منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#67872
لكي نخطط كيف سندخل عام حوار الحضارات ٢٠٠١؟ يجب أن نفهم وبصورة أساسية موقع حوار الحضارات من العلاقات الدولية الراهنة وحقيقته في ضوء هذه العلاقات. وهذا هو موضوع الورقة. والاقتراب من هذا الموضوع - من موقعي في الدائرة الإسلامية العربية ومن منطلق تخصصي في العلاقات الدولية - يفترض أن أطرح مجموعة من الأسئلة، وهى تتوالى كالآتي:
١ - أ - ما خصائص العلاقات الدولية الراهنة (أي في مرحلة التحول الكبرى للنظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية)؟ .
١ - ب - ما التحديات التي تفرضها التغيرات في هذه المرحلة على النخب المختلفة المهتمة بهذه العلاقات، سواء النخب الفكرية أم الأكاديمية أو الرعية؟ وكيف أفرزت هذه التحديات دوافع الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات؟ .
١ - جـ - لماذا شهد عقد التسعينيات اهتماماً بقضية» صراع الحضارات أم حوارها؟ «وما هي المؤشرات على هذا الاهتمام على الصعيد الفكري والأكاديمي والحركي؟ وما دلالات هذه الاهتمامات المتعددة الأبعاد على طبيعة المرحلة الراهنة من العلاقات الدولية؟
١ - د - ما هي أهم الاتجاهات التي انقسمت بينها هذه الاهتمامات؟ وما هي الموضوعات التي يتضمنها الحديث عن هذا الحوار؟
[٢] - إن هذه الأسئلة المتراكمة تحاول أن تحدد الأبعاد المتصلة بوضع قضية» حوار الحضارات «في العلاقات الدولية وهى أبعاد ثلاثة أساسية:
- أسباب الاهتمام بها.
- كيفية إدارتها.
- الأطراف المهتمة، وبماذا؟ .
مما لاشك فيه أن الإجابة على الأسئلة التي تفرز هذه الأبعاد الثلاثة ليست إجابة نمطية واحدة، ولكن تتعدد الاتجاهات التي يمكن أن تصنف بناء عليها هذه الإجابات. ومن أهم الساحات التي تلتقي عندها الاتجاهات المختلفة ساحتان.
الأولى هي: هل هو حوار أم صراع؟
والثانية هي: وضع الإسلام والمسلمين على مساحة كبيرة إن لم تكن الأساسية من خريطة الاهتمامات المتعددة الأبعاد بهذه القضية. وتحوز هاتان الساحتان اهتمام الباحثين من تخصصات مختلفة: فلسفية تاريخية، اجتماعية، سياسية. كذلك فإن إشكالية نمط العلاقة بين الحضارات» حوار أم صراع «تتقاطع وتتداخل مع مناطق أخرى مثل العلاقة بين الثقافات، ثقافة عالمية أم تعددية ثقافية، الهويات بين الخصوصية والعالمية، العلاقة بين القيم والأخلاق وبين الأبعاد المادية، النماذج المعرفية والنظم القيمية والنظم العقيدية، العلاقة بين الأديان. ومن الواضح أن الإسلام ورؤى الإسلام ورؤى المسلمين تقع في قلب المعالجات المختلفة لهذه المناطق، حيث أن موضوع» الإسلام والغرب «يعد قاسماً مشتركاً بين هذه المعالجات سواء المعرفية أم المنهجية أو النظرية أو الفكرية أو المتصلة بالحركة.
[٣] - ولهذا كله فإن اقتراب الورقة من الإجابة على هذه الأسئلة السابق طرحها يتحدد بمنطق أساسي وهو: ما دلالات هذا الموضوع؟ ، حوار أم صراع الحضارات، بالنسبة للعالم الإسلامي في ظل الوضع الراهن للأمة الإسلامية في النظام الدولي بتحولاته المتعددة؟ ومن ثم هل يجب أن نتمسك في الدائرة العربية الإسلامية بصيغة الحوار أم الصراع الجاري تداولهما؟ وحيث تختلف الاتجاهات الإسلامية وغيرها حول هذا الأمر فإن هذه الورقة بعد أن تلقي بالضوء على تشخيصها لأبعاد الموضوع باعتباره قضية أساسية من قضايا العلاقات الدولية الراهنة، ستقدم رؤية تنبني على نتائج عدة خبرات بحثية وعملية سابقة، وهى الرؤية التي تتمحور حول نقد ذلك الترحيب الشائع بوصف العلاقات الراهنة بين الحضارات بأنها» حوار «أو أنها يجب أن تتجه إلى حوار من ناحية، وكذلك رفض تشخيص هذه الحالة بأنها أسيرة الصراع الدائم والحتمي من ناحية أخرى. بعبارة أخرى تنطلق هذه الرؤية من قناعة أنه إذا كانت أطروحة» الصراع «قد فجرها» هانتنغتون «وإذا كانت أطروحة» الحوار «قد بدت كالأطروحة الاعتراضية إلا أن الانشغال على الساحة الإسلامية بهذين الطرحين على هذا النحو الذي جرى يستحق الانتقاد المعرفي والمنهجي وال
سياسي أيضاً.
ومن ثم فإن الرؤية التي أقدمها في هذه الورقة تنبني على أبعاد معرفية ومنهاجية وعملية تنبثق من اهتمام الباحثة بتطوير منظور حضاري لدراسة العلاقات الدولية [١].
وتنقسم هذه الورقة إلى مستويين أساسيين: مستوى عام ينبثق من طبيعة الاهتمامات بالنظام الدولي الراهن والتي تتصل بوضع البعد الثقافي مقارنة بالأبعاد الأخرى للعلاقات الدولية (سواء كمحرك لهذه العلاقات أم موضوعاتها). أما المستوى الثقافي: فينقل الورقة إلى البحث في دلالات هذا البروز الراهن لأهمية البعد الثقافي في علاقة الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى، ومن ثم وضعه في سياق أزمة هذه الأمة في عالم يموج بالتحولات والتغيرات والتي تمثل تحديات خطيرة للأمة يقع في قلبها الان الثقافي الحضاري وليس الاقتصادي السياسي فقط.
ويعد هذان المستويان. بمثابة الإطار الفكري والنظري الذي سنقدم في ضوئه رؤية نقدية لمغزى الدعوة إلى حوار الحضارات وإمكانياته وآفاقه من ناحية، ثم نطرح من ناحية أخرى بعض التصورات حول إمكانيات المشاركة في هذا الحوار المرتقب بفرضه وضغوطه.
أولاً: خصائص العلاقات الدولية الراهنة
وموقع العلاقة بين الحضارات منها
[١] خصائص العلاقات الدولية وبروز أهمية البعد الثقافي الحضاري:
يمثل الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات تجسيداً واضحاً لبروز الاهتمام أو تجدده وانبعاثه وإحيائه بالبعد الثقافي الحضاري باعتباره مجالاً تتجسد على صعيده صراعات جديدة للقوى ويتم على صعيده اختبار توازنات القوى، نظراً لأن دور العوامل الاجتماعية والثقافية قد برز - أو تجدد بروزه - في العلاقات الدولية بالمقارنة بالبروز السابق للعوامل التقليدية السياسية - الاستراتيجية - وهى العوامل التي حازت الأولوية حتى نازعتها الصدارة، منذ بداية السبعينيات، العوامل السياسية - الاقتصادية.
بعبارة أخرى، بعد أن حازت المداخل والقضايا الواقعية التقليدية الأولوية لدى دارسي وممارسي العلاقات الدولية في مرحلة الحرب الباردة، وبعد أن برزت أولوية المداخل والقضايا المتصلة بعلاقات الاعتماد المتبادل الاقتصادي و التبعية الاقتصادية في مرحلة الانفراج وتصفية القضية الثنائية، تبرز الآن أولوية نظائرها الاجتماعية والثقافية [٢].
ويدفع هذا الأمر لطرح التساؤلات التالية:
ما العلاقة بينه وبين التغيرات العالمية الهامة التي يشهدها العالم من أكثر من عقد من الزمان؟ وكيف مثلت هذه التغيرات تحديات للفكر والحركة في عالم ما بعد الحرب الباردة؟ ومن ثم كيف قفزت على الساحة الجدالات المعرفية المنهاجية النظرية حول العلاقة بين الحضارات؟
١ - شهد القرن العشرون ثلاثة أحداث عظمى مثلت نقاط تحول أساسية في تفاعلات النظام الدولي وهى: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.
وإذا كان الحدثان الأول والثاني عبرا عن أقصى أشكال انفجار الصراع، أي استخدام القوة العسكرية في حرب شاملة - عالمية - فإن الحدث الثالث لم يشهد هذا النمط ولكنه لم يقل عن الأولين من حيث آثاره على العالم، بل لقد فجر هذا الحدث الأخير الجدال حول حقيقة العصر الذي تمر به العلاقات الدولية، هل هو عصر جديد؟
ولقد كانت كل من الأحداث الثلاثة نتاج تراكمات من التفاعلات التي ولدتها وشكلتها مجموعة من القوى والعوامل التي تتصل في جانب منها بالخصائص القومية للدول، أو التفاعلات النظمية بين الدول أو القوى الهيكلية طويلة الأجل.
وإذا كانت إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي قد وقعت في صميم جهود التنظير التي شهدتها كل مرحلة من هذه المراحل من تطور العلاقات الدولية في القرن العشرين فإن اتجاه هذا التطور من بداية القرن إلى نهايته عكس تزايداً مطرداً في درجة تأثير الخارجي على الداخلي، وفي طبيعة هذا التأثير ونطاقاته بحيث يمكن القول إننا نعاصر حالياً اختراقاً كثيفاً من الخارجي بحيث تآكلت وتهاوت الحدود بينه وبين الداخلي، ومن ناحية أخرى لم يعد هذا الاختراق قاصراً على النطاقات السياسية التقليدية أو الاقتصاد السياسي، ولكن امتدت هذه النطاقات لتشمل الاجتماعي والثقافي أيضاً.
ولهذا - أي نظراً لدرجة عمق الاختراق، ونظراً لاتساع نطاقاته - برزت خطورة التحديات الخارجية التي تواجهها كل مجتمعات ودول العالم ليس الصغيرة النامية فقط ولكن الكبرى المتقدمة أيضاً ولو بدرجات مختلفة. ومن هنا أيضاً أهمية وضرورة التعرف على درجة التغير العالمي.
٢ - ويعكس الانتشار الذائع لمصطلح» العولمة «اعترافاً بهذه الحالة من الاختراق والتي تسود مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية.
لم يبرز مصطلح» العولمة «بصورة متكررة وكثيفة - في الأدبيات الغربية في مجال العلاقات الدولية إلا منذ بداية التسعينيات، أي متزامناً مع أهم حدثين في نهاية القرن العشرين وهما انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة. حيث أخذ يتبلور الحديـث عن» النظام العالمي الجديد «الذي شمل مساحة هامة من اهتمام منظري العلاقات الدولية وساستها.
ولقد انطلق الاهتمام بدراسة هذه التغيرات من الاهتمام بتفسير نهاية الحرب الباردة، ومن الاهتمام بدراسة تأثيراتها وتحدياتها على مجال العلاقات الدولية، وهنا يبرز السؤال المزدوج التالي: هل كانت نهاية الحرب الباردة بداية مرحلة جديدة في العلاقات الدولية أفرزت خصائص جديدة، أم أن نهاية الحرب الباردة ذاتها كانت نقطة تحول نتيجة تراكم أثار مجموعة من القوى والعوامل خلال العقدين الماضيين أعلنت عن خصائص متغيرة للعلاقات الدولية، أي أعلنت عن تغير العالم، وهل يبرز هذا التغير وزن عوامل ثقافية وحضارية؟ .
إذا كانت اهتمامات العقدين الأول والثاني من النصف الثاني من القرن العشرين قد انبرت لوصف خصائص النظام الثنائي القطبية وحالة الحرب البادرة، وإذا كانت اهتمامات العقدين الثالث والرابع قد انبرت للتساؤل عن ماهية التغيرات التي أخذ يواجهها هذا النظام على نحو يدفع به إلى مرحلة جديدة من التفاعلات تبرز على صعيدها التفاعلات التعاونية التنسيقية وليس الصراعية فقط في ظل ما عرف» الاعتماد المتبادل «فإن أدبيات العقد الخامس (التسعينيات) قد انبرت في شرح التحولات العالمية وما إذا كانت تعني حقيقة أننا نعيش عالماً جديداً يفرض تحديات خارجية ذات طبيعة مختلفة جذرياً عما قبل أم لا؟ وكيف تظهر التحديات الحضارية في قلب هذه التحديات؟ .
ويمكن أن نقدم بعض الملاحظات الأساسية من واقع القراءة في بعض التحليلات عن خصائص العلاقات الدولية [٣] وكوضع العامل الثقافي فيها. وهى تتلخص كالآتي:
١ - يطرح واقع العلاقات الدولية الراهنة المتشابك والمعقد والمتداخل (سواء أبالنسبة للفاعلين أم قضايا التفاعلات أو شبكات التفاعلات أو آليات التفاعلات) تحديات هامة أمام دول العالم الإسلامي باعتبارها في معظمها دول صغرى، فإن إدارة التعامل مع هذا الواقع تتطلب إدراكاً وقدرات متعددة قد لا تتوافر في معظمها لدى هذه الدول على النحو الذي يمكنها من إدارة مشاكلها الأساسية وخاصة في مجال التنمية البشرية والمادية.
٢ - ولا يقتصر التحدي على» الواقع «ولكن يمتد إلى الإطار القيمي الذي يغلفه ويؤطره والذي ينبثق عن منظومة القيم والمصالح الغربية الرأسمالية، فالحديث الغالب عن انتشار الرأسمالية والديموقراطية وقيم الثقافة الغربية وسلوكياتها إنما يتم أساساً في هذه الأدبيات من منظور أحادي - وإن تعددت روافده فهي روافد تيار واحد - على نحو يثير لدينا التساؤل عن» البديل «أي المشروع الحضاري البديل ومن الذي بمقدوره أن يطرحه الآن؟ .
ناهيك عن الربط بصورة أو بأخرى بين الديموقراطية والتنمية الرأسمالية وبين تحقق السلام والأمن والاستقرار في العالم، ومن ثم يصبح العالم الثالث أو الجنوب مصدراً لتهديد هذه الأمور، أو مصدراً من مصادر الفوضى والاضطراب في العالم، أو تعبيراً عن استمرار الصورة التقليدية للسياسات الدولية أي الصراعية الواقعية… وهنا يجب أن أسجل ما يلي:
إن هذا السيناريو في أدبيات نهاية القرن العشرين قد ظهر من قبل مع سيناريو منتصف السبعينيات، فحين برزت أدبيات الاعتماد المتبادل الدولي والتي شخصت اتجاه العلاقات الدولية نحو حالة أكثر تعاونية - تنافسية تختلف عن الحالة الصراعية التي أينعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت في المقابل لها الأدبيات التي تبين أن حالة الاعتماد المتبادل هذه لا تصدق على العلاقة بين الشمال والجنوب، كما ظهر سيناريو مناظر أيضاً بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ففي مقابل انتشار الحديث عن حق تقرير المصير للشعوب والأمن الجماعي في ظل دور عصبة الأمم المتحدة كانت حالة» الجنوب «أو الدول المستعمرة لا تؤكد هذه المقولات.
كذلك حين تفجرت الأدبيات بعد أزمة الخليج الثانية شارحة النظام العالمي الجديد ظهرت الرؤى التي ظلت تحذر من أن العالم الثالث بصراعاته ومشاكله مازال قنبلة موقوتة، وأن انتهاء الصراع الأيديولوجي والقطبية الثنائية لن ينعكس إيجاباً على أوضاعه بل كانت أزمة الخليج إحدى هذه القنابل.
٣ - وإذا حاولنا أن نربط بين التنظير للواقع في البند الأول عالياً وبين الإطار القيمي الذي يغلفه هذا الواقع في البند الثاني عالياً - يبرز لنا قضية خطيرة وهامة تمثل فهمنا لجوهر إشكالية العلاقة بين الخارجي والداخلي كما تطرحها الأدبيات الغربية الشاملة عن العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة. ففي هذا الجوهر لم يعد التأثير الخارجي على الداخلي ينصب من حيث قنواته ومجالات تأثيره على السياسي والاقتصادي فقط، ولكن امتد وبصورة واضحة وجذرية وعميقة تختلف من حيث الدرجة والعمق عن مراحل سابقة ليس إلى البعد الثقافي الاجتماعي، وما يتصل به من تشكيل عمليات الإدراك لدى النخبة فقط ولكن لدى القاعدة أيضاً وخاصة في الدول غير الغربية: الاتحاد السوفيتي السابق ودول العالم الثالث. فينتج عن الطبيعة التداخلية المعقدة للعلاقات الدولية الراهنة في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قنوات وسبل عديدة لدعم وتعميق القناعة لدى غير الغربي ولتسجيل الاعتراف النهائي من جانبه ليس بتفوق الغرب فقط كما حدث في مراحل سابقة، ولكن بحتمية انتصاره وعدم القدرة على مناقشته ومن ثم ضرورة الاقتداء به والالتحاق به لأنه لا بديل له ولعل إعادة قراءة تفسير انهيار الات
حاد السوفيتي وسقوط التطبيق الشيوعي في أوروبا يساعدنا على فهم التعميم السابق، حيث نجد تفسيرات - من منظورات مختلفة - لهذا الانهيار (تأثير سباق التسلح، الصحوة الديموقراطية للشعوب، الإنهاك الاقتصادي…) ولكن البعض [٤] يرى أن المكمن الحقيقي للتفسير هو الكيفية التي أدركت بها القيادة تفوق الغرب وعدم القدرة على الاستمرار بالطرق القائمة في الحكم وفي الاقتصاد، بعبارة أخرى يقول إن ما كسر إرادة القيادة السوفيتية لم يكن فشلاً اقتصادياً أو ثورة شـعبية من أسـفل ولكن Comparative historical judgment بأن مجتمعاتهم ليست مثل المجتمعات الغربية وليس هناك أي دليل على أن تصبح مثلها سواء أمن خلال تجديد ونمو جذري في الشرق أم من خلال انهيار النظام الرأسمالي في الغرب، ولذا فإن هذا الإدراك هو الذي قاد» غورباتشوف «إلى استسلام غير مشروط وهو الأمر الذي أنهى الحرب الباردة.
إذاً الأمر لا يتصل بتفوق الخصم وتحدياته أساساً، ولكن يتصل بالاعتراف من الداخل بعدم القدرة على المقاومة والتغيير وإصلاح النموذج من الداخل، ولقد لعبت قنوات الاتصال الحديثة والتفاعلات غير القومية في مجال الإنتاج والمال التي تؤدي دورها كما يقول البعض الآخر [٥] في تحقيق تجانس - اجتماعي - سياسي بين المجتمعات - لعبت هذه القنوات دورها في التأثير على الصفوة وعلى القاعدة السوفيتية على نحو شكل هذه الإدراكات وهذه القناعات عن الفجوة القائمة وعن عدم القدرة على تخطيها.
ولعلنا نستطيع أيضاً من خلال إعادة قراءة تاريخ مرحلة التنظيمات العثمانية في الأدبيات الغربية أن نستكشف منطقاً مناظراً يفسر كيفية انهيار الدولة العثمانية من الداخل ومن جراء تأتيرات الخارج لتوظيف هذا الداخل الذي اتجه للغرب من أجل الإصلاح فلم يحدث له إلا الانهيار [٦].
ومن ناحية أخرى، يمكن أن نسجل أيضاً بعض نتائج القراءة في أدبيات العولمة [٧] التي راجت سواء أفي الأوساط الأكاديمية الغربية أم العربية الإسلامية على حد سواء. وهذه النتائج حول مغزى تشخيص العولمة بأبعادها المختلفة، وكذلك تحليل أثارها على الدول وعلى حالة النظام وما لها من مدلولات بالنسبة للأبعاد الثقافية الحضارية في العلاقات الدولية الراهنة.
وتتلخص هذه النتائج كالآتي:
١ - حول أبعاد العولمة وتجلياتها يمكن القول إنه إذا كان الاقتصاد محركاً أساسياً في العولمة إلا أنه بمفرده لا يكفي لتحقيق الفهم الصحيح لهذه العولمة.
ولقد حرصت الاقترابات الشاملة من العولمة أن تنبه إلى البعد الثقافي الاجتماعي إلى جانب الأبعاد التقليدية التي جرى التركيز عليها في تحليل العلاقات الدولية أي الأبعاد السياسية - الأمنية التقليدية التي برز الاهتمام بها خلال اشتداد الحرب الباردة وأبعاد الاقتصاد السياسي التي برز الاهتمام بها منذ بداية السبعينيات.
ولقد أضحت عولمة الثقافة والمجتمعات أو العولمة والثقافة من أهم المستجدات التي يمكن القول إن صعودها (بدون انفصال عن السياسي - الاقتصادي) يميز المرحلة الراهنة من العولمة، وذلك بفرض قبول أن العولمة ليست عملية حديثة أو لصيقة بنهاية القرن العشرين ونهاية الحرب الباردة، بل أنها قديمة ذات جذور تاريخية ترجع إلى بداية الرأسمالية وتطورها منذ عدة قرون. وإذا كانت هذه التعريفات الشاملة من العولمة قد جاءت من نطاق منظري العلاقات الدولية أساساً فهذا يعني أنه يظل من مهمة هذا المجال الدراسي أساساً تقديم رؤية شاملة حول خريطة الأبعاد المختلفة للعولمة (تجليات، عمليات، قوى) مفسرة وهي الأبعاد التي تهتم بأحدها منفصلة عن الأخرى، مجالات دراسية؛ ولهذا يمكن القول إن الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية الثقافية في الدراسات الدولية يمثل الإضافة الحقيقية في دراسة التغيرات العالمية الراهنة على نحو يدفعنا للتساؤل: هل يمكن أن يصبح مجال دراسة التغيير العالمي مجال دراسة مستقلة تتعاون على صعيده علوم مختلفة؟ ولعل من أهم المؤشرات على صعود الاهتمام بهذه الأبعاد في الدوائر الأكاديمية للدراسات السياسية ظهور أطروحات صدام الحضارات والجدال الذي أثارته، والذي
يعكس أبعاداً ثقافية - حضارية شديدة الوضوح.
وحول آثار العولمة يمكن القول إن الاتجاهات المختلفة حول تقديرها تنقسم أساساً بين القائلين بالآثار الاندماجية التجانسية للعولمة وبين القائلين بالآثار السلبية التفكيكية على الأصعدة المختلفة ومن واقع الاختلافات بين هذين الاتجاهين يمكن أن نستنبط الملاحظتين التاليتين:
الملاحظة الأولى: أن العولمة التي تتصدى لها أدبيات نظرية العلاقات الدولية هي عولمة متعددة الأبعاد (الاقتصادية - الرأسمالية)، (السياسية - الديموقراطية)، (الثقافية - القيمية)، وباعتبارها عملية مستمرة تاريخية برزت تحت تأثير عدة قوى ذات جذور وإن تكثفت حالياً درجتها وعمقها نظراً لاعتبارين أساسيين: أحدهما يقترن بالعقدين الماضيين وهو الثورة التكنولوجية الهائلة التي حققت طفرة نوعية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات على نحو أثّر بدرجة كبيرة على طبيعة القوة، فلم تعد القوة العسكرية فقط، أو القوة الاقتصادية فقط ولكن أيضاً قوة المعرفة والإبداع والمعلومات.
والاعتبار الثاني يتصل بنهاية الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي والقطبية الثنائية، ومن ثم ظهور النموذج الحضاري الرأسمالي الغربي وكأنه بلا منافس في الوقت الراهن.
ولهذا فإنه على ضوء هذين الاعتبارين يمكن القول إن هناك إرادة واعية وراء تحويل عملية العولمة إلى منظومة مقننة ومؤسسة وذلك من جانب الغرب الذي يقود عملية العولمة، والذي انتصر في الحرب الباردة بلا حرب وأحتكر عناصر القوة الجديدة العالمية، ولا أدل على ذلك من البيانات الرسمية من قادة الدول الصناعية الغربية والتي يتسم خطّها بالتقييم الإيجابي للعولمة، ومع ذلك كانت بعض البيانات الأخرى - الصادرة عن مستويات أدنى بين مستويات التنسيق الغربي العالمية مثل الاتحاد الأوروبي - وإن تضمنت انتقادات للعولمة، فهي لا ترى فيها تناقضاً مع التكتلات الإقليمية الجديدة. كذلك فإن خطاب الهيمنة (تلويحاً بها أو انتقاداً لها) يقع في خلفية الأدبيات النظرية سواء أبصورة ضمنية أم بصورة مباشرة والمقصود هنا هيمنة النموذج الغربي بأبعاده المختلفة الاقتصادية - السياسية - الثقافية.
والحديث عن تجليات العولمة وعن أثارها لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن ما الذي يجري عولمته وبواسطة من ولصالح من؟
فبعد سؤال لماذا العولمة؟ لابد وأن يأتي سؤال ماذا؟ أو كيف؟ وإذا كان أساتذة العلاقات الدولية الغربيين - سواء أعند تحليل خصائص العلاقات الدولية، الراهنة (كما سبق ورأينا) أم عند تحليل العولمة - لم يبد جميعهم مأخوذين بالإيجابيات المرتقبة للعولمة، والتي يبشر بها الليبراليون الجدد أو أصحاب مقولة نهاية التاريخ، إلا أن انتقاداتهم تظل في نطاق النموذج الغربي ولو في شكل إعادة النظر في بعض أسسه وخاصة مدى عالمية صيغ الديموقراطية واقتصاد السوق ومدى مصداقية نجاح انتشارها كشروط مسبقة للسلام والأمن الدوليين.
بعبارة موجزة، فإن الجانب الأول الذي يميز العلاقات الدولية في إطار العولمة الراهنة هو القناعة بأن العملية الجارية من التفاعل المتبادل والتأثير والتأثر واسعة النطاق بين أرجاء العالم إنما تتم ليس نتيجة التطور التراكمي في عوالم هيكلية فقط، ولكن تتم تحت قيادة وإدارة نموذج حضاري واحد وبفاعلية قيادة قوة واحدة من قوى هذا النموذج أي الولايات المتحدة.
الملاحظة الثانية: يمثل صعود الأبعاد الاجتماعية الثقافية في تحليل العولمة إلى جانب الأبعاد السياسية والاقتصادية (كما سبق التوضيح) إضافة حقيقية في دراسة التغيرات العالمية خلال العقود الأخيرة. وكان لهذا الصعود عدة مدلولات من ناحية، وكان نتاج عدة تأثيرات من ناحية أخرى، فهو يعني أن الاختلاف حول العولمة ليس حول تجليات العملية فقط بقدر ما هو أيضاً حول البعد القيمي لمضمون هذه التجليات وعواقبها.
ولهذا فإن الجدال بين الاتجاهات الفكرية والنظرية المختلفة (الواقعية الجديدة، الليبرالية الجديدة مثلاً) قد اكتسب أبعاداً قيمية واضحة. ولذا فإن عصر العولمة الراهن قد اقترن بإحياء البعد القيمي في الدراسات الدولية (مما يفسح المجال - كما سبق أن أشرنا - للاجتهاد من أجل تقديم ملامح رؤية إسلامية حول هذا الموضوع).
هذا ولا يجب الاعتقاد أن صعود الاهتمام بالأبعاد الثقافية الحضارية على صعيد دراسات التغير العالمي يكون منفصلاً عن الأبعاد السياسية والاقتصادية، بل إن هذا الصعود ليس إلا تعبيراً عن التفاعل مع السياسي والاقتصادي بل واتجاه السياسي والاقتصادي إلى توظيفه.
والحديث عن الدمقرطة وحقوق الإنسان لا ينفصل عن الأبعاد الثقافية الحضارية. والحديث عن اقتصاد السوق والتكيف الهيكلي لا ينفصل بدوره عنها، فإن طبيعة المرحلة الراهنة من العلاقات الدولية والتي سبق تحليل خصائصها (الفواعل، القضايا، الأدوات، مستويات التحليل، أنماط التفاعلات، القوى والعوامل المؤثرة على هذه التفاعلات) تقدم الكثير من المدلولات بالنسبة لتفسير صعود الاهتمام بهذه الأبعاد الثقافية الاجتماعية وبالنسبة لتفاعلها مع نظائرها السياسية والاقتصادية.
وبالرغم من هذا الحديث عن عدم الفصل بين الأبعاد الثلاثة إلا أنه يظل لوضع الأبعاد الثقافية خصوصية في هذه المرحلة، وخاصة بالنسبة لدول الجنوب وفي قلبها العالم الإسلامي، فبعد أن تحققت الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية أولاً ثم الاقتصادية فلم يتبق إلا اكتمال الهيمنة على الصعيد الثقافي أيضاً. وإذا كانت أبنية الجنوب مازالت ممانعة للدمقرطة الغربية وغير ممانعة للتبعية الاقتصادية فإن الجهة الثقافية مازالت تشهد مقاومة، ولكنها المقاومة التي تواجهها صعوبات جمة ليس من أجل الدفاع عن الخطوط الأخيرة فقط ولكن حتى لا يحدث الانسحاب الكامل.
٢ - خطاب العلاقة بين الحضارات: المؤشرات والاتجاهات:
إن التناول السابق لخصائص العلاقات الدولية الراهنة ولعملية العولمة تبين الإطار الذي أفرز خطاب العلاقة بين الحضارات، أو بعبارة أخرى الذي يمثل هذا الخطاب أحد تجلياته والتعبيرات عنه.
كما يساعد هذا الإطار ويمهد للإجابة (كما سنرى) على السؤال التالي:
هل يمكن أن يكون هناك حوار للحضارات في ظل الفوضى العالمية الجديدة، أو في ظل آثار العولمة؟ أم أن هذا الحوار هو السبيل أمام العالم للخروج من أزمته الحالية؟
وهو سؤال اختلفت حوله الاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء، وذلك خلال المحافل والساحات العديدة التي شهدت الجدال حول هذا السؤال.
فلقد شهدت ساحة العلاقات الدولية الراهنة - أحداثاً ووقائع ومناظرات وسياسات عديدة تترجم هذا البروز لأهمية الأبعاد الثقافية والحضارية في العلاقات الدولية الراهنة، و لم تكن أطروحة» هانتنغتون «إلا قمة جبل الثلج العائم التي جذبت الأنظار وشحذت الجهود النظرية والمبادرات السياسية، وذلك في وقت كان النظام الدولي يشهد الصراعات الدموية العنيفة بين أقوام أو عرقيات تنتمي إلى حضارات مختلفة، كما كان يشهد مجموعة من السياسات الاقتصادية والعسكرية والثقافية التي تعكس محاولات إقرار هيمنة نموذج حضاري على الآخرين.
ومن ناحية أخرى تكررت المؤلفات والمؤتمرات والندوات العالمية والإقليمية والمحلية التي تناقش إشكاليات العلاقات بين ألانا والآخر، بين نحن وهم، أي بين الحوار أم الصراع؟ وفي المقابل توالت المبادرات التي صدرت من فواعل رحمية دولية متنوعة لتعكس معاني وأهداف الحوار: حوار الأديان، حوار الثقافات، التعددية الثقافية، ثقافة السلام والتسامح، وأخيراً مبادرة حوار الحضارات. التي طرحها الرئيس خاتمي في قمة طهران لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي خطابه أمام اليونسكو، والتي تلقتها الأمم المتحدة لتجعل عام ٢٠٠١ عام حوار الحضارات.
بعبارة أخرى، ماجت ساحة الفكر والسياسة بتيارات الجدال حول شكل العلاقة بين الحضارات ما بين المدافعين عن الحوار والمدافعين عن الصراع، إن تسجيل أبعاد المقارنة بين الاتجاهات المتنوعة من خطاب العلاقة بين الحضارات (حوار أم صراع) [٨] يعد من أهم المجالات البحثية التي تستحق الاهتمام لاعتبارات عديدة تلخصها الأسئلة التالية: هل تعد الحضارة أو الأمة وحدة للتحليل في العلاقات الدولية؟ هل صراع الحضارات قد حل محل صراع القوى أو صراع الطبقات كمحرك للعلاقات الدولية؟ هل حوار الحضارات أم صراعها يقتصر على الأبعاد القيمية والثقافية؟ وما علاقتها بالأبعاد المادية للقوة؟ ما شكل توازن القوى العالمي الذي يسمح بحوار للحضارات أو الصراع بينها؟ وقبل هذا أو ذاك نأتي بالسؤال المعرفي التالي:
ما هو أصل العلاقة بين الحضارات:
الحوار أم الصراع؟ ، أي هل طبيعة الاختلاف بين الحضارات هي التي تفرض الحوار أو الصراع؟ أم أن الظروف الدولية هي التي حددت بروز أحدهما على الآخر في مرحلة من مراحل تطور التاريخ العالمي؟
ويذكرني هذا السؤال الأخير بالسؤال المعتاد الذي يتم طرحه بصدد الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية، هل أصل العلاقة في الإسلام هي الحرب أم السلم؟
ومن ناحية أخرى، إن إشكالية العلاقة بين الحضارات حوار أم صراع، تتقاطع وتتداخل مع مناطق أخرى - كما سبقت الإشارة في مقدمة الدراسة - كما تطرح موضوعات هامة على دوائر الفكر والحركة: دور الدين في السياسة الداخلية والخارجية، تحدد الاهتمام بالأبعاد القيمية الأخلاقية للقضايا الدولية المختلفة التقليدية منها والجديدة مثل ضبط التسلح والتنمية والفقر والبيئة والمرأة صعود قضايا حقوق الإنسان، وتحمل جميع هذه الموضوعات أبعاداً ثقافية حضارية واضحة لا بد وأن تقع في صميم أي حوار بين حضارات، فإن اختلاف المنظورات حول دور الدين، القيم، حقوق الإنسان… الخ… تعكس اختلافات حضارية وثقافية هامة، ومن ثم فإن القراءة المقارنة النقدية التراكمية بين أدبيات» خطاب العلاقة بين الحضارات «من شانه أن يخلص إلى تحديد الاتجاهات الكبرى التي ينقسم بينها هذا الخطاب ومضامينه كل منها بالنسبة للقضايا والإشكاليات الأساسية المثارة غالباً. وحيث أنه لا يمكن في هذا الموضوع تقديم هذا الإسهام [٩]، إلا أنه يمكن أن نكتفي بالإشارة إلى ثلاثة تيارات كبرى:
أحدها يقول بصراع الحضارات ويمثله» هانتنغتون «والثاني يدعو إلى حوار الحضارات ويمثله تيار واسع سواء أمن جانب التيار الاعتذاري الدفاعي عن الإسلام الذي يرتقي الصراع لأنه لصقها بالإسلام بصفة خاصة، أم من جانب بعض الخطابات الرسمية وغير الرسمية الغربية التي تتحدث عن قبول التعددية الثقافية والحوار بين الثقافات، أما التيار الثالث فهو يقول بأن الحوار والصراع هي حالات للعلاقة بين الحضارات، وفي حين يرى رافد من هذا الاتجاه الثالث أن الحالة الدولية الراهنة لا تسمح بحوار حضارات حقيقي نظراً لاختلال ميزان القوى الدولية لصالح الأطراف المنتمية للنموذج الحضاري الغربي، فإن رافداً آخر يرى أن حوار الحضارات ضروري للخروج بالعالم من أزمته الراهنة، إلا أنه لابد وأن تتوافر له شروط لكي يحقق أهدافه الحقيقة المتصلة بالجانب القيمي الأخلاقي وعلاقته بالأبعاد السياسية الاقتصادية. فأين الأمة الإسلامية من هذا كله؟ .
ثانياً: الأمة الإسلامية في النظام الدولي
البعد الثقافي الحضاري وتحديات الوضع الراهن للأمة
وأين حوار الحضارات؟
بدأت التحديات الخارجية للإسلام والمسلمين منذ بداية الرسالة. وظلت الأمة - منذ ذلك الحين تواجه سواء أفي مراحل قوتها أم في مراحل ضعفها أنماطاً مختلفة من التحديات الخارجية.
ذلك لأن الأمة الإسلامية كانت دائماً في قلب تفاعلات العالم سواء أفي مرحلة نموها وقوتها ووحدتها وصعودها أم في مرحلة جمودها وتخلفها وضعفها وتجزئتها. وإذا كانت المرحلة الراهنة من تاريخ الأمة، في نهاية القرن العشرين بعد انتهاء الحرب الباردة، تمثل مرحلة من مراحل إعادة تشكيل مناطق هذه الأمة والعلاقات فيما بينها والعلاقات بينها وبين بقية أرجاء العالم، فإن هذه المرحلة من إعادة التشكيل (التي تتكاثف فيها التحديات الخارجية) ليست إلا حلقة من حلقات سابقة من مسلسل التحول من الشهود إلى المشهودية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. فلقد مارس» الخارج «أو» الآخر «أو» الغير «تأثيراته على الأمة وبصورة متصاعدة لا تعكس فقط ما أضحى عليه الخارج من قوة ومكنة ولكن ما أضحى عليه الداخل من ضعف.
بعبارة أخرى، فإن دراسة التحديات الراهنة لا تستقيم منهاجيتها أو غايتها إلا في ضوء فهم حقيقة وضعها في سياق التطور التاريخي للعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب وخاصة خلال قرني التراجع و التدهور.
ما خصوصية الوضع الراهن للتحديات الخارجية التي تواجه العالم الإسلامي؟ .
١ - البعد الثقافي الحضاري وتحديات الوضع الراهن للأمة الإسلامية:
من أبرز ملامح وسمات التحديات الراهنة للأمة الإسلامية التحديات الحضارية الثقافية.
إذا كانت مصادر التحديات قد توالت على الأمة منذ أن بدأ منحني أفول حضارتها وقوتها، فلقد ظل مناط التحدي الحقيقي هو التحدي العقيدي - الثقافي - الحضاري. كيف؟ ألم تكن الغاية النهائية للهجمة الغربية في العصر الحديث، منذ بدايتها وفي تطورها متحالفة مع الصهيونية، ألم تكن هذه الغاية النهائية تتمثل في السيطرة على الأرض والثروة فقط؟ ولكن أيضاً إسقاط النموذج واستبداله، ولذا تحالفت الأدوات العسكرية والاقتصادية مع نظائرها الثقافية - الحضارية لتحقيق هذه الغاية النهائية عبر مخطط استراتيجي توالت تكتيكاته على الساحات المختلفة للمواجهة: السياسية، العسكرية، الاقتصادية والثقافية - الحضارية.
فإذا كانت الهجمة الأوروبية الحديثة على عالم الإسلام منذ القرن السادس عشر قد بدأت مع الكشوف الجغرافية ثم تطورت أشكالها وآلياتها وأهدافها من السيطرة التجارية إلى التدخلات السياسية إلى اقتطاع الأطراف إلى الهجوم على القلب ثم استكمال احتلال أراضي المسلمين وتجزئتها، فإن الأداتين الاقتصادية والعسكرية قد لعبتا الدور الأساسي خلال القرون الأربعة الأولى منذ بداية الهجمة، وذلك لتحقيق الدوافع والأهداف الاقتصادية والسياسية للقوى الأوروبية البازغة على الساحة العالمية، بالسيطرة على الأرض والثروة. و لم تنفصل هذه القاعدة عن الغاية النهائية أي الانتصار على» النموذج «في الإسلام، أي الانتصار على» العقيدة «في الإسلام، تلك العقيدة التي هي للأمة بمثابة الروح والقلب للجسد، ومن ثم فهي تنعكس على صميم الخصوصية الإسلامية المشتركة الحضارية والثقافية للشعوب الإسلامية.
ولذا، ونظراً لأن البعد الحضاري - الثقافي - العقيدي يعد بعداً محورياً في صراع القوى ففيه تكمن المداخل إلى ساحات الصراع الأخرى، وإليه ونحوه تصب نتائج الصراع في هذه الساحات الأخرى، لهذا كله فلقد شهدت المراحل المتتالية من الهجمة الأوروبية الحديثة توظيفاً لأدوات ثقافية - حضارية (الاستشراق، التبشير، المدارس الأجنبية…) لتمهد للأداتين الأخريين وتدعم من تأثيرهما وذلك بتوفير النخب المتعاونة وتهيئة الأطر المناسبة للحركة تحت مسميات الإصلاح والتحديث والتنوير. حقيقة كانت أوضاع القوى والعقل لدى المسلمين قد وصلت حالة من التردي مكنت الآخر من عالم المسلمين، ولكن كانت الحاجة للإصلاح والتحديث والتنوير لابد أن تنبع أساساً من داخل النموذج لتجديده وليس لاستبداله بنموذج آخر يسعى إلى الهيمنة والسيطرة باستبعاد وإقصاء وتشويه بل وتصفية النماذج الأخرى بكل وسائل القسر والإكراه التي تنبثق عن القوة المادية.
والآن، وفي نهاية القرن العشرين، وفي قلب المرحلة الراهنة من التحديات التي تواجه عالم المسلمين، يحتل البعد الثقافي - الحضاري مرتبة متغيرة.
فلقد أضحت ساحة الثقافة - والحضارة آخر ساحات الهجوم» علينا «وآخر خطوط دفاعنا. كما أضحت الأداة الثقافية - الحضارية في تناغم شديد واندماج واضح مع الأدوات الاقتصادية والسياسية وذلك في غمار عمليات» العولمة «.
ولا غرابة إذاً أن يلحظ المراقب والباحث والأكاديمي أن ساحة الخطاب الغربي، الذي تم تدشينه بقوة منذ عقد، حول» العولمة «زاخرة عامرة. بما يتصل بالثقافة والحضارة والدين، وهذا هو دأب العلاقة بين السياسة وبين الأكاديمي في الغرب. ففي مرحلة الاحتلال العسكري والاستعمار التقليدي طغت الدراسات والنظريات الاستراتيجية - العسكرية على غيرها. وفي مرحلة الاحتلال الاقتصادي والاستعمار الجديد والتبعية (بعد موجات الاستقلال السياسية) طغت دراسات الاقتصاد السياسي الدولي الجديد، والآن تنمو الاهتمامات حول» العولمة «والثقافة، العولمة الهوية، الثقافة العالمية، العولمة الثقافية. كما يعلو الخطاب عن حوار الحضارات أم صدام الحضارات، وعن حوار الأديان ليس في الأوساط الأكاديمية والثقافية فقط ولكن السياسية أيضاً. وهذا الوضع الآن لا يعكس إلا تأكيد القناعة بأن المواجهة ليست حول السياسة والاقتصاد فقط ولكن الحضارة والدين في قلبها، وفي المقابل كان لابد لخطابنا العربي - الإسلامي سواء أ السياسي أم الأكاديمي أن يلقف الطعم، كما لقف قبل عدة سنوات طعم» النظام العالمي الجديد « - وأن يبدأ في استهلاك هذا الخطاب الغربي الكاسح عن» العولمة «وأن يتساءل: هل العولمة
ظاهرة أم عملية؟ حديثة أم قديمة؟ ما هي أبعادها ومضامينها؟ وما هي القوى المحركة لها؟ ما هي آثارها؟ هل يمكن تقديم مفهوم واضح عنها محل رضاء وقبول؟
وبالرغم من تعدد وقائع العولمة وتجلياتها كعملية لا يمكن إنكار وجودها في مجالات مختلفة. وبالرغم من ضرورة وحيوية الإحاطة بالتنوع في الاتجاهات حول تقويم أثارها سلباً أم إيجاباً، إلا أن ما يفرض نفسه بوضوح هو ما يتصل بمستوى تناول» العولمة «كأيديولوجية وكسياسات جارية على الأصعدة المختلفة.
فمما لا شك فيه أن محتوى هذه السياسات يعكس آثار انتصار النموذج الغربي كنموذج بلا منافس أو متحدٍ في الوقت الراهن. ولذا فإن أيديولوجية العولمة إنما تنبثق عن الليبرالية الجديدة وعن سياسات القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومن ثم فإن العولمة عملية إرادية تعكس اتجاه نموذج حضاري للهيمنة بسبل إكراهية وقسرية - على النماذج الأخرى ليس على الأصعدة الاقتصادية والسياسية فقط ولكن على الصعيد الثقافي بالضرورة. وعلى هذه النماذج الأخرى أن تتكيف وتنخرط أو أن تقاوم وتقدم الاستجابات اللازمة لمواجهة تحديات العولمة، وأول هذه النماذج وأقدرها على هذه المهمة النموذج الإسلامي لأنه نموذج ذو دعوة عالمية.
ولذا فإذا كانت التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تبرز من إطار سياسات العولمة وفي ظل عملياتها إنما تمثل درجة متقدمة ومتطورة من الخطورة التي سبق وواجهتها الأمة ولو في ظل سياقات أخرى وبأشكال أخرى للتدخلات الخارجية (الإصلاحات والتنظيمات والاستعمار التقليدي، الاستعمار الجديد، الحرب الباردة) إلا أن المجال الحقيقي للتحديات الأكثر خطورة والتي اكتسبت أبعاداً متطورة هو المجال الحضاري - الثقافي في ظل عمليات العولمة الراهنة التي لا تعكس مجرد تدخلات خارجية ولكن اختراق واجتياح الخارجي للداخلي.
بعبارة أخرى، فإن المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي هي المرحلة التي يخوض فيها» الغرب «المعركة في مواجهة» الباقي «لاستكمال تنميط العالم ليس اقتصادياً فقط على النمط الرأسمالي أو سياسياً فقط على نمط الديموقراطية البرلمانية، ولكن أيضاً في إطار منظومة القيم الثقافية - الحضارية الغربية. ولن يكتمل الانتصار الاقتصادي أو السياسي بدون الثقافي الحضاري. وفي المقابل فإن الفشل على الساحة الثقافية - الحضارية يحمل كل إمكانات نمو مراكز قوة عالمية بديلة قد ينعكس معها وبها مسار التفاعلات العالمية وتوازنات القوى العالمية.
بعبارة أخرى، أيضاً بقدر ما أضحت الساحة الثقافية - الحضارية تواجه من أخطار بقدر ما تحوي من فرص وإمكانات لانبعاث جديد من خلال تجديد ثقافي - حضاري يكون بمثابة المنطلق نحو التحدي المادي في أبعاده الاقتصادية والعسكرية. هكذا يرشدنا سلم منظومة القيم الإسلامية وآفاق تشغيل فعاليتها إلى أولوية الأبعاد غير المادية ولكن دون انقطاع عن الأسباب المادية.
وفي ضوء ما سبق، نلاحظ أن قضية» العلاقة بين الإسلام والغرب «قد أصبحت قضية محورية تتفرع وتتنامى مستويات دراستها: فكراً وحركية ومؤسسية، على نحو جعل منها أشبه بمجال درسي مستقل تتقاطع عنده وحوله تخصصات عديدة تتناول الأبعاد المختلفة للموضوع من مداخل واقترابات متنوعة، وبأقلام المسلمين والغربيين على حد سواء. ونجد دائما أن الأبعاد الثقافية - الحضارية ماثلة في أجندة دراسة موضوعات هذا المجال سواء أعلى مستوى الخطاب أم السياسات [١٠].
وإجمالاً يمكن القول إن دوائر الخطاب المهتم بالبعد الثقافي وقضاياه ودلالاتها بالنسبة لوضع العالم الإسلامي في النظام الدولي الراهن تتلخص في دوائر ثلاث كبرى (تتصل بالدول الإسلامية والجاليات المسلمة على حد سواء).
* خطاب التعددية الثقافية / الاستيعاب الثقافي ويبزغ الآن في الغرب ويتصل أساساً بدائرة المسلمين (وغيرهم) في الدول والمجتمعات الغربية.
* خطاب حوار الثقافات - الحضارات / صراع الثقافات الحضارات، ويتصل أساساً بدائرة العلاقات الدولية والعلاقات عبر القومية بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى.
* خطاب الثقافة العالمية (العولمة الثقافية / الخصوصيات الثقافية) في ظل الجدل حول الأبعاد الثقافية للعولمة.
وعلى صعيد آخر، فإن مجال» السياسات الغربية «وتفاعل السياسات الإسلامية معها يقدم الكثير من النماذج ذات الدلالة المباشرة وغير المباشرة بالنسبة للبعد الحضاري الثقافي العقدي ومن أمثلتها البعد الثقافي في الشراكة الأوروبية المتوسطية، مثل الحوار الإسلامي المسيحي، ملتقيات ثقافة التسامح، ثقافة السلام، ثقافة قبول الآخر، ثقافة التحول الديموقراطي وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. وتعتمد إدارة هذه السياسات على أدوات متنوعة: مؤسسات عالمية، وأخرى داخلية (مثل مؤسسات المجتمع المدني وشبكاتها عبر القومية).
وتكشف تفاصيل هذه النماذج عن تحديات القدرة على تحديد المشترك بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى وتحديات القدرة على التجديد في هذه الحضارة وأبعادها الثقافية دون مساس بالخصوصية التي تكمن في ثوابت هذه الحضارة من ناحية ودون الفشل في صياغة استراتيجية للتعامل مع الآخر من ناحية أخرى. كما تكشف أيضاً تفاصيل هذه النماذج عن تحديات تحديد المفاهيم الإسلامية التجديدية حول القضايا الهامة المثارة في عالم اليوم وخاصة التعددية، الديموقراطية، حقوق الإنسان، المواطنة، السلام…
كما تكشف هذه التفاصيل أخيراً - على صعيد السياسات وليس المفاهيم والمدركات - كيف أن توازنات القوى تنعكس بقوة على العملية المفاهيمية الإدراكية التي تتشكل في ظلها الخبرات العملية لجميع هذه النماذج (وغيرها مما لم نحدده)، والتي تعكس اتجاهاً لفرض منظومة قيم الطرف الأقوى.
فإذا قبلنا أن يقوم حوار ثقافات أو حضارات، فكيف ستكون نتائجه بين طرفين غير متوازنين في القوة؟ كيف ستنساب الأنماط والقيم؟
وإذا قبلنا بعالمية حقوق الإنسان التي تفترض عندئذ التدخل لحماية انتهاكاتها، فما الإطار المرجعي الذي يتم وفقاً له تحديد مفاهيم هذه الحقوق؟ مما لا شك فيه - مثلاً - أن قيمة الحرية ذات مضامين مختلفة باختلاف الأطر المرجعية والمنظورات…
وإذا قبلنا أن الاضطهاد الديني مرفوض فمن الذي يحدد حالات الاضطهاد ومؤشراتها والتي تتطلب العقاب الاقتصادي.
وإذا قبلنا بحيوية وضرورة التحول الديموقراطي والتعددية، فهل نقبل أن تكون الضحية هي الديموقراطية إذا كانت ستؤدي إلى وصول قوى إسلامية إلى السلطة بالانتخاب؟
وإذا قبلنا الحوار الثقافي أو الحضاري فما المقصود بالحوار الإسلامي المسيحي، أين هو من سياسات التنصير والتبشير؟ وأين هو من سياسات التطهير الديني والإبادة التي يتعرض لها المسلمون.
إن التساؤلات السابقة لتكشف لنا عن قدر التحديات التي تكمن في النماذج السابق طرحها وهي تحديات ثقافية - حضارية - عقدية في جوهرها، وإن كانت تجري في ظل سياسات اقتصادية وعسكرية تحكم الضغوط من حولها.
فمما لا شك فيه أن التفوق الغربي التكنولوجي - العملي - في الميادين العسكرية والاقتصادية والاتصالية والمعلوماتية، والذي يغير الآن من طبيعة الحرب بالقوة العسكرية، ومن طبيعة الحرب الأخرى، أي التي تدار بالقوة الاقتصادية، ومن طبيعة الحرب النفسية والإعلامية التي تدار بالقوة المعلوماتية الاتصالية، كان لابد وأن ينعكس هذا التفوق بقوة على البعد الحضاري - الثقافي - العقدي في موازين القوى. وهذا يعني أن ميدان المعركة ليس فقط مادياً ولكن غير مادي أيضاً موجه إلى النماذج الحضارية الأخرى - وخاصة التي تملك مقومات المقاومة والتحدي بل وطرح البديل مثل نموذج الحضارة الإسلامية.
ولهذا أيضاً فإن الجدال حول آفاق ثقافة عالمية أو حضارة عالمية يشتد حالياً في ظل الاهتمام بآثار العولمة ولكنه يفصح عن رفض وجود ثقافة عالمية مهما كانت تجليات الأبعاد الثقافية للعولمة بسلبياتها وإيجابياتها.
هذا وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن الملاحظات السابقة ليست إلا تمثيلاً لبعض الأشجار في غابة كثيفة مترامية. وهذه الغابـة هي ساحة الثقافة والفكر في الدول العربية والإسلامية - والتي تزخر الآن (كما زخرت من قبل وخاصة منذ نهاية القرن ١٩) - بأبعاد الجدال والحوار حول العلاقة مع الآخر ثقافيـاً وفكرياً (دون انفصال عن السياسي والمجتمعي) تشخيصاً وتعليلاً، قبولاً ورفضاً. وهو الجدال الذي شاركت فيه مدارس متعددة حول أسباب ومظاهر أزمة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، التي هي في صميم أزمة المجتمعات والنظم في الدول الإسلامية [١١]. ولذا لا عجب أن تعتبر وثائق المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أن البعد الثقافي الإسلامي من أعمدة التنمية الشاملة إن لم يكن عمودها الأساسي (كما سنرى).
٢ - هل هناك حوار الحضارات؟ القيود والإمكانيات: قراءة في بعض النماذج والحالات:
إن التحليل السابق عن دلالات البعد الثقافي الحضاري بالنسبة لوضع الأمة الإسلامية في العلاقات الدولية يمثل الإطار العام الذي لابد وأن نحيل إليه عند الإجابة على السؤال التالي: هل حوار الحضارات أمر ممكن؟ وبالنظر إلى المكون الثقافي في الحضارة: هل الحوار بين الثقافات أمر ممكن؟
ونقدم في هذه الجزئية من البحث نموذجين متقابلين في الدلالة: أحدهما قراءتي في أطروحات» هانتنغتون «والثاني خبرة تفاعلي مع إحدى الساحات التي تدشن سياسات لإدارة حوار للثقافات، ومن ثم فإن الدلالة النظرية للنموذج الأول تكتمل مع الدلالة الحركية للنموذج الثاني - وفي ضوء خبرة هذين النموذجين سأختم البحث برؤية حول مفاهيم بديلة وحول أساليب وطرائق التعامل مع الوضع الراهن الذي يموج بدعاوى حوار الحضارات والثقافات.
١ - نتائج قراءة في أطروحات» هانتنغتون» [١٢].
تمثل أطروحات» هانتنغتون «وأطروحات الفكر الغربي بصفة عامة حول حقيقة» التهديد الإسلامي «تياراً فكرياً يقدم رؤية كونية أو رؤية للعالم من منظور الغرب لهذا العالم، ولوضع الغرب فيه، ومن ثم رؤية للعلاقة مع الإسلام والمسلمين ودلالتها بالنسبة لوضع الغرب العالمي ودوره.
ولا ينفصل هذا التيار الفكري - بحكم العلاقة الوثيقة بين الفكر وبين الحركة في الغرب - عن سياسات الغرب العالمية وما تمثله للوضع الراهن للأمة الإسلامية، ولكن ما الجديد في هذه المقالة حتى تستثير كل هذا القدر من النقاش والجدل؟ .
قد تكون مفاهيم الحضارة والثقافة والهوية التي طرحها» هانتنغتون «قد أثارت النقد لعدم دقتها ولتداخلها، وقد يكون مستقبل العالم الصراعي بين» حضارات، ثقافات، أديان «لا تعرف العقل والتسوية بقدر ما تعرف التعصب للأنا ضد الآخر. قد يكون النموذج الذي يطرح هذا المستقبل مرفوضاً من أصحاب النماذج التعددية العالمية لتفسير السياسات الدولية الذين يعلون من الحوار والتعاون. وقد يكون ترشيح» هانتنغتون «للحدود الإسلامية كحدود دموية يتمحور حولها الصراع سواء في مستواه الكلي (بين حضارات) أو في مستواه الجزئي (بين دول من حضارات مختلفة) قد يكون هذا الترشيح أيضاً موضوع هجوم من المدافعين الاعتذاريين عن الإسلام نظراً لما يحويه من اتهامات للإسلام والمسلمين، ونظراً لتجسيده الإسلام كعدو المستقبل بالنسبة للغرب، وقد يكون تمثل» هانتنغتون «نموذج الحضارة الغربية حيث يدافع عن ضرورة استمرار قوته وقيمه ومصالحه هو موضع الهجوم والانتقاد الفلسفي من جانب هؤلاء الذين يتصدون لنقض الأسس الفلسفية والفكرية لهذا النموذج العلماني المادي ولرفض عواقبه على البشرية.
هذه جميعها وغيرها بالطبع - كانت القنوات الكبرى التي جرى على صعيدها الجدل والنقاش حول أطروحة» صدام الحضارات «. ولكنني على ضوء قراءة هذا الجدل، أظل مدفوعة للتساؤل: ما الجديد في موضوعات هذا الجدل حتى يتصدر الاهتمامات على هذا النحو؟ وخاصة أن العديد منها قد سبق طرحه من قبل وفي دراسات لآخرين وفي مجالات معرفية مختلفة. فعلى سبيل المثال، وكما أشار» هانتنغتون «نفسه نقلاً عن بعض المفكرين - ارتفع الاهتمام بوضع الدين والهوية ودورهما في المجتمعات وفي العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وسجلت دراسات عديدة آثار الصراعات العرقية والدينية كمصادر لتهديد استقرار النظام الدولي الجديد، بل إن الأحداث والوقائع والتطورات التي كان يتمثل بها لم تكف الدراسات الغربية وغير الغربية عن تحليلها ولو من منظورات مختلفة.
تبين نتائج هذه القراءة النقدية كيف أن هذه الأطروحات تمثل إقراراً بأن الصراع هو منهج الغرب تجاه العالم وتجاه المسلمين بصفة خاصة لأنه يرى فيهم وفي الإسلام تهديداً ذا طابع خاص، وتنبع هذه الرؤية من كيفية إدراك الأبعاد الحضارية الثقافية الكامنة في الأمة الإسلامية. وتتلخص نتائج هذه القراءة النقدية في المجموعة التالية من النقاط:
١ - إذا كان البعض قد رفض أطروحات صراع الحضارات لأنها تقوم على منظور حضاري وليس مادياً يفسح مكاناً للدين، وهو الأمر غير المعتاد من الفكر والتنظير الغربي في ظل» علمنة دراسة العلاقات الدولية «إلا أن أخذ» هانتنغتون «للعامل الحضاري كمحرك للحضارات يعتبر تغييراً جوهرياً في المنطلقات النظرية، وهو الأمر الذي يقتضي التوقف عنده والتساؤل عن مبررات هذا المنحى: هل يتصل، بما أضحى يدب في الحضارة الغربية من ضعف وتآكل في القوة بالمقارنة بحضارات أخرى أخذت تستنهض قواها من جديد؟ وفي هذا الصدد نلحظ أن» هانتنغتون «في ختام تحليله لمبررات اهتمامه بالحضارات كمحرك للتفاعلات الدولية، يربط بين أثر زوال الأساس الأيديولوجي للصراع العالمي وبين جهود الغرب الرامية لدعم قيمه كقيم عالمية والحفاظ على هيمنته العسكرية ودعم مصالحه الاقتصادية، ومن تولد ردود فعل مضادة من قبل الحضارات الأخرى من ناحية أخرى.
٢ - وتحت عنوان خطوط التقسيم بين الحضارات فنجد أن النماذج والأحداث التي يشير إليها لتوضيح المستويين من الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وبين الأولى وحضارات أخرى - ليست إلا أحداثاً ووقائع درج المحللون على تفسيرها استناداً إلى عوامل أخرى غير صدام الحضارات، ولهذا يتحدد السؤال: لماذا يسميها الآن» هانتنغتون «. بمسماها الحقيقي الذي يصدق عليها من قبل؟ هل يعني هذا أنه بعد أن استنفد الغرب أرديته وأقنعته السياسية والاقتصادية وحقق من ورائها أهدافه لم يعد يبق له إلا القناع الحضاري؟ ألا يعني هذا أن» هانتنغتون «يشعر أن الهيمنة الغربية لن تكتمل بالهيمنة السياسية والاقتصادية فقط ولكن يلزم لاكتمالها الهيمنة الحضارية أيضاً وفي قلبها الهيمنة الثقافية؟ ومع هذا السؤال، وفي هذا الموضع يتراكم مغزى أسئلة أخرى مناظرة سبق طرحها حول نفس المغزى والغاية للمقالة برمتها
ومن ناحية أخرى، يذكر المؤلف أمثلة من الصدام والمواجهة - ولكن لا يحدد المسئول عن انفجارها. الغرب أم المسلمون؟ المسلمون أم شعوب أخرى؟ . ولكن يورد خلاصتين لمفكر مسلم ولآخر مستشرق يهودي يقدمان نفس المعنى. فينقل عن» أكبر أحمد «قوله: » إن المواجهة التالية ستأتي حتماً من العالم الإسلامي، إن الصراع سيبدأ من أجل نظام دولي جديد انطلاقاً من طغيان الموجة الكاسحة التي تمتد عبر الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان «.
وينقل عن» برناردلويس «قوله» إننا نواجه فراغاً وحركة يتجاوزان كثيراً مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تنتهجها، ولا يقل هذا عن كونه صداماً بين الحضارات ربما غير رسمي، لكن لاشك في أنه رد فعل تاريخي لخصم قديم لتراثنا اليهودي - المسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لهما معاً «إن الاستشهاد بهاتين المقولتين يعني - في ضوء تحليل» هانتنغتون «السابق لأحد أسـباب صدام الحضارات وهو أن الغرب أضحى في أوج قوته - تعنيان أن الصدام إنما هو استجابة ورد فعل للتحدي المتمثل في القوة والتوسع الغربي العلماني.
وأعتقد أن القراءة على هذا النحو لهذا الجزء من تحليل» هانتنغتون «قد يدفعنا إلى عدم الهجوم على مقولته عن الصدام بين الإسلام والغرب، كما فعلت بعض الانتقادات لنفس المقولة دفاعاً عن الإسلام ورفضاً أن يكون الإسلام صراعياً أو إكراهياً أو عدوانياً أو إرهابياً، بل يمكن أن نتحول في ضوء هذه القراءة أيضاً إلى هجوم من نوع آخر على هيمنة الغرب ومظاهرها التي يقرها ويعترف المؤلف بآثارها على الآخر كما سنرى لاحقاً. وبذا ننتقل من المواقف الاعتذارية التبريرية الدفاعية إلى الهجومية، فنحن لسنا مصدر التهديد ولكننا نحن المعرضون للتهديد، ومن ثم فإن استجابتنا ورد فعلنا هي التي تبدو مصدر» الصراع «.
٣ - وتحت العناوين الأربعة التالية: » الغرب ضد الباقي «» البلدان الممزقة «» الصلة الكونفوشيوسية - الإسلامية «» الآثار الضمنية بالنسبة للغرب «. وتؤكد قراءتنا لتحليل» هانتنغتون «تحت هذه العناوين ما انتهينا إليه من قبل في هذه المقالة ومقصدها ومغزاها، ألا وهو تقرير هيمنة الغرب في صدام الحضارات، ومن ثم مسئولية هذه الهيمنة عن تفجير هذا الصدام من جانب الغير، ومن ثم تحذير الغرب وتنبيهه لضرورة اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الآخر.
بعبارة أخرى، فإن الذي يستوجب الاهتمام في فكر» هانتنغتون «هو المقولات الصريحة والواضحة والحاسمة حول الصدام بين الإسلام والغرب صداماً حضارياً دينياً وحول التضامن بين شعوب الحضارة الواحدة في مواجهة الحضارات الأخرى وحول سياسات الغرب المرتقبة في مواجهة الحضارات الأخرى وخاصة الإسلامية، ولكن هنا يجب ملاحظة أمر هام فإن» هانتنغتون «لايضع فقط الإسلام كعدو مرتقب للغرب ومن ثم ينبري البعض للدفاع عن الإسلام ولكن يبرز أيضاً ما يجب أن نفطن إليه بقوة وهو: كيف أن الغرب هو عدو الإسلام والمسلمين والحضارات الأخرى؟ . وفي الحقيقة فإنه يسجل في مقالته الأولى - كما رأينا - وكذلك في مقالته الثانية أكثر من تحذير للغرب بأن الآخر يصحو ولم يعد مفعولاً به بل أضحى فواعل تعود إلى جذورها وترغب في تشكيل العالم بطرائق غير غربية، ومن ثم يحذر بأن هناك خطراً ثقافياً يجيء من الجنوب ويحل محل التهديد الأيديولوجي الذي جاء من الشرق، بعد أن انتهى الاستعمار الأوروبي، وحيث أن الهيمنة الأمريكية آخذة في الانحسار فيتبع ذلك كل الثقافة الغربية والحقيقة أننا نستطيع تسجيل هذا كله ولكن ما نستطيع تسجيله بدرجة أكبر وأهم هو الإجراءات التي يوصي بها» هانتنغتون «لمواج
هة هذا الآخر. وهنا مكمن التحدي الأساسي الذي تفصح عنه المقالة في أكثر من موضع منها وبأكثر من تعبير صريح وحتى تصل إلى صفحاتها الأخيرة فيتركز فيها جل التوصيات الموجهة للغرب لحماية نفسه.
٢ - حوار الثقافات على صعيد نتائج خبرة دراسة» البعد الثقافي للشراكة المتوسطية الأوروبية»
انطلقت هذه الدراسة من تحديد خريطة مكونات البعد الثقافي في ضوء الأسئلة التالية:
ما هو البعد الثقافي المعني؟ هل مجمل النشاط الإنساني الإبداعي؟ هل أسلوب حياة؟ هل الإطار الكلي الذي يحيط بالسياسة والاقتصاد والذي يتصل بالتاريخ والتراث والدين والقيم؟
ما هي المستويات التي يتجه إليها العمل الثقافي: الحكومات أم النخب المثقفة؟ أم أجهزة الإعلام أم مؤسسات المجتمع المدني أم المواطن الفرد؟ وهل تقوم المنظمة فقط بهذا العمل؟ أم تقوم بالتنسيق مع حكومات الدول الإسلامية ومع تنظيمات الجاليات المسلمة؟ .
ما الغاية النهائية من إدارة البعد الثقافي: المساعدة في إدارة الجاليات المسلمة لما تواجهه من تحديات؟ ، أم إدارة حوار ثقافي مع الآخر (تشارك فيه الجاليات المسلمة أيضاً)؟ وما إمكانياته وفعالياته وقيوده في ظل أوضاع الخلل الاقتصادي السياسي في موازين القوى بين طرفي العلاقة: المسلمين والغرب؟ .
وأخيراً ما العلاقة بين الثقافي وبين السياسي والاقتصادي في العلاقة بين الطرفين: بعبارة أخرى، ما هي فرص التنمية الثقافية الإسلامية الفاعلة أمام الجاليات المسلمة في الغرب؟ ، وما هي فرص الحوار الثقافي الحقيقي أو» التثاقف «مع الأمم الأخرى وما هي نتائجها المرجوة؟ .
وإذا كانت دراسة نماذج محددة ونتائجها الراهنة هي السبيل للإجابة على الأسئلة السابقة، وإذا كانت التقارير والمقالات والدراسات المتوافرة على شبكة المعلومات الحديثة تقدم جانباً من الصورة، فما لاشك فيه أن تقويم الواقع (مشاكله وإدارته) - على الساحة الأوروبية - أو الأمريكية يخرج عن إمكانيات هذه الورقة، إلا أنه يمكن الاجتزاء والانتقاء والإحالة إلى خبرة دراسة أحد نماذج التفاعلات الثقافية وهو نموذج البعد الثقافي للشراكة المتوسطية - الأوروبية (١٩٩٥ ـ١٩٩٧)، والتي تقدمها دراستان تفصيليتان عن هذا النموذج وإطاره السياسي [١٣].
يحوى هذا النموذج الكثير من الدلالات بالنسبة لرؤية الطرف الأوروبي (الرسمي وشبه الرسمي) لأبعاد وآفاق ما يسمى حواراً ثقافياً أو حواراً بين الثقافات كشرط لدفع تعاون سياسي واقتصادي أو تعاون استراتيجي بين جانبي المتوسط يقع في صميمه أيضاً وضع الجاليات المسلمة في الغرب على أساس أن الفهم المتبادل الناتج عن» تداخل الثقافات «لابد وأن ينطلق من استبعاد الدين وتخطي التاريخ والتوفيق بين معطيات المصالح الراهنة.
وبدون الدخول في تفاصيل أبعاد الرؤيتين المتقابلتين فيكفي هنا - وبفرض قبول إمكانية حوار ثقافي أن نطرح السؤالين التاليين:
هل ما هو قائم على الصعيد المؤسسي هو من قبيل الحوار؟ وهل هو سبيل لدفع التعاون السياسي الاقتصادي المتوسطي لصالح العرب في شمال المتوسط وجنوبه؟
وبصدد السؤال الأول أود أن أحيل إلى التقييم الذي قدمه السفير» هاني خلاف «لمسار ومناهج معالجة ما يسمى حوار الحضارات أو الثقافات. وتتلخص هذه الرؤية فيما يلى؟ [١٤].
من ناحية: لا يوجد تحت عنوان» حوار الحضارات أو الثقافات «الذي يعد بمثابة موضة فكرية، أبعد من الدعاية المسطحة فيما يشبه المونولوج. ولا ينبغي أن يقتصر الحوار الحقيقي على مجالس يؤمها رجال الدين المسيحي وعلماء الإسلام لاستعراض وجوه التسامح في الديانتين، كما لا ينبغي أن يقتصر على مناظرات أكاديمية تكشف مدى سبق كل من الثقافتين العربية - الإسلامية والغربية.
ومن ناحية أخرى: ينبغي أن يتصدى الحوار لرصد تحليل نوعية الصور المرسومة عن الشعوب وحضاراتها في أذهان الآخرين وإمكانيات تطوير هذه الصور ثم طرح الصور البديلة، وحيث أن الحوار ليس حواراً سياسياً بين أطراف ذات مصالح متعارضة فهو يجب أن يشمل رؤية كل منا للآخر كما تبدو في الآداب والفنون والإعلام والدعاية ومقررات الدراسة.
ومن ناحية ثالثة: لا ينبغي أن يستخدم الحوار كمدخل لإذابة الفوارق والخصوصيات الذاتية لأي من أطرافه، ولا لعولمة ثقافة ما أو تعديل الأنساق القيمية للآخرين، مما يتفق ومعايير أنساق هذه الثقافة، لأن الهدف من الحوار ليس إدماج الثقافات ولكن تعويد الشعوب والمؤسسات على احترام الاختلاف وكيفية التعايش رغم الاختلاف.
أما بصدد السؤال الثاني: فلابد أن أطرح التصور الذاتي التالي: [١٥]
وهو ينطلق من أن الخلل في ميزان القوى الاقتصادية والسياسية بين طرفين لا يسمح بإمكانية حوار ثقافي، بمعناه الحقيقي، أي الحوار الذي يؤدي ليس إلى تحسين صورتها لدى الآخر فقط، ولكن أن نصل إلى عرض صورة الآخر في ذهننا. ومن ناحية أخرى: فإن الخبرة التاريخية تبين كيف أن الأداة الثقافية - بأوسع معانيها - كان لها وزنها بين أدوات الغرب الأخرى في إدارة صراعه مع المسلمين في القرون الأخيرة، أي منذ أن بدأ منحى القوة الإسلامية في الهبوط فإن خبرة التاريخ الحديث تبين كيف استغلت القوى الغربية العامل الثقافي بأوسع معانيه لتحقيق أهداف سياسية لم تكن تقدر الأدوات التقليدية على تحقيقها بمفردها.
بل كانت الأهداف الثقافية لا تفترق - لدى الغرب - عن أهدافه السياسية تجاه العالم الإسلامي، فلم تكن السيطرة على الأرض والثروات هي الغاية فقط، ولكن السيطرة أيضاً على النموذج الثقافي الفكري بل واستبداله.
ولذا فإن الوضع الراهن - الذي يشهد - بمبادرة غربية أو بمبادرة تغريبية فورة الحديث عن حوار ثقافات وحضارات وأديان - ليس إلا حلقة من حلقات سابقة. وتشهد هذه الحلقة قمة الأزمة الفكرية في مجتمعاتنا نظراً لهذا الخضم الهائل من اختلالات ميزان القوى لغير صالحنا، والذي يحيط. بمضمون محدد ومعنى محدد للحوار الثقافي في ذهن المبادرين بالدعوة، وذلك في وقت يتعرض فيه البعد الثقافي - الحضاري العقدي لأمتنا لأخطر موجات التحدي والتي تستوجب، بالضرورة الاستجابة المناسبة لتدعيم الثقافة الإسلامية للشعوب الإسلامية في كل مكان، ليس في الدول الإسلامية فقط ولكن في الأوطان الجديدة التي هاجر إليها البعض، ولهذا لا ترى الورقة انفصالا بين مستويات ثلاثة للعمل الثقافي الإسلامي: في داخل الدول الإسلامية ذاتها التي تجتاحها وتخترقها موجات العولمة الثقافية، وبالنسبة للجاليات المسلمة في الغرب، ونحو المجتمعات والجماعات الغربية المختلفة.
٤ - خلاصة القـول: إن لم يكن حوار الحضارات بالمفهوم الغربي، فماذا إذاً؟
إذا كانت دلالات النموذجين السابقين تبين رؤية البحث ومنطلقه الرافض لشيوع الدعوة إلى» حوار الحضارات «نظراً لتراكم الأدلة على أن العكس هو الصحيح، فإن ذلك لا يعني أن البحث يتبنى منطق» الصراع «بالمفهوم الغربي. وهنا أود التوقف عند الملاحظات الثلاث التالية:
الملاحظة الأولى: إن التصور الإسلامي لا يكرس» الصراع «كقانون تاريخي مطلق كما تقدمه المدرسة الواقعية بروافدها المختلفة ومنها فكر» هانتنغتون «(الذي لم ينقض استمرار دور الدول / الأمم). ولكن الصراع في التصور الإسلامي. بمعنى التدافع ليس إلا سنّة واحدة من سنن الاجتماع البشري إلى جانب سنن الله الأخرى، كما أن له منطقه المختلف عن مفاهيم الصراع الأخرى، ولذا فإن الجهاد في معناه الواسع ليس صراعاً مع الآخر للقضاء عليه ولكن أداة الدعوة ونشرها نحو هذا الآخر ومن ثم فهو أحد أدواته، حيث أداة التعاون السلمي تظهر إلى جانبه ولكل من الأداتين ضوابطهما وشروطهما وليست أحداهما بديلة مطلقة للأخرى. ولذا فإن القول إن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم في التصور الإسلامي هو الحرب أو السلام ليس قولاً منضبطاً، ولكن القول الأفضل هو: متى تكون الحرب؟ ومتى يكون السلام؟ هكذا يجب أن نقرأ المدارس والاتجاهات الفقهية المختلفة حول هذا الموضوع بحثاً عن إجابة هذا السؤال الأخير، وهو السؤال الذي يحتل في التصور الإسلامي مكانة السؤال في المنظور الغربي حول الصراع كمحرك بين من وعلى ماذا؟ .
ومن ناحية أخرى، فإن هذا الصراع - في صورته العسكرية أو السلمية - ليس لتأكيد هيمنة قوم على قوم أو ثقافة على ثقافة ولكن لتحقيق أهداف الدعوة والرسالة باعتبارها رسالة للعالمين ليس بالإكراه والقسر والإجبار للشعوب والأمم وعلى العكس فإن منطق صدام الحضارات في فكر» هانتنغتون «يعكس كل منطق التناقض بين عالمية الإسلام وبين هيمنة الحضارة الغربية (أو عولمة النموذج الحضاري الغربي) حيث أنه أي فكر» هانتنغتون «يعكس تكريساً لهذه الهيمنة وكيفية استمرار قوتها بأساليب إكراهية قسرية إجبارية أفاض في تحديدها في نهاية مقالته.
الملاحظة الثانية:
لماذا لا نقول إذاً إن مفهومنا - من الدائرة الإسلامية عن نمط العلاقة بين الحضارات هو» تعارف الحضارات «وأنا هنا أستخدم ذلك المصطلح الذي قدمه بعض الأساتذة المفكرين مثل» أ. زكى الميلاد « [١٦] وكذلك بعض الأساتذة الأكاديميين مثل» د. سيف الدين عبد الفتاح « [١٧].
وإذا كان لابد أن نسجل أن المفهوم الإسلامي عن حوار الحضارات [١٨] ينبني على رؤية الأصول (قرآناً وسنة) ويعكس الأسس المعرفية للرؤية الإسلامية، ومن ثم يختلف في جوهره عن المفهوم الغربى عن الحوار - الثقافي أو الحضاري، كما لابد وأنه يختلف في غاياته ودوافعه - إلا أن استخدام هذا المصطلح» الحوار «من داخل الدائرة الإسلامية وفي ظلال العولمة إنما يضعنا في نطاق الدائرة الاعتذارية الدفاعية عن الإسلام والمسلمين، في حين أن مفهوم التعارف - في إطار عالمية وطبيعة حضارته والسنن التي تحكم العلاقة بينها وبين غيرها من الحضارات سواء أفي مرحلة شهود هذه الحضارة الإسلامية أم أفولها وضعفها، لأنها السنن التي لا تقوم على إبراز أثر العوامل المادية فقط ولكن العوامل غير المادية من قيم وأخلاق.
ومن ثم فإن استخدام» تعارف الحضارات «وليس حوارها أو صراعها يمثل استجابة» إيجابية «وليس مجرد رد فعل لما أثارته أطروحات» صراع الحضارات «تلك الأطروحات التي جاءت من خارج الدائرة الإسلامية تعبيراً عن الاهتمامات الفكرية والعملية في الغرب (كما سبق التوضيح في نموذجي القراءة والخبرة) في حين أن الرؤية الإسلامية - على مستوى المعرفة والفكر - أسبق إلى تقديم طرح آخر، كما أن الواقع الإسلامي في ظل موقعه من توازنات القوى العالمية، لا بد أن تطرح السؤال التالي: هل يمكن للغرب أن يدخل في حوار حضاري مع حضارات غير متكافئة معه من الناحية المادية وهو المحكوم دائماً باعتبارات توازن القوى المادية؟ حتى أن» هانتنغتون «حين يذكر الحضارات والأديان فلم يقدمها إلا في إطار الصراع والذي يعكس كل دلالات هيمنة الغرب المادية - كما سبق التوضيح في نتائج نموذج قراءتنا لفكره - كذلك وإذا كانت أوروبا - في توجهها المتوسطي - قد طرحت الدعوة لحوار ثقافات إلا أنه ليس هناك من الأدلة في واقع السياسات الأوروبية والغربية الرسمية بصفة عامة) على أن حوار الثقافات هو الأساس في تشكيل رؤية هذا الجزء من الغرب للعالم، ولا أدل على ذلك من مضمون ومحتوى» الحوار «حول قضايا
المرأة والطفل والأسرة والبيئة والأقليات وذلك في المحافل الدولية الرسمية المعنية بتقنين قواعد إدارة هذه المجالات في عصر العولمة.
الملاحظة الثالثة: تتصل بالآليات المقترحة والمضامين المطلوب توافرها عند المشاركة في دوائر ما يسمى الآن» حوار الحضارات «. وفيما يلي نقدم بعض المقترحات بالاتجاهات الكبرى التي تم تقديمها في ملتقيين من ملتقيات منظمتين من أهم المنظمات الرسمية التي تهتم بالعلاقة مع الآخر. ومن ثم يقع الآن موضوع حوار الحضارات والثقافات في صميم اهتماماتها المتنوعة وهما المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيكو) إحدى هيئات منظمة المؤتمر الإسلامي [١٩].