منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#67944
فهذا مبحث مختصر حول فكرة الميكافيلية ومبدأها الشهير بـ "الغاية تبرر الوسيلة" من جمع العبد الفقير أخص به هذا الملتقى المبارك وأسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه ، والحقيقة أن فكرة الميكافيلية ومبدأها الذي أشرنا إليه رغم شهرته كثيراً وتطبيقه أحياناً في مجالات مختلفة عند بعض الناس إلا أن الكتابة حوله –فيما ظهر لي- مازالت قليلة ، فإن هذا المبدأ بحاجة إلى مناقشة علمية في جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية ، ولعل الأسطر القليلة القادمة تحمل في طياتها نبذة يسيرة حول هذا المبدأ مع بعض المناقشة الفكرية له ، آمل أن تكون مدخلاً مناسباً للموضوع .
......................................



المبحث الأول / ميكافيلي و"نظرية الميكافيلية" .


أولاً: حياة ميكافيلي .
- نيكولا ميكافيلي ( 1469 – 1527م) .. ولد في فلورنسا في إيطاليا ، وقد أتاح له وضعه الاجتماعي الحسن فرصة للتعليم العالي في مجالات مختلفة مثل: الأدب ، والقانون ، والتاريخ ، والفلسفة ..
- بدأ ميكافيلي حياته كموظف بسيط في حكومة مدينة فلورنســا ، وحين اجتاحت الجيوش الفرنسية مدينة فلورنسا ، وأطاحت بالحكم فيها-حكم أسرة مديتشي- سارع ميكافيلي لتأييد النظام الجديد ، وتنقل في وظائف حكومية كثيرة تحت ظل هذا النظام حتى وصل إلى منصب "السكرتير الأول لحكومة فلورنسا"..
- وقد أوفد في عدة بعثات مهمة نيابة عن الحكومة إلى المدن الإيطالية والدول الأجنبية ، واستطاع ميكافيلي خلال هذه الفترة الإطلاع على خبايا الحياة السياسية وأسرارها عن قرب ..
- في عام 1512م عادت أسرة مديتشي للحكم بمساعدة من البابا ، وتم القبض على ميكافيلي ونفيه إلى مزرعته الواقعة على أطراف فلورنسـا ، حيث عاش هناك حتى توفي سنة 1527م..
**الميكافيلية : أنت إنســان ميكافيلي ، أو صاحب قرارات ميكافيلية .. يطلق هذا اللقب على كل من اتبع مبدأ ميكافيلي الأول "الغاية تبرر الوسيلة" ، وهو أشهر مبدأ عُرف به ميكافيلي ، فـهو يرى بأن الهدف النبيل السامي يضفي صفة المشروعية لجميع السبل والوسائل التي تؤهل الوصول لهذا الهدف مهما كانت قاسية أو ظالمة ، فهو لا ينظر لمدى أخلاقية الوسيلة المتبعة لتحقيق الهدف ، وإنما إلى مدى ملائمة هذه الوسيلة لتحقيق هذا الهدف .. فـ الغاية … تبرر الوسيلة .. وكان هذا المبدأ هو ما استند عليه في أغلب نصائحه في كتاب الأمير([1]).


ثانياً: منهجه الفلسفي .
حاول ميكافيلي إتباع منهج جديد مختلف عن مناهج من سبقوه ، فعلى الرغم من دراسته للمنطق والفلسفة ، إلا أنه أهمل مبادئها إهمالا تاماً وركز على التاريخ، فقد كانت خلاصة فكرته الرئيسة: أن أفعال البشر تؤدي إلى نفس النتائج دوماً ، فحاول الربط بين الأسباب والنتائج والدراسات التحليلية المستمدة من التاريخ ، وعلى ذلك كان أسلوب ميكافيلي في البحث هو :
1. الاستعانة بالتاريخ لاستقصاء الأحداث ، ومعرفة نتائجها ، وارتباطها ، وإمكانية تكرارها ، أي محاولة التنبؤ بالمستقبل ..
2. محاولة وضع تعميمات في حالة تكرار الأحداث للوصول إلى قواعد عامة ، توضع أمام الحكام لتسهيل مهمتهم وتساعدهم على تبني مواقفهم ..
3. البحث عن إمكانية التدخل في الأحداث مسبقاً بعد معرفة أسبابها ، ومحاولة تحديد السلوك الواجب إتباعه لمواجهة الأحداث ..
ومن هنا نرى بأن أسلوب ميكافيلي يبين مدى شغفه بالتاريخ ، وكثرة استخدامه للأحداث التاريخية للتدليل على صحة أفكاره -كما في كتاب "فن الحرب" وغيره من الكتب – وبذلك يعتبر ميكافيلي أحد مؤسسي طريقة التحليل التاريخي الحديث ..


ثالثاً: أعمالــه .
لـ ميكافيلي أكثر من 30 كتاباً أشهرها كتاب ( الأمير - IlPrincipe ) وكتاب ( مقالات في العشرة كتب الأولى لـ تيتوس ليفيوس - (Discourses onthe First Ten Books of Titus Livius الذي سمي فيما بعد بـ ( المطارحات - TheDiscourses ) وكذلك كتاب ( فن الحرب - The Art of War ). الذي تحدث فيه عن بعض المعارك الحربية وأهم القادة الحربيين كـ نابوليـون بونبارت والقائد السويدي الشهير جوستـاف أدلفوس وغيرهم من القادة .. وله كذلك عدة كتب تاريخية ، وبعض القصائد ..


- كتاب الأمير (Il Principe) :
ألفه ميكافيلي في منفاه عام 1513م ، وقد أهداه إلى لورينزو دي مديتشي (Lorenzo de’ Medici ) ، وقد تضمن الكتاب أفكار ميكافيلي وتجاربه السياسية مع مجموعة من النصائح لـ الحاكم ، وقد كان راجياً أن ينال رضا الحاكم عن طريق هذا الكتاب ولكنه فشل في ذلك وظل في منفاه ..
أهم صفات الأمير -الحاكم- في نظر ميكافيلي :
- من ناحية الأخلاق : عليه التخلص من الأخلاق والتقاليد والبدع والقيم المسيحية وخاصة التواضع والرضوخ للحكام ، واستعمال الدين كوسيلة لكسب الشعب فقط ..!
- من ناحية السياسة الداخلية : عليه أن يجمع بين حب الناس وخوفهم منه ، وإن تعسر ذلك فعليه أن يتأكد من كونه مخيفاً ومهاباً ..
- من ناحية السياسة الاقتصادية : عليه أن يسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية وتوزيع الدخل بشكل عادل ،لأن وجود طبقة فقيرة تشكل أغلبية سيكون سبباً فيما بعد لقيام ثورة ضد الحاكم ..
- من ناحية السياسة الخارجية : عليه أن يتعلم أن يتخلص من عهوده ووعوده إن كانت عبئاً عليه ، وعدم التردد في استعمال القوة عند الضرورة .
- من ناحية الحروب : ركز ميكافيلي على وجوب إقامة جيش وطني قوي ، وأن الجيش المكون من المرتزقة لا يجدي نفعاً ، فالمرتزقة لاولاء لهم إلا للنقود ..
- يقول ميكافيلي في كتابه : ” وهنا يقوم السؤال عما إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا أكثر من أن تكون مهابا أو أن يخافك الناس أكثر من أن يحبوك . ويتلخص الرد على هذا السؤال في أن من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبوك ولكن لما كان من العسير الجمع بين الأمرين ، فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبوك ، هذا إذا توجب عليك الاختيار بينهما ... وقد قال عن الناس بصورة عامة : أنهم ناكرون للجميل ، متقلبون ، مراءون ميالون إلى تجنب الأخطار شديدوا الطمع ، وهم إلى جانبك طالما أنك تفيدهم فيبذلون لك دمائهم وحياتهم وأطفالهم وكل ما يملكون ، طالما أن الحاجة بعيدة نائية ، ولكنها عندما تدنو يثورون” انتهى كلامه .
والجدير بالذكر أنه لم يتم نشر كتاب "الأمير" إلابعد وفاة ميكافيلي بخمس سنين ، وأول من هاجم مكيافيلي هو"الكاردينال بولس" مما أدى لتحريم الإطلاع على كتاب الأمير ونشر أفكاره، وكذلك انتقد "غانتيه" في مؤلفٍ ضخم أفكار مكيافيلي، وقد وضعت روما كتابه عام (1559م) ضمن الكتب الممنوعة وأحرقت كل نسخة منه .
ولكن وعند حلول عصر النهضة في أرجاء أوروبا ظهر هناك من يدافع عن مكيافيلي ويترجم كتبه. ولم يصل مكيافيلي وفكره لما وصل إليه الآن إلا في القرن الثامن عشر عندما مدحه "جان جاك روسو"، و"فيخته"، وشهد له "هيجل" بالعبقرية ، حتى اعتبر مكيافيلي أحد الأركان التي قام عليها عصر التنوير في أوروبا.
وقد اختار "بنيتو موسيليني" –حاكم إيطاليا الفاشي– كتاب "الأمير" كموضوع لأطروحته التي قدمها للدكتوراة ، كما كان "هتلر" يقرأ هذا الكتاب قبل أن ينام كل ليلة ، ناهيك عن من سبقهم من الملوك والأباطرة "كفريدريك" و"بسمارك" وكل من ينشد السلطة([2]).


رابعاً: الظروف التي أثرت في فكر ميكافيلي .
هناك العديد من الأسباب التي أثرت على فكر ميكافيلي ، ولكن لعل الأسباب التالية من أهمها :
1. ضعف حال الدولة آنذاك ، وكثرة المشاكل السياسية في تلك الفترة ، ولهذا كان يرى بأنه لابد من نظام حكم قوي يحكم الدولة ، إما نظام ملكي صارم ، أو نظام جمهوري .. وكان مؤيدا بشكل كبير للنظام الجمهوري ..
2. الخدع والمؤامرات التي واجهها ميكافيلي في أروقة ودهاليز السياسة عندما كان ذا شأن في حكومة فلورنسا ..
3. تأثره الشديد وولعه بالتاريخ ، واعتبار أن جميع الأحداث لا تخرج عن دورة منطقية متكررة ..
ختاماَ، حاز ميكافيلي على المرتبة الـسابعة والتسعون ضمن لائحة أكثر الأشيــاء المؤثرة في التاريخ لـ مايكل هارت ..



المبحث الثاني / مناقشة آراء وأفكار ميكافيلي .


أولاً : آرائه وأفكاره .
عُني « ميكافيلي » بأن يكشف من التاريخ القديم ، ومن الأحداث المعاصرة له: كيف تُنال الإمارات، وكيف يُحتفظ بها، وكيف تُفقد؟ .
وانتهى إلى رأي في السياسة يتلخص كما سبق بالعبارة التالية:
« الغاية تبرر الوسيلة » مهماكانت هذه الوسيلة منافية للدين والأخلاق .
وقد استند في رأيه هذا إلى الواقع المنحرف للأكثرية من الناس، لا إلى مبادئ الحق والعدل والخير والفضيلة .
رأى أن أكثر الحكام لم يكونوا شرعيين، ولم يكونوا ملتزمين المبادئ الأخلاقية الفاضلة ، وبذلك استطاعوا أن يصلوا إلى الحكم، وأن يضمنوا استقرار الحكم في أيديهم إلى حين.
بخلاف الحكام الشرعيين، والذين كانوا يلتزمون المبادئ الأخلاقية الفاضلة المستندة إلى الحق والعدل والخير، فإنهم لم يحققوا لأنفسهم النجاح المطلوب، ولا المحافظة على الحكم، كمحافظة الساسة الخائنين الغدارين المرائين المنافقين الكذابين .
حتى البابوات فقد رأى أنهم قد كانوا في الكثير من الحالات يضمنون الانتخاب لأنفسهم بوسائل فاسدة، لا تتفق مع الفضائل الخلقية .
وأنكر «ميكافيلي » في كتابه (( الأمير )) بصراحة تامة الأخلاق المعترف بصحتها، فيما يختص بسلوك الحكام، فالحاكم يهلك إذا كان سلوكه متقيدًا دائمًا بالأخلاق الفاضلة، لذلك يجب أن يكون ماكرًا مكر الذئب، ضاريًا ضراوة الأسد.
وفي الفصل الثامن من كتابه «الأمير » ذكر أنه ينبغي للأمير أن يحافظ على العهد حين يعود ذلك عليه بالفائدة فقط. أما إذا كانت المحافظة على العهد لا تعود عليه بالفائدة فيجب عليه حينئذٍ أن يكون غدارًا .
لكنه يرى في ذات الوقت أنه من الضروري أن يكون الأمير قادرًا على إخفاء هذه الشخصية.
وأن يكون دعيًا كبيرًا، ومرائيًا عظيمًا، والناس كثيراً مايصلون في السذاجة إلى الحد الذي يجعلهم ينخدعون بمثل هذا الادعاء كثيراً .
فآراء «ميكافيلي » في تبرير الوسائل المنافية لفضائل الأخلاق تدور حول السياسة، وأخلاق الحكام، وذوي السلطة .
وقد أخذ معظم أرباب السياسة في الشرق والغرب، بهذا الاتجاه الميكافيلي وفق أقصى صوره المنحرفة .
ولاشك أن هذا الاتجاه المنحرف الشاذ، المعاكس لاتجاه الكمال الإنساني، إذا أُخذ على إطلاقه، هو طريق كل المنحرفين الظالمين المجرمين المفسدين في الأرض، قبل مكيافيلي وبعده في السياسة، وفي غيرها([3]).



ثانيـاً: نقد آراء وأفكار "ميكافيلي" .

ويتوجه الرد على أفكار "ميكافيلي" في الجوانب التالية :
الجانب الأول: يرجع الخطأ في الفكرة الباطلة التي انتهى إليها « مكيافيلي » في السياسة، إلى اعتبار النسبة الغالبة من السلوكالإنساني هي المقياس الذي يبرر به السلوك، وإلى إهمال جانب الحق والعدل والخير، وإغضاء النظر عن الشر الذي يشتمل عليه السلوك، وإلى اعتبار سلوك الناس ذوي المشاعر والآلام والحقوق المساوية لحقوق صاحب السلوك، كسلوكه مع الأشياء غير ذاتالحياة .
مع أنّ الواجب يقضي بأن تراعى حقوق الناس ومشاعرهم الإنسانية، ومنها آلامهم.
إنه إذا كانت الوسيلة المفضلة لخرق جبل في أماكن خالية من السكان هي أن نفجر في مكان الخرق المطلوب متفجرات قوية، لأن ذلك أسرع وأسهل، وأقل تكلفة، فهل يصح قياسًا عليه أن يكون مثل هذا التفجير هو الوسيلة المفضلة لفتح طريق داخل مدينة مليئة بالعمارات السكنية، وآهلة بالسكان، دون مراعاة للواجب الذي تفرضه حقوق الناس، ودون اكتراث بالشر الذي ينجم عن هذا العمل، ودون اعتبار لآلام الناس الذين يتعرضون لشرور هذا التفجير ؟ .
وهل يصح أن يعتبر ذلك أمرًا علميًا وتجريبيًامحققًا للمطلوب بأسرع وقت، وأسهل عمل، وأقل تكلفة، كما زعم «برتراند رسل» حين أيد آراء «مكيافيلي» بأنها عملية وتجريبية، مؤسسة على خبرته الخاصة بالشؤون العامة([4]) .إن أسس سلوك الإنسان مع الناس ومع الأحياء، غير أسس سلوك الإنسان مع الأشياء غير الحية (الجامدة)، التي ليس لها أفكار ولا مشاعر وآلام ولذات ومطالب حياة .
والمنهج العلمي الذي يطبق على الأشياء غير الحية، لا يصح تطبيقه من كل الوجوه على الأحياء، وعلى الناس بشكل خاص، لأن الأحياء بوجه عام لهم حقوق تجب مراعاتها، ولأن الناس بوجه خاص لهم حقوق زائدة على حقوق الأحياء الأخرى، فيجب وضع هذه الحقوق في الاعتبار لدى اتخاذ مناهج علمية تطبق على الأحياء عمومًا، وعلى الناس خصوصًا.


الجانب الثاني : إن اعتبار تفوق المستهينين بفضائل الأخلاق، والمرتكبين لرذائلها، في الوصول إلى الحكم وفي تثبيته، على المتلزمين بفضائل الأخلاق المجتنبين لرذائلها، هو المبررالعلمي لاتخاذ وسائل غير أخلاقية من أجل الوصول إلى الحكم وتثبيته، مطابق تمامًا لاعتبار وسائل الغش، والخديعة، واللصوصية، وأكل أموال الناس بالباطل، هي الوسائل المفضلة للوصول إلى الثراء الفاحش، والاستمتاع بلذات الحياة، وتدعيم الرأسمالية المفرطة.
فهل هذا مقبول من وجهة نظر الآخذين بآراء «ميكافيلي » من الشيوعيينوالاشتراكيين؟.
وهو مطابق أيضاً لاعتبار وسائل القتل الجماعي، وسلب أموال الأغنياء، وإقامة الثورات المدمرة، واستعباد الشعوب، من أجل وصول الأحزاب الشيوعيةوالاشتراكية إلى السلطة، واستئثارها بكل شيء، وتسلطها على كل شيء، بما في ذلكالحريات الإنسانية، والحقوق الإنسانية الأخرى .
فهل هذا مقبول من وجهة نظر الآخذين بآراء «ميكافيلي » من الرأسماليين والديمقراطيين؟.
إذا كان الأول غير مقبول أخلاقيًا لدى الشيوعيين والاشتراكيين، وكان الثاني غير مقبول أخلاقيًا لدى الرأسماليين والديمقراطيين، مع أن الأول والثاني كليهما يمكن تبريرهما بأن الغاية تبرر الوسيلة، وفق مذهب «ميكافيلي» المتبع لدى المذهبين المتناقضين في العالم :
"الرأسمالية وديمقراطياتها – والشيوعية وديكتاتوريتها".
فإن الحكم المنطقي يقضي بداهة بأن كلا من الرأسماليين المكيافيليين، والشيوعيين الميكافيليين، متناقضون معأنفسهم .
وذلك لأن الرذائل الخلقية التي تقتضيها المكيافيلية مقبولة عند كل من الفريقين ومرفوضة معًا.
إنها مقبولة إذا كانوا يمارسونها هم ضد غيرهم، ومرفوضةإذا كان غيرهم يمارسها ضدهم. وهذا تناقض منطقي بدهي، لا يلتزم به من يحاكم الأمور بعقله، ولكن يكابر فيه من يحاكم الأمور بأهوائه وشهواته ومصالحه الخاصة، كلما كان له هوى أوشهوة أومصلحة، لا تقام عليها حجج علمية ضد الآخرين الذين لهم أيضًا أهواء أو شهوات أو مصالح خاصة تقف في الطرف المقابل .
ويكفي هذا التناقض مع الذات لإسقاط «المكيافيلية ».
إذ إن التناقض في أي مذهب ، أو أية فكرة ، هو من أقوى البراهين لإبطال المذهب أو الفكرة ونقضهما.


الجانب الثالث : يتساءل كل من له عقل، بل كل من لديه مقدار يسير منه، عن التفسير المنطقي لهذا الرأي المنحرف الذي يعبر عنه بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، والذي لا يستطيع إنسان في الدنيا أن يقبله علىإطلاقه، مهما بلغت به الجريمة، ومهما بلغ به الشذوذ الفكري والنفسي .
من المعروف في الحياة أن لكل إنسان، ولكل مجموعة بشرية، مطالب نفسية، وحاجات جسدية،وأنه لابد لتحقيق أي مطلب من مطالب النفس، وأية حاجة من حاجات الجسد، من اتخاذوسيلة إلى ذلك.
فهل يصح في عقل أي إنسان عاقل اتخاذ أية وسيلة في الدنيا، مهما كان شأنها عظيمًا، لأية حاجة مهما كان شأنها حقيرًا تافهًا ؟.
وحينما يروج صغار العقول أو المجرمون آراء "مكيافيلي" هذه التي تقول: «إن الغاية تبرر الوسيلة»، ويدعون هذا الكلام يسير على إطلاقه، دون قيود المنطق السليم، والحقالثابت، والفضيلة المثلى، فإنهم لابد أن يتصرفوا في حياتهم تصرف المجانين، أويكونوا شياطين مجرمين، يخادعون الناس بهذه الآراء التي يطلقون عليها زورًا وتزييفًااسم «نظرية» ليفعلوا كل جريمة، دون أن يسميهم الناس مجرمين.لقد سترواأنفسهم المجرمة بطلاء ما أسموه "نظرية ميكافيلي".
وفي محاكمة هذا الكلام الفاسد، إذا أخذ على إطلاقه، لابد أن نضع على سبيل التطبيق الفلسفي مجموعة من مطالب النفس، وحاجات الجسد، ونفرض أنها غايات، ثم نضع في مقابل ذلك مجموعة مما يمكن أنيكون وسائل لهذه الغايات، ونفرض أنها وسائل.
إنه من البدهي عند ذلك أن تبدو لنا أمثلة تطبيقية غريبة ومضحكة جدًا، أخف منها ما يجري داخل مستشفيات الأمراض العقلية.
إنه يلزم من تعميم الفكرة المكيافيلية، أن لا يكون من المستغرب أن يحرق المكيافيلي مجموعة من أوراق النقد ذات الأرقام العالية، والقيمة الكبيرة، ليغلي عليها ما يصلح فيه كأسًا من الشاي، أو فنجانًا من القهوة، فغايته التي هي شربالشاي أو القهوة ، تبرر له وسيلة إحراق الأوراق النقدية الكبيرة، وخسارة الألوف، مقابل شراب لا يساوي بضعة فلوس.
ويلزم من هذا المذهب أن لا يرى الميكافيليون مانعًا من إلقاء مخطوطات علمية عظيمة نادرة، في نهر كبير، لتكون بمثابة جسر مؤقتتعبرُ عليه جيوش الغزاة .
وليس من المهم بعد ذلك أن تخسر الإنسانية ذخائر المنجزات العلمية والفكرية الحضارية، التي خلفتها القرون الأولى، فالغاية تبرر الوسيلة .
وأن لا يروا مانعًا من تجويع الألوف من البشر، وسرقة خيراتهم،ليستمتع مجرم واحد بمظاهر الترف والرفاهية، فالغاية تبرر الوسيلة .
وأن لايروا مانعًا من أن يحرق إنسان مدينة كاملة ليتمتع بمشاهدة لهيب نار عظمى عن بعد، ثم يدين بها براء ويعاقبهم بهذهالجريمة النكراء، كما فعل «نيرون » إمبراطور روما.
وأن يقذف إلى حلبة المصارعة وحشًا ضاريًا جائعًا، وإنسانًا بريئًا ليتمتع بمشاهدة ظفر الغالب منهما ومصرع المغلوب، وقد مارست روما في أوج سلطان إمبراطوريتها من ذلك الشيء الكثير.
كل هذا ونظائره ينبغي أن يكون مقبولاً لدى «المكيافيليين » لأن الغاية تبرر الوسيلة.
أليست هذه الأعمال الجنونية أو الإجرامية وسائل لغايات؟ فإذا كانت الغايات مطلقًا تبرر أية وسيلة دون قيد أو شرط، فما أجدر الميكافيلي الذي يأخذ بهذه الفكرة الفاسدة، أن ينحدر إلى أدنى مرتبة يمكن أن تتصور في الوجود ([5]).
والله أعلم ...
...........................................
1. انظر فيما تقدم: ميكافيلي ، لوبس غوتبيه-فينيال ، ترجمة: صلاح الدين برمدا ، ص9-99 .


2. انظر فيما تقدم: موسوعة "ويكيبيديا"على الشبكة العنكبوتية .


3. انظر فيما تقدم: موسوعة "ويكيبيديا"على الشبكة العنكبوتية .


4. انظر: تاريخ الفلسفة الغربية ، برتراند رسل .


5. انظر فيما تقدم : كواشف زيوف ، عبدالرحمن الميداني ، ص379-392