منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By محمد القاسم 34
#66810
تعد نظرية الجغرافيا السياسية من النظريات الحداثية القليلة المتسمة بالغرابة والغموض والشمولية، فضلاً عن أنها مؤهلة اليوم للتسبب فى قيام حرب عالمية ثالثة جديدة.
وقد اكتسبت هذه النظرية شعبية عريضة فى بداية القرن العشرين على يد عالم جغرافي بريطاني هو هالفورد ماكيندر وقد افترض ماكندر أن الأرض سوف تنقسم إلى الأبد إلى مجالين متواجهين طبيعياً هما اليابسة والبحر، أما الممثل الطبيعي للقوة الأرضية فى العالم فهي منطقة قلب اليابسة الأوروأسيوية ، أو المنطقة التي شغلتها قديماً الإمبراطورية الروسية. وذكر ماكندر أن من يملك السيطرة على اليابسة سوف يسعي حتماً وإلي الأبد للسيطرة على اليابسة الأوروأسيوية ككل، وفي النهاية سيسيطر على العالم.
والمثير أن هذه النظرية لم تمر مرور الكرام فى قلب اليابسة ، حيث يشهد الكرملين اليوم - فى خضم ما يموج به - نمواً ملحوظاً فى عدد المتعصبين والمتشيعين لهذه النظرية من المفكرين الروس ممن سبق وأن تعصبوا لفكرة الانتصار الحتمي لبلادهم على العالم كنتيجة تاريخية حتمية ، الكثير من هؤلاء اليوم يبقون آمالهم على عودة روسيا لمكانتها استناداً على هذه النظرية والتي تعد نقيضاً للمادية الديالكتيكية. والنصر - من وجهة نظر هؤلاء - سوف يبني على الجغرافيا وليس التاريخ، أي بالمكان وليس بالزمان.
وعلي هذا فقد أصبحت نظرية الجغرافيا السياسية الأوروأسيوية هي نقطة الالتقاء المشتركة لتحالف الروس الذي يصفه الكتاب بأنه تحالف أحمر - بني أو تحالف سياسي يضم المتشددين اليساريين واليمينيين واللذان يسيطران معاً على قرابة نصف عدد مقاعد مجلس الدوما
الروسى ( المجلس الأدني فى البرلمان الروسي ).
وهؤلاء تزداد شوكتهم يوماً بعد يوم مع تفاقم الأزمة الاقتصادية فى روسيا والتي تدفع بالمزيد من أبناء الشعب الروسي - والذين طالت مدة معاناتهم - لانتهاج خط راديكالي.
وفي صيغتها المعتدلة، فإن النظرية الأوروأسيوية تؤكد على التفرد الروسي وأن روسيا لا تحتاج لأن تصبح غربية لكي تتحول لدولة حديثة ، أما فى الجانب المتشدد للنظرية فإن الحركة تري اتخاذ قلب اليابسة الأوروأسيوى كنقطة انطلاق جغرافية لحركة عالمية معادية للغرب هدفها النهائي هو طرد النفوذ الأطلنطي وتحديداً الأمريكي من أوروآسيا.
ومن أبرز أتباع هذا الخط المتشدد فى روسيا اليوم الحزب الشيوعي، والذي يعد أضخم مؤسسة سياسية فى روسيا اليوم، وقد نشر زعيمه جينادي زيجانوف مانيفستو جيوبوليتيكا بعنوان جغرافيا النصر، أطاح فيه بكل ما تمثله التقاليد العقائدية الشيوعية حيث أعلن فيه أن الروس يعيشون فى عصر تسيطر عليه اعتبارات الجغرافيا السياسية وأن تجاهلها لن يكون مجرد خطأ ولكن جريمة. والإشارة الوحيدة لكارل ماركس فى الكتاب كانت فى اقتباس الهدف منه التأكيد على أن ماركس نفسه كان من أنصار الجغرافيا السياسية.
أما الأحزاب الراديكالية الأخرى ومنها الحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة فلاديميرزيرينوفسكي، وهو الحزب الذى يصفه كاتب المقال بانه لا هو ديمقراطي أو ليبرالي، هذا الحزب بدوره يتشيع اليوم للجغرافيا السياسية ويحاول من خلال سيطرته على لجنة الجغرافيا السياسية فى الدوما أن يجعل منها مركز الثقل فى صنع السياسة الخارجية الروسية، ولهذا يصطدم بلجنة الشئون الدولية الأكثر ليبرالية.
وخارج البناء التشريعي، يرى الكاتب أن كلاً من وزير الدفاع الروسي والنخبة العسكرية قد أصبحوا بدورهم من مناصري النظرية الأوروأسيوية، والبعض يرى أن رئيس الوزراء الروسي يفيجين بريماكوف متعاطف مع هذا التوجه. فسياسته تنسجم مع العقيدة الأوروأسيوية بشدة، ولهذا فإن بريماكوف من وجهة نظر البعض أحد مساندي الحركة على الرغم من أنه لم يفصح عن موقفه من النظرية علناً.

إلتقاء الأضداد
يعتقد كاتب المقال أن انتشار النظرية الأوروأسيوية على نطاق واسع يعود إلى ملامحها الهجينية ، فالأوروأسيوية نجحت بفضل مفكريها المهرة الذين نجحوا فى تجاوز التعارض الفلسفي الشائع بين الشيوعية والأصولية والقومية والأرثوذوكسية الدينية. حيث نجحت الأوروأسيوية فى أن تصبح فلسفة جامعة تمتص كل عناصر الراديكالية فى أتون الفكر السياسي ما بعد السوفيتي.
ويمكن النظر للأوروأسيوية من هذه الوجهة كتعبير عن الطريق الثالث لروسيا، أو أنها نقطة وسط بين الجناح اليساري المتشدد واليمينى المتشدد وأن ظلت بعيدة عن المركز. والأوروأسيوية بهذا المعني، قد تبدو مألوفة لأنها لا تنطبق مع غيرها من النظريات لا سيما السلافيه التي ظهرت فى القرن التاسع عشر.
وقد ظهرت الأوروأسيوية عام 1921 على يد المؤرخ بيتر سافيتسك الذي نشر مؤلفه الهجرة للشرق حيث سعت الأوروأسيوية إلى صنع هوية روسية متفردة ومتميزه عن الغرب، وبدلاً من التأكيد على الوحدة الثقافية لكل العناصر السلافية - كما سبق وأن حاولت السلافية حتى انهارت الفكرة تحت وطأة الانتفاضة البولندية فى ستينيات القرن التاسع عشر - فإن الآورواسيوية نظرت للجنوب والشرق معاً وسعت إلى صهر الأوروأسيويين الأرثوذوكس والشعوب الإسلامية فى كيان واحد.
واقتحمت الأوروأسيوية عالم ما بعد السوفيت مرة أخري خلال التسعينيات عبر صفحات صحيفة روسية معارضة تدعي اليوم ، وقد أنشئت الصحيفة عام 1990 ثم غيرت اسمها إلى الغد بعد أن أغلقت على يد السلطات الروسية عام 1993. وخلال السنوات الثماني الماضية نجح محرر الجريدة الكسندر بروكانوف ونائبه السابق الكسندر دوجين فى تحويل الأوروأسيوية إلى نقطة التقاء بين اليمين واليسار الروسيين .
حيث تجاوز الأوروأسيويون التعارض بين اليمين المحافظ واليسار المتشدد من أجل مشروع حضاري أهم على حد قول دوجين ومن وجهة نظره فإنه لا يوجد من يستطيع أن يقدم هذا المشروع اليوم غير الأوروأسيويين، وهذا المشروع الذي طرح فى العشرينيات من هذا القرن وأعيد بعثه اليوم. أما السلافيون وذوو التوجه الغربي أو اليساريون أو اليمينيون كل هؤلاء فقد انتهوا من وجهة نظر دوجين.
وقد عمل دوجين كمستشار لرئيس مجلس الدوما الزعيم الشيوعي جينادي زيجانوف وقد صدر لدوجين كتاب بعنوان أساسيات الجغرافيا السياسية : مستقبل روسيا الجيوبوليتيكى عام 1997، وبعد صدور هذا الكتاب الذي كتبه دوجين بالتعاون مع الأكاديمية العسكرية الروسية للأركان العامة إتخذ دوجين مركزاً مهماً بين الأوروبيون.
وفي هذا الكتاب، حمل دوجين فكرة ماكيندر عن المواجهة الجيوبوليتيكية بين قوى اليابسة وقوى البحر إلى وجهة جديدة. فمن وجهة نظر دوجين فإن العالم لا تحكمه فقط اعتبارات استراتيجية متباينة ومتنافسة، وإنما هناك تعارض ثقافي جذري بين قوى اليابسة وقوى الماء بحيث يتوازي الانقسام بين قوى اليابسة وقوى الماء والانقسام بين الشرق والغرب. فالمجتمعات المعتمدة على اليابسة كما يراها دوجين تجذبها النظم القيمية المطلقة والتقاليد بينما المجتمعات البحرية تميل إلى التحررية. وعلي الجانب الاستراتيجي دعا دوجين إلى تحالف روسي - يابانى - الماني - إيراني ضد الغرب يستند إلى اشتراك هذه القوى الأربع فى رفض الغرب ، وبالتالي يمكنهم طرد النفوذ الأمريكي من القارة.
وينتقد الكاتب دوجين لأنه تجاهل حقيقة أن القوى السابقة ليست كلها قوي تعتمد على اليابسة ، فضلاً عن أن ألمانيا واليابان يصعب القول أنهما ليستا دولتين غربيتين ورغم هذا، فإن الكاتب يرى على بدء الأخذ بهذه المقترحات مأخذ الجد، فعلي سبيل المثال فقد دعا دوجين إلى إعادة جزر كوريل لليابان لإنهاء الخلاف معها كخطوة نحو بناء هذا التحالف ، وقد ظهر أنه خلال خريف عام 1998 تم التلويح بهذه الفكرة لليابان ، كما مهدت أفكار دوجين لدعوة يلتسين لبناء محور من موسكو وبرلين وباريس ، وكذلك لمبادرات بريماكوف تجاه إيران والعراق والتي بدأت منذ أن كان بريماكوف وزيراً للخارجية الروسية.
وهذا الاقتران بين أفكار دوجين وما تطرحه المؤسسة الروسية، أمر شديد الوضوح بصورة تجعل من الصعوبة بمكان تجاهله.

جينادي زيجانوف كبير اليساريين
بينما يعد كل من دوجين و بروكانوف كبار منظري الأوروأسيوية فإن زيجانوف يعد أحد أبرز النشطين فى الحركة الآوروأسيوية ، حيث استخدم زيجانوف الأوروأسيوية لتجديد الحزب الشيوعي وإعادة بعثه وقد نجح فى ذلك إلى حد بعيد وبصورة مدهشة ، حيث وفق زيجانوف فى جمع القوميين والأرثوزوكس المتدينين والماركسيين معاً، وحرم القوميين من حصد الأصوات الراديكالية على جانبي الحياة السياسية . ويتوقع أن يزيد ثقل الشيوعيين فى مجلس الدوما فى الانتخابات القادمة حيث يتفاقم السخط الشعبي مما يدفع المصوتين لاتخاذ موقف متشدد وبفضل استراتيجية زيجانوف فقد أدي كل ذلك إلى عودة الشيوعيين.