- الجمعة مايو 03, 2013 7:48 pm
#61867
أزمة الماركسية بين الأيديولوجية والتطبيق
آثار المؤتمر الثانى والعشرون للحزب الشيوعى الفرنسى الذى عقد فى باريس فى شهر فبراير الماضى وما تمخض عنه من نقد لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا وإلغاء النص عليه فى مقدمة لائحة الحزب أثار جدلا واسعا فى الأوساط السياسية والفكرية العالمية بوجه عام، والماركسية بوجه خاص والواقع أن هذا الحدث لم يكن مفاجأة للكثيرين، ليس فقط لوجود مقدمات عديدة له، لعل أهمها إصدار ما يسمى ببيان شامبيتى ونشر كتاب لجورج مارشيه السكرتير العام للحزب بعنوان التحدى الديمقراطى وكلاهما البيان والكتاب يحتويان بوادر هذا الاتجاه، ولكن وفى الأساس لأن الواقع السياسى الذى تعايشه الأحزاب الشيوعية فى أوربا الغربية اليوم، يجعل من هذا الموقف تطورا طبيعيا بل وحتميا وكان للحزب الشيوعى الإيطالى السبق فى هذا المضمار من خلال طرحه لصيغة التسوية التاريخية HISTORICAL CPMPROMISE أو الحل الوسط التاريخى القائم على استيعاب التيارات الثلاثة الرئيسية فى المجتمع الإيطالى وهى: الكاثوليكى والاشتراكى والشيوعى بل وامتدت هذه الظاهرة إلى خارج القارة الأوربية، مثل ما حدث فى المؤتمر الأخير للحزب الشيوعى اليابانى ولاشك أن هذا التطور يعبر عن أزمة حقيقية، يعانى منها الفكر الماركسى اليوم فى ظروف الثلث الأخير من القرن العشرين أزمة تناقض بين المقولات النظرية التى كان الماركسيون يعدونها حتى وقت قريب فى عداد المسلمات، وبين الواقع السياسى ومقتضيات الحركة السياسية فى اتجاه التأثير على سلوك الناخب فى الانتخابات العامة أو الإقليمية، وخاصة فى المجتمعات الليبرالية التى تأصلت فيها قيم الديمقراطية إلى درجة أصبح من الصعب، أن لم يكن من المستحيل اقتلاعها، وما يرتبط بذلك من توارى الحديث عن الانتفاضة المسلحة أو الاستيلاء على السلطة بالعنف الثورى الذى كان يميز الأدب الماركسى فى الثلث الأول من هذا القرن، ليحل محله الحديث عن اعتماد الأسلوب البرلمانى، كطريق رئيسى ووحيد للوصول إلى الحكم، حيث تصبح صناديق الانتخابات هى العامل الحاسم فى هذا الصدد والمتأمل لهذه الظاهرة، يدرك أن الأزمة التى يعانى منها الماركسيون اليوم، ليست مجرد أزمة تناقض ذاتية محصورة داخل كل مجتمع على حدة فى إطار التفاعلات السياسية الداخلية فحسب، وإنما هى وهذا ما يعنينا هنا ذات بعد عالمى هام يترك آثارا واضحة وخطيرة على الحركة الشيوعية العالمية فى مجملها، وبالذات على علاقات هذه الأحزاب بالاتحاد السوفييتى الذى كان يمثل حتى وقت قريب للغاية، محور الحركة الشيوعية العالمية فالاتحاد السوفييتى لم يستقبل هذه الظاهرة بارتياح، وأن كانت أجهزته السياسية الحزبية مازالت تتعامل معها بحرص بالغ، بمعنى أنها لم تتخذ رد فعل سياسى عنيف إزاءها، وإنما اقتصر رد الفعل السوفييتى حتى الآن على الهجوم الفكرى والنظرى الذى يقوده ميخائيل سوسلوف الفيلسوف النظرى للحزب الشيوعى السوفييتى على أساس أن هذه أحزاب مرتدة ومتمردة كما أصدرت دور النشر الحكومية السوفييتية نشرة حادة تحت عنوان المذهب الارتدادى فى خدمة العداء للشيوعية أى أن الاتحاد السوفيتى يهاجم الأحزاب الشيوعية الغربية نظريا، ولكنه لا يبلور موقفا سياسيا تجاهها، رغم امتناع جورج مارشيه عن حضور المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى عقد فى موسكو فى يناير الماضى بعد انتهاء مؤتمر الحزب الشيوعى الفرنسى عموما، فإن التكتيك الذى يتبعه الاتحاد السوفييتى إزاء هذه الظاهرة، يتلخص فى الهجوم الفكرى والنظرى من جانب، ومحاولة الاحتواء السياسى من جانب آخر، بعدم تصعيد الخلاف النظرى إلى مواجهة سياسية شاملة وهذا الموقف يطرح عددا من التساؤلات حول السر فى هذا الغضب السوفييتى، وهل يجد هذا الموقف تفسيره فى العوامل الأيديولوجية وحرص الاتحاد السوفييتى على نقاء المبادئ الماركسية، أم يعود إلى المصالح السياسية للاتحاد السوفييتى،، ورغبته فى السيطرة على تلك الأحزاب الواقع أن هذا التطور الذى لحق بفكر الأحزاب الشيوعية الغربية له آثار سلبية بالغة السوء على الاتحاد السوفييتى ويرجع ذلك فى الأساس إلى عاملين، أحدهما خارجى، والأخر داخلى العامل الخارجى يرتبط بتقلص دائرة النفوذ السوفييتية نتيجة السياسات الاستقلالية التى تنتهجها هذه الأحزاب، وما تطرحه من شيوعية محلية فرنسية وإيطالية وبالتالى فقدان الاتحاد السوفييتى أوراقا سياسية هامة، خاصة وأن احتمالات اشتراك الشيوعيين الإيطاليين والفرنسيين فى الحكم الآن، أقوى من أى وقت مضى فقد حصل الحزب الشيوعى الإيطالى فى الانتخابات البلدية لعام 1975 على 335 فى المائة من مجموع الأصوات ثم حصل على 344% من إجمالى الأصوات فى الانتخابات العامة التى جرت فى شهر يونيو الماضى فى مقابل 387% للحزب الديمقراطى المسيحى الذى اضطر إلى عرض برنامج وزارته على الشيوعيين لأول مرة مقابل تعهدهم بعدم التصويت عند طرح الثقة فى الوزارة برلمانيا، كما حصل تحالف اليسار الحزب الاشتراكى والحزب الشيوعى فى فرنسا على 52 فى المائة من الأصوات فى الانتخابات البلدية الأخيرة فى مارس الماضى مباشرة والأهم من ذلك، ما يمكن أن يؤدى إليه نجاح أسلوب إدارة الظهر لموسكو من انتهاج أحزاب أخرى له، فتسرى عدوى الاتجاه الاستقلالى الذى تتبناه الأحزاب الشيوعية فى أوربا الغربية، وخاصة فى فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، إلى الأحزاب الشيوعية فى العالم الثالث، فى الوقت الذى يأمل الساسة والنظريين السوفييت أن يتمكنوا من عزل تأثير الشيوعيين الأوربيين المتمردين على أساس أن الأحزاب الشيوعية فى العالم الثالث لم تواجه مشاكل مجتمع الوفرة والاستهلاك الموجود فى أوربا الغربية ولاشك أن احتمال فشل السوفييت فى ذلك، يسبب لهم فزعا شديدا، إذ إنه يؤدى إلى عزلتهم عن الحركة الشيوعية العالمية ويزيد الأمر سوءا أن تنزع الولايات المتحدة إلى استغلال هذه التناقضات وهذه هى السياسة البديلة موضوعيا لسياسة رفض اشتراك الشيوعيين فى الحكم فى أوربا الغربية إذا ما فشلت السياسة الأخيرة والعامل الداخلى يرتبط بالمأزق الذى يجد السوفييتى أنفسهم فيه، وهم الذين يؤسسون نظامهم على دكتاتورية البروليتاريا عندما تعلن أحزاب شيوعية لها ثقلها السياسى فى أوربا الغربية، رفضها هذا المبدأ، مما يمثل تحديا مباشرا للنظام السياسى السوفييتى، خاصة فى الوقت الذى يزداد فيه التمرد الداخلى على الأسلوب الأوتوقراطى فى الحكم الذى أحل الحزب محل الشعب، وفرض نظاما سلطويا على المواطنين ولا أدل على هذا التحكم من كلمات ليونيد بريجينيف فى تقريره إلى المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعى السوفييتى أن الشعب السوفيتى يعرف إنه حيث يكون الحزب، يكون النجاح، ويكون النصر، وهو يثق بالحزب، ويؤيد كل التأييد سياسته الداخلية والخارجية كما تفوح رائحة اضطهاد العناصر المنشقة من علماء ومفكرين وفنانين ويتضح أن ما تمناه الكثيرون بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى من أن يكون هذا المؤتمر بداية الطريق نحو إدراك للحقيقة لا يعدو أن يكون سرابا ووهما، فقد أدين الإرهاب الستالينى نظريا فقط، بينما بقى على الصعيد العالمى والأهم من ذلك، أن هذا التطور فى فكر الأحزاب الشيوعية الغربية، يأتى فى وقت يتبلور فيه داخل الحزب السوفيتى اتجاه واضح ينادى بالتصحيح والتطوير وإرساء قيم ديمقراطية حقيقية، بل ويطرح بعضهم فكرة التعدد والحوار، كوسيلة لتجاوز واقع الاستبداد السياسى والأيديولوجى، وينطلق هؤلاء من أن سيف حماية الاشتراكية المسلط على الرقاب، لم يعد ذا معنى اليوم، إذ لم يعد الاتحاد السوفييتى تلك القلعة المعزولة التى تحاربها أنظمة الغابة الرأسمالية حرب فناء كما كانت تردد الدعاية السوفييتية ولكن الواضح أن الحزب السوفييتى مصر على إجهاض كل هذه المحاولات يدل على ذلك اتجاه المؤتمر الأخير للحزب، وخاصة خطاب فيكتور جريشن وهو من الأعضاء البارزين فى المكتب السياسى حيث يقول أن الدعاية الرأسمالية تبذل جهودا كبيرة للتشنيع على المجتمع السوفييتى، وإعطاء صورة سيئة عن الحياة الاجتماعية والسياسية فيه، ولكن الشعب السوفييتى على علم بقوانين الذئب الرأسمالية، ولن ينخدع بالحرية البورجوازية الوهمية والواقع أن هذين العاملين، هما اللذان يحكمان حركة موسكو تجاه هذه الظاهرة، وهما كما نرى عاملان سياسيان يرتبطان فى جوهرهما بمصالح النظام السياسى فى الاتحاد السوفييتى قبل أى شئ آخر ومن هنا نرى أن المبررات الفكرية والنظرية التى يسوقها الأكاديميون السوفييت لمواجهة هذا التطور، لا تتجاوز كونها غطاء أيديولوجيا للمصالح السياسية التى لا تستطيع الحملات الأيديولوجية أن تطمسها، مهما استخدمت من مصطلحات الانتهازية والتحريفية و الانحراف الليبرالى، وهى الاتهامات الرائجة فى السوق السياسية الماركسية، عندما تتأجج الخلافات داخلها وقد استخدمت من قبل هى ومثيلاتها فى حملات الأجهزة السوفييتية على يوغوسلافيا ثم على الصين عندما تمردتا على وصاية الحزب ألام والحملة الأخيرة على الشيوعيين الأوربيين، كانت تركز على قضية الانحراف الليبرالى فى صفوف الحركة الشيوعية الأوربية، ويحرص الأكاديميون السوفييتى فى هذا الصدد على التمييز بين ليبرالية القرن الثامن عشر، أو ليبرالية عصر التنوير وهى ليبرالية ثورية تطورات إلى نظرية تبريريه ومنهج فكرى وسياسى فى القرن العشرين، وأصبحت تقف عقبة فى وجه الشعوب المستبعدة، وينتهون إلى أن هذا الاتجاه هو الذى أثر فى ماركسية الأممية الثانية وأبعدها عن هدفها الثورى ولسنا الآن بصدد مناقشة هذه القضية، ولكننا مع ذلك نشير إلى أزمتين فقط، مما يواجههما أصحاب هذه الآراء: الأولى سياسية ومتعلقة بتفسير الحركة المعادية للاستعمار داخل الليبراليين الأوروبيين والأمريكيين والثانية فكرية متعلقة بما أكد عليه كارل ماركس نفسه من إمكانية فصل الثقافة عن الطبقة الاجتماعية، عندما رأى أن ألمانيا تبرجزت أى عرفت ثورة ثقافية بورجوازية راقية بإحلال الوضعية والمادية العلمية محل الجدلية الفلسفية المثالية، وما واكب ذلك من عقلنه الحياة الاجتماعية على كل المستويات: التنظيم الصناعى، الأخلاق الفردية، الديمقراطية السياسية، العلمانية وكل ذلك تحت قيادة طبقة أرستقراطية كلاسيكية غير الطبقة الوسطى الضعيفة آنئذ، وخلص من ذلك إلى أن ما فعلته الأرستقراطية الألمانية أى استخدام الثقافة البورجوازية يمكن أن تفعله أية طبقة أخرى أن تجاهل الأكاديميين السوفييت لذلك ولمقولات أساسية وواضحة الدلالة فى الأدب الماركسى، مثل نصيحة فردريك انجلز فى رسالته إلى فلورنس كيلى فى 28 ديسمبر 1886: أن نظريتنا ليست ناموسا يجب حفظه وترديده عن ظهر قلب، بل هى دليل للعمل أن هذا التجاهل يجعل الأقرب إلى التصور أن القضية سياسية أكثر منها فكرية ولكن على ما يبدو، فإن السوفيت يتغافلون عن حقيقة أن الماركسية قد دخلت فى مرحلة جديدة بعد ستالين، مرحلة تشجب الحكمة الستالينية التى أغلقت الباب أمام كل تطور تحت دعوة البورجوازية واليمينية وقامت حملة واسعة فى أوربا الغربية بالذات ضد العقيدة الستالينية، التى انتزعت من الماركسية كل روح نقدى، وبلغت الذروة فى العدوان الآثم على الديمقراطية والحرية وحق الحياة والكلمة فى الحزب والدولة، ويعبر عن ذلك بشجاعة المفكر الماركسى الفرنسى روجيه جارودى بقوله: كنا نحارب الشر المطلق، فكيف كان لنا إلا نعتقد أن قضيتنا هى الخير المطلق، واسترحنا إلى هذه النظرة المانوية إلى العالم، وقبلنا كل ما يأتى من معسكرنا، وباسم الولاء الحزبى رفضنا أخذه بأى تمحيص نقدى، وهكذا قبلنا حتى دون أن تفرض علينا بالمعتقدية الستالينية (ودارت مناقشات متشعبة بين المثقفين الأوربيين واكبة تجزئة الحركة الشيوعية العالمية، ظهرت فيها الماركسية غامضة المعنى، قابلة لأى تأويل، عاجزة عن فهم تطور ذاتها، وتمييز معالمها عن المدارس الفلسفية والاجتماعية المؤثرة فى الغرب، وبدلا من أن تكون منهجية بحث وتحليل، أصبحت هى موضوع البحث والتحليل، وإن كان الماركسيون الأوروبيون قد استطاعوا بعد لأى، أن يتلمسوا طريقهم على صعيد التطور، والسوفييت يعمدون إلى تجاهل ذلك أيضا فهم لا ينظرون بعين الاعتبار إلى هذه الحركة الواسعة التطورية فى أوربا الغربية، وخاصة فى فرنسا، حيث يرفع الشيوعيون الفرنسيون راية الحوار مع كل الاتجاهات الفكرية دونما استثناء وأوضح مثال على ذلك أسابيع الفكر الماركسى، التى بدأت بأسبوع عن الماركسية والوجودية عام 1963 ثم الحوار الموسع حول الأخلاق المسيحية والأخلاق الماركسية، والإنسان المسيحى والإنسان الماركسى، واتساع ميادين هذا الحوار مع الكاثوليكيين بعد ظهور الرسالة البابوية الشهيرة (والسلام على الأرض) إن كل ذلك يقودنا إلى أن طبيعة الأزمة التى تعانى منها الماركسية، إنما هى أزمة ذات وجهين كلاهما مناقض للأخر، ولا يمكن أن يلتقى معه الوجه الأول تمثله الأحزاب الشيوعية الغربية التى تعانى من عدم صلاحية الماركسية الكلاسيكية كنظرية بجمودها للواقع السياسى الذى تعمل فيهن الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى التجديد والتطوير المستمر فى إطار إخضاع الفكر لمقتضيات الحركة السياسية والوجه الثانى يمثله الحزب الشيوعى السوفييتى والأكاديميون السوفييت، وهم يعانون الأزمة من منظور عكسى، إذ يرون فى الماركسية الأرثوذكسية والعلاقة القائمة لديهم بين الفكر والسياسة، أفضل العلاقات لخدمة المصالح السياسية السوفييتية وبالتالى يسعون إلى تجميد النظرية وصبها فى قالب قيصرى ستالينى ملائم لمصالح السياسة الخارجية السوفييتية هذه الأزمة فى الواقع تطرح سؤالا أخيرا ومحددا عن مستقبل هذا الصراع إلى سيشتعل بالضرورة فى الفترة القليلة القادمة، ولمن الغلبة فيه، وما الذى يمكن أن يتمخض عنه، وبالرغم من صعوبة الوصول إلى رؤية مستقبلية واحدة، وعلى قدر من الوضوح بالنسبة لظاهرة معقدة كهذه، إلا أنه يمكن القول بضرورة انتصار أحد هذين الاتجاهين، حتى لو لم يؤد ذلك إلى هزيمة شاملة للاتجاه الآخر وإذا أردنا تحديدا أكثر، لقلنا أن الاتجاه الذى يمثله الاتحاد السوفيتى فى ظل معطيات الثلث الأخير من القرن العشرين، هو الاتجاه الأضعف، وليس أدل على ذلك من نتائج مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية الأوربية الذى انعقد فى برلين الشرقية فى 29 - 30 يونيو 1976 والتى يمكن تلخصيها فى: أن الوثيقة التى صدرت عنه لم يرد فيها لأول مرة تعبير الماركسية اللينينية، وكان الحد الأقصى هو العمل من أجل الاشتراكية، كما لم تجد الوثيقة أى نص على الالتزام بالأممية البروليتارية، بل على العكس كان النص على الاستمرار فى النضال على أساس الخط السياسى الذى يسير عليه كل حزب بصورة مستقلة تماما، وكذلك التأكيد على الالتزام الكامل بالمساواة والسيادة المستقلة أن محاولة بريجينيف لطرح فكرة جديدة للاحتواء غير المباشر فى شكل الحاجة إلى التشاور والمناقشات الرنانة من حين لآخر لتبادل الخبرات كانت محاولة فاشلة حيث أصرت الأحزاب الأوربية على رفض الانصياع لفكرة اللقاءات الدورية أن السوفييت لم يتمكنوا من مواجهة الأحزاب الأوربية التى أعلنت بوضوح عن اتجاهاتها الجديدة نشرح برلنجوير الإيطالى سياسة حزبه فى المساومة التاريخية، وافاض مارشيه الفرنسى قرابة الساعة فى تفضيل عوامل إلغاء دكتاتورية البروليتاريا، وأكد كاريالو الأسبانى على التحالف مع الليبراليين والمسيحيين ورفض المركز الموجه، بينما كان تيتو صريحا للغاية فى دفاعه عن حركة عدم الانحياز وأيضا أنها الأساس فى سياسة يوغوسلافيا أن مجموع القضايا التى تناولها المؤتمر تعكس مدى قوة الاتجاهات الجديدة الديمقراطية فى اليسار الأوربى، ومن ثم جاءت محصلتها النهائية ممثلة فى وثيقة المؤتمر لتطرح أهدافا ديمقراطية وسلامية واجتماعية وإنسانية عامة تدور حول تعميق الانفراج الدولى ونزع السلاح والدفاع عن الديمقراطية والاستقلال الوطنى، الإشادة بسياسة عدم الانحياز ودورها الفعال فى عالم اليوم وتطوير التعاون والمنافع المتبادلة بين الشعوب، والواقع أن نتائج كهذه لمؤتمر شيوعى يحضره ممثلو كل الأحزاب الأوروبية عدا ألبانيا تظهر بجلاء مدى العزلة التى يعانى منها السوفيتى بين رفاقهم، أنفسهم ولكن انتصارا حقيقيا للاتجاه الآخر فى رأيى لا يمكن أن يتم، إلا إذا نجح هذا الاتجاه والواقع أن انتصارا حقيقيا لهذا الاتجاه فى تجاوز كل الجوانب السالبة فى الفكر الماركسى بشجاعة، وتطوير ثقافة سياسية جديدة تقوم على الامتزاج بين قيم الحضارة الديمقراطية الليبرالية الغربية، والنظام الأنجلو أمريكى، كمثل أعلى سياسى، وبين الفكرة الاشتراكية العلمية كمثل أعلى للإصلاح الاقتصادى والاجتماعى، ومن ثم طرح نموذج جديد اشتراكى ديمقراطى حقيقى يتخطى كل من يسارية الأحزاب الشيوعية، ويمينية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى بعض البلدان، ويمثل الأساس لبذور ثقافة سياسية عالمية جديدة تتطلع إليها الإنسانية الحالمة.
آثار المؤتمر الثانى والعشرون للحزب الشيوعى الفرنسى الذى عقد فى باريس فى شهر فبراير الماضى وما تمخض عنه من نقد لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا وإلغاء النص عليه فى مقدمة لائحة الحزب أثار جدلا واسعا فى الأوساط السياسية والفكرية العالمية بوجه عام، والماركسية بوجه خاص والواقع أن هذا الحدث لم يكن مفاجأة للكثيرين، ليس فقط لوجود مقدمات عديدة له، لعل أهمها إصدار ما يسمى ببيان شامبيتى ونشر كتاب لجورج مارشيه السكرتير العام للحزب بعنوان التحدى الديمقراطى وكلاهما البيان والكتاب يحتويان بوادر هذا الاتجاه، ولكن وفى الأساس لأن الواقع السياسى الذى تعايشه الأحزاب الشيوعية فى أوربا الغربية اليوم، يجعل من هذا الموقف تطورا طبيعيا بل وحتميا وكان للحزب الشيوعى الإيطالى السبق فى هذا المضمار من خلال طرحه لصيغة التسوية التاريخية HISTORICAL CPMPROMISE أو الحل الوسط التاريخى القائم على استيعاب التيارات الثلاثة الرئيسية فى المجتمع الإيطالى وهى: الكاثوليكى والاشتراكى والشيوعى بل وامتدت هذه الظاهرة إلى خارج القارة الأوربية، مثل ما حدث فى المؤتمر الأخير للحزب الشيوعى اليابانى ولاشك أن هذا التطور يعبر عن أزمة حقيقية، يعانى منها الفكر الماركسى اليوم فى ظروف الثلث الأخير من القرن العشرين أزمة تناقض بين المقولات النظرية التى كان الماركسيون يعدونها حتى وقت قريب فى عداد المسلمات، وبين الواقع السياسى ومقتضيات الحركة السياسية فى اتجاه التأثير على سلوك الناخب فى الانتخابات العامة أو الإقليمية، وخاصة فى المجتمعات الليبرالية التى تأصلت فيها قيم الديمقراطية إلى درجة أصبح من الصعب، أن لم يكن من المستحيل اقتلاعها، وما يرتبط بذلك من توارى الحديث عن الانتفاضة المسلحة أو الاستيلاء على السلطة بالعنف الثورى الذى كان يميز الأدب الماركسى فى الثلث الأول من هذا القرن، ليحل محله الحديث عن اعتماد الأسلوب البرلمانى، كطريق رئيسى ووحيد للوصول إلى الحكم، حيث تصبح صناديق الانتخابات هى العامل الحاسم فى هذا الصدد والمتأمل لهذه الظاهرة، يدرك أن الأزمة التى يعانى منها الماركسيون اليوم، ليست مجرد أزمة تناقض ذاتية محصورة داخل كل مجتمع على حدة فى إطار التفاعلات السياسية الداخلية فحسب، وإنما هى وهذا ما يعنينا هنا ذات بعد عالمى هام يترك آثارا واضحة وخطيرة على الحركة الشيوعية العالمية فى مجملها، وبالذات على علاقات هذه الأحزاب بالاتحاد السوفييتى الذى كان يمثل حتى وقت قريب للغاية، محور الحركة الشيوعية العالمية فالاتحاد السوفييتى لم يستقبل هذه الظاهرة بارتياح، وأن كانت أجهزته السياسية الحزبية مازالت تتعامل معها بحرص بالغ، بمعنى أنها لم تتخذ رد فعل سياسى عنيف إزاءها، وإنما اقتصر رد الفعل السوفييتى حتى الآن على الهجوم الفكرى والنظرى الذى يقوده ميخائيل سوسلوف الفيلسوف النظرى للحزب الشيوعى السوفييتى على أساس أن هذه أحزاب مرتدة ومتمردة كما أصدرت دور النشر الحكومية السوفييتية نشرة حادة تحت عنوان المذهب الارتدادى فى خدمة العداء للشيوعية أى أن الاتحاد السوفيتى يهاجم الأحزاب الشيوعية الغربية نظريا، ولكنه لا يبلور موقفا سياسيا تجاهها، رغم امتناع جورج مارشيه عن حضور المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى عقد فى موسكو فى يناير الماضى بعد انتهاء مؤتمر الحزب الشيوعى الفرنسى عموما، فإن التكتيك الذى يتبعه الاتحاد السوفييتى إزاء هذه الظاهرة، يتلخص فى الهجوم الفكرى والنظرى من جانب، ومحاولة الاحتواء السياسى من جانب آخر، بعدم تصعيد الخلاف النظرى إلى مواجهة سياسية شاملة وهذا الموقف يطرح عددا من التساؤلات حول السر فى هذا الغضب السوفييتى، وهل يجد هذا الموقف تفسيره فى العوامل الأيديولوجية وحرص الاتحاد السوفييتى على نقاء المبادئ الماركسية، أم يعود إلى المصالح السياسية للاتحاد السوفييتى،، ورغبته فى السيطرة على تلك الأحزاب الواقع أن هذا التطور الذى لحق بفكر الأحزاب الشيوعية الغربية له آثار سلبية بالغة السوء على الاتحاد السوفييتى ويرجع ذلك فى الأساس إلى عاملين، أحدهما خارجى، والأخر داخلى العامل الخارجى يرتبط بتقلص دائرة النفوذ السوفييتية نتيجة السياسات الاستقلالية التى تنتهجها هذه الأحزاب، وما تطرحه من شيوعية محلية فرنسية وإيطالية وبالتالى فقدان الاتحاد السوفييتى أوراقا سياسية هامة، خاصة وأن احتمالات اشتراك الشيوعيين الإيطاليين والفرنسيين فى الحكم الآن، أقوى من أى وقت مضى فقد حصل الحزب الشيوعى الإيطالى فى الانتخابات البلدية لعام 1975 على 335 فى المائة من مجموع الأصوات ثم حصل على 344% من إجمالى الأصوات فى الانتخابات العامة التى جرت فى شهر يونيو الماضى فى مقابل 387% للحزب الديمقراطى المسيحى الذى اضطر إلى عرض برنامج وزارته على الشيوعيين لأول مرة مقابل تعهدهم بعدم التصويت عند طرح الثقة فى الوزارة برلمانيا، كما حصل تحالف اليسار الحزب الاشتراكى والحزب الشيوعى فى فرنسا على 52 فى المائة من الأصوات فى الانتخابات البلدية الأخيرة فى مارس الماضى مباشرة والأهم من ذلك، ما يمكن أن يؤدى إليه نجاح أسلوب إدارة الظهر لموسكو من انتهاج أحزاب أخرى له، فتسرى عدوى الاتجاه الاستقلالى الذى تتبناه الأحزاب الشيوعية فى أوربا الغربية، وخاصة فى فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، إلى الأحزاب الشيوعية فى العالم الثالث، فى الوقت الذى يأمل الساسة والنظريين السوفييت أن يتمكنوا من عزل تأثير الشيوعيين الأوربيين المتمردين على أساس أن الأحزاب الشيوعية فى العالم الثالث لم تواجه مشاكل مجتمع الوفرة والاستهلاك الموجود فى أوربا الغربية ولاشك أن احتمال فشل السوفييت فى ذلك، يسبب لهم فزعا شديدا، إذ إنه يؤدى إلى عزلتهم عن الحركة الشيوعية العالمية ويزيد الأمر سوءا أن تنزع الولايات المتحدة إلى استغلال هذه التناقضات وهذه هى السياسة البديلة موضوعيا لسياسة رفض اشتراك الشيوعيين فى الحكم فى أوربا الغربية إذا ما فشلت السياسة الأخيرة والعامل الداخلى يرتبط بالمأزق الذى يجد السوفييتى أنفسهم فيه، وهم الذين يؤسسون نظامهم على دكتاتورية البروليتاريا عندما تعلن أحزاب شيوعية لها ثقلها السياسى فى أوربا الغربية، رفضها هذا المبدأ، مما يمثل تحديا مباشرا للنظام السياسى السوفييتى، خاصة فى الوقت الذى يزداد فيه التمرد الداخلى على الأسلوب الأوتوقراطى فى الحكم الذى أحل الحزب محل الشعب، وفرض نظاما سلطويا على المواطنين ولا أدل على هذا التحكم من كلمات ليونيد بريجينيف فى تقريره إلى المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعى السوفييتى أن الشعب السوفيتى يعرف إنه حيث يكون الحزب، يكون النجاح، ويكون النصر، وهو يثق بالحزب، ويؤيد كل التأييد سياسته الداخلية والخارجية كما تفوح رائحة اضطهاد العناصر المنشقة من علماء ومفكرين وفنانين ويتضح أن ما تمناه الكثيرون بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى من أن يكون هذا المؤتمر بداية الطريق نحو إدراك للحقيقة لا يعدو أن يكون سرابا ووهما، فقد أدين الإرهاب الستالينى نظريا فقط، بينما بقى على الصعيد العالمى والأهم من ذلك، أن هذا التطور فى فكر الأحزاب الشيوعية الغربية، يأتى فى وقت يتبلور فيه داخل الحزب السوفيتى اتجاه واضح ينادى بالتصحيح والتطوير وإرساء قيم ديمقراطية حقيقية، بل ويطرح بعضهم فكرة التعدد والحوار، كوسيلة لتجاوز واقع الاستبداد السياسى والأيديولوجى، وينطلق هؤلاء من أن سيف حماية الاشتراكية المسلط على الرقاب، لم يعد ذا معنى اليوم، إذ لم يعد الاتحاد السوفييتى تلك القلعة المعزولة التى تحاربها أنظمة الغابة الرأسمالية حرب فناء كما كانت تردد الدعاية السوفييتية ولكن الواضح أن الحزب السوفييتى مصر على إجهاض كل هذه المحاولات يدل على ذلك اتجاه المؤتمر الأخير للحزب، وخاصة خطاب فيكتور جريشن وهو من الأعضاء البارزين فى المكتب السياسى حيث يقول أن الدعاية الرأسمالية تبذل جهودا كبيرة للتشنيع على المجتمع السوفييتى، وإعطاء صورة سيئة عن الحياة الاجتماعية والسياسية فيه، ولكن الشعب السوفييتى على علم بقوانين الذئب الرأسمالية، ولن ينخدع بالحرية البورجوازية الوهمية والواقع أن هذين العاملين، هما اللذان يحكمان حركة موسكو تجاه هذه الظاهرة، وهما كما نرى عاملان سياسيان يرتبطان فى جوهرهما بمصالح النظام السياسى فى الاتحاد السوفييتى قبل أى شئ آخر ومن هنا نرى أن المبررات الفكرية والنظرية التى يسوقها الأكاديميون السوفييت لمواجهة هذا التطور، لا تتجاوز كونها غطاء أيديولوجيا للمصالح السياسية التى لا تستطيع الحملات الأيديولوجية أن تطمسها، مهما استخدمت من مصطلحات الانتهازية والتحريفية و الانحراف الليبرالى، وهى الاتهامات الرائجة فى السوق السياسية الماركسية، عندما تتأجج الخلافات داخلها وقد استخدمت من قبل هى ومثيلاتها فى حملات الأجهزة السوفييتية على يوغوسلافيا ثم على الصين عندما تمردتا على وصاية الحزب ألام والحملة الأخيرة على الشيوعيين الأوربيين، كانت تركز على قضية الانحراف الليبرالى فى صفوف الحركة الشيوعية الأوربية، ويحرص الأكاديميون السوفييتى فى هذا الصدد على التمييز بين ليبرالية القرن الثامن عشر، أو ليبرالية عصر التنوير وهى ليبرالية ثورية تطورات إلى نظرية تبريريه ومنهج فكرى وسياسى فى القرن العشرين، وأصبحت تقف عقبة فى وجه الشعوب المستبعدة، وينتهون إلى أن هذا الاتجاه هو الذى أثر فى ماركسية الأممية الثانية وأبعدها عن هدفها الثورى ولسنا الآن بصدد مناقشة هذه القضية، ولكننا مع ذلك نشير إلى أزمتين فقط، مما يواجههما أصحاب هذه الآراء: الأولى سياسية ومتعلقة بتفسير الحركة المعادية للاستعمار داخل الليبراليين الأوروبيين والأمريكيين والثانية فكرية متعلقة بما أكد عليه كارل ماركس نفسه من إمكانية فصل الثقافة عن الطبقة الاجتماعية، عندما رأى أن ألمانيا تبرجزت أى عرفت ثورة ثقافية بورجوازية راقية بإحلال الوضعية والمادية العلمية محل الجدلية الفلسفية المثالية، وما واكب ذلك من عقلنه الحياة الاجتماعية على كل المستويات: التنظيم الصناعى، الأخلاق الفردية، الديمقراطية السياسية، العلمانية وكل ذلك تحت قيادة طبقة أرستقراطية كلاسيكية غير الطبقة الوسطى الضعيفة آنئذ، وخلص من ذلك إلى أن ما فعلته الأرستقراطية الألمانية أى استخدام الثقافة البورجوازية يمكن أن تفعله أية طبقة أخرى أن تجاهل الأكاديميين السوفييت لذلك ولمقولات أساسية وواضحة الدلالة فى الأدب الماركسى، مثل نصيحة فردريك انجلز فى رسالته إلى فلورنس كيلى فى 28 ديسمبر 1886: أن نظريتنا ليست ناموسا يجب حفظه وترديده عن ظهر قلب، بل هى دليل للعمل أن هذا التجاهل يجعل الأقرب إلى التصور أن القضية سياسية أكثر منها فكرية ولكن على ما يبدو، فإن السوفيت يتغافلون عن حقيقة أن الماركسية قد دخلت فى مرحلة جديدة بعد ستالين، مرحلة تشجب الحكمة الستالينية التى أغلقت الباب أمام كل تطور تحت دعوة البورجوازية واليمينية وقامت حملة واسعة فى أوربا الغربية بالذات ضد العقيدة الستالينية، التى انتزعت من الماركسية كل روح نقدى، وبلغت الذروة فى العدوان الآثم على الديمقراطية والحرية وحق الحياة والكلمة فى الحزب والدولة، ويعبر عن ذلك بشجاعة المفكر الماركسى الفرنسى روجيه جارودى بقوله: كنا نحارب الشر المطلق، فكيف كان لنا إلا نعتقد أن قضيتنا هى الخير المطلق، واسترحنا إلى هذه النظرة المانوية إلى العالم، وقبلنا كل ما يأتى من معسكرنا، وباسم الولاء الحزبى رفضنا أخذه بأى تمحيص نقدى، وهكذا قبلنا حتى دون أن تفرض علينا بالمعتقدية الستالينية (ودارت مناقشات متشعبة بين المثقفين الأوربيين واكبة تجزئة الحركة الشيوعية العالمية، ظهرت فيها الماركسية غامضة المعنى، قابلة لأى تأويل، عاجزة عن فهم تطور ذاتها، وتمييز معالمها عن المدارس الفلسفية والاجتماعية المؤثرة فى الغرب، وبدلا من أن تكون منهجية بحث وتحليل، أصبحت هى موضوع البحث والتحليل، وإن كان الماركسيون الأوروبيون قد استطاعوا بعد لأى، أن يتلمسوا طريقهم على صعيد التطور، والسوفييت يعمدون إلى تجاهل ذلك أيضا فهم لا ينظرون بعين الاعتبار إلى هذه الحركة الواسعة التطورية فى أوربا الغربية، وخاصة فى فرنسا، حيث يرفع الشيوعيون الفرنسيون راية الحوار مع كل الاتجاهات الفكرية دونما استثناء وأوضح مثال على ذلك أسابيع الفكر الماركسى، التى بدأت بأسبوع عن الماركسية والوجودية عام 1963 ثم الحوار الموسع حول الأخلاق المسيحية والأخلاق الماركسية، والإنسان المسيحى والإنسان الماركسى، واتساع ميادين هذا الحوار مع الكاثوليكيين بعد ظهور الرسالة البابوية الشهيرة (والسلام على الأرض) إن كل ذلك يقودنا إلى أن طبيعة الأزمة التى تعانى منها الماركسية، إنما هى أزمة ذات وجهين كلاهما مناقض للأخر، ولا يمكن أن يلتقى معه الوجه الأول تمثله الأحزاب الشيوعية الغربية التى تعانى من عدم صلاحية الماركسية الكلاسيكية كنظرية بجمودها للواقع السياسى الذى تعمل فيهن الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى التجديد والتطوير المستمر فى إطار إخضاع الفكر لمقتضيات الحركة السياسية والوجه الثانى يمثله الحزب الشيوعى السوفييتى والأكاديميون السوفييت، وهم يعانون الأزمة من منظور عكسى، إذ يرون فى الماركسية الأرثوذكسية والعلاقة القائمة لديهم بين الفكر والسياسة، أفضل العلاقات لخدمة المصالح السياسية السوفييتية وبالتالى يسعون إلى تجميد النظرية وصبها فى قالب قيصرى ستالينى ملائم لمصالح السياسة الخارجية السوفييتية هذه الأزمة فى الواقع تطرح سؤالا أخيرا ومحددا عن مستقبل هذا الصراع إلى سيشتعل بالضرورة فى الفترة القليلة القادمة، ولمن الغلبة فيه، وما الذى يمكن أن يتمخض عنه، وبالرغم من صعوبة الوصول إلى رؤية مستقبلية واحدة، وعلى قدر من الوضوح بالنسبة لظاهرة معقدة كهذه، إلا أنه يمكن القول بضرورة انتصار أحد هذين الاتجاهين، حتى لو لم يؤد ذلك إلى هزيمة شاملة للاتجاه الآخر وإذا أردنا تحديدا أكثر، لقلنا أن الاتجاه الذى يمثله الاتحاد السوفيتى فى ظل معطيات الثلث الأخير من القرن العشرين، هو الاتجاه الأضعف، وليس أدل على ذلك من نتائج مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية الأوربية الذى انعقد فى برلين الشرقية فى 29 - 30 يونيو 1976 والتى يمكن تلخصيها فى: أن الوثيقة التى صدرت عنه لم يرد فيها لأول مرة تعبير الماركسية اللينينية، وكان الحد الأقصى هو العمل من أجل الاشتراكية، كما لم تجد الوثيقة أى نص على الالتزام بالأممية البروليتارية، بل على العكس كان النص على الاستمرار فى النضال على أساس الخط السياسى الذى يسير عليه كل حزب بصورة مستقلة تماما، وكذلك التأكيد على الالتزام الكامل بالمساواة والسيادة المستقلة أن محاولة بريجينيف لطرح فكرة جديدة للاحتواء غير المباشر فى شكل الحاجة إلى التشاور والمناقشات الرنانة من حين لآخر لتبادل الخبرات كانت محاولة فاشلة حيث أصرت الأحزاب الأوربية على رفض الانصياع لفكرة اللقاءات الدورية أن السوفييت لم يتمكنوا من مواجهة الأحزاب الأوربية التى أعلنت بوضوح عن اتجاهاتها الجديدة نشرح برلنجوير الإيطالى سياسة حزبه فى المساومة التاريخية، وافاض مارشيه الفرنسى قرابة الساعة فى تفضيل عوامل إلغاء دكتاتورية البروليتاريا، وأكد كاريالو الأسبانى على التحالف مع الليبراليين والمسيحيين ورفض المركز الموجه، بينما كان تيتو صريحا للغاية فى دفاعه عن حركة عدم الانحياز وأيضا أنها الأساس فى سياسة يوغوسلافيا أن مجموع القضايا التى تناولها المؤتمر تعكس مدى قوة الاتجاهات الجديدة الديمقراطية فى اليسار الأوربى، ومن ثم جاءت محصلتها النهائية ممثلة فى وثيقة المؤتمر لتطرح أهدافا ديمقراطية وسلامية واجتماعية وإنسانية عامة تدور حول تعميق الانفراج الدولى ونزع السلاح والدفاع عن الديمقراطية والاستقلال الوطنى، الإشادة بسياسة عدم الانحياز ودورها الفعال فى عالم اليوم وتطوير التعاون والمنافع المتبادلة بين الشعوب، والواقع أن نتائج كهذه لمؤتمر شيوعى يحضره ممثلو كل الأحزاب الأوروبية عدا ألبانيا تظهر بجلاء مدى العزلة التى يعانى منها السوفيتى بين رفاقهم، أنفسهم ولكن انتصارا حقيقيا للاتجاه الآخر فى رأيى لا يمكن أن يتم، إلا إذا نجح هذا الاتجاه والواقع أن انتصارا حقيقيا لهذا الاتجاه فى تجاوز كل الجوانب السالبة فى الفكر الماركسى بشجاعة، وتطوير ثقافة سياسية جديدة تقوم على الامتزاج بين قيم الحضارة الديمقراطية الليبرالية الغربية، والنظام الأنجلو أمريكى، كمثل أعلى سياسى، وبين الفكرة الاشتراكية العلمية كمثل أعلى للإصلاح الاقتصادى والاجتماعى، ومن ثم طرح نموذج جديد اشتراكى ديمقراطى حقيقى يتخطى كل من يسارية الأحزاب الشيوعية، ويمينية الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى بعض البلدان، ويمثل الأساس لبذور ثقافة سياسية عالمية جديدة تتطلع إليها الإنسانية الحالمة.