منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#67840
تختلف بالطبع الدبلوماسية الثنائية عن الدبلوماسية متعددة الأطراف ، ولعل أن أو ما يلفت الانتباه إلى الاختلاف بينهما ، ان الأولى تتم بين الدول فقط ، بينما الثانية تتم بين الدول والمنظمة الدولية ودولة المقر أو الدولة المضيفة ، أي أنها علاقة ثلاثية الترابط ، بيد أن الاختلاف والفروق بينهما أكبر من ذلك بكثير وتُسقط مباشرة على مختلف تفاصيل العلاقة البينية ، وعلى النحو التالي:


أولا : في الدبلوماسية الثنائية تتمثل العلاقة بين دولتين ، الدولة الموفدة والأخرى المستقبلة ، بينما في الدبلوماسية متعددة الأطراف تأخذ العلاقة أبعاد ثلاثية بين الدولتين الموفدة والمستقبلة من جهة ، والمنظمة الدولية من جهة ثانية .


ثانياً : في الدبلوماسية الثنائية لا بد من موافقة كل دولة على رئيس البعثة وباقي أعضاء البعثة الدبلوماسية عن طريق الاستمزاج مسبقاً واعتماده قبل الوصول الى الدولة المستقبلة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية لا يوجد مثل هذا التقليد او الوضع القانوني سواء بالنسبة للموظفين الدوليين التابعين للمنظمة او بالنسبة للبعثات الدبلوماسية المعتمدة لديها من قبل الدول، من منطلق ان هذه البعثات ممثلة للدول لدى المنظمة وليس للدولة المضيفة ، رغم تمتعهم بجملة ضمانات دولية تمنح لهم من المنظمة نفسها وعلى حساب سيادة دولة المقر أو الدولة المضيفة .


ثالثاً : من حق الدولة في التمثيل الدبلوماسي الثنائي أن تعلن شخصاً ما شخص غير مرغوب فيه او تقوم بطرده أو طلب سحبه من عضوية البعثة ، بينما –نظريا- لا يتم ذلك في علاقة الدولة مع المنظمة الدولية ، حيث لا تملك دولة المقر او الدولة المضيفة حق طرد او طلب سحب عضو من أعضاء البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى المنظمة إلا من خلال المنظمة نفسها .


رابعاً : في الدبلوماسية الثنائية تطبق الدول مبدأ المعاملة بالمثل بينهما ، بينما ليس لهذا المبدأ أي دور في العلاقة غير المتكافئة بين الدولة والمنظمة الدولية ، والسبب أن الدولة تملك سلطة تطبيق ما تشاء ويقرره أمنها الوطني على مختلف أجهزة المنظمة الدولية المادية والبشرية ، بينهما المنظمة لا تملك سلطة فعلية –وليس قانونية- للرد بالمثل مقارنة بالدولة صاحبة السيادة والإقليم .


خامساً : وثمة فرق أخر يتمثل في معيار الأسبقية في التمثيل ، إذ في الدبلوماسية الثنائية تكون الأسبقية محددة بمعيار زمني (ساعة وتاريخ وصول رئيس البعثة إلى الدولة المستقبلة أو وقت تقديم أوراق اعتماده ) ، بينما في نطاق الدبلوماسية متعددة الأطراف يكون المعيار ثابت ومحدد في الترتيب الهجائي لأسماء الدول وفقا للنظام الجاري العمل به في المنظمة .


سادساً : في الدبلوماسية الثنائية يكون التمثيل أحادي من كلا الجانبين ، بمعنى ان البعثة بطاقمها البشري جزء واحد في تمثيل مصالح الدولة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية تكون الدولة ممثلة بواسطة بعثة دبلوماسية دائمة (لدى) المنظمة ، ويكون لها في نفس الوقت عضوية ممثلة (في)([1])المنظمة من خلال مشاركتها ممثليها في نشاطات أجهزة المنظمة الفرعية، وربما يكون من ذات الدولة موظفين دوليين تابعين للمنظمة ومستقلين في عملهم وارادتهم تبعاً لاستقلال وارادة المنظمة الدولية ، مثل الموظفين المصريين في جامعة الدول العربية في القاهرة ، والموظفين الأمريكيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك .


سابعاً : الجهاز البشري للدبلوماسية الثنائية بين الدول يتكون من الدبلوماسيين والموظفين الفنيين والإداريين والملحقين ، وهم بالغالب الأعم من أبناء الدولة الموفدة ، بينما يشمل الجهاز البشري تبعا لعلاقات المنظمة ، وكما أشارت إلى ذلك اتفاقية امتيازات وحصانات منظمة الأمم المتحدة لعام 1946.


المتغيرات التي تطرأ على العلاقات الدبلوماسية بين المنظمة والدول الأعضاء


إن العلاقة بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها –أو غير الأعضاء- قد تأخذ في بعض الأحيان صورة من صور النزاع والتوتر بينهما ، إذ لا يمكن إغفال النزاعات التي تحصل داخل المنظمات الدولية ، والتي قد تثور بين عدد من الدول الأعضاء أو بينها وبين أحد أجهزة المنظمة ، أو بينها وبين المنظمة ذاتها .


وتعود أسباب النزاع بين الطرفين الى أسباب عديدة ومتنوعة ، منها ادعاء الدولة أن المنظمة أو أحد فروعها قد تعدت حدود اختصاصها أو أن النشاط الذي تمارسه المنظمة أو أحد فروعها وان كان يدخل في صميم عملها إلا انه تنقصه التكييف القانوني اللازم لصحته ، وربما كذلك يأتي النزاع من جانب المنظمة ذاتها أو أحد أجهزتها ، إذ ترى أن الدولة المعنية لم تقم باحترام التزاماتها الدولية المترتبة عليها([2])، أو أنها لم تلتزم بالمبادئ الدولية التي أشار إليها الميثاق وعملت على تهديد الأمن والسلم الدوليين.


وعليه ، فان أي توتر أو نزاع ينشأ بين المنظمة والدولة لا يستوجب رد حاسم في "طرد" الدولة من عضوية هذه المنظمة لمجرد التنازع حول قضية معينه ، فهناك عوامل ومتغيرات عديدة تطرأ على علاقات الطرفين وتدفع بهما الى حافة الهاوية لأسباب كثيرة ، لكنها حتماً لا تؤدي دوما الى استخدام ورقة "الطرد" بإرادة الدول الأعضاء إلا في الظروف الاستثنائية التي يعتبر استمرار وجود الدولة عضواً في المنظمة والسكوت عن سلوكها وتصرفاتها تهديداً لأمن وسلامة العلاقات الدولية ، لذا يجب هنا التمييز بين إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف من جانب المنظمة الممثل في حالة "الطرد" ، وبين متغيرات أخرى تلجأ إليها المنظمة كنوع من العقاب أو الجزاء للدولة ، ومنها تجريد الدولة من مهمة أوكلتها إليها مسبقاً أو وقف المزايا والحصانات التي تتمتع بها ، أو توقيع عقوبات اقتصادية وتجارية عليها بعد إقرار الدول الأعضاء على ذلك كنوع من التأديب الجماعي لانتهاك الدولة المعنية ميثاق المنظمة أو تهديد الأمن والسلم الدوليين ، أو إصدار قرار من المنظمة لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول الأعضاء ودولة معينة.


وقد تنشأ في بعض الأحيان جملة من الظروف أو المتغيرات التي تعكر صفو العلاقات بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها ، والتي يترتب عليها لجوء المنظمة الى نظام الجزاءات التي تطبقه على الدولة العضو –وأحيانا غير العضو- بهدف تصويب الوضع بصورة ترضي ميثاق المنظمة والدولة الأعضاء فيها ، وتتمثل أهم هذه المتغيرات في :


تجريد الدولة العضو من مهمة معينة أُوكلت لها مسبقاً .

وقف حق الدولة بالتمتع بالامتيازات والحصانات الخاصة بعضويتها .

فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على الدولة .

الحرمان من حق التصويت .

تخفيض حجم البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى الدول أو المعتمدة لدى المنظمة الدولية.

قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ما بناءاً على قرار من المنظمة الدولية .


إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف

بخلاف التمثيل الدبلوماسي الثنائي ، فان الدبلوماسية متعددة الأطراف تمتاز بحالات قليلة لجأت فيها الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية أو إنهاؤها –الانسحاب- مع المنظمات الدولية ، وذات الشيء بالنسبة لدور المنظمة في قطع أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية –الطرد- مع الدول ، وربما يعود ذلك إلى قصر عمر المنظمات الدولية التي لا تتجاوز بداية القرن المنصرم ، ولكن ما يمكن إعادة تأكيده في هذا الصدد ، أن فعالية المنظمة في مجال قطع او إنهاء علاقاتها مع الدول الأعضاء او في فرض عقوبات معينة طبقاً لميثاق واتفاقية المنظمة تخضع دوما لارادة الدول الأعضاء ، لذا قلما ما تسعى المنظمة إلى قطع او إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع الدول ، طمعاً منها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وفي الحيلولة دون زيادة التوتر بين الدولة المعنية بالإساءة إلى المجتمع الدولي وباقي الدول الأعضاء في المنظمة ، بينما يحفل تاريخ العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بحالات عديدة لجأت فيها الدول أو هددت بالانسحاب لسبب ما ، إما كوسيلة للضغط باتجاه أمر يعينها أو للاحتجاج والاعتراض على سياسة معينة ، وربما لدفع المنظمة لتقوية وزيادة فعالية عملها والدفع عن حقوق أعضائها بجدية أكبر والالتزام بالسياسات والمبادئ التي قامت على أساسها المنظمة الدولية .

وبغض النظر عن آلية إنهاء العلاقات الدبلوماسية سواء بإرادة الدولة أو بإرادة المنظمة الدولية ، فان هذه العملية تتميز بأربعة خصائص رئيسية وهي ([3]):

عمل انفرادي تلجأ إليه المنظمة (الطرد) أو الدولة (الانسحاب) بمحض إرادتها .

عمل خاضع للسلطة التقديرية للمنظمة أو الدولة المعنية .

وعمل لاحق يتم اللجوء إليه بعد اكتساب الدولة لصفة العضوية .

يترتب عليه إنهاء كامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، فلا الدولة تصبح عضوا في المنظمة ، ولا الأخيرة يحق لها تطبيق مبادئ ميثاقها على الدولة .


إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بإرادة المنظمة الدولية (الطرد)

ولعل أن العقوبة الأشد التي تملك المنظمة الدولية اتخاذها بحق دولة ما انتهكت ميثاق المنظمة وخالفت قوانين وأعراف العلاقات الدولية ، هي إعلان طرد الدولة من عضوية المنظمة ، فكما هذا التصرف القانوني الذي تملكه المنظمة مؤشر على جسامة وفداحة الخطأ الذي ارتكبته الدولة ، فهو مؤشرٌ أيضاً على حجم النزاع والتوتر الذي أصاب كبد العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، خاصة بين الدولة والمنظمة الدولية ذاتها ، إذ يكون بذلك قد بلغ الطرفين حد إنهاء العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن بإرادة المنظمة نفسها ، دون أن يشمل ذلك رغبة متبادلة من الدولة المعنية .


ويمكن إدراك أهمية هذا المنحى الخطير على العلاقات الدبلوماسية بين الدولة والمنظمة من خلال استعراض معظم دساتير ومواثيق المنظمات الدولية التي حرصت على إدراجه في نصوصها وأنظمتها بهدف تحذير الدول من مغبة القيام بعمل ما يهدد أمن وسلامة الدول الأعضاء أو ينتهك الأسس التي قامت عليها هذه المنظمة أو تلك .


فالمادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة تشير إلى ما يلي([4]): "وإذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق ، جاز للمنظمة أن تفصله من الهيئة بناءا على توصية من مجلس الأمن" .


وعليه فان يشترط لتوقيع عقوبة الطرد أو الفصل أمران : الأول : أن يكون العضو المعني قد أمعن في مخالفة مبادئ الميثاق ، ويلاحظ أن الإمعان هنا جاء بمعنى أن يكون الفعل الذي ارتكبته الدول لا يدخل في نطاق المخالفات البسيطة أو العادية بل يجب أن يكون فيه خرق واضح لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والتي تراعي على حفظ الأمن والسلم الدوليين ، وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة العسكرية إلا في حالة الدفاع عن النفس ، والثاني : أن يصدر قرار الفصل أو الطرد من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين بناءاً على توصية من مجلس الأمن .


وطرد دولة ما من الأمم المتحدة يعني فيما يعنيه طردها وفصلها من مختلف الوكالات أو الأجهزة المتخصصة التابعة لها ، فعلى سبيل المثال يشير ميثاق منظمة اليونسكو في الفقرة الرابعة من المادة (2) الى أن طرد دولة عضو في الأمم المتحدة يؤدي تلقائيا الى طردها من منظمة اليونسكو([5]).


وبالانتقال الى جامعة الدول العربية –كمنظمة دولية إقليمية- يجد الباحث أن موضوع الطرد أو الفصل أشارت إليه المادة (18) من ميثاق الجامعة ، إذ نصت على ما يلي " لمجلس الجامعة أن يعتبر أية دولة لا تقوم بواجبات هذا الميثاق منفصلة عن الجامعة ، وذلك بقرار يصدره بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها"([6]).


ويلاحظ أن جامعة الدول العربية فشلت في تطبيق هذا النص بحذافيره على الدول التي خرقت ميثاق الجامعة ، فهي لم تستطع فعل شيء حيال مصر عند توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979م ، واكتفت على توقيع عقوبة "تجميد" عضويتها في الجامعة ، ونقل مقر الجامعة من القاهرة الى تونس ، وقد ردت مصر على هذا الإجراء بقولها أن تجميد العضوية غير وارد في ميثاق جامعة الدول العربية ، وأن المادة المعنية أشارت فقط الى عقوبة الطرد وإنهاء العلاقات بإرادة المنظمة ، ولم تنص أو تشير الى هذا الجزاء صراحة ، وهو جزاء أخف وطأة من الفصل أو الطرد أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الجامعة ذاتها، وقد استمر تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية مدة عشر سنوات تقريبا ، أي حتى مؤتمر القمة العربي الطارئ في الدار البيضاء بالمغرب في أيار من عام 1989م([7]).


وكذلك لم تدفع باتجاه تطبيق هذا الجزاء أو إنهاء العلاقات بإرادتها مع العراق عام 1990م عند احتلاله لدولة الكويت ، بحجة أن تبقي النزاع الدائر بين أعضاء الجامعة –خاصة دول مجلس التعاون الخليجي- والعراق في دائرة جامعة الدول العربية وعدم تدويل الموقف الى حلبة الصراع الدولي وللحيلولة دون تدخل القوى الكبرى وإفشال الجهود العربية في نزع فتيل الأزمة ، وهو خلاف كل ما حصل بعد ذلك .


ويمكن إيجاد هذه العقوبة والحالة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية مع الدولة بإرادة المنظمة الدولية في ميثاق منظمة الأوسيد ، والتي أشارت الى ما يلي([8]): "يجب أن تُعلم المنظمة الدولة العضو التي ارتكبت مخالفة لمبادئ واهداف المنظمة بأنها قامت بتصرف غير مشروع ، وتمنحها فترة لتصويب أوضاعها ، وبعد انقضاء هذه الفترة وإذا لم تنصاع يتم طرد الدولة المخالفة" .


يبقى القول ، أن تقرير منظمة دولية ما على إيقاع عقوبة الفصل أو الطرد لدولة معينة خالفت وأمعنت في انتهاك مبادئ الميثاق وهددت الأمن والسلم الدوليين ، لا يعني إنهاء شامل وكامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، خاصة وأن إرادة المنظمة الدولية في عملية الإنهاء جاءت لظرف محدد بموجبه قررت اللجوء إلى فصل الدولة أو إنهاء علاقاته الدبلوماسية والودية معها ، ولكن ذلك لا يحول دون عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما بواسطة بعض الدول المعتدلة في المنظمة ، خاصة إذا ما عدلت الدولة المعنية عن سلوكها وتعهدت في إعادة الأمور إلى نصابها والتزمت بمبادئ الميثاق من جديد .


ولكن هل يمكن أن تعود العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف إلى وضعها الطبيعي إذا ما قررت الدولة نفسها إنهاء وقطع تلك العلاقات ضمن ما يسميه أهل القانون بحق "الانسحاب" من المنظمة الدولية ؟


إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف بإرادة الدولة العضو في المنظمة الدولية (الانسحاب)

يمثل انسحاب الدولة العضو بالمنظمة الدولية منها ، الجزء المكمل للعلاقة التبادلية في إطار إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، فانسحاب الدولة من عضوية إحدى المنظمات هو بمثابة إعلان رسمي عن إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة ذاتها ، ومع ذلك فلا يمكن الجزم أن هذا الانسحاب هو إنهاء جذري وشامل ، إذ ممكن أن تستمر الدولة في عضوية بعض الأجهزة الفرعية المنبثقة عن المنظمة الأم ، وممكن أن يحصل العكس ، أي أن تنسحب الدولة من فروع المنظمة الدولية وتبقى عضو قائم وفاعل في المقر الرئيس للمنظمة الدولية ، كما فعلت الولايات المتحدة عندما انسحبت من منظمة اليونسكو عام 1984م ، في الوقت الذي بقيت فيه عضوا فاعلا في باقي فروع وأجهزة الأمم المتحدة .


وتختلف الأسباب التي تدفع الدولة إلى إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة الدولية ، إما لاعتقاد الدولة أن المنظمة قد خرجت عن حدود اختصاصها ، أو لأن المنظمة حاولت التدخل في الشؤون الداخلية للدولة([9]) فأرادت الدولة أن تضع حدا لتدخلها غير الشرعي بصورة إنهاء الارتباط الدبلوماسي والسياسي معها ، أو لان المنظمة عدّلت في ميثاقها بما يتنافى ومصالح هذه الدولة أو تلك ، وربما يكون الانسحاب لممارسة نوع من الضغوط على الدول الأعضاء أو المنظمة ذاتها لاتخاذ ما يتماشى مع مصالح هذه الدولة ، خاصة إذا كانت الدولة المتخذة لقرار إنهاء علاقاتها مع المنظمة وانسحابها ذات وزن وثقل استراتيجي في المنظمة ، كأن تكون المُساهمة بحصة الأسد في ميزانية المنظمة الدولية ، وقد يكون السبب في رفض الدولة لسياسة المنظمة تجاه قضية معينة أو اعتراضها واحتجاجها على الضعف الذي يعتري جسد المنظمة وعملها على أرض الواقع .


والواقع أن هناك أسباب أخر قد تؤدي وبشكل طبيعي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة دون تدخل من جانب المنظمة ذاتها ، وهي أسباب تتعلق بزوال المنظمة أو حلّها وتشكيل أخرى محلها أو بالتوارث بين المنظمات ، فهذه الأسباب خارجة عن إرادة الطرفين من ناحية عملية ومنطقية ، ولكنها بشكل أو بأخر تعتبر من لأسباب التي تؤدي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من ناحية قانونية.


ليس دوما يعني انسحاب الدولة العضو من المنظمة الدولية تعبيراً عن انزعاج الدولة عن سياسة المنظمة أو قطيعة شبة كاملة للمنظمة أو إحدى أجهزتها ، إذ ربما تنسحب الدولة وتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إحدى المنظمات الدولية لسبب يتعلق بدولة ما اكتسبت عضوية هذه المنظمة أو أتت ما من شانه تهديدا لمصالح الدولة المعنية دون أن يعني قطعها أو إنهاؤها للعلاقات الدبلوماسية مع المنظمة تعبيراً عن توتر أو نزاعٍ معين بينهما([10]) .


وبخلاف حالة إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة المنظمة ذاتها (الطرد) ، نجد أن هناك اختلاف واضح بين مواثيق المنظمات الدولية حول الإشارة إلى حق الدولة بالانسحاب من المنظمة ، وربما يعود ذلك الى رغبة المنظمة في الحفاظ على العلاقات الودية القائمة بين الطرفين والتعالي على الأزمات التي قد تعصف بهذه العلاقات مهما بلغ مستواها ، بينما أشارت مواثيق أخرى الى هذا الحق ، واعتبرته جزءاً مكملا لسيادة الدولة في الانسحاب أو إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة إن رغبت ، كما هو الحال في إرادة المنظمة في "طرد" دولة ما من عضويتها .


فمثلا الاتحاد الأوروبي لم يدرج هذا المبدأ في دستوره المنظّم للعلاقات بين المجموعات الاقتصادية الأوروبية ، واعتبر هذا الأمر ضرب من ضروب الخيال ، حيث لا نية لديه في السماح لأية دولة من الانسحاب من عضوية الاتحاد الذي ظهر أساساً لوضع حد للنزاع والصراع القائم في القارة الأوروبية ، خاصة بين الدول الأوروبية الكبرى المؤسسة لهذه المجموعة ([11]).


وبالمقابل هناك منظمات التزمت الصمت حيال مسألة الانسحاب الاختياري من عضوية المنظمة أو الإنهاء الشامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من جانب الدولة المعنية، فميثاق الأمم المتحدة الذي تطرق صراحة الى حق المنظمة في فصل عضو معين وإنهاء علاقاتها معه بإرادتها الكاملة ، لم يشر بنفس الصراحة الى حق الدول في إنهاء العلاقات أو الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة ، بيد أن ذلك لم يمنع إندونيسيا من الانسحاب وإنهاء علاقاتها مع الأمم المتحدة خلال عامي 1964م و 1966م ، احتجاجاً على انتخاب ماليزيا ، التي كانت على نزاع حاد معها آنذاك ، عضواً في مجلس الأمن ، واعتبرت ذلك بمثابة إهانة لها من قبل الأمم المتحدة ([12]).


وعلى أية حال ، وبغض النظر عن الجدال القانوني في عدم إشارة ميثاق الأمم المتحدة لحق الدول أو عدمه من الانسحاب من المنظمة العالمية ، فان تاريخ الأمم لمتحدة سجل الى اليوم حالة انسحاب وإنهاء علاقات دبلوماسية واحدة، تمثلت في انسحاب إندونيسيا عام 1964، ولكن كثيرا ما يتردد في وسائل الإعلام عن توجه دولة ما للانسحاب من عضوية الأمم المتحدة نتيجة ضعفها في إدارة العلاقات الدولية وفشلها في حل المنازعات بالطرق السلمية ، وارتهان قراراتها الى شرعية النظام الدولي التي تهمين عليه الولايات المتحدة ، فمثلاً العراق أعلن أكثر من مرة خلال التسعينات عن نيته الانسحاب من الأمم المتحدة بحجة اتهام الولايات المتحدة في إدارة الأمم المتحدة بما يتوافق ومصالحها وحسب([13]) ، كما كانت هناك بعض التوجهات غير الرسمية المطروحة لانسحاب الولايات المتحدة من الأمم المتحدة في إطار الحرب الإعلامية والقانونية التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة –خاصة مجلس الأمن- بين الولايات لمتحدة وبريطانيا من جهة ، وفرنسا وروسيا وألمانيا والصين من جهة أخرى خلال العام المنصرم بخصوص الأزمة العراقية ، وفشل واشنطن بانتزاع قرار دولي يسبغ الشرعية على حربها العدوانية الى شنتها على العراق في العشرين من آذار من عام 2003م([14]).


وبالانتقال الى مواثيق منظمات أخرى ، يجد الباحث أن هناك العديد من المنظمات الدولية والإقليمية والمتخصصة التي أشارت الى قضية الانسحاب وحق الدولة في ممارسة سيادتها الفعلية في إنهاء علاقاتها الدبلوماسية متعددة الأطراف ، إذ تشير المعاهدات المنشئة للوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة –باستثناء منظمة الصحة العالمية- الى حق الدول بالانسحاب من أية وكالة متخصصة شريطة أن تقدم الدولة المعنية إشعار خطي قبل سنة من نيتها بالانسحاب ، واستثني من ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والذي يتم الانسحاب منهما بشكل فوري([15]).


ومن الأمثلة البارزة والتي أخذت نقاشاُ مطولاً في الساحة الدولية في هذا الصدد ، انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة اليونسكو في كانون الأول من عام 1984م ، وعودتها إليها بهدوء بعد انقطاع دام تسعة عشر عاماً في أيلول من عام 2003م .


ومن الأمثلة الأخرى على انسحاب دولة من عضوية منظمة دولية ، انسحاب الكويت من عضوية مجلس الوحدة الاقتصادية في آذار 1990م ، وقد بررت الكويت على لسان وزير المالية الكويتي سبب انسحابها الى أكثر من مبرر([16]):

الزيادة غير المعقولة في عدد موظفي المجلس .

محدودية الفاعلية العملية التي حققها المجلس منذ إنشائه .

عدم التزام غالبية الأعضاء في تسديد التزاماتهم المالية .

الازدواجية القائمة بين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمجلس الاقتصادي العربي.

وعدم العدالة في توزيع الحصص والمساهمات المالية في المجلس ، إذ تتحمل أربع دول فقط ما نسبته 80% من الميزانية ، من أصل 12 عضو ، فيما يتحمل الآخرون الباقي .


وقد واجهت منظمة الوحدة الإفريقية ذات الإشكالية عند انسحاب المغرب منها عام 1984م أثر قبول عضوية الجمهورية العربية الصحراوية في المنظمة ، فاعتبرت هذه إهانة لسيادة واستقلال المغرب التي تعتبر المنطقة الصحراوية المتنازع عليها مع الجمهورية العربية الصحراوية جزء من سيادتها الوطنية، ورغم أن العاهل المغربي ألمح الى إمكانية عودة المغرب الى منظمة الوحدة الإفريقية في خطاب له عام 1989م([17])، إلا انه لم يحصل أي تقدم يذكر في هذا الصدد .


وبإلقاء الضوء على ميثاق جامعة الدول العربية ، يجد الباحث أنه نص على الانسحاب بصفة عامة وأورد حالة خاصة له ، إذ أشار أنه لكل دولة عضو أن تنسحب من الجامعة العربية إذا أرادت ذلك بشرط أن تبلغ المجس عن عزمها القيام بذلك قبل تنفيذ الانسحاب بسنة، وخلال هذه الفترة تبقى الدولة متمتعة بكافة التزامات العضوية ، بيد أن الميثاق نص على حالة خاصة بالانسحاب وهي حالة تعديل الميثاق دون أن تقبل الدولة المعنية هذا التعديل ، إذ يجوز لها والحالة هذه أن تنسحب من الجامعة دون انتظار مدة السنة ، أي يكون انسحابها فوري وقائم من لحظتها وتزول مباشرة عنها صفة العضوية ، وعليه يكون ميثاق الجامعة العربية –على خلاف باقي دساتير المنظمات الدولية الأخرى- قد أشار إلى حالتين للانسحاب : الأول الانسحاب غير الفوري ، والثانية الانسحاب الفوري([18]).


إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند زوال أو توارث المنظمات الدولية

ليس هناك ثمة شك في أن المنظمات الدولية –كالدول- تعد شخص من أشخاص القانون الدولي ، ويجري عليها ما يجري على الدول ، فان كانت الأخيرة معرضة للموت والحياة ، أي للزوال وفقدان الشخصية أو للولادة والاستقلال واكتساب الصفة القانونية ، فان المنظمات ومن باب أولى تتعرض لذات الشيء ، إذ من الممكن أن تزول منظمة لسبب معين أو تتوحد مع منظمة دولية أخرى أو تندثر نهائياً وتقوم على أنقاضها منظمة أخرى .


فإذا فشلت المنظمة الدولية في تحقيق أهدافها التي أُنشأت من أجلها ، أو لم تستطع الاستجابة لظروف التغير وتحديات الأحداث الجسام التي تعصف بالعلاقات الدولية ، أو لم تعد قادرة على ترجمة أهدافها على أرض الواقع ، أو فقدت شرعية العمل والتحرك بسبب قيام حرب معينة أو تفكك أطرافها أو انسحاب أعضائها وعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية الدولية تجاه هذا التنظيم الدولي أو ذاك ... الخ ، فان ذلك قد يدفع الأطراف القائمة على إدارتها للتفكير الجدي في وضع نهاية معينة لهذه المنظمة ، إما بحلها وإزالتها إذا ما كنت عبء على الدول الأعضاء ، أو بتوارثها لمنظمة دولية أخرى ، أو باتحادها مع منظمة أخرى لزيادة فاعليتها وشرعية عملها الإقليمي أو الدولي([19]).


والواقع أن ظاهرة توارث المنظمات الدولية هي ظاهرة حديثة أو أن جاز التعبير إشكالية حديثة في إطار القانون الدولي ، فمن الناحية العملية لا تكاد تذكر الحالات التي حدث فيها توارث بين المنظمات أو زوال تام لمنظمة دولية أو اتحاد بين منظمتين أو أكثر ، فهي حالات نادرة وقليلة جداً ، وربما هذا ما يفسر غياب أو عدم وضوح التصور القانوني الكامل أو الواضح لآلية التعاطي قانونياً مع هذه الظاهرة ، فليس هناك ثمة قواعد قانونية تنظم هذه العملية برمتها .

وبما أن ما يهمنا في هذه الجزئية هو إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند توارث أو زوال المنظمة الدولية ، فاننا سنركز على صور التوارث بين المنظمات الدولية وآثاره المترتبة عليه بالنسبة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية بصورة طبيعية ، فضلاً عن الآثار الأخرى المتعلقة بالدول الأعضاء فيها وموقع الاتفاقيات التي أبرمتها المنظمة قبل زوالها أو توارثها .