منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#26822
العلاقات المصرية ـ الأمريكية ليست كلها فلسطينية بمعني أنها تتمحور حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي حتي ولو كانت القضية تحصل علي مكانة مركزية فيها‏.‏ فهناك بالإضافة إلي ذلك سلة كبيرة من المصالح الإقليمية المشتركة التي تشمل الحفاظ علي الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط‏,‏ ومواجهة كل أشكال القوي الراديكالية التي تغيرت ألوانها ومذاهبها وسياساتها خلال العقود الأربعة الماضية‏.‏ ولايقل عن ذلك كله أهمية دعم مصر باعتبارها حجر الزاوية في تحقيق هذه المصالح المشتركة بين الطرفين والممتدة منذ منتصف السبعينيات وحتي الآن‏,‏ وسواء كانت هذه العلاقة قد عرفت لحظات من الاقتراب الذي وصل إلي درجة الحميمية والتحالف‏,‏ أو لحظات أخري من الابتعاد التي وصلت إلي درجات من التوتر‏,‏ فإن كلا من واشنطن والقاهرة حافظتا دائما وأولا علي الالتزامات الأساسية التي اتفق عليها الطرفان في كل الأوقات‏,‏ وثانيا فإن بندول العلاقة بينهما عند ابتعاده سرعان ماتثبت الأيام الحاجة الماسة للبلد الآخر باعتباره شريكا لايمكن الاستغناء عنه‏.‏


ولاتخل وثيقة أمريكية في الواقع من الإشارة‏,‏ كما جاء في تقديم الكونجرس للمعونة إلي مصر في العام الحالي‏2009,‏ إلي أنها تمثل شريكا استراتيجيا مهما للولايات المتحدة في سعيها من أجل سلام الشرق الأوسط وجهود الاستقرار الأشمل في المنطقة‏.‏

وبالنسبة لمصر فإن خطابات رئيس الجمهورية وتصريحاته‏,‏ بالإضافة إلي الوثائق الرئيسية للحزب الوطني الديمقراطي المتعلقة بالسياسة الخارجية كثيرا ماتشير إلي هذه العلاقة المحورية بين الطرفين‏,‏ ولكن رغم هذه الأهمية التي توردها نخبة القرار في البلدين للعلاقة بينهما حتي في أحلك الأوقات‏,‏ فإن النخبة علي اتساعها الثقافي والسياسي كانت كثيرا ماتتشكك في جدوي العلاقة وتنظر إليها بقدر غير قليل من الهواجس التي تقلب العلاقة من كونها علاقة استراتيجية تقوم علي مصالح مشتركة عميقة‏,‏ إلي علاقة فيها من التناقضات ما يكفي لوضعها في مكانة الخصومة إن لم يكن العداء الصريح‏.‏ والحقيقة أن جزءا كبيرا من هذا الانقلاب كان راجعا دوما للصراع العربي ـ الإسرائيلي ومواقف الطرفين منه‏,‏ ولكنه بالإضافة إلي ذلك عاد إلي الاختلاف مابين قوة عالمية وأخري إقليمية‏,‏ وبين دولة عظمي تنتمي إلي العالم الصناعي المتقدم ودولة نامية تنتمي إلي العالم الثالث بكل مواريثه مع الاستعمار وأشكال أخري من الاستغلال والقهر‏.‏

ولكن أيا كانت الأسباب فإن العلاقات المصرية ـ الأمريكية المباشرة لم تلق أبدا الاهتمام والتقييم الكافي رغم أنها تشير إلي الأهمية المتزايدة لهذه العلاقات‏,‏ خاصة بالنسبة لمصر وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي‏.‏ وربما لايختلف كثير من المصريين علي الأهمية الكونية للولايات المتحدة خلال المرحلة الراهنة من تكوين النظام الدولي حتي ولو اختلفوا حول المدي الزمني الذي سوف تستمر فيه هذه المرحلة‏,‏ ولكنهم يختلفون أكثر علي مدي الفائدة التي تحصل عليها مصر من روابطها مع واشنطن‏,‏ وربما كان الذائع في هذه العلاقة ماقدمته الولايات المتحدة من معونات اقتصادية وعسكرية بلغت في مجموعها خلال العقود الماضية‏66,9‏ مليار دولار كان منها‏30,3‏ من المعونات الاقتصادية و‏36,6‏ من المعونات العسكرية‏.‏ هذه المعونة تعدت قيمتها المالية المباشرة بما ولدته من معونات غربية أخري إلي مصر من حلفاء الولايات المتحدة يصعب التحقق من قيمتها‏,‏ وما أوجدته من ثقة في الاقتصاد المصري لدي المؤسسات المالية العالمية بأشكالها المختلفة‏.‏ ولكن ربما كان الأهم من ذلك أنها ساهمت في عملية تحديث القوات المسلحة المصرية ورفع قدراتها من خلال الاحتكاك بمدارس عسكرية متقدمة ومتنوعة سواء من حيث التسليح أو التكنولوجيا أو التدريب‏.‏

ولكن رغم أهمية المعونات الأمريكية لمصر فإن قيمتها الاقتصادية سواء المطلقة أو النسبية آخذة في التراجع بسبب التآكل الجاري عليها من قبل الإدارة الأمريكية من ناحية‏,‏ وزيادة حجم الاقتصاد المصري وموارده من العملات الأجنبية من ناحية أخري بحيث يشكل ذلك مقدمة طبيعية لعلاقات صحية بين الطرفين تقوم علي المصالح المشتركة بأكثر من قيامها علي المنح والمنع الذي كان كثيرا مايشكل واحدا من مصادر الخلاف والتوتر‏.‏ ومن الناحية التجارية فإن الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأول لمصر بين دول العالم‏,‏ وبالنسبة للولايات المتحدة فإن مصر تمثل واحدة من أسواقها المهمة حيث تشغل المكانة‏52‏ بين شركائها التجاريين‏.‏ وتشير الإحصاءات المختلفة إلي تصاعد حجم التجارة بين البلدين‏,‏ حيث بلغت‏6,5‏ مليار دولار عام‏2006‏ و‏7,7‏ مليار دولار عام‏2007,‏ و‏8,4‏ مليار دولار عام‏2008.‏ وبشكل عام فإن نصيب التجارة المصرية مع الولايات المتحدة يمثل تقريبا ثلث تجارة مصر الخارجية مع العالم كله‏,‏ ويضاف إلي ذلك أنها تمثل الدولة الأولي من حيث حجم تحويلات العاملين في الخارج خلال الأعوام الماضية‏,‏ كما أنها تسهم في دخول مالية مصرية متنوعة تأتي من قناة السويس‏,‏

والتمويل من خلال المؤسسات المالية العالمية وغيرها من المصادر التي تجعل كلها الولايات المتحدة عاملا مهما في التأثير علي المصالح المصرية المادية المباشرة والمتعلقة كلها بالتنمية المصرية ورفع مستويات المعيشة للشعب المصري‏.‏

وربما كانت الظاهرة الجديدة في العلاقات الاقتصادية المصرية ـ الأمريكية هي تصاعد حركة الاستثمار الأمريكي في مصر خلال الأعوام الأخيرة بعد تباطؤ استمر خلال العقود الماضية واقتصار علي قطاع البترول وحده‏.‏ وطبقا لدراسة قيمة بعنوان برشلونة المشاركة بين ضفتي المتوسط قدمها السفير جمال بيومي خلال الملتقي المصري ـ الفرنسي الأول الذي نظمته مجموعة من مراكز الدراسات كان من بينها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية‏,‏ كان لافتا للنظر أن حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر عام‏2004‏ كان‏2164‏ مليون دولار بلغت الاستثمارات الأوروبية فيها‏246‏ والعربية‏127‏ بينما كانت الأمريكية‏1101‏ بنسبة‏50,8%‏ من إجمالي الاستثمارات‏,‏ وفي عام‏2005‏ بلغت الاستثمارات الأجنبية الكلية‏6716‏ مليون دولار كانت الأوروبية منها‏2135,‏ والعربية‏363,‏ والأمريكية‏3620‏ أو‏54%‏ تقريبا من إجمالي الاستثمارات‏,‏ وفي عام‏2006‏ كانت الاستثمارات الأجنبية الكلية‏10813‏ مليون دولار كانت الأوروبية منها‏4349,‏ والعربية‏3274,‏ والأمريكية‏3743‏ أو‏35%‏ تقريبا من إجمالي الاستثمارات‏,‏ وفي عام‏2007‏ بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية في مصر‏13997‏ مليون دولار كانت الأ
وروبية منها‏3567,‏ والعربية‏1874,‏ والأمريكية‏6700‏ أو‏48%‏ تقريبا من إجمالي الاستثمارات‏.‏

إن هذا التغير الجوهري من المعونة إلي الاستثمار‏,‏ ومن المنح إلي التجارة‏,‏ يعيد تشكيل العلاقات المصرية ـ الأمريكية من جديد علي أسس لاتجعلها رهينة عمليات الصعود والهبوط في عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية والتي تجعل البلدين رهينة أطراف أخري لها حساباتها ومصالحها المختلفة‏.‏ والحقيقة أن هذا الانقلاب يعيد التأكيد مرة أخري من الزاوية المصرية علي القيمة الجيو ـ اقتصادية التي طالما جري تجاهلها علي أساس أن مصر وعبقرية المكان فيها لا تزيد كثيرا عن القيمة الجيو سياسية والجيو إستراتيجية والتي تقايضهما مصر بحماية مصالحها الأمنية المباشرة‏,‏ فضلا عن عوائد اقتصادية مهمة‏.‏

مثل هذا التغير أيضا ربما يدفعنا دفعا إلي الإدراك داخل النخبة المصرية سواء بالقرب من صنع القرار‏,‏ أو داخل النخبة بشكلها العام في الحكم أو المعارضة‏,‏ أو حتي داخل الرأي العام المصري علي اتساعه إلي وجود دائرتين إضافيتين للدوائر التقليدية للسياسة الخارجية المصرية‏(‏ العربية والإسلامية والإفريقية‏)‏ هما الدائرتان الأمريكية والأوروبية حيث توجد المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة‏.‏ وليس معني ذلك استبدال دوائر بدوائر أخري‏,‏ أو وضع الغربيين مكان العرب والأفارقة والمسلمين‏,‏ إنما هو إدراك وقراءة دقيقة للحقائق الحاكمة بالفعل لعلاقات مصر الخارجية‏.‏

وإذا كنا قد أشرنا في مقال الأسبوع الماضي إلي وجود إشارات‏,‏ وعلامات‏,‏ علي وجود مرحلة جديدة من العلاقات المصرية ـ الأمريكية بسبب التغيرات الموجودة في توجهات إدارة الرئيس باراك أوباما إزاء مصر ومنطقة الشرق الأوسط وحتي العالم كله‏,‏ فربما آن الأوان لكي يمتد ذلك كله إلي العلاقات الثنائية المباشرة بين مصر والولايات المتحدة‏,‏ وضمن هذا الإطار فإن هناك حاجة للتخطيط المشترك الذي يرفع العلاقة استثمارا وتجارة إلي مستويات أعلي من خلال منطقة التجارة الحرة المشتركة بين البلدين‏,‏ وحاجة أكبر لقدر أعلي من الشفافية والمعرفة للرأي العام بما هو حادث بالفعل في العلاقات بين البلدين‏,‏ ودرجة أعلي من الواقعية تعطي للعلاقات الثنائية ماتستحقه من وزن في التفاعلات بينهما‏,‏ وأخيرا فإن كلا من واشنطن والقاهرة تحتاجان إلي إعطاء العلاقة بينهما الشرعية التي تستحقها لأنها رغم الاختلاف حققت لكليهما في النهاية من المصالح والفوائد مالم تحققه لهما علاقات خارجية كثيرة‏.‏

وعندما يسافر الرئيس حسني مبارك إلي واشنطن في‏26‏ مايو الحالي‏,‏ وعندما يأتي الرئيس باراك أوباما إلي مصر في الرابع من يونيو المقبل‏,‏ فإن الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ والحوار مع العالم الإسلامي‏,‏ وعبور فترة توتر وأزمات في العلاقات المصرية ـ الأمريكية خلال إدارة جورج بوش سوف تكون علي رأس جدول الأعمال‏.‏ ولكن الماضي مهما تكن مراراته لاينبغي له أن يتحكم في المستقبل الذي يقع بين يدي الشعبين المصري والأمريكي حيث توجد الفرص الحقيقية للتقدم والمنفعة المتبادلة‏.