منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمعاهدات والمواثيق الدولية
#69793
أ- الدعوة في حريملاء والعيينة:

لقد أوجبت الظروف السياسية التي مر بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115ه - 1206ه) - في دعوته السلفية القائمة على الدعوة الى إخلاص التوحيد لله تعالى ومحاربة الشرك والبدع والانحرافات(1). أن تمر دعوته بعدة مراحل كان لها أكبر الأثر في تكوينها لحركة إصلاحية هامة، ليس في منطقة الجزيرة العربية فحسب، بل في العالم الاسلامي بأسره في عصره الحديث.
ويستطيع الباحث أن يتعرف على هذه المراحل عند تتبعه لحياة الشيخ بعد إظهار دعوته في كل من حريملاء ثم العيينة ثم الدرعية.
ففي حريملاء، وبعد رجوع الشيخ من رحلاته العلمية في الحجاز والعراق (البصرة) والأحساء(2)، أراد إظهار دعوته فوجد معارضة من أعداء الدعوة في حريملاء. فأمسك عن دعوته فترة من الزمن بأمر من والده الشيخ (عبدالوهاب بن سليمان بن علي) الذى يذكر ابن بشر أنه "وقع كلام بين الأب والابن(3)" دون تفصيل لهذا الكلام، وعلى أية حال فقد كان ذلك التوقف من الشيخ محمد بن عبدالوهاب فرصة لتفرغه نحو الدرس والتأليف، فألف كتاب التوحيد الذى ضمنه أساس دعوته ومبادئها. ومكث في حريملاء بعد وفاة أبيه، ثم قرر الانتقال منها إلى "العيينة" لعدم ملاءمة حريملاء لنشر دعوته ولانقسامها سياسياً على نفسها،(4) ولإيمان أمير العيينة (عثمان بن معمر) بالدعوة، فانتقل إلى العيينة مسقط رأسه، فرحب به أميرها (عثمان بن معمر) وفتح صدره للدعوة، واستمر الشيخ فترة في مرحلة الدعوة الى مبادئه بالحكمة والموعظة الحسنة. ولكن بعد تحمس ابن معمر للدعوة ووعده بنصرتها عملياً مهد ذلك لانتقال الشيخ بدعوته الى المرحلة العملية لتطبيق مبادئ الدعوة، وتمثل ذلك في أمور ثلاثة:


1- هدم القباب القائمة على القبور، مثل قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة.
وقد بدأ الشيخ بنفسه في هدم القبة ثم تبعه أصحابه فهدموها،(5) فكان ذلك درساً عملياً من الشيخ بأن هدمه للقبة دون أن يناله ضرر، يدل على أن تلك الأمور التي كان يحاربها لا تنفع ولا تضر.
2- قطع الأشجار التي يتبرك بها العامة مثل شجرة (الذيب) في العيينة قطعها الشيخ بنفسه ثم تبعه مؤيدوه(6).
3- رجم الزانية المحصنة بعد اعترافها بالزنا فأمر بها فرجمت بعد توفر شروط الرجم فيها. وهذا يدل على أن عمق تأثير الدعوة في نفس المجتمع حينذاك جعل هذه المرأة تقدم على الاعتراف الكامل بهذه الجريمة مع إدراكها للعقوبة الشديدة التي ستقام عليها(7).
ب- خروج الشيخ من العيينة إلى الدرعية:
لقد بهرت هذه الأعمال الناس في المجتمع النجدي، فمنهم من آمن بذلك وأقره، وقسم أنكره وحاربه وسعى إلى تكتيل القوى ضده، وقد وصل تأثير هؤلاء خارج نجد، حيث استطاعوا إقناع حاكم الأحساء (سليمان بن محمد بن عرير) من بني خالد بخطورة الشيخ ودعوته عليه وعلى حكمه، ولأن لحاكم الأحساء ما يشبه النفوذ السياسي على ابن معمر، مما جعله يكتب الى ابن معمر يأمره بالتخلص من الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهدده بقطع معونته المالية السنوية(8)، أو مصادرة أملاكه في الأحساء وقطع العلاقة التجارية ببلاده(9) كل ذلك جعل ابن معر يذعن لتهديد حاكم الأحساء، خصوصاً وأن الدعوة لم تكن قوية بحيث يعوض ابن معمر بهذه القوة ما يفقده من كسب مادى، لهذا أمر الشيخ بالخروج من العيينة إلى أي بلد يشاء فاختار الدرعية، فأرسل معه ابن معمر فرساناً يصحبون الشيخ حتى خروجه، يقول ابن بشر " سار الشيخ ومعه الفرسان حتى وصل الدرعية، ذكر لي أنه في طريقه لا يفتر لسانه من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه"(10) ثم ينفي ابن بشر ما كان قد ذكره في مسودة كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد) أن ابن معمر أمر فرسانه بقتل الشيخ في الطريق فيقول: "واعلم رحمك الله أني قد ذكرت في المبيضة الأولى أشياء نقلت لي عن عثمان بن معمر وفرسانه، أنه أمرهم بقتل الشيخ في الطريق وغير ذلك، ثم تحقق عندي أنه ليس لها أصل بالكلية فطرحتها من هذه المبيضة(11).
ج- عوامل اختيار الدرعية:
لقد كانت هناك عدة عوامل وراء اختيار الشيخ محمد بن عبدالوهاب الدرعية لتكون منزله الأخير:-
أولا: لقربه من العيينة.
ثانيا: لما يعرفه من سيرة حسنة لحاكمها الأمير محمد بن سعود.
ثالثا: استقلال صاحبها وعدم خضوعه لسيطرة خارجية(12).
رابعا: كانت قوة الدرعية آخذة في الازدياد. يدل على ذلك أنها تمكنت من الهجوم على العيينة عام 1139ه ومعاونة أمير الرياض (دهام بن دواس) في السيطرة على الأوضاع الداخلية في بلده عام 1152ه(13)، بل إن الدرعية عام 1133ه تمكنت من صد حملة حاكم الأحساء سعدون بن محمد عليها،(14) وبهذا فقد كانت علاقة أمراء الدرعية بزعماء بني خالد سيئة، وما دام زعيم بني خالد كان وراء إخراج الشيخ من العيينة فإن الشيخ محمد أصبح يشترك مع أمراء الدرعية في خصم واحد، ولهذا فمن المحتمل جداً أن يجد لديهم كل تأييد(15).
أما العامل الخامس: فهو من أهمها وأقواها تأثيراً، ذلك أن تأثير الدعوة قد وصل إلى الدرعية قبل فترة من وصول الشيخ إليها، فدخلت بعض الأسر في الدرعية في الدعوة واقتنعت بها، ومنها أسرة آل سويلم. بل إن الدعوة كانت معتنقة من قبل بعض أفراد من أسرة آل سعود حكام الدرعية، مثل ثنيان ومشاري ابني سعود أخوي الأمير وابنه عبدالعزيز بن محمد، بل يذكر ابن بشر أنه كان لزوجة الأمير محمد بن سعود(16) دور في التأثير على زوجها واقتناعه بقبول نصرة الشيخ ودعوته.
لقد كان تاريخ وصول الشيخ الى الدرعية عام 1157ه في أرجح الأقوال وهو رأي ابن غنام وابن بشر في النسخة الثانية من كتابه، وهي نسخة المتحف البريطاني في لندن، بينما يذكر في نسخته الأولى أن ذلك عام 1158ه(17) والتسلسل التاريخي للحوادث يؤيد أن ذلك كان عام 1157ه ولعله كان في الأيام الأخيرة من تلك السنة وذلك للجمع بين القولين.
د- اتفاق الدرعية وبنوده:
على أية حال فقد وصل الشيخ إلى الدرعية. ويرى آخرون أن مجيء الشيخ إلى الدرعية كان بدعوة من الأمير محمد بن سعود،(18) لكن المفهوم من رواية ابن غنام وابن بشر أن الشيخ وصل الى الدرعية دون علم أميرها محمد بن سعود، وأن الشيخ نزل في بيت آل سويلم، ودور أخوي الأمير وزوجته في التأثير على الأمير واقناعه باستقباله استقبالاً حسنا، بل إن الأمير ذهب إلى بيت آل سويلم حيث يقيم الشيخ، وهناك التقى الأمير والشيخ وحصل بينهما ما يعرف تاريخياً باتفاق الدرعية عام 1157-1744م. ونترك للمؤرخ ابن بشر تصوير أحداث هذا الاتفاق وبنوده حيث يقول "سار الأمير محمد بن سعود ودخل على الشيخ في بيت ابن سويلم، فرحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وبالعز والنعمة فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والقتال لبعضهم بعض، فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك. وجعل يشرح له ما يحل وما يحرم وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدعوة إلى التوحيد والقيام في نصره والقتال عليه. فلما شرح الله صدر محمد بن سعود لذلك وتقرر عنده، طلب من الشيخ المبايعة على ذلك فبايع الشيخ على ذلك وأن الدم بالدم والهدم بالهدم وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله، إلا أن محمد بن سعود شرط في مبايعته للشيخ ألا يتعرض فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذى كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم، فأجابه الشيخ على ذلك رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه، فكان الأمر كذلك ووسع الله عليهم في أسرع ما يكون(19)".
ه- آثار اتفاق الدرعية وتجددها:
وهكذا تم اتفاق الدرعية المشهور فكان بحق نقطة تحول هامة في تاريخ الدعوة وتاريخ نجد والجزيرة العربية دينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل وفي تاريخ اليقظة العربية والإسلامية الحديثة(20). وقد عده المؤرخون بداية تاريخ الدولة السعودية الأولى. بل بداية التاريخ السعودي وبالتالي بداية تاريخ المملكة العربية السعودية عام 1157ه-1744م. لقد بقي الشيخ في الدرعية سنتين يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة. ودبت الحركة والنشاط في الدرعية وبدأت الهجرة إليها من البلدان المجاورة - بما فيها العيينة - وتغير وجه الدرعية الثقافي والاقتصادي بدرجة كبيرة، حيث تكاثر الطلبة والمهاجرون إليها، وجدوا في طلب العلم على الشيخ محمد بن عبدالوهاب نهاراً والعمل ليلاً لينفقوا به على أنفسهم(21).
وأخذ الشيخ يرسل برسائله إلى أهل البلدان المجاورة ورؤساهم وعلمائهم يدعوهم إلى التوحيد، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من أبى وعارض بل قام بعض هؤلاء بالعدوان على الدعوة وأهلها وتمثل ذلك في هجوم دهام بن دواس أمير الرياض على (منفوحة) التابعة للدعوة(22) فأمر الشيخ أتباعه حينئذ بالجهاد دفاعاً عن النفس من ناحية، ونشراً للدعوة من ناحية أخرى فانتقلت الدعوة بذلك إلى مرحلة جديدة هى (مرحلة الجهاد) الذى به توحدت معظم الجزيرة تحت لواء (الدولة السعودية الأولى) فتغير حالها من الانقسام الى الوحدة ومن الانحراف والجهالة والعصيان إلى التوحيد والعلم والعباده، وكانت عاقبتها خيراً للإسلام والمسلمين في الدين والدنيا(23) حتى نهاية الدولة عام1233ه-1818م.
لقد أثمرت آثار اتفاق الدرعية تجدداً في التاريخ السعودي، فها هو الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود يعيد تأسيس الدولة السعودية من جديد ويقيم (الدولة السعودية الثانية) عام 1238ه-1823م. على أساس قوي من اتفاق الدرعية ونصرة الدعوة السلفية، وسارت تلك الدعوة على تلك السياسة حتى نهايتها عام 1309-1891. وهاهو الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود يعيد تأسيس الدولة السعودية الثالثة عام 1319-1902م. وتوحيد مناطقها باسم (المملكة العربية السعودية) على أساس متين من اتفاق الدرعية ونصرة دعوتها السلفية قولاً وعملاً وقلباً وقالباً سواء في سلوكه واعتقاده الشخصي أو في تطبيقه لمبادئها الإسلامية الحقة في أرجاء المملكة تطبيقاً عملياً، أو في الإشادة بها والرد على مخالفيها في خطبه وأحاديثه(24).
وسار أبناؤه الملوك من بعده (سعود ثم فيصل ثم خالد ثم فهد رحمهما الله ومن ثم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز) على هذا المنوال وتلك السياسة وعلى هذا التوجه السلفي، ولا زالت الحال كذلك ولله الحمد والمنة. فاللحمدلله الذي أنار طريق الحاظر لنا بأهل العلم والإصلاح في الماضي ...