منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#48914
كان واضحاً منذ فترة ليست بالقصيرة أن العلاقات السعودية-السورية تسير في منحى انحداري يحتاج أعجوبة لوقف تدهوره. وكان واضحاً أن نقاط الخلاف بين الدولتين حول بؤر التوتر الثلاث في المنطقة أي العراق ولبنان وفلسطين هي أكثر وأعمق من عناصر التلاقي. أما التقاطعات التي كانت تعوض سابقاً عن التطابق والتوافق فهي أيضاً تحولت إلى شقاق استحال على براغماتيي الطرفين التخفيف من فجواته.

ليس غريباً في واقع الأمر أن يخرج الخلاف السعودي-السوري إلى العلن، لكن ما كان غير مألوف هو خروج الدبلوماسية السعودية المتحفظة والمعقدة الحسابات عن أسلوبها الهادئ وردها بعنف غير متوقع على التعرض المباشر لها من قبل نائب الرئيس السوري فاروق الشرع واتهامها بالشلل.

في الخلاف السعودي-السوري أكثر من عامل جعل الرياض تقطع الأمل بإمكان التفاهم مع دمشق على المرحلة المقبلة. ولعل أبرز تلك العوامل هو الخيار النهائي الذي اتخذته دمشق بالتحالف الاستراتيجي مع طهران مع ما يستتبع ذلك من تعارض وتناقض مع المصالح السعودية والعربية سواء لجهة تطورات الوضع في العراق الذي يشهد تمدداً للنفوذ الإيراني عبر الشيعة أو لجهة إدخال الإيراني لاعباً على خط النار العربي الإسرائيلي عبر "حزب الله"، وداخل فلسطين عبر "حماس" التي لم تتردد في تنفيذ انقلاب قاده خالد مشعل من دمشق على سلطة محمود عباس في غزة، قبل أن يجف حبر الاتفاق الذي وضعت فيه المملكة كل ثقلها وهيبتها.

أما ثالثة الأثافي في عوامل التناقض فهو الوضع في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تتهم عائلة الحريري دمشق به، وما تلا ذلك من توتر سعودي-سوري تمثل في لقاء صاخب شهير بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد ثم في غضب سعودي شديد أخذ طابعاً شخصياً بعد خطاب الأسد إبان حرب يوليو الإسرائيلية-الحزب إلهية في العام 2006 والذي وصف فيه الرئيس السوري القادة العرب بـ "أشباه الرجال".

يأخذ المسؤولون السعوديون على دمشق عدم وفائها بالتزامات قطعتها عبر حوار مباشر أو عبر مسؤولين مصريين على لعب دور بناء في كل الملفات الخلافية. ويأخذون عليها تشجيع كل ما يتعارض مع المصالح السعودية وإفشال أي محاولة لإعادة بناء نظام عربي تؤخذ فيه مصالح كل اللاعبين في الإقليم بعين الاعتبار. ويبدو أن الرياض يئست من إمكان استعادة دمشق إلى الحضن العربي. فهي راهنت بعد اغتيال الحريري، ورغم الجرح الذي أصابها من جرائه، على تجديد المحور السعودي-السوري-المصري الذي صمد نحو ربع قرن رغم الاختبارات الصعبة التي مرت بها المنطقة، لكن رهانها وصل إلى النتيجة التي نبه إليها المصريون قبل المحاولة بقولهم لأحد المسؤولين السعوديين "ما فيش فايدة". ففي ذلك اليوم أبرز المصريون وثائق قالوا إنها تؤكد تعاون دمشق مع تنظيمات تزعزع استقرار العراق. وأبدوا قناعتهم بأن الرئيس بشار الأسد انضم نهائياً إلى الخيار الإيراني، وأن هذا التحالف بالنسبة إلى نظامه مصيري ولا فكاك منه.

عناصر عدة برزت في الأشهر القليلة الماضية جعلت السعودية تفقد القدرة على استمرار التمسك بشعرة معاوية. أولها انهيار "اتفاق مكة" بين الفلسطينيين وغزوة "حماس" في غزة. وثانيها ما تتحدث الرياض عنه من أن سورية باتت ممراً وقاعدة تدريب لسعوديين متطرفين من "القاعدة". وقد اعتقل بعض هؤلاء في لبنان وفي العراق وقد قتل آخرون في معارك "فتح الإسلام" ضد الجيش اللبناني أو ضد القوات العراقية والأمريكية في العراق.

ثالث العناصر الحاسمة كانت زيارة الرئيس أحمدي نجاد لدمشق وقيام الجبهة الإيرانية-السورية والتي تضم "حماس" و"حزب الله" بترسيخ محور يتعارض جوهرياً مع السياسة السعودية في المنطقة.

أما رابعها وربما أهمها فهو تأكد السعودية أن سورية لن تسهل انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان ولن تساعد على الاستقرار فيه ما دام سيف المحكمة الدولية مصلتاً فوق رأسها. هذه المحكمة التي ساعدت الرياض على الدفع لإنشائها من قبل مجلس الأمن والتي لن تقبل أن تساوم عليها باعتبارها أداة لإحقاق العدالة ومنع الاغتيال واستعادة السلام في لبنان وجزءاً من أوراق الضغط ورسم خطوط المصالح.

في ظل هذه التناقضات كانت الجلسة الأخيرة غير الموفقة لوزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة العربية، ثم تلاها غياب الرياض عن الاجتماع الدولي الإقليمي الذي عقد في دمشق وناقش الأوضاع الأمنية في العراق.

وفي الإطار العريض نفسه برزت حملة حلفاء النظام السوري في لبنان على دور المملكة ومسعاها لتأمين انتخاب رئيس جمهورية توافقي في لبنان هو حتماً ليس الجنرال ميشال عون الذي يبدو أنه الحصان الذي تراهن عليه دمشق لضرب قوى "14 آذار" ولتأمين تغطية مسيحية لـ " حزب الله " المتحالف استراتيجياً معها.

ليس انهيار آخر الجسور السعودية-السورية مجرد سجال إعلامي بين بلدين عربيين ينتهي بوقف الحملات وبزيارات لغسل القلوب. إنه عملياً انهيار لآخر الآمال بإعادة تركيب نظام عربي يضمن مناعة للعالم العربي في وجه كل التحديات: تحدي الحرب الأميركية على الإرهاب وتشعباتها، تحدي الإرهاب الداخلي وانعكاساته، تحدي الطموحات الإيرانية وحدودها، تحدي العنجهية الإسرائيلية واستمرار النزاع الفلسطيني، والأهم تحدي استقرار الدول العربية وقدرتها على التعايش مع كل التحديات.

فقدت سوريا بالنسبة إلى السعوديين القدرة على أن تكون عنصر استقرار. وهو سبب التعاون المديد على مدى ربع قرن. أما الباقي فتفاصيل تتجلى حيناً بمقاطعة اجتماع وأحياناً بهجمات كلامية يتخللها "كلام ناب وعدم اتزان" قالت الرياض بشكل غير متوقع إنه صدر عن فاروق الشرع الذي صار أكثر المتشددين في النظام السوري وأكثرهم دعوة للتحالف العضوي مع إيران بل لتقديم حال المواجهة في المنطقة على حال الركود والاستقرار.