منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص بالطلاب و اسهاماتهم الدراسية

المشرف: صفيه باوزير

#63816
يثير الحديث عن دور حزب الله في مقاومة العدو الإسرائيلي تساؤلات عدّة حول الخلفية السياسية التي تقف وراء هذا المشروع، الذي يمتد من الجنوب اللبناني إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، مروراً بنظام الأسد في سوريا، كما المقاومة الفلسطينية في غزة. إلا أنّ حصر الكلام بالتجربة اللبنانية في هذا الشأن يدفعنا إلى الخوض في الغاية السياسية التي ينشدها الحزب من وراء هذه المقاومة المسلحة، تبعاً للشعارات التي يرفعها وينادي بها.
فما هي الأطروحة السياسية التي يحملها الحزب؟ وهل من روزنامة سياسية يعمل على تنفيذها؟ بل وما هي رؤيته السياسية لمرحلة ما بعد التحرير؟ وهل يمكن تحويل المقاومة التي انتصرت إلى مشروع سياسي يرمي بعيداً إلى تصويب ممارسة الحكم وإصلاح بنية النظام في لبنان؟
إنّ مراجعة سريعة لمسار تطوّر وصعود حركة المقاومة الإسلامية في لبنان، منذ تأسيسها في 1982، تفيد بأنّ هذا الحزب قد حقق بدون أدنى شك إنجازات عديدة على أرض الواقع. فقد خاض مواجهات عنيفة مع الجيش الإسرائيلي طوال العقود الثلاثة الماضية، تمثلت في العمليات العسكرية النوعية التي قام بها رجال المقاومة، والتي أفضت إلى تحقيق الانتصار التاريخي في 2000 بدحر الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب والبقاع الغربي. ثم وقعت حرب تموز في 2006، التي كان فيها صمود لبنان البطولي، شعباً وجيشاً ومقاومة، ومن قبلها تحرير الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية في 2004. بيد أنّ الأهمية السياسية التي تكتسيها إنجازات كهذه، من المنظور الاستراتيجي، تقودنا إلى البحث في مستقبل المقاومة في الغد غير البعيد. فالنجاح الذي حالف الحزب في ميدان الصراع العسكري مع الإسرائيليين يجعلنا نتساءل عن مدى إمكان نقل هذه الانتصارات إلى الداخل اللبناني ذي التوازنات التاريخية الدقيقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حزب الله لا يزال يؤكد على أن تحرير كامل التراب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي لم يتحقق بعد في ظل استمرار هذا الاحتلال لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا؛ فضلاً عن أنّ قيادة المقاومة تربط بقاء السلاح باستمرار التهديد الإسرائيلي لأمن واستقرار لبنان. مع ذلك، تكتسي مشروعية بقاء المقاومة أهمية خاصة في السجال الداخلي الدائر بين اللبنانيين. والحديث هنا يقتصر على محاولة الوقوف عند مدى إمكان استمرار العمل المقاوم، أو ربما إقرانه بطرح سياسي جديد يمثّل مدخلاً للانخراط في العملية السياسية البحتة في المستقبل. في هذا السياق، يمكن توزيع النقاش إلى ثلاثة مستويات متدرجة ومتوازية من التحليل والرصد بهدف الوصول إلى خلاصة قابلة للتطبيق حول آفاق الاستمرار، والتكيّف المستقبلي لهذه المقاومة كمكون أساسي في النسيج الوطني.
المستوى الأول يتعلق بالمبادرة إلى تشكيل الفريق السياسي المكلف بالعمل في حيّز الشأن العام الوطني وتحقيق إمكان التجديد في النخبة السياسية داخل الحزب. وقد تحقق هذا الأمر من خلال الظهور والتشكل التدريجي داخل الحزب وداخل المؤسسات الدستورية اللبنانية، وفي مقدمتها مجلس النواب، للمجموعة المعنية من قبل الحزب بمتابعة مجريات الحياة السياسية والتعامل معها بحسب المقتضى. وهي تتجسد في الكتلة النيابية، أو الممثلين المنتخبين، وباقة المستشارين والمسؤولين السياسيين لحزب الله. فقد بات لديه نخبة تتعاطى السياسة في الداخل اللبناني، كما تدير العلاقات الخارجية للحزب، كما أنّه أصبح قادراً أيضاً على تأمين مسألة تجديد هذه النخبة السياسية على الدوام، وإدخال العناصر الجديدة إليها وفقاً لسلم الترقي السياسي، الذي ينتهجه الحزب ضمن أطره التنظيمية الداخلية. إنّ العمل السياسي يفترض الإتقان، وهو لذلك يفرض على حزب الله إيجاد أو إفراز الطبقة المؤهلة لأداء فعلَي التصريح السياسي والممارسة السياسية على نحو جيد، وهو الأمر الذي أدركت قيادة المقاومة منذ البدء كيفية إنجازه كأساس لأيّة مشاركة سياسية محتملة أو مرتقبة في المستقبل.
المستوى الثاني يحيلنا على العمل على وضع مشروع سياسي وطني يتبناه الحزب على نحو رسمي ويعمل على تحقيق أهدافه في المجالين الداخلي والخارجي. والمسألة هنا لا تقتصر فقط على إشهار حالة العداء لإسرائيل دون سواها. إنّ الشروع في عملية صياغة مشروع سياسي ذي طابع وطني يستلزم المقاربة الدقيقة للعديد من القضايا السياسية والاجتماعية المطروحة على الساحة، ومنها الإصلاح السياسي والإداري في لبنان، العلاقة مع سوريا، الصراع مع إسرائيل بطبيعة الحال، العلاقة مع الغرب، الرؤية المتعلقة بطبيعة النظام السياسي اللبناني وآفاق تطويره، هوية لبنان قبلاً وعلاقته بالعرب، النظام التربوي وسبل تحسينه، النظام الضريبي وسبل تحديثه، الموقف من الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية كما الملكية الخاصة وغيرها من أقانيم الانتظام العام. حول هذا الموضوع، من الواضح أنّ الحزب، حتى اللحظة، لم يبادر إلى أو لم يتمكن من إعداد مشروع متكامل للرد على كل هذه التحديات الوطنية، أو أنّه في الحقيقة لم يجاهر علانية بما يعتنقه في هذا الشأن لاعتبارات تتعلق بالواقع الفئوي في لبنان، الذي لا يسمح في كثير من الأحيان باتخاذ مواقف ثابتة ونهائية أو الإفصاح عنها، وإنما محاولة الدخول دوماً في التسويات المرضية لجميع الأطراف. وهو الأمر الذي يقضي بعدم بت الأمور المصيرية أو الخلافية، بمعنى عدم تبني وجهة نظر فريق بعينها على حساب سائر الأفرقاء. مما لا شك فيه أنّ الحزب في هذا المجال قد شهد تطوراً ملحوظاً، وربما تحولاً لافتاً، بفعل الواقعية السياسية التي يتمسك بها، في رؤيته العامة بين صدور الوثيقة السياسية الأولى له في 1985 ومن ثم الإعلان عن الوثيقة السياسية الثانية في 2009، إذ إنّ التجربة التي خاضها الحزب خلال هذه الفترة الممتدة من 1985 إلى 2009 جعلته طبعاً يعيد النظر في كثير من الشعارات أو الخيارات، أو أقله يتريث في تقدير بعض الأمور والتقرير بشأنها. إلا أنّ خطوة الإعداد الكامل لمشروعه السياسي الوطني، كمقدمة لدخول المعترك السياسي على نحو ناجز، لم تتحقق حتى الآن، أو أقله لم تستكمل بعد. فالحزب لا يملك أو لم يعلن بعد خطة وطنية كاملة ومتكاملة يحدد فيها أهدافه العليا وكيفية تحقيقها، ما خلا مواجهة العدوان الإسرائيلي وإنجاز التحرير. بهذا المعنى، فإنّ الحزب مطالب ومعني بالإجابة عن الكثير من الأسئلة التي يحتمل الرد عليها خيارات عدة، وربما متناقضة أحياناً.
المستوى الثالث يتطرق إلى المباشرة الفعلية بتعاطي العمل السياسي من موقع المسؤولية الكاملة، وعبر المواقع الرسمية المتقدمة في الدولة نسبة لحجم الصفة التمثيلية للحزب، ومقدار المشاركة العملية من قبله. عند هذا المقام، ربما بات حرياً بحزب الله أن يحسم خياراته في ما يتعلق باتخاذ قرار لا رجوع عنه بضرورة المضي قدماً في موضوع التعاطي الخجول بالشأن السياسي حتى النهاية. فالحزب لا يزال يؤكد عدم وجود الرغبة أو النية لديه بالتفرغ للعمل السياسي أو التحمل الكامل للمسؤولية السياسية في البلاد عبر خوض الانتخابات على أساس برنامجه في الحكم، ومن ثم السعي إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة أو ائتلاف سياسي كبير ليضطلع بالعمل الحكومي من موقع المسؤولية الرسمية. لا يزال قادة الحزب يؤكدون على أنّ هذا التنظيم السياسي والعسكري هو في الأساس حركة مقاومة إسلامية. كان كذلك وسوف يبقى هكذا دائماً. وما دخول المعترك السياسي اللبناني سوى ضرورة فرضتها الاعتبارات المتعلقة بأولوية تحصين الجبهة الداخلية للمقاومة من الخلف. بهذا المعنى، ليست لدى حزب الله النية بالتحوّل إلى العمل السياسي أو ممارسته بالتوازي مع الجهد العسكري الذي يمليه العمل المقاوم أبداً. لذا يمكن القول إنّ مشاركة الحزب في السنوات الأخيرة في تشكيل الحكومات المتعاقبة لم تكن وهي ليست من قبيل المشاركة السياسية الفاعلة في الحكم والإدارة، والتي تتحقق فيها مصلحة أي حزب سياسي يطمح إلى تسلم السلطة. لذلك، كانت هذه المشاركة محدودة وغير متناسبة مع الوزن السياسي والشعبي لهذا الحزب على الإطلاق، وإنما كانت رمزية، ومن باب المراقبة عن كثب لمسار تطور المجريات الداخلية، ولا سيما ما يتصل منها بقضية الحزب الأساسية في المقاومة والدفاع عن لبنان في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
مما تقدم، تجدر الإشارة إلى أنّ حزب الله يتردد فعلاً في اقتحام حلبة الصراع السياسي المحتدم على المسرح اللبناني. فثمة قناعة في العقل السياسي المدبر لهذه الحركة الشعبية المقاومة بأنّها تمثل جماعة إيمانية جهادية لا تمتهن النشاط السياسي ولا تعتزم ذلك. في حين أنّها، لكونها أيضاً حركة تحرير وطني، جديرة بأن تتولى زمام السلطة في لبنان، وتعلن برنامجها في الحكومة للمرحلة القادمة ــ فيما لو قدر لها هذا الأمر ــ على أن تنهض تالياً بالمسؤولية الكاملة في تسيير عجلة الحكم. فتؤدي عندها دوراً وطنياً في طرح ومحاولة تنفيذ رؤيتها للحل، التي قد تكون بديلاً ناجعاً للنموذج السائد منذ 1992. وهي تستكمل على هذا النحو ما بدأته من خلال المقاومة، وتحصنه عبر مشروعها السياسي لإعادة بناء السلطة في لبنان. لقد سارعت المقاومة الفرنسية بقيادة الجنرال شارل ديغول، بعد إنجاز التحرير من نير الاحتلال النازي الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، إلى الالتفات نحو الجبهة الداخلية بكل مشكلاتها وتحدياتها. وبادرت إلى خوض غمار تجربة الحكم والمعارضة في فرنسا، كأيّة حركة تحرير وطني كان عليها، عند الفراغ من تحقيق الانتصار التاريخي على العدو الخارجي للوطن، استكمال ذلك بإطلاق ورشة وطنية في الإصلاح والإنماء داخل البلد.
من هنا، تغدو المقاومة في لبنان معنية قبل أي شيء آخر بالتفكير ملياً في كيفية التعامل مستقبلاً مع هذا الاستحقاق الوطني بامتياز. فهي لم تتورع عن اللجوء في أصعب الظروف وأحلكها إلى ممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل. فكيف لا تكون أيضاً على مستوى المسؤولية التي تفرضها أوضاع البلاد المتردية في البحث الجاد عن الحلول المناسبة للأزمات المتفاقمة منذ سنوات وعقود داخل النظام والمجتمع والدولة في الكيان اللبناني؟