منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية

المشرف: رجاء الرشيد

#62131
يعتقد البعض أن الدين يكون شاملا فقط عندما يتحدث في كل شيء, ولا يسكت عن أي شيء, وعندما يطرح كل الأسئلة ويقدم كل الإجابات.

ونزعم هنا أن العكس هو الصحيح, فالدين يكون شاملا حقا عندما يصمت عن التفاصيل, ويتسامي علي الوقائع المتغيرة, ولا يطرح إجابات إلا علي الأسئلة الوجودية الكبري حول البدايات والنهايات, والمثل والغايات, والمصائر النهائية. وفي المقابل يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية عن الكيف, والعملية عن الوسائل.
ولعل هذا الطريق هو ما سلكه الإسلام, فكان حقا دينا شاملا, إذ لم يدع لنفسه خصوصية علمية تبرر ما يذهب إليه البعض قائلا بـ إسلامية المعرفة, أو إسلامية الدولة, فلا توجد أبدا معرفة علمية إسلامية, ولا نظرية سياسية إسلامية لأن الشأن المعرفي, كالشأن السياسي من الأسئلة العملية المنوطة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ, وإن وجدت دوما غايات للمعرفة العلمية يمكن القول بأنها إسلامية, تتعلق بتمكين الإنسان من العمران, وزيادة الخير العام, أو مثل عليا للممارسة السياسية يؤكد عليها الإسلام تحقيقا للعدالة والمساواة وتحرير الإرادة الإنسانية من القهر والسيطرة ليكون لها حق الاختيار المبرر للحساب, فهذه الغايات وتلك المثل إنما تنبع من شمولية الإسلام الوجودية, وانشغاله بالمصير الإنساني.
في هذا السياق يقدم الإسلام تأسيسا انطولوجيا للعلم, إذ يجعله مكونا أساسيا في رؤيته للوجود, ويدعو المسلم صراحة إلي السعي في طلبه وتوظيفه في خدمة رسالة الاستخلاف الإنساني علي الأرض, تلك الرسالة القائمة علي الجمع بين الدين والدنيا, والمؤسسة علي روح جهادية بالمعني الحضاري, تسعي إلي التأثير إيجابا في حركة التاريخ, بانتشاله من حال العبث والفوضي والظلم التي سادت فيما قبله. ولكن من دون إدعاء بالتأسيس الإبستمولوجي له, بمعني تحديد مبادئ حاكمة, أو مقدمات نظرية شارحة أو قول موجب بـ( نظريات علمية), لأن الدور الأساسي للكتب السماوية عموما, والقرآن الكريم خصوصا, لا يكمن في تقديم رؤي خاصة أو مناهج تحليلية لجوانب محددة من الظاهرة الطبيعية, بل يكمن في تقديم رؤية شاملة للوجود لا تتناقض مع العلم, تقوم علي تعقل المبادئ الكونية, والسنن التاريخية بطريق السلب والإجمال.
ويمتد مفهوم الشمولية( الوجودية) من حقل المعرفة العلمية إلي حقل المعرفة السياسية الذي نخصه بالاهتمام هنا, حيث يقتصر القرآن الكريم علي تقديم مثل سياسية عليا كالشوري والعدل والمساواة وزهد الحكام, وهي المثل التي جسدها العصر النبوي, وبدايات العصر الراشد خصوصا الحقبة المؤسسة للخليفة العادل عمر ابن الخطاب, والتي أخذت في التدهور نسبيا مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان, فكانت الفتنة التي أودت به. ولما تولي الإمام علي وقعت الفتنة من معاوية, وتحولت الخلافة إلي ملك عضوض. ومع يزيد بن معاوية بات التحول كاملا, وعاصفا نحو الملك الوراثي, وهنا تم الإهدار الكامل لمثل الإسلام العليا في الحكم, ثم وقع الالتباس لدي عموم الناس بين فقدان هذه المثل العليا, وبين فقدان ما يعتبره البعض الدولة الإسلامية, فما حدث في التاريخ ابتعادا عن تجارب الحكم الإيجابية والفعالة( الراشدة) لم يكن تنازلا عن نظرية الإسلام السياسية( الشرعية) بل تدهورا في قدرة الحكام المسلمين علي تجسيد هذه المثل العليا, الذي تظل قائمة رغم ذلك, بانتظار من يجسدها عبر كل وأي جسد سياسي, فالمهم في الإسلام ليس شكل الدولة, لأنه أمر تاريخي, بل المثل العليا الإسلامية المتجاوزة للتاريخ, والقادرة دوما علي إلهامه.
وفي المقابل ينأي الإسلام بنفسه عن تقديم نظرية شاملة للمعرفة السياسة, كانت تقتضي منه التفصيل في أمور عديدة وتقديم حزمة من المقولات حول طبيعة السلطة وكيفية تشكيلها, وكيفية صوغ العلاقة بين السلطات, وكيفية تحقيق التوازن بينها, وكيفية ممارسة الرقابة عليها.. إنها أسئلة الكيف التي تشكل ما يمكن تسميته بـ( التقنية السياسية) التي تتحدث عنها تفصيلا النظرية الديمقراطية الحديثة في الحكم, والتي سكت عنها الإسلام, ليس ضعفا في شموله بل اتساقا مع هذا الشمول, فما يراد له أن يكون شاملا لابد له أن يكون عاما, يخاطب الغايات النهائية وينشد المثل العليا, والمبادئ المؤسسة, وأن يصمت عن وسائل وكيفيات إنزالها علي دنيا الناس; فالمثل والغايات دائمة, إذ لم يتغير معني العدل مثلا منذ بداية التاريخ بل ازداد ثراء, ولم تتراجع قيمة الشوري أبدا بل ازدادت عمقا, ولم يذبل مفهوم زهد الحكم بل ازداد أهمية بفعل تنامي المغريات, وتعدد أبواب الفساد علي نحو ما نري ونسمع في كل العصور والعهود. أما عالم الناس فمتغير, ولذا فإن الآليات والوسائل التي يمكن من خلالها إنزال هذه المثل علي وقائعه, تبقي متغيرة, باتجاه قدرة أكبر علي صوغ حركة المجتمع, ودرجة أعلي من النجاح في تمثيله.
ففي دولة المدينة اليونانية, مثلا, كان ممكنا جمع رجالها الأحرار باعتبارهم فقط المواطنين, في ميدان عام للتشاور واتخاذ القرارات الكبري. ولم تبعد دولة المدينة المنورة كثيرا عن دولة المدينة اليونانية وإن اختلف السياق, ولذا كانت الشوري أمرا ممكنا. أما اليوم, في ظل التقدم الصناعي, والنمو السكاني, والاتساع الجغرافي ناهيك عن سيادة النزعة الإنسانية والأفكار المساواتية التي أنهت ظاهرة العبودية, ومنحت النساء حقوق المواطنة كاملة, فقد صارت الديمقراطية الأثينية, كالشوري الإسلامية, أمرا مستحيلا, وصار البديل الأكثر منطقية يتمثل في الديمقراطية التمثيلية, والتي يتم من خلالها اجتماع الشعب عبر نوابه تحت قبة برلمانية بديلة عن ميدان أثينا وعن صحن مكة أو المسجد النبوي, للتشاور واتخاذ القرارات الحاكمة.
ولعل الأمر المؤكد, طالما كان التاريخ مفتوحا, أن هذا النمط التمثيلي ليس نهائيا, والأغلب أن يشهد هو نفسه تحولات عديدة مستقبلا, فطريقة التصويت تتغير الآن, وإن جزئيا, بفعل التطورات التكنولوجية, وربما ساعدت هذه التطورات بتسارعها وتراكمها علي إنتاج نظرية جديدة للحكم تتجاوز النظرية التمثيلية تماما باتجاه عودة للديمقراطية المباشرة ولكن بصورة جديدة تتفق وبنية المجتمعات الكبيرة, من دون أن يعني ذلك تغييرا في الغايات الأساسية والمثل العليا للحكم الرشيد, التي كانت قائمة في الماضي, ولا تزال صالحة للحاضر والمستقبل كالعدالة والحرية والمساواة, إذ بينما تمثل النظرية السياسية الديمقراطية, كآليات تنافس وإجراءات ممارسة, جزءا من التقنية( المعرفة) السياسية المتغيرة بطبيعتها, فإن هذه المثل والغايات تعكس جوهر الرؤية الأخلاقية الراسخة للوجود, والتي هي مجال عمل الدين عموما, ومدار انشغال الإسلام خصوصا.