منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص بالطلاب و اسهاماتهم الدراسية

المشرف: صفيه باوزير

#65834
المسألة السورية

لقد ترتب عن الوضع الجغرافي لبلاد الشام المتحكم في طرق المواصلات في شرق المتوسط توجه أنظار الدول الأوربية نحوها، و قد عززت ذلك الذكريات التاريخية المرتبطة بهذه البلاد و المتعلقة خاصة بالأماكن المقدسة المسيحية. كما كان للواقع البشري لبلاد الشام المتميز بتعدد الطوائف و اختلاف المذاهب و تباين العقائد دخل في زيادة حدة الأطماع الأوربية، فقد قدر عدد سكان بلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر ب 3.300.000 نسمة، منهم 1.200.000 مسلم سني و 50.000 مسلم شيعي و 600.000 مسيحي تابع لكنيسة روما، منهم 300.000 من الموارنة و الباقي من الكلدانيين و الكاثوليك الأرمن و الكاثوليك، و 400.000 مسيحي غير تابع لكنيسة روما من اليونان الأرثوذكس و الأرمن و الجريجوريين و اليعقوبيين و البروتستانت، هذا بالإضافة إلى حوالي 100.000 يهودي. و قد كان للموارنة بين هذه الطوائف وضع خاص لما حققوه من نهضة علمية بفضل مدارس الإرساليات و لارتباطهم بكنيسة روما مباشرة و لصلاتهم المتميزة مع دولة فرنسا منذ القرن السابع عشر خاصة. و هذا ما سوف يكون مشكلة عويصة للدولة العثمانية في تعاملها مع فرنسا.

و قد ساعد الحكم المصري ببلاد الشام، باعتماده أسلوبا إداريا يقوم على مبدأ المساواة بين الطوائف في المعاملات، على تغير موازين القوى الاجتماعية و الاقتصادية، الأمر الذي أخل بالتوازن المتوارث وأضر بالامتيازات و المكتسبات التي حققتها بعض الفئات، بل أحدث اضطرابا في التعامل جعل المسلمين في سورية و حتى في مصر لا يفرحون بانتصاراته لأن عواطفهم كانت مع السلطان العثماني، و هذا ما ساعد مناصري السلطان العثماني و المتعاونين مع إنكلترا على إثارة الفتن ضد حكم إبراهيم باشا لبلاد الشام، فكان ذلك تمهيدا لتعاون بعض الطوائف فيما بعد مع الدول الأوربية دون اعتبار لمصالح الدولة العثمانية و سيادتها، فاستغل الإنكليز طائفة الدروز و دفعوهم للثورة على محمد علي، و ساندت فرنسا الطائفة المارونية و شجعتها على الوقوف ضد من يمس بمصالحها. و هذا ما تسبب بعد انسحاب الإدارة المصرية من الشام (1841 م) في تهيئة الظروف لحدوث اضطرابات بدأت فعلا عندما رفض فلاحو جبال لبنان، الذين انتشر الوعي بينهم، لمطالب و سلوكات ملاك الأراضي القاسية، و تفاقم الوضع بعد اشتداد المنافسة خاصة بين طائفتي الدروز و الموارنة و محاولة عمال الدولة العثمانية استعداء الطائفتين ضد بعضهما، فعمت الاضطرابات جبل لبنان سنة 1845 م و امتدت إلى بعض مدن بلاد الشام الداخلية، الأمر الذي استدعى تدخل قناصل الدول الأوربية، و أعربت فرنسا عن مناصرتها الصريحة للموارنة متهمة الدولة العثمانية بالتحيز للدروز في صراعهم مع الموارنة.

و مع حلول عام 1274 هجرية/ 1857 م أصبحت الأوضاع في مجمل بلاد الشام تنذر بانفجار خطير قد يفتح الباب لصراع طائفي محلي و تدخل دولي أوربي. و بالفعل أصبح من غير الممكن تجنب الاصطدام بعد أن استولى الفلاحون في شمال لبنان على أراضي الاقطاعيين بتحريض من الكنيسة المارونية في الوقت الذي امتنع فيه الفلاحون الموارنة في الجنوب عن دفع الإيجارات للملاك من الدروز و بعد أن تمادى الباشا التركي في بيروت في إذكاء روح العداء بين الطوائف بجبل لبنان، في وقت لم تبخل فيه الدول الأوربية بمد المتصارعين من الموارنة و الدروز بالمال و السلاح. فانتشرت الفتن بين الطائفتين في قرى جبل لبنان و انتقلت بسرعة إلى دمشق بتشجيع من الوالي العثماني، فكان للأمير عبد القادر الجزائري دور مشرف في العمل على إخماد نار الفتنة كما سوف نوضحه في الفصل الخاص بأعمال الأمير.
سارعت فرنسا بإرسال قوة مؤلفة من ستة آلاف جندي إلى بيروت (أوت 1860 م) ترضية للرأي العام الذي كان يؤازر الموارنة في محنتهم، فتبنت الدول الأوربية هذا العمل الحربي حتى لا تنفرد فرنسا بالأمر، و حددت له مدة لا تزيد عن نصف عام، على أن تنتهي أعمال العنف في ربوع بلاد الشام، و أن تلتزم الدولة العثمانية بمعالجة الأمر بما تتطلبه مصالح الجميع، و أن تعوض الأضرار التي لحقت بضحايا أحداث الفتنة. وتحول التدخل العسكري إلى قضية سياسية، فتشكلت لجنة دولية لدراسة وضعية لبنان، فأقرت باتفاق مع السلطان جعل جبل لبنان "متصرفية" تتكون من عدة قضاءات إدارية لها نظام خاص و يتولى تسييرها متصرف مسيحي غير لبناني من الرعايا العثمانيين الأرثوذكس، يقترحه السلطان و توافق عليه الدول الأوربية و تحدد مدة حكمه، و يعود في إدارته لمتصرفية لبنان إلى الباب العالي مباشرة، و يؤدي مهامه بمساعده مجلس إداري و مجلس عدلي يضم ممثلين عن كل الطوائف، و تتولى الحفاظ على الأمن قوة مختلطة من الدرك. فكان تولي داود باشا متصرفية لبنان بداية فعلية لتكريس تقسيم بلاد الشام لاحقا و تجزئتها إلى دول إقليمية سوف تتحدد كياناتها مع نهاية الحرب العالمية الأولى حسب الخريطة التي وضعتها اتفاقيات سايكس بيكو.