منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص باستقبال أسئلة الطلاب
#66792
إنك حر في كل شيء ما عدا خضوعك للإرادة العامة، التي هي محصلة للإرادات الفردية في المجتمع. هذا بعض ما انتهى إليه تعريف روسو للحرية.

بيد أن الحديث حول الحرية لم يكن سوى جزء من حديث أوسع حول طبيعة العلاقة داخل مثلث الفرد - المجتمع - الدولة. وهو بالضرورة حديث حول شروط التطور البشري أو لنقل شروط النهضة.

ومنذ البدء، كانت اهتمامات الفلسفة السياسية تتركز على مسألة الحرية والحقوق والشرعية الدستورية. والفلسفة السياسية بهذا المعنى قديمة العهد، على الرغم من أن مناهجها واهتماماتها أضحت متشعبة.

والسؤال المطروح دائما هو التالي: هل الحرية مرغوبة لنفسها أم وسيلة تقود إلى غاية معينة؟ وما هي القيود المفروضة على الحرية التي يمكن القبول بها؟

وقريبا من روسو، وإن في سياق اجتماعي، كان الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت يقول: إن حرية الشخص في المجتمع المتحضر تتوقف عند محاولته إيقاع الأذى بالآخرين أو بالمصلحة العامة. وبالتالي فهو حر في كل شيء ما عدا ذلك. ولكن حتى هذا القول بدا قابلاً لتفسيرات متباينة، إذ ما معنى الأذى وما هو معيار المصلحة العامة. ومن الواضح أن حسم الإجابة على ذلك يرتبط بصورة وثيقة بالبناء الثقافي للفرد والمجتمع.

بيد أن هذا القول على مجمله جاء دحضاً للمفهوم الوجودي، الذي نادى به سارتر، وقال فيه إن الفرد غير امتثالي: أي غير حريص على التأقلم مع المجتمع بأي ثمن كي يتصرف كما يتصرف الآخرون. "فالجحيم هم الآخرون"، كما زعم سارتر نفسه.

وهنا وجِّه الاتهام لسارتر بأنه يجهل الضرورات الاجتماعية والسياسية التي تحكم الإنسان وتحد من حريته،أو لنقل تضع حدوداً ومعايير ثابتة لها .وصدرت الانتقادات لسارتر بوجه خاص من فلاسفة البنيوية، أمثال كلود ليفي ستروس وميشيل فوكو.

وعندما نتحدث عن حرية الإنسان فإننا نحدد في التحليل الأخير الإطار الذي يجب أن يبقى ضمنه سلوك الفرد. فالحرية ليست فقط ما يحق لك عمله بل كذلك ما يحق للآخرين نهيك عنه .وعند هذه النقطة تحديدا تتداخل مسألة الحرية بمسألتي السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي. ويبدو العنف، سواء كسلوك اجتماعي أو خيار سياسي، نوعاً من القفز على حقائق الحياة، وذلك بغض النظر عن الدوافع والمبررات.

والعنف، الذي تصل ذرة تجلياته في الحروب الكبرى والنزاعات الأهلية، كان ولا يزال تحدياً يفرض نفسه على مقاربات الأمن والسلم الدوليين. بل إن تجربة السلم الدولي قد فشلت فشلاً ذريعاً بفعل الاستخدام المتعدد الأشكال للعنف.

والعنف ظاهرة ذات جذور موغلة في التاريخ. ومنذ فجر تاريخها، عرفت الإنسانية سلسلة لا تنتهي من الحروب. وتشير كتب التاريخ إلى أنه ما بين العام 1496قبل الميلاد والعام 1861بعده، لم يبلغ عدد سنوات السلم سوى 277عاما.وهذه أرقام لا تشمل بطبيعة الحال كافة مناطق العالم .

وقبل قرون، شهدت أوروبا تفاقماً واسعاً لظاهرة العنف عبرت عن نفسها بالحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي حروب ذهب ضحيتها مئات الألوف من البشر.

وشهد القرن العشرين حربين كونيتين وعدداً كبيراً من الحروب الإقليمية والأهلية، كما امتلكت فيه عدة قوى عالمية السلاح النووي.

وبدت تطلعات التوسع القومي كمحرك أساسي للحروب الواسعة والموضعية. وغالبا، كانت هذه التطلعات نتاجاً لنزعة وطنية متطرفة.

ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وسيادة نظام القطبية الثنائية في البيئة الدولية، بدت الحروب الإقليمية بمثابة تعبير محلي عن الحرب الباردة. كما يمكن قول الأمر ذاته عن الكثير من الحروب الأهلية، وإن ضمن سياقات مختلفة.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن القول بأن تلك السلسلة من الحروب، التي استوعبت العالم، قد أتت نتاجا صافيا للحرب الباردة، بعيدا عن أي معطى محلي.

وبعد انتهاء الحرب الباردة، اعتقد الكثيرون أن السلام سوف يعم العالم، وأن زمن الصراعات والحروب ولى إلى غير رجعة. ولكن فجأة اندلعت الحروب الأهلية في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وارتكبت المجازر الوحشية وأعمال التطهير العرقي على نطاق واسع.

وتشير الإحصاءات إلى أنه منذ العام 1989سقط أكثر من خمسة ملايين قتيل في الصراعات العديدة التي اندلعت في مناطق مختلفة من العالم. وكان ثمانين في المائة من ضحايا هذه الحروب من المدنيين .و حيث إن النسبة العظمى من الصراعات قد تركزت في البلدان الفقيرة أو ذات الاقتصاد الضعيف، فإن شعوب هذه البلدان قد ازدادت فقراً وأصبحت المجاعات والأوبئة تهدد الكثير من أبنائها.

لقد عرف الجميع الآن أن النزاعات المحلية والإقليمية كانت مكبوتة، تنتظر الظرف المؤاتي كي تنطلق من عقالها.

بيد أن هذا التهور الدرامي للبيئات الوطنية، الذي أصاب العديد من بلدان العالم، لم يكن إفرازا محليا بحتا، تماما كما أن أزمات الحرب الباردة لم تكن بعيدة عن سياقاتها المحلية. وفضلا عن الدور الأجنبي المباشر الذي بدا واضحا في عدد من الحالات، فإن موروث الحقبة الاستعمارية كان عاملاً محورياً في تفجرات اللحظة الراهنة. كذلك، تقع مسؤولية تاريخية على عاتق إدارات ما بعد الاستقلال، ففي كثير من دول العالم الثالث لم تفعل هذه الإدارات شيئاً من أجل تفكيك العصبيات العرقية والمذهبية، التي أججها الاستعمار . وكما هو معروف، فان الاستعمار لم يكتف بتأجيج النزعات العرقية والمذهبية بل رعاها رسميا في بعض الحالات. كما أن بعض دساتير العالم الثالث قد أتت مفصلة على أسس عرقية أو مذهبية أو جهوية من أجل أن تحافظ على استمرارية التجاذبات المحلية.

إن المذابح التي شهدتها رواندا، على سبيل المثال، كانت نتاجاً لتضخم النعرات العرقية وتحولها إلى أسطورة تمجدها القبائل المتنافسة. وتحديدا قبيلتي الهوتو والتوتسي، على الرغم من أن القبيلتين تعايشتا على ذات الأرض قروناً من الزمن.

إن حجم المجازر التي ارتكبت في رواندا ومناطق عديدة أخرى، كان مرعباً ومفزعاً. وبدت خلال هذه المجازر آليات الدولة الوطنية مشلولة وعاجزة.

وقاد هذا التحول العنيف في بيئة الأمن الدولي إلى ظهور مصطلح جديد في السياسة الدولية هو "التدخل الإنساني". وجاء هذا التدخل عبر الأمم المتحدة في حالات معينة، وعبر منظمات إقليمية أو دول محددة في حالات أخرى.

وهكذا تدخلت نيجيريا لوقف الحرب الأهلية في سيراليون، وتدخلت بعض البلدان الأوروبية والأمريكية في الموجة الأولى من الصراع في زائير، والتي قادت إلى طرد موبوتو من الحكم.

وكانت الولايات المتحدة قد تدخلت في الصومال وهاييتي. ثم تدخلت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البوسنة وكوسوفو.

ولكن بالمقابل لم يتدخل احد في الحرب الأهلية التي جرت في رواندا وأسفرت عن شلال من الدماء. إن أحداً لم تكن له رهانات استراتيجية هناك، ولهذا تركت البلاد لقدرها.

كذلك، فان مقولة التدخل الإنساني بحد ذاتها قد أثارت سجالا حول مبدأ السيادة الوطنية، الذي بقى ركنا ثابتا في النظام الدولي منذ معاهدة وستفاليا.

إن ما حدث منذ انتهاء الحرب الباردة قد مثّل تراجعاً في مسار البشرية نحو تحقيق أمنها، بل إن فظاعات الحروب الأهلية وتفتيت الكيانات السياسية قد صدمت الكثير من المقولات والقناعات السائدة في الفكر السياسي الدولي .

ومرة أخرى، بدا واضحاً أن التقدم المادي للبشرية لا يمثل صمام أمان لمستقبلها. هذا إن لم نقل إن غياب الأمن هو إفراز غير مرئي للحداثة ذاتها. وهذه معضلة شغلت الفلاسفة على مر العصور، لكنهم بقوا منقسمين حولها.

وكان المفكر الإنكليزي جيبون قد قال في العام : 1776من المستبعد أن ينتكس الشعب المتحضر ويعود إلى "بربريته" السابقة. وكل العصور السابقة كانت تمشي باتجاه عصرنا: أي باتجاه المزيد من الثروة والسعادة والمعرفة وربما الفضيلة.

وكان جيبون قد مات بعد خمس سنوات على اندلاع الثورة الفرنسية. أي في العام الذي انتقلت فيه الثورة من المرحلة الإنسانية إلى مرحلة الإرهاب والرعب. وعندئذ راحت الثورة تأكل أبناءها - كما يقال- بمن فيهم روبسبيير. وبالتالي فإن البربرية ظهرت في صميم الحضارة، على عكس ما تنبأ به جيبون.

وبعد الحرب الفرنسية في الجزائر، نشر كلود ليفي ستروس كتابه الشهير "الفكر المتوحش" وناقش فيه بإسهاب مفهوم سارتر للتاريخ. كما نشر ميشيل فوكو كتابه الذي حمل عنوان "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي". وبدا ستروس وفوكو، رغم اختلاف موقعيهما، متمردين ضد الفكر الفلسفي الذي ساد بعد نهاية الحرب الجزائرية، "إذ ما كان لهذه الحرب الاستعمارية القذرة إلا أن تغير من نظرة المجتمع لنفسه".

ومنذ البدء، كان فلاسفة الحداثة في أوروبا متفائلون بمستقبل البشرية، و قد اعتقدوا بان التقدم سيستمر إلى مالا نهاية بفضل العلم والتطور الاقتصادي. ولكن بعد حصول الحربين العالميتين والمجازر الاستعمارية العديدة، اهتزت الثقة بالحداثة، لتظهر فلسفة أخرى هي فلسفة ما بعد الحداثة.

قالت هذه الفلسفة بأن الحداثة قد فشلت بعد كل ما حصل في القرن العشرين. فشل المشروع الماركسي وأدى إلى ستالين والفولاغ، وفشل المشروع الليبرالي الرأسمالي الذي أدى إلى الفاشية والنازية، وفشلت كل طوباويات عصر التنوير وآماله ووعوده. ودعا ليوتار مشاريع الحداثة هذه بالحكايات الكبرى التي سيطرت على الأمم الأوروبية طيلة القرنين الماضيين، أو بالطوباويات الكبرى، "إن لم نقل الأكاذيب الكبرى".

وكانت بذور هذه الأفكارموجودة في كتاب ادورنو وهوركهايمر "جدلية العقل". وهو كتاب كان قد ألف مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل على جرائم النازية والفاشية. ولذلك فإن المؤلفيءن لم يتمالكا اعصابهما وأخذا يهاجمان ليس فقط العقلية الفاشية واليمينية المتطرفة، وإنما عقل التنوير ذاته باعتباره "يحمل في طياته" بالضرورة إمكانات الاستبداد.

ولكن بمعزل عن هذا السجال النظري، يبقى المجتمع الدولي مطالباً بالعمل على إنهاء الحروب الأهلية عبر معالجة أسبابها الظاهرة والكامنة، وتقديم الدعم للدول المنكوبة.

وهنا يطرح موضوع العدالة نفسه بكثير من المركزية، فإذا ما انتهت حرب أهلية بغالب ومغلوب وإذا ما وقع مزيد من الظلم على المغلوب فإن السلم الاجتماعي لن يستتب وسيظل خطر عودة الحرب قائماً. "فسلام بدون عدالة هو سلام رمزي أو اسمي ليس إلا " - هذا حرفيا ما قالته ناشطة غواتيمالية حائزة على جائزة نوبل للسلام- .وهذا ما يجب أن تتنبه له الأسرة الدولية، ذلك أن السلم الدولي كل لا يمكن تجزئته.

كذلك، لا بد للقوى المحلية من أن تتحمل مسؤوليتها، وتسعى لتحليل العوامل الكامنة خلف التوترات والحروب، وتعمل على بلورة المقاربات القادرة على حلها وتجاوز آثارها. وهذه أساساً مهمة النخبة المثقفة المستنيرة، التي إن تخلت عن دورها أضاعت على أوطانها فرص النهوض والتطور. وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية على صعيد عالمي. وأليس الفلسفة هي "انطولوجيا الحاضر" - كما يقول ميشيل فوكو-.

ويروى أنه أثناء حرب فيتنام دعا الرئيس جونسون الكاتب آرثر ميلر إلى البيت الأبيض، لكن الكاتب الشهير رفض الدعوة وأرسل للرئيس برقية مختصرة يقول فيها:عندما تتكلم المدافع يموت الأدب والفن .

وبغض النظر عن طبيعة المقاربة التي قادت ميلر إلى هذا الموقف، فان عبارته تشير بوضوح إلى التفاعل مع الواقع والالتصاق به.

واليوم، بدت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر وقد دفعت باتجاه المزيد من السجال النظري في الوسط الثقافي الأمريكي. وهو سجال يدور حول خلفيات الحدث ونتائجه، وطبيعة الخيارات المفترض اعتمادها في الحاضر والمستقبل. بل إن كثافة النقاشات الدائرة الآن ربما تفوق تلك التي جرت في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين حين كان الاستقطاب الأيديولوجي في ذروته.

لقد عادت النظرية النسبية في تحليل ثقافات الشعوب لتفرض نفسها على مقالات مثقفي اليسار الأمريكي، من أمثال ماري بيرد، اريك فونير، فريدريك جامسون، بربارة كينغ سولفر، ارند هاتي روي، سوزان سونتاغ وأليس ولكر.

و في المقابل، يمكن اليوم ملاحظة نسخة أكثر تشدداً للنمطية التقليدية التي هيمنت لعقود على كتابات مثقفي اليمين الأمريكي، من أمثال برنار لويس، دانييل بايبس، دونالد كاغان وريتشارد بيرل.

ولكن بغض النظر عن المواقف المعيارية من اتجاهات هذا النقاش، فإن مجرد استنفار النخب الفكرية لتحليل وتقييم المنعطفات التي تمر بها بلدانهم يعد مؤشراً صحياً في حد ذاته. إنه يؤكد حضوراً لا غنى للدول والشعوب عنه.

مقال للكاتب عبد الجليل مرهون بجريدة الرياض ..