منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية

المشرف: رجاء الرشيد

#61847
شهدعام1632 ولادة فيلسوفين من كبار فلاسفة العصر فأما الأول فهو الفيلسوف الانكليزي جون لوك والثاني الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا.

كانت ولادة الفيلسوف والمفكر السياسي الانكليزي جون لوك في رنجتون بالقرب من برستول .تعلم لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية ودرس فلسفة أرسطو في مدرسة وستمنستر .أثرت فيه حادثة إعدام شارل الأول وتركت أثرا في فلسفته. كان والده محاميا ثم موظفا كبيرا في خدمة البرلمان، شرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية.ولكنه أفلس وخسر كل شيء بسبب الحرب الأهلية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في انكلترا.

درس جون لوك في أكسفورد الأرسطوطاليسية والهندسة والبلاغة واليونانية والمنطق وعلم الأخلاق. ثم أصبح محاميا في مدينة أكسفورد.وجدير بالذكر كانت هناك في ذلك الوقت منافسة كبيرة بين أكسفورد وكمبردج.كان يسيطر على أكسفورد أتباع أرسطو بينما أتباع أفلاطون كانوا يسيطرون على كمبردج مع العلم أن الصراع بين الأرسطوطاليسية والأفلاطونية اخترق كل تاريخ الفلسفة. لكن البروفيسور روجيه وولهاوس أحد كبار المختصين بالفكر الحديث عموما وفلسفة جون لوك على وجه الخصوص يرى أن الفلسفة الحديثة أي فلسفة فرانسيس بيكون وتوماس هوبز ورينيه ديكارت كانت قد نقدت بشدة فلسفة أرسطو وأفلاطون وفتحت مجالا جديدا كليا للمعرفة. وبالتالي فقد استفاد من ذلك كله وبنى عليه جون لوك نظرياته الفلسفية والسياسية.

وقع جون لوك في الغرام إلا انه لم يتزوج قط شأنه في ذلك شأن كثير من فلاسفة الغرب و لكن عندما نصحوه بالعمل في إحدى وظائف الكنيسة تردد وقال: "إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد".

درس لوك الطب وقرأ ديكارت وولع بالفلسفة وأحس بسحرها.ثم عمل كطبيب خاص لأنطوني آشيلي كوبر والذي أصبح أرل شافتسبري الأول وعضو الوزارة أيام شارل الثاني .حافظ جون لوك في نفس الوقت على منصبه كباحث ومدرس ومحاضر في أكسفورد ولكن مع ذلك وجد نفسه غارقا في خضم السياسة الانكليزية ويروي ول ديورانت أن الطبيب لوك أنقذ حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:

مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل مل يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى أن يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع.

أحس جون لوك بالخطر لما أثارته قصة القبض على صاحبه شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا من شبهات الملكيين حول أصدقائه .فلجأ لوك كذلك إلى هولندا. واختبأ هناك وأتخذ لنفسه أسما آخر وبعد سنة أرسل له الملك جيمس الثاني عرضا بالعفو ولكنه آثر البقاء في هولندا .

عاش لوك في أمستردام وروتردام وأوترخت ست سنوات ونشأت بينه وبين بعض العلماء الهولنديين علاقة صداقة مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ وكذلك مع اللاجئين الانكليز في هولندا ولاقى كل تشجيع وترحيب لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وحسب ديورانت كتب لوك هناك كتب "بحث في العقل الإنساني" والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني. وعندما حل وليم الثالث محل الملك جيمس الثاني أبحر لوك إلى انكلترا وقبل مغادرة هولندا كتب إلى لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف :

إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن كل شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا العديد من السنين في رحابك.

عندما عاد لوك من هولندا كان يناهز السادسة والخمسين من العمر. يقول المؤرخ والفيلسوف ديورانت في كتابه الرائع قصة الحضارة : كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمقال" في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "برسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديمقراطية في إنكلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقا إلى تزويد الثورة الجليلة بأساس فلسفي.

لقد عاش جون لوك اثنين وسبعين عاما ملأ فيها الدنيا وشغل الناس بعلمه وفلسفته ونظرياته السياسية.وظل تأثيره على الفكر السياسي مسيطرا حتى ظهور كارل ماركس وكان تأثيره كبيرا في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني ويعتبر من مؤسسي النظام الليبرالي الديمقراطي الحديث.

تأثر بآراء لوك الفيلسوف فولتير وكذلك المفكر مونتسكيو ولاقت أفكاره صدى عند الفيلسوف جان جاك روسو وغيره وتجلت معانيها في "إعلان حقوق الإنسان". وكذلك في "إعلان الاستقلال" الأمريكي و"وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. ويرى ديورانت أن نظرية لوك في فصل السلطات أخذ بها مونتسكيو ووسعها لتشمل السلطة القضائية و أصبحت عنصرا أساسيا في شكل الحكومة الأمريكية. لقد بلور لوك النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية وعن الحرية الفردية.

ويمكن القول بأن أفكاره كانت وراء اندلاع الثورة الانجليزية التي أسست ولأول مرة في التاريخ دولة الحق والقانون.كان يقول جون لوك إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسؤولية. فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمها بشكل صحيح لا بشكل خاطئ. والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم على العقل، وهو ذو أصل إلهي. وحسب المؤرخ والفيلسوف الألماني شبنجلر: "إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كل عقلانية القارة من لوك"

كان يرى جون لوك أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة وأن الاضطهاد يصنع المنافقين ، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق ، و لحظ كيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة وقد أخذ على نفسه عهدا بالبر والإحسان ومحبة الناس؟

واصل لوك حملته من أجل التسامح حتى وافته المنية عام 1704 بينما كان جالسا يصغي إلى ليدي ماشام تتلو المزامير.

يعتبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن مئة دماغ في التاريخ تزيد وتنقص كانت خلف أسرار النهضة في أوروبا ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوروبا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

و لهذا لا يمكننا فهم النظام السياسي الحديث في أوربا إن لم ندرس فلسفة الفيلسوف الليبرالي جون لوك فقد كان الرجل الدماغ المفكر لهذا النظام الديمقراطي الذي زعزع العروش وأنظمة الطغيان والاستبداد وأحد كبار مؤسسي فلسفة التسامح في أوربا ومن الداعين إلى محاربة المتشددين المتعصبين ودعاة الطائفية.