منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص بالطلاب و اسهاماتهم الدراسية

المشرف: صفيه باوزير

#63814
هناك من حوّل الثورة السورية إلى ما يشبه حملة انتخابية. نيل شرعية تمثيل الثورة، ونفوذها، تم تحويله إلى ميدان واسع للخلاف والتنافس، وفصائل المعارضة السياسية لم تقصّر فيهما. لم يتفهم بعض الثوار عقم هذا الانقسام وآثاره، ورشحوه إلى مستوى الظن بـ«المؤامرة» من النظام. السؤال الأهم الآن هو: كيف ستكون هذه الانقسامات والخلافات فاعلة، في مرحلة السلاح ومراحل متقدمة منه؟
ها نحن نسمع عن كتائب مدعومة من هذه الجهة المعارضة أو تلك، ومن هذه الدولة وذاك الحلف والتيار، إلى جانب من يؤكد عوزه لدعم السلاح. من هنا، السلاح المعارض ليس متكافئا، وليس واحدا. لا ينبع من مكان واحد، وبالتالي مصلحة واحدة، ليكون له مصبّ ووجهة واحدة أخيرة. ليس واحدا إلا في الحديث الاعلامي عن هدف جامع، هو إسقاط النظام.
صحيح أن السلاح لم يكن خيارا للثورة، بل فرضته حرب النظام على الشعب، لكن يبقى أن حل خصومات وعداوات عبر السلاح معضلة حقيقية.
ولا يمكننا التصرف أو التفكير وكأننا اخترعنا الحل بالسلاح. جيران سوريا يمكن أن يعطونا دروسا وخلاصات مسهبة، وجميعها، بدون استثناء (هل هناك ولو واحداً؟)، تقول: هذا المسار لا أمل للدولة وناسها عبره. السلاح زاد سوء وتعقيد القضايا التي خرج حاملا اسمها. ولا يفيد السوريين أن تتحول الثورة إلى حرب ميليشيات. في سياق التدهور الجاري، لا يمكن استبعاد أن يتحول قادة النظام إلى زعماء ميليشيات، فعلا لا مجازاً. سيكون هذا أحد مرادفات خطر «حل وتفكك المؤسسة العسكرية والأمنية»، الذي حذرت منه أطراف معارضة. لا يمكن للثورة إلا فعل القليل لتجنب ذلك، ويبقى التعويل والمسؤولية على «من لم تتلوث أيديهم بالدماء». نعرف ماذا ستملك ميليشيات كهذه، وأن من يدعمها لن يمانع، في النهاية، الذهاب إلى حرب أهلية طويلة، طالما انعدمت التسوية بين دول الصراع والإمداد. هناك من لديه خبرة معتبرة وجلَد لدعم المليشيات في صراع طويل، ولا يمكن وصف تجربته بالفاشلة وفقا للنتائج. هل هناك من سيوقفه وازع أخلاقي أصلا؟ إنها دول «تستثمر» في الدعم المسلح، وكل الدماء والدمار يحصل في أرض أجنبية، هي بالنسبة لها مجرد منطقة نفوذ لا أكثر.
فاختلاف الرأي حول السلاح، في صف الثورة وداعميها، جائز وله أرضية صلبة. هناك المؤيد والمساند والمنخرط. هناك من يعارض مبدئيا، ومن يتفهم ويرفض الاحتكام إلى السلاح كأداة فاصلة ووحيدة في مواجهة النظام، يمتلك فائضا كبيرا من القوة العسكرية قياسا بالصراع القائم. ولأن الاختلاف جائز، وحق، فلا يمكن فهم من يخوّن منتقدي ومعارضي السلاح إلا على وفق حسابات تجييش واقصاء ضيّقة الأفق، كالتي تسود معركة انتخابية.
لكن الخلاف شيء، واستخدام الرأي والموقف ليكون «مسافة عازلة» عن الخوض في الواقع شيء آخر. لا يمكن الدعوة لعدم تصويب السلاح على الشعب، ومن ثم «النعي» بالنفس. لا يمكن تشجيع الانشقاق، ومن ثم الاستثمار الضيق في نتائجه أو الندب عليها. المؤيدون والرافضون المبدئيون للسلاح المعارض يتجنبون الخوض في واقعه الشائك، فبضع جمل شعاراتية تكفي موقفهم. مساندو السلاح، انطلاقا من موقف والتزام أخلاقي بالثورة، هم في الموقف الأصعب. سواء كان الأمر خيارا أم تم فرضه، الثابت أن السلاح معضلة، والتصدي لأسئلته ليس أقل تعقيدا.
النظام طارد المنشقين بالقصف، وكان لا بد من احتضانهم. توسعت ظاهرة الانشقاق وتطورت إلى تجنيد المدنيين، وصار مجموعها يشكل قوة فاعلة. كان انتقال السلاح في مستويات الفعل تتبعه غالبا تبريرات تتغافل عن السياق، وكأن اليوم التالي لن يأتي. قيل بداية إنه لا بد من حماية المتظاهرين السلميين، وإن السلاح رديف للثورة وحام لأهلها. لم تعد هذه حال الآن: السلاح صار يريد مهاجمة ومطاردة ما تم تحويله إلى «جيش حفظ النظام». صار السلاح يريد تحرير القرى والبلدات... والمدن. مسافة كبيرة بين حماية المتظاهرين ومعارك تحرير كانت محصلتها ازدياد الضحايا والدمار، ليُذاع إعلان «الانسحاب التكتيكي» عندما تفشل. لم تعلن أية خطة واضحة تحسب لأوضاع المدنيين، في ظل طبيعة فعل ورد فعل صار متوقعا. من سبّب هذه المأساة معروف، يتحمل المسؤولية من أولها لآخرها، لكن هل هناك من يراهن على «أخلاق» النظام! ويضاف إلى كل هذا «التعقيد» أن المعارك لا تدور في البراري، وتحمّل مفاعيل السلاح بالنسبة للمدنيين لم يعد «خيارا» أيضا. هل أُخذ رأي سكان هذه المدينة أو تلك، وهل يمكن لوم الناس إذا صارت أولويتهم البقاء على قيد الحياة، والدفاع عن حقهم في تقريره؟
أمام مشاهد الضحايا والدمار والنزوح، يبقى الرجاء، كي لا يبارز أحد النظام في مستوى انحطاطه، ألا نصل إلى مرحلة نسمع من يعلن: المواطنون في حلب أو دمشق أو... يناشدون «الجيش الحر» التدخل لحمايتهم من النظام!
لا مجال للوقف أمام السلاح المعارض (والحديث دائما عن قادته ومموليه)، وهو لا يعترف فعلا بوجود من لديهم الأهلية والشرعية لذلك. وحتى المؤيدون والداعمون للسلاح، لا إمكانية يتيحها لهم سوى الوقوف خلفه فقط. صار السلاح يتصدر شاشة الثورة، ويتم بثّه للرأي العام بوصفه فعلها الأساس. من السذاجة الافتراض أنه سينكفئ وينسحب، هكذا، لمصلحة قيادة سياسية. أكثر من ذلك، صارت كتل من المعارضة المسلحة تعلن خططها لحكومة انتقالية، وتقول إنها ستشكّل وتعين. بالوقوف على هذا الواقع، يمكن التأمل في حجم الإخفاق السياسي للمعارضة، والفراغ الهائل المتولد عنه. السلاح لن تعوزه السلطة لملء كل فراغ يحدث.
حتى قوى الثورة الشابة ومجموعاتها لن يكونوا أكثر من «مجموعة ضغط» في مسار السلاح. هذا إذا بلغوا أقصى شكل ممكن للتأثير وشكلوا ائتلافا موحدا لعملهم، لعله الأمل الوحيد لإمكانية وجود نفوذ (ما) على السلاح. لأسباب كثيرة، يشكل الائتلاف الثوري المأمول أولوية تتزايد أهميتها. لو تشكل باكرا، لأمكنه أن يساهم في «فرض» ائتلاف الحد الأدنى للمعارضة التقليدية والوليدة مع الثورة. الأوان لم يفت بعد. ائتلاف ثوري كهذا يمكن أن يشكل نفوذا للثورة على مسار السلاح، ويمكن البناء عليه والانطلاق مجددا لتشكيل ائتلاف واسع للمعارضة السياسية. خطر تحول النظام إلى ميليشيات قائم، ويجب عدم السماح بالمقابل إلى تحول المعارضة المسلحة إلى ميليشيات مختلفة، سيكرسها تطور طموحات قادتها والخلافات، ومن وراء كل ذلك تعدد مصالح مصادر الإمداد والتمويل. الثورة يجب أن ترتقي بالسلاح، ما دام مفروضاً، وتجنبه هذا المحظور. التحول إلى ميليشيات متعددة خطر على من فُرض عليهم حمل السلاح وعلى القضية التي وصلت بهم إلى خنادق القتال. هنا، لا بد من تذكّر أن قضايا جامعة ونبيلة أخرى، كالقضية الفلسطينية، لم تكن معصومة أو منيعة ضد أمراض السلاح الخبيثة