منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص بالطلاب و اسهاماتهم الدراسية

المشرف: صفيه باوزير

#63558
لقد كانت الديمقراطية من بين الأهداف المعلنة لكل الثورات العربية التي جاءت بقادتها للحكم وفي هذا الفصل نأخذ ثورة 23 يوليو 1952, في مصر نموذج لهذا الطرح المعلن والمزعوم حيث استخدم شعار "الديمقراطية السليمة " شعارها الامثل والذي تضمن على وعدين أعلنت الثورة التزامها بتحقيقيهما.
الأول- تطبيق الديمقراطية التي تتناقض مع الاستبداد.
والثاني- أن تكون مطهرة من أوجه النقد الموجه إلى ديمقراطية ما قبل الثورة.
ولكن الوعدين لم يرتقى إلى المستوى الفكري أو التطبيقي , ورغم إن ثورة 23 يوليو جاءت كحاجة اجتماعية ضرورية لتغيير النظام الملكي الفاسد, إلا إنها لم تلبي طموح المواطن العربي كنظام بديل يحمل رؤية فكرية وعملية لنظرية الديمقراطية السليمة
وهذا ما اقر به الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يوم 25 تشرين الثاني 1961.
وذلك يعود السبب إلى أن الثورة جاءت بتنظيم وتدبير مجموعة من الضباط وليس بتدبير حزب يحمل أفكار ورؤى سياسية وأيدلوجية واضحة إضافة إلى أن الثورة لا تسمح بوجود أحزاب أخرى ولا تؤمن بالممارسة الديمقراطية لشعوبها ,والدليل أصدرت يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1953 مرسوما يحظر قيام الأحزاب مطلقا.
وبهذا جاءت الثورة قاصرة فكريا وتنظيميا لأي ممارسة موضوعية ترقى للتطور الاجتماعي فهي غير قادرة على تحديد شكل ومضمون الديمقراطية التي رفعتها شعار لها لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الاجتماعي !! مما أدى إلى تصادم كبير بين السلطة والقوى السياسية العقائدية والمثقفين استمر سنين طويلة .وحتى هيئة التحرير والاتحاد القومي لم يحرروا الفلاحين والعمال من التبعية السياسية للأقوى اقتصاديا (الملاك) , وكذلك لم يحققا لهما الحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية .وهذا ما أدت إلى تصادم العمال مع الدولة في (حوادث كفر الدوار) . وفي شباط/ فبراير 1958 ...
وقد أعلنت الوحدة بين مصر وسورية تحت اسم " الجمهورية العربية المتحدة ". وقد كانت الوحدة تهدف" لحركة قومية ديمقراطية " ولكن في تلك التجربة افتقدت الثورة المفهوم الصحيح للديمقراطية فتخبطت وتناقضت إلى أن فشلت في تطبيق الوحدة. فقد حققت الوحدة على المستوى الدستوري فقط, وليس على مستوى المؤسسات السياسية والاقتصادية الأخرى. أما على مستوى الجماهير لم تقدم الثورة إلى الوحدة إلا الاتحاد القومي وإلغاء الأحزاب !!
وحتى في صعود المد القومي لم تكن هناك أي علاقات ديمقراطية بين الجماهير والقيادة في إطار الدولة الجديدة . وقد أدرك الرئيس جمال عبد الناصر أن غياب مفهوم الديمقراطية هو نقطة الضعف الأساسية في الثورة وفي الوحدة العربية وهي التي مكنت الانفصاليين من ضرب الوحدة وليس القرارات الاقتصادية التي صدرت في تموز/ يوليو 1961.
ورغم الوصية الطوباوية التي تركها عبد الناصر إلى الأجيال القادمة إلا أن الرجل يعترف بان الإنجاز الذي حققته الثورة ربما سيكون فورة وتنتهي, وقد اعترف بخطأ الثورة وافتقارها لأي نظرية في لقاءه مع قادة حزب البعث في مباحثات "الوحدة الثلاثية " منتقدا "حزب البعث" مشيدا بخلو الحزب من أي نظرية تذكر! وان ثورة يوليو خلقت نظرية لها في التجربة ورغم ما طرح في ميثاق يونيو/1962 من نظريات وليس ممارسة وتطبيق لما يعني إلا أن الرجل ترك الباب مفتوح للأجيال القادمة في تحديد الفكر والتطبيق وان لا يفرض جيله على الأجيال الأخرى. ورغم إشارته للديمقراطية عام 1960 واعتبر أن بين الاشتراكية والديمقراطية اتصال عضوي حيث اعتبر أن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد والديمقراطية هي سياسة الاشتراكية, وان الديمقراطية ليس لها مفهوم ثابت بل هي ممارسة يستحقها الشعب وينتزعها من قبل حكامه المستبدين وربما كان الرجل محق في هذه الناحية , ولكنه ظلم الشعب العربي بقوله هذا !!!
وكأنه يريد القول بان الشعب العربي لا يستحق هذا المفهوم ولم يتبلور في تفكيره معنى الديمقراطية متناسيا أن الديمقراطية نظاما دستوريا يبدأ من إيمان النظام الحاكم بتداول السلطة مرورا بمواد الدستور والإيمان باستقلالية السلطات الثلاث, وقد بقيت مظاهر احتكار ممارسة السلطة قائمة في الوطن العربي وهي ما خلفتها الثورة الناصرية في مصر وانعكست ملامحها الفكرية والعملية على جميع أقطار الوطن العربي .
ورغم إن "الناصرية" أصبحت حركة فكرية يعتنقها الكثير من الشعب العربي في الوطن العربي معتبرين أنها تراث وتجربة غنية إلا أن هذه التجربة لم تحافظ على ابسط مكاسبها النظرية التي حسبها الميثاق بأنها الجناح الثاني للديمقراطية التي لا تسمح بتطبيقها في زمن عبد الناصر !! وبالتالي هي مجرد حبرا على ورق لأنها بنيت تلك النظريات والمفاهيم على أسس خاطئة و غير مبدئية , حيث اخطأ الميثاق نفسه بحق الطبقات العاملة وتصنيف المهن والشرائح في المجتمع على أساس طبقي وهذا مما ساعد على تفتيت الوحدة الوطنية , ومحاربة راس المال الوطني واتهامه بالرأسمالية الوطنية ....
وبعد مرحلة عبد الناصر حدثت تغيرات في الوطن العربي, ففي مصر "اتفاقية كامب ديفيد" " وعدم الانحياز" وقد أفرغت الديمقراطية من محتواها الحقيقي من خلال المفهوم الذي ساد في صفوف التنظيمات الحزبية التي تسلمت زمام الحكم في الأنظمة العربية. لأن كل حزب يسعى إلى أن يكون حزبا وحيدا، ويقوم بعملية تصفية الأحزاب الأخرى. لأن مفهوم تعدد الأحزاب غير وارد في أجندة الاحزاب.
فقد ظل الحكم الفردي المستبد سائداً في الدولة العربية منذ تأسيس الدول العربية الحديثة ،منذ أوائل العشرينات القرن الماضي ولحد الآن. لأن الأنظمة الحاكمة لم تتوصل إلى آلية للتداول السلمي للسلطة. حيث ساهمت الأنظمة الاستبدادية بغياب الوعي السياسي وتغييب للقوى السياسية الجديدة القادرة على إنجاح التجربة الديمقراطية في الوطن العربي.
وقد وجدت في الجانب الآخر أحزاب هزيلة تنظيمياً وفقيرة فكرياً, لم تستطع تلك القوى من تحقيق تغييرات سياسية واجتماعية حقيقية في البلدان العربية .. . وقد حل الجيش محل الحزب الأكثر حداثة وتنظيماً. وصار بمثابة مؤسسة سياسية غير معلنة تمارس السلطة والسطوة معا, حيث اعتاد العسكر بعد نجاح الانقلاب في ذياع البيان الأول, والذي من خلاله يتحقق الانتصار المحسوم بقوة السلاح, وإلغاء كل مظاهر المدنية من أحزاب ونقابات وصحف وإصدار قوانين طوارئ وقوانين عرفية ونصب المشانق لخصومهم .
وبعد السيطرة على سدة الحكم استطاعت تلك الأنظمة الحاكمة من تحديث الاستبداد بوسائل قمعية متعددة كأجهزة الأمن ونشر أيديولوجيتها الفكرية الشمولية وتحولها إلى شعبوية تقود إلى عبادة الفرد.. !! ورغم بعض الأنظمة التي تدعي إنها تطبق الديمقراطية البرلمانية من خلال إشراك بعض الأحزاب للمشاركة بهدف أن لاتصل مشاركتها ومساهمتها إلى الوصول للسلطة , إلا إن هدفها من إشراك تلك الأحزاب هو مجرد ديكور مظهري للديمقراطية, لان في احتكار السلطة وعدم الإيمان بتداولها تتكسر كل مفاهيم الديمقراطية على صخرتها, وهذا السلوك الدكتاتوري الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة هو دليل على إن الأنظمة العربية لا تؤمن بحركة المجتمع وتطوره .
والمجتمع الذي يخلو من الأحزاب, هو مجتمع ميت تنعدم فيه الحركة والحراك السياسي معاً, لكون الأحزاب السياسية هي التي تعطي الشرعية الحقيقية للنظام السياسي الحاكم لأنها بالتأكيد ستصل للسلطة عن طريق صناديق الانتخابات, والأحزاب السياسة كإحدى مؤسسات المجتمع المدني وهي حالة متقدمة في تطور المجتمعات، وان أي مجتمع يريد النهوض والتقدم في مفهوم الديمقراطية لا بد وان يسعى إلى خلق تنوع في وجهات النظر السياسية ، وذلك من خلال إتاحة الفرصة للمواطنين لاختيار ما يناسب ميولهم الفكرية واتجاهاتهم العقائدية ، للمساهمة في تنمية وتطوير المجتمع بالأسلوب الديمقراطي السلمي ,
وأن أي ديمقراطية يراد لها العيش والاستمرار لابد لها من الاهتمام بمؤسسات المجتمع المدني التي تعتبر من مقومات الديمقراطية .