص الموجود في أعلى الدولة (أيا كانت تسمية ملك أو أمير أو رئيس…) يقوم على رأس الجهاز أو الإدارة نيابة عن الدولة، لتشخيص سياسي و اجتماعي و قانوني، و غالبا ما ينوب عنه وزير الخارجية الذي يعاونه في ذلك عدد من المبعوثين الدبلوماسيون و القناصل الدائمين أو المؤقتين.
أما الوضع عند ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع ميلادي فلم يكن للتقسيم الوظيفي التخصصي آنذاك وجود دقيق و إن كان مضمونه قائما. في الوقت الحالي صار الأمر واضحا، إن حياة الدولة ضمن الجماعة البشرية يقتضي الاتصال فيما بينها في علاقات حتمية، و على ذلك فإن دراسة العلاقات الدبلوماسية من حيث وسائل تحقيق أهدافها يتم بأداتين لا ريب أن الدبلوماسيين اصطلح أعم من السفراء، فالدبلوماسيون هم مجموعة من الأفراد يقومون على مجموعة من العلائق التي تربط دولة من الدول بالدول الأخرى و وفق مجموعة من النظم و الأساليب التي جرى العرف أو الاتفاق على إتباعها في تنظيم العلاقات. و السفير هو واحد من أهم أفراد المجموعة الدبلوماسية أو البعثة الدبلوماسية[28].
و قد عرف العرب كغيرهم من الشعوب قبل الإسلام نظما للمبعوثين، فيما يمكن أن نسميه في وقتنا بأنه شكل من أشكال الدبلوماسية، حيث قاموا بإيفاد المبعوثين على الجماعات و إلى الدول المجاورة، و عندما جاء الإسلام عمل على استعمال هذه الوسيلة على عكس ما كان الحال من قبل، حيث كانت العلاقات الدبلوماسية تقوم أصلا على مبدأ القوة، و لم يكن للمبعوثين دور ذو شأن إلى عند اشتعال الحروب على إثر تبادل معلومات بشأن تنظيم الحرب أو تبادل للأسرى و ما شابه ذلك.
و لعل من أبرز ما جاء في كتاب الله تعالى في هذا الشأن قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير"[29].
حيث تعد هذه الآية بيان لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين مختلف القبائل و الشعوب.
إي أن آية الحجرات تدل على مخاطبة الناس دون تميز و بغض النظر عن العقيدة، و الخطاب فيها جماعي للشعوب و القبائل و الجماعات. فضلا عن أن الأمر فيها يتطلب من هذه الجماعات و تلك القبائل الدخول في علاقات تحقق التآخي و التعارف فيما بينها.
و إلى جانب ذلك، فإن آيات سورة النمل ذات الصلة بتبادل العلاقات بين سليمان عليه السلام و بلقيس في إطار دعوة هذه الأخيرة هي وقومها إلى الإسلام لرب العالمين تنطوي على العديد من الأحكام ذات الدلالات الشرعية المتعلقة بالجوانب الدبلوماسية كما هي في عهدنا هذا.
و قد جرت سنته صلى الله عليه و سلم على إرسال الرسل و السفراء بالكتب إلى الملوك و أمراء القبائل و الدول المجاورة، يدعوهم فيها الإسلام و إتباع الهدى، مثل كتبه إلى هرقل الروم و كسرى فارس، و مقوقس مصر، و نجاشي الحبشة.
و في عهود الدولة الإسلامية لم يكن تبادل السفراء و المبعوثين يتم بصورة دائمة و إنما كان عرضيا، أي أن الدبلوماسية كانت ذات طبيعة مؤقتة حيث كان المبعوثون يوفدون للقيام بمهام خاصة إذا ما تمت عادوا إلى بلادهم[30].
و قد توسعت أغراض الدبلوماسية الإسلامية لتشمل أهدافا أخرى على جانب الدعوة إلى الإسلام، و ما يترتب عنها من علاقات سلمية أو قتالية خاصة بعد أن استقرت الأمور في الدولة العباسية فقد تبلورت البعثات الدبلوماسية بين المسلمين و الدول المجاورة ليس فقط من أجل توقيع معاهدات الهدنة أو السلام بل أيضا لتبادل الهدايا و افتداء الأسرى أو تبادلهم، أو لحل الخلافات أو لتسهيل التجارة، كما صار المبعوثين من قبل الحكام و الأمراء يرسلون لتوصيل رسائل رسمية أو من أجل تقديم التهاني أو التعازي أو المواساة أو طلب المصاهرة بين الأسر الحاكمة، و كثيرا ما يتم تبادل رسائل حسن الجوار و الود بين الحكام. ثم أخذت السفارات صفة العادة السنوية خاصة مع بيزنطة التي كثرت معها معاهدات الصلح و تبادل الأسرى[31].
و الممثلون السياسيون أو الدبلوماسيون قد أعطاهم القانون الدولي في الحاضر حصانة في ثلاثة أمور:
أولها: الحصانة الشخصية للشخص الممثل فلا يعترض له و لا يعتدى عليه حتى يستطيع أداء عمله السياسي من غير حرج، و لا يتعرض لسكنه أو أمتعته الشخصية.
ثانيها: حصانة تتعلق بالمال، فيعفى من الضرائب و الرسوم في حدود معينة.
ثالثها: الحصانة القضائية و من شأنها حماية البعوث السياسية من الملاحقات الجنائية، و من الملاحقات المدنية الخاصة بعمله الرسمي.
و لا شك أن الأمور الثلاثة ليست سواء بالنسبة للشريعة، فالأمران الأولان لا يوجد من أحكام الشريعة ما يعارضها ما دام الأساس هو المعاملة بالمثل.
أما الأمر الثالث و هو الحصانة القضائية فإنه موضع نظر، و نريد أن نبين هنا ما تدل عليه النصوص الشرعية غير مقيدين بالعرف الدولي القائم فإن النصوص الدينية في الإسلام حاكمة على الأعراف و ليست خاضعة لكل الأعراف[32].
المبحث الثالث: العلاقات الدولية في حال الحرب
ظاهرة الحرب في الإسلام ليست مجرد صدام عضوي فرضه منطق الدفاع عن النفس ضد عدوان خارجي، و لكنها في الحقيقة فكرة تنبع و تتحدد بمجموعة من المبادئ التي وضعها القرآن، هذه المبادئ هي:
1) الاتصال هو محور و مقدمة التعامل الخارجي.
2) الحرب ليست مجرد القتال و مواجهة و لكنها تخضع لمجموعة من الأخلاقيات.
3) العدالة هي وهر الممارسة و التعامل.
4) وحدة قيم التعامل في الداخل و الخارج.
5) احترام كرامة الإنسان، و إنسانية الوجود السياسي.
مبادئ خمسة تحكم العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية في وقت الحرب، و هي في حقيقتها تأكيد للتصور الإسلامي لمبرر الحرب و غايتها، فالحرب في هذا التصور هي إرادة حضارية بمعنى أداة تحقيق الوظيفة الاتصالية التي تدور حول مفهوم نشر الدعوة، و هذه المبادئ الخمسة ليست سوى تعبير عن الطبيعة الحضارية و العالمية و الإنسانية للدعوة الإسلامية.
و الدعوة الإسلامية – كدعوة عالمية ذات وظيفة حضارية – انطلقت في تعاملها مع المجتمعات الخارجية في وقت الحرب من هذه المبادئ:
أولا: فالتعامل الخارجي في وقت الحرب ليس أساسه فقط القتال، بل القتال هو الأداة الأخيرة من أدوات التعامل و التي لا بد و أن تسبقها أدوات و خطوات أخرى أولهما الاتصال و الدعوة، و ثانيها عدم مباغتة الطرف الآخر حتى بعد إبلاغه الدعوة و إنما يجب تمكينه من التدبر و تقييم الموقف، ثم ثالثا فإن الطرف الآخر يجب أن يكون هو المبادئ بالقتال.
ثانيا: إذا أصبح القتال ضرورة، فإن التعامل مع الطرف الآخر يجب أن يخضع لمجموعة من القيم و الأخلاقيات التي يفرضها هدف المواجهة و ارتباطها بوظيفة نشر الدعوة، فكرة الفصل بين الممارسة و الأخلاقيات في ميدان القتال لا موضع لها في التصور الإسلامي سواء كان ذلك بدافع المصلحة أو من منطق المعاملة بالمثل أو بحجة الغاية تبرر الوسيلة، إن الحرب الإسلامية ليست مجرد حالة قتال و مواجهة تسمح بالخروج على جميع القيم و المثاليات من أجل تحقيق الانتصار على الطرف الآخر، و لكنها مثالية حركية و تعاليم أخلاقية.
ثالثا: يأتي مبدأ العدالة ليبين أساليب التعامل مع غير المسلم في وقت الحرب، إن العدالة هي القيمة العليا التي تحكم سلوك المسلم مع المسلم و مع غير المسلم، في الداخل و الخارج، في السلم و الحرب، و العدالة في الممارسة تعني عدم التفريق أو التمييز، و تعني عدم الاعتداء، و تعني الاعتدال في أداء المثالية الحضارية.
رابعا: يرتبط بمبدأ وحدة قيم التعامل في الداخل و في الخارج، فالإسلام يرفض أي تمييز بين الممارسة الداخلية و التعامل الخارجي، و التعامل مع غير المسلم يجب أن يخضع لنفس قواعد التعامل مع المسلم. و في ذلك يقول الإمام الشافعي: " لا فرق بين دار الحرب و دار الإسلام فيما أوجب الله على خلقه من الحدود… إن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، و الحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر ".
خامسا: و أخيرا فإن جميع هذه المبادئ إنما تنبع من الإيمان بإنسانية الطرف الآخر، المثالية الإسلامية تفترض بل و توجب احترام كرامة الإنسان و عدم إهدار آدميته – حتى و إن كان كافرا – و تنطلق من إنسانية الوجود السياسي، حتى و لو تعلق الأمر بدولة محاربة. إن مبدأ احترام الشخصية الفردية بوصف كونها قيمة إنسانية هو في الواقع جوهر النموذج الإسلامي المثالي للممارسة السياسية و محور العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية في وقت الحرب، و يكفي أن نذكر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم قبل الالتحام العضوي في إحدى المعارك قال: " اللهم أنت ربنا و ربهم، و نحن عبيدك و هم عبيدك، نواصينا و نواصيهم بيدك، فاهزمهم و انصرنا عليهم ". و فيه الاعتراف بإنسانية العدو و طلب النصر عليه بلا اعتداء و لا تمثيل و لا تعذيب إذ أن كل ذلك يتعارض مع الاعتراف بكونهم بشرا و عبيدا لله تجمعهم بالمسلمين الإنسانية و تفرقهم عنهم العقيدة، و لولا الأمر بقتالهم إعلاء لدين الله ما قوتلوا، و لذا فليس قتلهم في ذاته هو غاية و إنما الغاية هي ظهور الإسلام عليهم و لو تحقق ذلك بدون قتال كان أولى.
هذه المبادئ الخمسة التي تعبر عن طبيعة العالمية و الحضارية و الإنسانية للدولة و الدعوة الإسلامية، هي مصدر و قواعد إستراتيجية القتال و أساليب الاحتكاك العضوي بالمجتمعات الأخرى في التصور الإسلامي، فإذ فشل الاتصال و التعامل السلمي و أبى الطرف الآخر إلا القتال و المواجهة، فإن كفاحية و واقعية الدعوة الإسلامية تفرضان التعامل القتالي كضرورة لا بد منها للمضي في طريق تحقيق وظيفة الدولة العقائدية في النطاق الخارجي. و حينئذ فإن دولة الإسلام تملك إستراتيجية للتعامل مع الطرف الآخر قبيل و أثناء لقتال تتضمن مجموعة من المبادئ أو العناصر التي يتقيد بها التحرك الخارجي في وقت الحرب و أهمها:
1) إن الحرب تفقد شرعيتها إذا لم تسبقها دعوة.
2) إن حالة الحرب لا تبرر الخروج عن قواعد العدل و الإنصاف و لا تعطي الحق في السلوك الاستفزازي، كما لا يجوز قتل النساء و الأطفال.
3) إنه حتى بعد التلاحم العضوي يظل باب الحوار و الدعوة مفتوحا، فإذا رأى الطرف الآخر –بعد بدأ القتال- أن يعيد الاتصال و الحوار، و طلب الأمان لكي يستمع من جديد إلى الدعوة فيجب أن يمنح هذا الأمان و يدعى من جديد في غياب أي ضغط أو إكراه.
4) إن حالة الحرب لا تبرر الغدر أو الخيانة، فالالتزام بالوفاء بالعهود ليس موضع مناقشة حتى لو غدر بها الطرف الآخر.
5) حسن معاملة الأسرى و إطعامهم و كسوتهم و عدم إكراههم على الإسلام و تحريم تعذيبهم.
هذه العناصر تمثل محور التعامل الخارجي للدولة الإسلامية في وقت الحرب و هي في الحقيقة ليست سوى مجموعة من القيم الأخلاقية و المثاليات الإنسانية التي لا موضع لمناقشتها و لا سبيل لتجاوزها أو الخروج عليها، إذ أنها بمثابة فرائض ملزمة و مميزة للحرب الإسلامية التي لا تعدو أن تكون مثالية حركية و تعاليم أخلاقية قبل أن تكون قتال و مواجهة.
1- الدعوة إلى الإسلام قبل القتال، و العدل عند الحرب
الأصل في الحرب في التصور الإسلامي أنها وسيلة للدعوة و ليست غاية في ذاتها، و لا يلجأ إليها إلا عندما تفشل الدعوة أو يحول بينها و بين الناس حائل، و لذا فإن الحرب تفقد شرعيتها إذا لم تسبقها تلك الدعوة، لأن المقصود إزالة الشرك و تثبيت الإسلام، فإن تحقق ذلك بدون قتال كان أولى. و الآيات و الأحاديث في ذلك صريحة: فقال تعالى: "و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"(الإسراء 15)، و قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، و قال تعالى: " فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم" (التوبة 5)، و قال تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون".
فالآيات تؤكد على ضرورة الدعوة قبل القتال، و تضع نهاية الحرب و تحدد غايته في زوال الشرك و بذل أهل الكتاب للجزية، و في هذا دليل على أنه لا يجوز قتال من لم تبلغهم الدعوة على الدين لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم به.
و كان الرسول صلى الله عليه و سلم يأمر قواد جيوشه في بعض الحالات بعدم تعجيل بقتال الطرف الآخر حتى بعد إعلانه رفض الدعوة، و منحه فرصة بدأ الصدام العضوي ليكون ذلك دليلا على انه قد تدبر أمره و اختار طريق الحرب، و يشهد لذلك ما روى عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عليا رضي الله عنه فقال له امض و لا تلتفت قال: يا رسول الله كيف أصنع بهم؟ قال: " إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل لهم: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقال لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك. و الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس و غربت ". و روى مثل ذلك في وصية الرسول صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل حين أرسله لفتح اليمن.
و بطبيعة الحال فإن هذه المعاملة لا تصلح لكل المواقع. و كما أن الحرب الإسلامية تعبير عن مثالية حركية و تعاليم أخلاقية، فهي أيضا تعبير عن حقيقة كفاحية واقعية، و هي تأبى إلا الاعتدال في مثاليتها و في واقعيتها. و لذا فالثابت عن الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا أنه كان يغير على العدو أحيانا و هم غافلون، و كان يأمر قادة جيوشه بذلك في بعض الحالات التي تتطلب المباغتة و بشرط أن تكون الدعوة قد بلغت الطرف الآخر و رفضها، و هذا يدل على جواز قتال من بلغته الدعوة بدون دعوة جديدة قبل القتال، و جواز تجديد الدعوة و ذلك على مقتضى الحال، و قد روى ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بني المصطلق و هم غارون (بمعنى غافلون) آمنون و إبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة و سبى الذرية " (متفق عليه)،
و نستخلص من كل ما تقدم أن المثالية الإسلامية تجعل من الدعوة أساسا لشرعية كل حرب و تفقد الحرب شرعيتها إن هي لم تسبقها الدعوة، أما من بلغتهم الدعوة فأبوا الامتثال لشروطها فهم في حالة حرب و يمكن لقائد جيوش المسلمين أن يجدد لهم الدعوة قبل قتالهم بل و أن لا يبدأهم هو بالقتال، و يمكنه من جانب آخر أن يغير عليهم و يباغتهم دون أن يدعوهم مرة أخرى و بدون أن يعطيهم فرصة البدء بالقتال و ذلك كله على ما يقتضيه الحال.
هذه كانت سنة الرسول صلى الله عليه و سلم و سيرة أصحابه في قتال المشركين و الكفار، أما بعد ذلك فقد اتفق الفقهاء و اختلفوا في مسألة دعاء المشركين و أهل الكتاب قبل القتال، فأما اتفاقهم فعلى أنه لا يحل أن تغزى بلد من البلدان ظلما و على أن الحرب –على الدين- لا تكون إلا بعد دعوة الكفار إلى الإسلام أو إلى إعطاء الجزية – لمن هم من أهلها – و امتناعهم.
و أما اختلافهم فأساسه افتراض بعضهم أن الدعوة بعد عهد النبي صلى الله عليه و سلم قد بلغت الناس جميعا و عدم تسليم بعضهم الآخر بذلك. و على هذا الأساس اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب حكاها المازدي و القاضي عياض:
الأول – يجب تقديم الدعوة إلى الإسلام قبل القتال مطلقا من غير فرق بين من بلغتهم الدعوة و من لم تبلغهم، و به قال مالك بن أنس و الهادوية و غيرهم.
الثاني – لا يجب تقديم الدعوة مطلقا و هو قول الإمام أحمد بن حنبل.
الثالث – يجب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم و لا يجب ذلك إن بلغتهم، لكنه يستحب، و يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا، و به قال نافع و الحسن البصري و الثوري و الليث و الشافعي و ابن المنذر.
أما فيما يتعلق بالعدل فهو جوهر الإسلام و قيمته العليا التي لا موضع لمناقشتها و لا سبيل لتجاوزها سواء في نطاق التعامل الداخلي أو في نطاق التعامل الخارجي، في السلم أو في الحرب، مع المسلم و مع غير المسلم، بل و مع الإنسان و مع كل ذي روح من غير البشر. عن عبد الله بن عمرو العاص أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: " من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله الله عز و جل عن قتله. قيل يا رسول الله و ما حقها؟ قال يذبحها فيأكلها و لا يقطع رأسها و يرمي بها ". و عن سوادة بن الربيع قال: أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و أمر لي بذود، قال: " إذا رجعت إلى بنيك فقل لهم فليحسنوا أعمالهم. و مرهم فليقلموا أظافرهم و لا يخدشوا بها ضروع مواشيهم إذا حلبوا " و الاتفاق بين علماء المسلمين على أن من كان له حيوان فحرام عليه أن يجيعه و حرام عليه أن يكلفه فوق طاقته، و حرام عليه أن يقتله عبثا، و من أعسر بالإنفاق على الحيوان أجبر على بيعه.
و محال على أمة تعدل في المعاملة مع الحيوانات أن تحيد عن العدل في تعاملها مع أمم المشركين و أهل الكتاب. و لذا كان عمر بن الخطاب يوصي أمراءه عند عقد الألوية بقوله: " و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ثم لا تجنبوا عند اللقاء، و لا تمثلوا عند القدرة، و لا تسرفوا عند الظهور…" و جاء في كتابه الذي كتبه إلى جيشه في الكوفة: " أما بعد فإن الله جل و علا انزل في كل شيء رخيصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة و الذكر".
مظاهر العدل في المحاربين يعني عدم الاعتداء و عدم البغي و عدم تجاوز حد الاعتدال، و هناك في القرآن و السنة ما يدعوا للعدل في المحاربين.
قال تعالى: " و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " (البقرة 190) بصفة عامة بأحكام مستمدة من القرآن و السنة و لا سبيل لتجاوزها.
2: الإجارة و الأمان
هذا تعبير آخر عن عالمية و حضارية و إنسانية الدعوة، و تأكيد جديد على ارتباط الحرب الإسلامية بوظيفة نشر الدعوة و عدم اقتصارها على رد العدوان، و الإجارة: المنعة. و الأمان: الأمن، و هو ضد الخوف. و استأمن: أي طلب الأمان.
أولا- مشروعية الإجارة و الأمان:
الأصل في ذلك قوله تعالى: " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و أعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله مخزي الكافرين ". فقد أمن المشركين مدة أربعة أشهر يتدبرون فيها أمرهم و موقفهم من الدعوة و يتعرفون فيها على حقيقة الإسلام و ما يقاتلون عليه. و لو كان القتال لرد العدوان ما منحهم أمانا يتقوون في مدته على المسلمين. و لو كان القتال لمجرد القتل ما منحهم فرصة التدبر و الدخول في الإسلام و النجاة من القتل. فتبين من ذلك أن القتال هو لنشر الدعوة، و أن الأمان قد شرع رحمة بالناس إذ أنه بمثابة الباب الذي يدخل منه كل من هداه الله إلى الإسلام من أهل الحرب و لو كان ذلك في ميدان القتال، الأمر الذي يؤكد الطابع العالمي و الإنساني للدعوة الإسلامية و وظيفتها الحضارية. و بالفعل فقد دخل أغلب مشركي الجزيرة في الإسلام قبل مرور فترة الأمان الممنوحة لهم كما تقدم ذلك في المبحث السابق.
و لما كان القتال وسيلة لنشر دعوة الإسلام و ليس غاية في ذاته، و لما كان تحقيق هذه الغاية بدون قتال أولى من تحقيقها عن طريق القتال، فقد مد الرسول صلى الله عليه و سلم دائرة الأمان لتشمل أيضا سفراء و وفود و مبعوثي الطرف الآخر الذين يوفدون للتشاور و الحوار و محاولة إنهاء مرحلة الحرب عن طريق الاتصالات السلمية.
ثانيا: المستأمن:
يتضح مما تقدم أن الأمان يمنح لكل أحد من أهل الحرب أراد أن يستمع إلى الدعوة أو أن يعيد النظر في موقفه منها و سواء كان فردا من المحاربين أو جماعة منهم في حصن أو سرية أو جيش أو حتى مدينة بأسرها كما أمن الرسول صلى الله عليه و سلم أهل مكة يوم الفتح.
ثالثا: كيفية طلب الأمان:
و كما حرص الإسلام على توسيع دائرة المستأمنين حتى شملت كل أحد من المحاربين رجاء إسلامهم جميعا، فقد كان حريصا على قبول أي مظهر من مظاهر طلب الأمان و سواء كان ذلك صراحة بالكلام أو ضمنا بالإشارة أو بكل ما يفهم منه طلب الأمان. بل و قد جرى مجرى الأمان كل كلمة أو إشارة تصدر عن المسلمين و يفهم منها المحارب أنه قد صار مستأمنا كقوله له: لا تخف أو لا بأس أو ما شابه ذلك من كلام أو إشارة.
رابعا: المؤمن:
امتد التوسع الذي بني عليه الأمان إلى عنصر المؤمن: أي من له حق ممارسة إعطاء الأمان.
خامسا: المأمن:
و يقصد به موضع الأمن، و هو الموضع الذي يجب على إمام المسلمين أن يبلغ المستأمن إليه بعد انتهاء وقت أو سبب الأمان، و واضح في قوله تعالى " ثم أبلغه مأمنه " أن المستأمن هو الذي يحدد الموضع الذي يراه مأمنا له و أن على المسلمين حمايته و حراسته حتى يبلغ هذا الموضع ثم يعامل بعد ذلك معاملة غيره من أهل الكتاب.
سادسا: انتهاء الأمان: ينتهي الأمان في حالتين:
الأولى انتهاء مدة أو سبب الأمان إن كان الأمان محددا بمدة معينة أو بغرض – كسماع دعوة الإسلام أو توصيل رسالة أو لممارسة التجارة – و بلوغ المستأمن مأمنه أو بقائه في دار الإسلام عن اختار اعتناق الإسلام.
الحالة الثانية إلغاء الأمان، إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك كأن يشك في المستأمن أن يكون عينا للمشركين. ة في هذه الحالة لا يجوز الاعتداء على المستأمن إنما يجب على الإمام أن ينبذ إليه ثم يمنعه من المسلمين و المعاهدين حتى يبلغه مأمنه.
3: الأسرى
للإسلام أحكام فيما يتعلق بمعاملة الأسرى، هذه الأحكام مستمدة من القرآن الكريم و مرتبطة بالإطار العام لظاهرة الحرب في الإسلام. و سنقتصر في معالجة الأسرى على موضوعين يرتبطان بإطار التحليل و بهما يكتمل هذا البناء الفكري و الإطار الحركي لظاهرة الحرب في الإسلام و ما يتمخض عنها من علاقات بين المسلمين و غيرهم من منطلق التصور الإسلامي: الأول هو طريقة المسلمين في معاملة الأسرى. و الموضوع الثاني هو الحكم في الأسرى.
أولا: معاملة الأسرى:
لا خلاف على ضرورة قتل مقاتلة الكفار في الحرب، أما إذا وقعوا في الأسر فإن الآيات و الأحاديث تأمر المسلمين بحسن معاملة الأسرى و إطعامهم و كسوتهم و قبول إسلام من أسلم منهم و عدم إكراههم على ذلك. و من ذلك قوله تعالى: " يا أيها النبي قل لمن في أيديهم من الأسرى أن يعلم الله في قلوبهم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم و يغر لكم. و الله غفور رحيم " سورة الأنفال. ففيه استمالة للأسرى و تجديد الدعوة لهم و فتح باب التوبة أمامهم من جديد.
و قال تعالى: " و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا "، أي أنهم يطعمون الأسير رغم حاجتهم هم إلى الطعام و ذلك من باب البر و العطف و ابتغاء وجه الله و امتثالا لأمره. و قد ساوت الآية الأسير من الكفار بالمسكين و اليتيم المسلم من ناحية احتياجه للطعام و من ناحية أن إطعامه من صفات أهل البر و العطف من المسلمين.
و كان الرسول صلى الله عليه و سلم ينهى عن تعذيب الأسير أو التمثيل به. و إن كان لا بد من قتله فقد كان يأمر بقتله قتلا كريما سريعا دون تعذيب بالعطش أو الجوع أو غيرهما.
ثانيا: الحكم في الأسرى:
إذا كان ثمة اتفاق حول طريقة معاملة الأسرى و ضرورة إطعامهم و كسوتهم و الإحسان و الإحسان إليهم و غير ذلك فإن الحكم فيهم فهو اختلاف كبير بين الفقهاء. هذا الاختلاف يرجع في الحقيقة إلى أمرين: الأول – الاختلاف الظاهري في مدلول الآيتين الوحيدتين في القرآن اللتان تعالجان مسألة حكم الأسرى. و الأمر الثاني هو تباين سوابق الرسول صلى الله عليه و سلم و تعددها فيما يتعلق بهذه المسألة. و بناء على ذلك فقد اختلف الفقهاء و الأئمة في هذا الشأن. و سوف نحاول إلقاء الضوء على هذه الموضوعات الثلاث:
* حكم الأسرى في القرآن الكريم *سوابق الرسول صلى الله عليه و سلم في الأسرى
* آراء الأئمة و الفقهاء
حكم الأسرى في القرآن الكريم: حكم الأسرى في القرآن تنازعه آيتان:
الأولى- قوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " (الأنفال 67/68) نزلت هاتين الآيتين في غزوة بدر 2ه تعاتب الرسول صلى الله عليه و سلم لاستكثاره من الأسرى و أخذه الفداء منهم و تبين أنه ما كان يبغي لهم أن يفعلوا ذلك قبل إذلال المشركين و ذلك بالإثخان في الأرض بمعنى المبالغة في قتل الكفار للتمكين للمسلمين في الأرض. و أن غاية الحرب مع المشركين هي تثبيت الإسلام و القضاء على الشرك و ليس مقصودها الحصول على الفداء و غيره من عرض الدنيا.
و أما الآية الثانية فقوله: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منا بعد و إما فداء حتى تضع الحرب أوزارها " (محمد 4). و ظاهرها يقتضي أحد شيئين فيما يتعلق بالأسرى: المن و الفداء و ذلك بعد الإثخان و المبالغة في ضرب الرقاب أثناء المعركة.
سوابق الرسول صلى الله عليه و سلم في الأسرى
حكم الأسير بعد أسره فقد ذكرت الآية من سورة محمد حالتين هما المن و الفداء، ثم جاءت السنة فأقرت حالتين أخريين هما: القتل و الاسترقاق، فالثابت عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قتل بعض الأسرى، و من على بعضهم، و فادى بعضهم، و استرق البعض الآخر.
آراء الأئمة و الفقهاء
اتفق علماء المسلمين و فقهاء المذاهب على جواز قتل الأسير و استرقاقه. ثم اختلفوا بعد ذلك في المن و الفداء.
الفداء جائز و به قال مالك و الشافعي و أحمد و سفيان الثوري و الأوزاعي. أما علماء الحنفية فقالوا بعدم جوازه مع خلاف في التفاصيل. فقال أبو حنيفة: لا يفادى بأسرى المسلمين أيضا. و قال أبو يوسف و محمد: لا باس أن يفادى بأسرى المسلمين.
و المن – كالفداء – جائز عند جمهور الفقهاء و به قال مالك و الشافعي و أحمد: لقوله تعالى: " فإما منا بعد و إما فداء ". و إذا كان علماء الحنفية يمنعون الفداء، فهم من باب أولى يمنعون المن. فقال أبو يوسف: لا ينبغي للإمام أن يدع أسير أهل الحرب يخرج إلى دار الحرب راجعا إلا أن يفادى به. فأما على غير الفداء فلا. و قال محمد بن الحسن: ليس ينبغي للإمام أن يمن على الأسير فيتركه و لا يقسمه.

و الحقيقة ما تقدم من نصوص و وقائع و سوابق و آثار يرجح رأي الجمهور. و الأصل في المسألة تحقيق وظائف الجهاد و النظر إلى مصلحة المسلمين و اعتبار الأعراف السائدة في آن واحد: فالغاية النهائية من الجهاد هي ظهور الإسلام و إزالة الشرك و منع الفتنة. و يجب التعامل مع الأسرى في ضوء هذه الغاية. و مصلحة المسلمين و أوضاعهم بعد انتهاء القتال لا يمكن تجاهلها عند النظر في أمر الأسرى. و لا جدال في ضرورة اعتبار الأعراف السائدة في شان التعامل مع أسرى الحرب إذ يفضي تجاهلها إلى إيذاء أسرى المسلمين عند الطرف الآخر.



الفصل الثاني: النظرية الإسلامية مقابل الفكر الغربي، و دراسة حول السودان.
المبحث الأول: مقارنة بين النظرية الإسلامية و الغربية
إن الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية تتسم بقدر كبير من الإختلاف عن الرؤية الغربية، و سنحاول في هذا المبحث أن نبرز السمات الأساسية التي تميز النظرة الإسلامية عن غيرها دون أن نتعمق كثيرا في هذا الموضوع لأن هذا ليس المقصود من دراستنا، و نكتفي بذكر مميزات العلاقات الدولية حسب ما ورد في المراجع الإسلامية التي اهتمت بالموضوع بالقدر الذي يعيننا على تحليل إشكاليتنا، و سنتناول في هذا المبحث أبعاد المقارنة بين الرؤية الإسلامية و الغربية للعلاقات الدولية ثم نذكر بعض المبادئ التي تقوم عليها هذه العلاقات ثم نعرض الاتجاهات الفقهية الكبرى التي اهتمت بتنظيمها و في الأخير نتطرق إلى المعالم الأساسية التي تميز النظرة الإسلامية عن غيرها في مجال العلاقات الدولية في حالتي الحرب و السلم.
أبعاد المقارنة بين الرؤية الإسلامية و الغربية للعلاقات الدولية:
لا نفصد بهذه المقاربة المقارنة الشاملة بين الرؤيتين الإسلامية و الغربية للعلاقات الدولية، بقدر ما نبحث عن معايير تقييمية لمنظومة العلاقات الدولية الغربية على أساس رؤيتنا الحضارية الإسلامية بغرض البحث عن تجربة علمية للمعضلات الدولية الراهنة، آخذين بعين الاعتبار أن قواعد النظام الدولي غربية، أوفر حظا في التطبيق العملي على عكس قواعد العلاقات الدولية الإسلامية.
و عليه فإن مقتضيات المقارنة الموضوعية بين الرؤيتين الأخذ بعين الاعتبار اختلاف زمن تكوين نظام العلاقات بين المسلمين و غيرهم من الأمم و مراعاة التمايز من حيث المكان و البيئة الحضارية المادية و المعنوية التي ولدت فيها قواعد كل من التنظيمين، هذا فضلا عن وجوب مراعاة اختلاف المصادر التي تستسقى منها مبادئ كلا النظامين و عدم إغفال الامتيازات الثقافية و الفكرية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و غيرها، و هي من الجوانب التي لها أثر كبير في تشغيل الإطار المعرفي محل البحث، خاصة و أن لكل تصور ثوابت و شعارات ينطلق منها.
أولا: اختلاف طبيعة القواعد المنظمة: تختلف العلاقات الدولية وفقا للمنظور الإسلامي عنها في المنظور الغربي اختلافا في الطبيعة باعتبار أن الأول مصدره سماوي إلهي، بينما الثاني وضعي بشري و معنى ذلك أن المصدر الأساسي و الوحيد للمنظور الغربي هو الإرادة البشرية المتغيرة بتغير إرادة البشر و اتساع أو ضيق مدركهم و تحررهم أو عبوديتهم لمصالحهم الخاصة، و في المقابل نجد أن المنظور الإسلامي قادر على التفاعل مع المستجدات الحياتية في كل عصر منفتحا على التجارب البشرية في كل حضارة و لكن انطلاقا من أصول ثابتة شاملة صادرة عن إرادة عليا، هي إرادة الخالق البصير بعباده و ما يكتنف أحوالهم، فهي على هذا الأساس أحكام شاملة عامة تنظم أمور الدنيا و الدين و إلزاميتها أو درجة مشروعيتها تسمو على إرادة البشر مهما كانت، و هي إلزامية لأحكام القرآن و السنة المبينة و المفسرة لما جاء في القرآن.
ثانيا: اختلاف الزمان و البيئة: في الفترة التاريخية التي تكونت فيها العلاقات الدولية في النظام الإسلامي كانت العلاقات بين الدول غير الإسلامية تقوم على الحرب لا تعرف المساواة أو الإقرار بحقوق الغير، فجاء الإسلام و حدد الأهداف و قرر الحقوق للمحاربين و فرض قانون أخلاقي للحرب..
و رغم أن الفاصل الزمني بين تكوين نظام العلاقات الدولية في الإسلام و تكوين نظام العلاقات الدولية في الغرب يزيد على ألف و مائتين عام فإن ذلك لم يجعل النظام الدولي الحديث في درجة النظام الإسلامي أو حتى قربته منه على الرغم مما انطوت عليه هذه السنين من تطور هائل و تغير عميق في العقل البشري و حضارته المادية و فيما يتعلق بتكوين الجماعات السياسية و تشابك العلاقات بينها، فلا تزال النظرية السياسية للعلاقات الدولية في الغرب لم تنضبط و لم تعرف استقرارا خصوصا فيما يتعلق بعلاقات الدول الغربية مع غيرها من الأمم الأخرى.
المبحث الثاني: دراسة حالة السودان
استخدم المفكر الكيني المشهور على مزروعي ذات مرة تعبير "الهامشية المركبة" لوصف وضع السودان في محيطه الإقليمي. فالسودان بحسب مزروعي ليس عربيا خالصا و لا إفريقيا خالصا و لا مسلما خالصا، بل هو بالعكس في الهامش من كل هذه النسب. و بالطبع لا يوافق السودانيين مزروعي في تحليله هذا، و إن كان فيه الكثير من الصحة، ففيما يتعلق بالإسلام على الأقل، فإن السودانيين كانوا منذ دخول الصوفية إلى بلادهم يرون أنفسهم في مركز الكون لا في هامشه. و في كتاب الطبقات لمؤلفه ضيف الله نجد روايات متعددة عن مزاعم صوفية بالقطبية و الوصول، و على هذا التراث استند محمد أحمد بن عبد الله الذي أعلن نفسه في عام 1771 المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا، و باشر حملة للجهاد لإصلاح العالم كله، و لكن المهدي انتقل إلى جوار ربه بعد أشهر معدودة من فتح الخرطوم في جانفي 1775 و اكتمل استيلاؤه على السودان بحدوده الحالية تقريبا و عليه فإن دعوته انحصرت في هذا الحيز الجغرافي و ساهمت كثيرا في تحديد هويته.
و اليوم، و بعد أكثر من قرن من قيام و سقوط الثورة المهدية، فإن السودان يجد نفسه في قبضة صراع يمثل انعكاسا لـ "هامشيته المركبة " فمن جهة تواجه البلاد ثورة في الجنوب الإفريقي الهوية تمثل تمردا على الهوية العربية المهيمنة و تضعها في موضع التساؤل. و في الوقت نفسه تشهد البلاد ثورة أخرى يمكن اعتبارها في بعض جوانبها ردة فعل للثورة الأولى. و هي ثورة لا تؤكد فقط على الهوية العربية-الإسلامية، بل تقلد جزئيا الثورة المهدية في محاولتها جعل السودان مركز العالم الإسلامي و محوره، و هذا وضع يخلق مفارقة أشبه باللغز فالسودان هو البلد العربي الوحيد بخلاف فلسطين، و ربما بدرجة أكبر منها، الذي يواجه تهديدا خطيرا و ماثلا لهويته العربية و لوجوده كبلد عربي. و في الوقت نفسه مجد الولايات المتحدة ترى في المد الإسلامي المنبثق من السودان تهديدا خطيرا لمصالحها الإقليمية الدولية، و هو تخوف تشاركها فيه دول عربية و إفريقية عديدة تخشى من الطوفان القادم من الخرطوم و ما حولها.

دخل الإسلام إلى السودان سلما عبر الهجرات العربية و رحلات الدعاة، و في مطلع القرن السادس عشر قامت في السودان أول دولة إسلامية هي دولة الفونج و عاصمتها سنار على النيل الأزرق، و امتد نفوذ هذه المملكة إلى معظم أواسط و شرق و شمال و غرب السودان، و قد نازعها في النفوذ ممالك أخرى هي مملكة السبعات في كردفان و مملكة الكيرة في دارفور و كلتاهما نشأت في القرن 17.
و في عام 1721 دخل السودان مرحلة جديدة في تاريخه، حيث تعرض لأول احتلال أجنبي في تاريخه منذ أن أصبح كيانا مستقلا. فقد احتل حفيد محمد على باشا حاكم مصر البلاد طلبا للذهب و العبيد لدعم طموحات محمد علي باشا التوسعية، و قد خلق التعسف التركي المصري سخطا عاما تفجر مع الثورة المهدية التي أطاحت بالحكم الأجنبي، و إقامة دولة إسلامية كانت لها طموحات توسعية، فقد أعلن محمد أحمد بن عبد الله نفسه المهدي المنتظر في عام 1771، و أخبر أتباعه انه سيفتح بهم كل العالم الإسلامي و أنه سيصلي لهم في بيت المقدس و بغداد و الكعبة. و واصل الخليفة عبد الله التعايشي الذي خلف المهدي بعد وفاته في عام 1775 حملات الفتح، فأرسل جيوشا لفتح مصر و الحبشة. و لكن جيوشه هزمت. و في عام 1796 قامت بريطانيا باحتلال السودان بمساعدة مصرية.
و في 1924 اندلعت ثورة في السودان، رد الانجليز بإجلاء الجيش المصري و تقليص فرص التعليم و العمل أمام النخبة السودانية.
اندلعت الحرب الأهلية في السودان في الجنوب قبل ان يتحقق الاستقلال حيث تمردت وحدات عسكرية جنوب السودان، و اخمد التمرد سريعا.
اندلعت الحرب من جديد في الستينات، و قد ساهم في تعميق الأزمة انهيار الحكم الديمقراطي في نوفمبر 1957 و تولي الجيش الرئاسة.
و ساهمت الحرب في تهيئة الجو لإسقاط الحكم العسكري بثورة شعبية في أكتوبر – نوفمبر 1967، لكن الحرب ازدادت اشتعالا في العهد الديمقراطي الذي شهد أيضا تخبطا في إدارة شؤون البلاد إلى حد الانقلاب الذي حدث في 1969 و أنهيت الحرب الأهلية، إلا أنها اندلعت من جديد عام 1973 و أصبح الحكم يتمثل في ائتلاف بين حزب الأمة و الحزب الاتحادي، و مرة أخرى أطاح العسكر بالنظام عام 1979 و قوبل هذا بترحاب دولي.
لكن الترحاب انتهى بعد أن اتضح أن الحكم الجديد هو في الواقع حكم إسلامي متشدد يصر على إقصاء بقية القوى السياسية من الساحة، فضلا عن صعوبة تحقيق وفاق بينه و بين حركة التمرد الجنوبي.
اكتسب الصراع الذي اندلع في عام 1973 بعدا جديدا و عنفا غير مسبوق. بسبب شعور الجنوبيين بالغربة عن الدولة السودانية.
و لعب الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي دورا مهما في جعل السودان يرتكز على تعاليم الشريعة، إلا أن قادة الجنوب احتجوا على تطبيق الشريعة، و جعلت الحركة الشعبية إلغاء القوانين الإسلامية شرطا مسبقا لأي مفاوضات مع الحكومات السودانية.
و بالتالي أصبحت المسألة الدينية في لب الصراع و محورا مهما من محاوره، أدى بالجنوب إلى المطالبة باستقلاليته و هويته المميزة.أ



خاتمة:
النظرية الإسلامية في العلاقات الدولية هي عبارة عن تصور للعالم مبني على أساس الأخلاق، و قد وضعت الشريعة الإسلامية كل ما يتعلق بالعلاقات بين الإنسان و بين الدول قبل الغرب بنحو أربعة عشر قرنا.