منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
By سعود الصعنوني380
#65509
لمسلمين اليوم في أشد الحاجة إلى اتحاد الكلمة ووحدة الصف لحماية بلادهم من أطماع الطامعين وكيد الكائدين والقدوة بأسلافهم الذين ردوا كيد أعدائهم وحموا بلادهم من أطماعهم.
ففي القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) تدفقت على الشرق الإسلامي جموع من الأوربيين النصارى وشنت عليه حروباً عرفت في التاريخ بالحروب الصليبية نسبة إلى الصليب الذي اتخذه المحاربون شارة لهم.
والأسباب التي تذرع بها هؤلاء المعتدون هي تمكين الحجاج النصارى من الحج إلى بيت المقدس وحمايتهم من مضايقة المسلمين لهم وهى أسباب غير صحيحة لأن تعاليم الإسلام كفلت لأهل الأديان الأخرى الحرية التامة في مزاولة شعائر دينهم ونهت عن التعرض لهم بسوء ما داموا مسالمين ولا نظن أن مسلمي هذا العصر كانوا يجهلون ذلك.
وكان الذي أثار هذه الشائعات هو بطرس الناسك الذي حج إلى بيت المقدس وعز عليه أن يراه ملكاَ للمسلمين وهو المكان المقدس لدى النصارى وقد طاف بطرس الناسك جميع البلاد الأوربية وأخذ يحرض النصارى على تخليص بيت المقدس من يد المسلمين.
وفي أواخر سنة 463 هـ انهزم البيزنطيون أمام المسلمين في موقعة (ملاذ كرد) فاستنجد الإمبراطور البيزنطي بالبابا (إريان الثاني) بطريرك الكنيسة الغربية وقد صادف هذا الاستنجاد هوى من نفس البابا الذي كان يطمع في ضم الكنيسة الشرقية إلى الكنيسة الغربية فأقام أوربا وأقعدها وأثار تلك الضجة العالمية التي تعتبر من أهم أحداث التاريخ.
وفي العام التالي لهذا الاستنجاد ألقى البابا خطبة في مدينة (كلير منت) في الجنوب الشرقي لفرنسا حث فيها النصارى على أن يسلكوا سبيلهم إلى القبر المقدس ويأخذوه عنوة من ذلك الشعب الملعون ويخضعه لأنفسهم(1) .
ولقد أشعلت هذه الخطبة جذوة الحماسة في نفوس الجماهير النصرانية شريفهم وضعيفهم على السواء فهبوا عن بكرة أبيهم حتى بلغ عدد المتطوعين مائة وخمسين ألفاً من النورمانديين والفرنج ولم يكن الحماس الديني وحده هو الذي دفع هذه الجماهير إلى شن الغارة على الشرق الإسلامي بل إن كثيرا من الأمراء ومن بينهم ( بوهيمند )، خرجوا استجابة لأطماعهم في تكوين إمارات لهم في الشرق الأوسط كما كانت المصالح الاقتصادية هدف تجار البندقية وبيزه وجنوة.
وكان من بين تلك الجماهير أرقاء الأرض الذين وجدوا في التطوع لهذه الحروب فرصة للتخلص من أمراء الإقطاع وكذلك الفقراء الذين أملوا في أن يجدوا لهم مصدر رزق في الشرق والمجرمون الذين وجدوا في الحروب من أجل تخليص بيت المقدس تكفيراً عن ذنوبهم(2) .
تلاحقت الجيوش التي تكونت منها الحملة الصليبية الأولى في القسطنطينية ثم عبرت منها إلى آسيا الصغرى سنة 490 هـ واشتبكت بجيوش السلطان(قليج أرسلان ) السلجوقي عند مدينة (قونية) فهزمتها واستولت على المدينة ثم واصلت سيرها إلى مدينة (أسكي شهر)وفتحتها(3) .
ثم عبر الصليبيون جبال طوروس واتجهت فرقة منهم تحت قيادة ( بلدوين ) واستولت على (الرها) في أوائل سنة 491 هـ أما بقية الصليبيين فقد واصلوا سيرهم نحو الجنوب وضربوا الحصار على مدينة ( إنطاكية ) التي كان يحكمها أمير تركي منذ عهد ( ملكشاه ) يدعى ( ياغي سيان). وبعد تسعة أشهر تمكنوا من فتحها.
استراح الصليبيون فترة ثم اتجهوا إلى مدينة بيت المقدس التي كانت قد عادت إلى حكم الفاطميين منذ بضعة أشهر فقط ، وكان يحكمها من قِبل الخليفة الفاطمي( المستعلى بالله ) أمير يسمى(افتخار الدولة) تؤيده حامية لا تتجاوز ألف جندي. ومع ذلك صمد لحصار الصليبين نحو أربعين يوماً تمكنوا بعدها من فتح المدينة سنة 492 هـ وارتكبوا من ضروب الوحشية ما تقشعر منه الأبدان وتنكره الشرائع وقتلوا من سكانها سبعين ألفاً بغير ذنب.
أنشأ حماة الصليب. ثلاث إمارات في المشرق: إمارة الرها وأميرها ( بلدوين ) وامارة أنطاكية وأميرها ( بوهيمند ) وأمارة بيت المقدس وأميرها ( جود فري ). وقد تكونت من هذه الإمارات الثلاث المملكة اللاتينية في الشرق أختير ( جود فرى ) ملكاً لها ولقب ( بارون وحامى حمى القبر المقدس).
ولما كان لابد لتأييد مركز الصليبيين في الشام وتأمين طريقهم إلى أوروبا من احتلال مدن الساحل شرع جود فرى في احتلالها بمساعدة السفن الإيطالية التي بذل أصحابها المعونة ليجعلوا من هذه الثغور أسواقاً جديدة لتجارتهم. وكان معظم تلك الثغور تابعاً- للدولة الفاطمية. ومن بينها مدينة طرابلس فطمع الكونت (رايموند) في فتحها وحاصرها سنة 494 هـ ولكنه لم يتمكن من فتحها ومات قبل أن تتحقق أمنيته ولكن ابنه (برتراند) حقق هذه الأمنية في أواخر سنة 502 هـ حيث استولى على المدينة بمساعدة أسطول جنوي(4) . وبذلك تكونت إمارة صليبية رابعة تبعت بيت المقدس.
وكانت إمارة بيت المقدس وما يتبعها من الإمارات الثلاث: الرها وإنطاكية وطرابلس هي الإمارات اللاتينية الوحيدة التي قامت على أرض إسلامية لذلك كانت أملاك الصليبيين قاصرة على مساحة ضيقة من إقليم الجزيرة وبعض أجزاء الشام الشمالية والسهل الساحلي الضيق. أما المدن الداخلية كحلب وشيزر وحماه وحمص وبعلبك ودمشق فإنها لم تدخل في حوزة الصليبيين.
من المسئول عن هذه المأساة: إن المساحة التي اقتطعها الصليبيون من أرض المسلمين وأنشأوا عليها مملكتهم كان الجزء الشمالي منها تابعاً للدولة العباسية والجزء الجنوبي تابعاً للفاطميين. وكان مسرح نزاع على النفوذ والسيطرة بين الدولتين لعدة سنوات قبل مجيء الصليبين إليها.
أما العباسيون فإن دولتهم كان قد تجدد شبابها على يد سلاطين السلاجقة الثلاثة الأول: طغرل بك وألب أرسلان وملكشاه (447- 485) هـ ولكن خلفاءها لم يكم لهم من الأمر شيء وكان النفوذ والسلطان للسلاجقة فلما توفي السلطان ملكشاه الذي جاء الصليبيون إلى الشرق بعد موته بسنوات معدودة تنازع أبناؤه على السلطنة فضعف أمرهم وانشغلوا بالنزاع فيما بينهم واستغل الخلفاء هذا النزاع ليستعيدوا سلطتهم وشغلوا بذلك عما يجري في الشام من أحداث(5) . وتركوا الصليبيين يبنون لهم ملكاً في أحشاء العالم الإسلامي ويشيدونه ولم يفكروا في دعوة المسلمين إلى الجهاد ويخرجوا بأنفسهم على رأس المجاهدين ليصدوا هؤلاء المغيرين عن بلاد الإسلام.
ولو أن هؤلاء الخلفاء أعلنوا النفير العام وحاولوا إيقاظ شعور العالم الإسلامي وإشعال الحماس الديني في نفوس المسلمين- كما فعل البابوات في أوروبا- لأحرزوا بعض النجاح إن لم يحرزوه كله واستطاعوا أن يعطلوا سير الصليبيين إن لم يستطيعوا أن يردوهم على أعقابهم إلى أوروبا.
ولم يهتم السلاجقة كذلك بجهاد الصليبيين بل كانوا في شغل شاغل بالتنافس على كرسي السلطنة فيما بينهم ومراقبة الخلفاء حتى لا يتمكنوا من استرداد سلطانهم وهكذا شغل هؤلاء وهؤلاء بمصلحتهم الشخصية عن الواجب الديني الذي فرضه الله على المسلمين. وقد كان من الواجب على هؤلاء السلاطين الذين كانوا يحملون ألقاب ( غياث الدنيا والدين وحامى حمى المسلمين ) كان الواجب عليهم أن يعملوا بمقتضى ما منحوه من ألقاب وأن يوجهوا همتهم للدفاع عن بلاد الشام والجزيرة التي كانت موطئ أقدام الغزاة الصليبين وألا يتركوا عبء الدفاع عنها على كواهل أمرائها الضعاف الذين لم يكن لديهم من الجيوش والمعدات ما يمكنهم من صد هؤلاء المغيرين ويساعده على الإحتفاظ بما تحت أيديهم من الإمارات وحمايتها من أطماع الصليبين.
ومما يثير الدهشة أن وفداً من سكان بيت المقدس ذهب إلى بغداد بعد سقوط مدينتهم في يد الصليبيين يلتمس النجدة من أمير المؤمنين (المستظهر بالله 487- 512 هـ) فتأثر أهل بغداد لما حلّ بإخوانهم تأثراً عميقاً وحزنوا لما أصابهم حزناً شديداً ولكنهم لم يهبوا لنصرتهم . أما الخليفة فإنه أحال الوفد على السلطان بركياروق بن ملكشاه ولكن السلطان لم يقدر المسئولية ولم يحقق ما عقد عليه من أمل ويهب على رأس جيش لنجدتهم.
وهكذا تقاعس الخلفاء العباسيون والسلاطين السلاجقة عن الجهاد وحماية بلاد الإسلام حتى وطد الصليبيون أقدامهم في جزء غال منها وتطلب إجلاؤهم عنه مجهوداً كبيراً ووقتاً طويلاً من أبطال الإِسلام الذين كرسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله أمثال عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود وصلاح الدين يوسف بن أيوب ومن جاء بعدهم من الأيوبيين والمماليك.
وكان الخلفاء الفاطميون قد ضعف شأنهم في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وانتقلت السلطة من أيديهم إلى أيدي وزرائهم وكان يتربع على كرسي الوزارة في الوقت الذي غزا فيه الصليبيون بلاد الشام الوزير القدير الأفضل بن بدر الجمالي وكانت الدولة في عهده تبسط يدها على كثير من مدن الشام الساحلية مثل صور وعكا وعسقلان ويافا وغزة وغيرها، كما كانت تحتفظ بقوة برية وبحرية كبيرة ولكن هذا الوزير لم يتناس العداوة القديمة بين السلاجقة السنيين وبين الفاطميين الشيعة وظن أن فرسان الصليبيين يمكن أن يناصروه على أعدائه السلاجقة ولم يدرك أنهم أعداء الطرفين إلا عندما استولوا على بيت المقدس واشتبكوا معه في معركة طاحنة على مقربة من مدينة عسقلان بعد أن سقطت بيت المقدس في أيديهم بأيام وهزموه هزيمة منكرة(6) .
ولقد تحمس الأفضل لجهاد الصليبيين وأرسل إلى ميادين القتال أبرع قواده ولم يبخل حتى بأولاده غير أنه لم يحرز نصراً ذا قيمة عليهم وسقط في أيديهم ما كان في حوزة الفاطميين من مدن الشام مدينة تلو الأخرى حتى طمعوا في غزو مصر نفسها.
وهكذا تقع مسئولية ما حل بأهل البلاد التي اغتصبها الصليبيون من كوارث وما نزل بأهل البلاد التي هاجموها من مصائب على عاتق الخلفاء العباسيين الذين عاصروا تلك الحوادث وسلاطين السلاجقة الذين كانوا يديرون شئون دولتهم وعلى خلفاء الدولة الفاطمية الذين كانوا يجلسون على كرسي الخلافة في مصر في هذه الفترة والوزراء الذين حكموا باسمهم.
عصر المقاومة:
بعد مضي ربع قرن على تأسيس مملكة الصليبيين في الشرق ظهر زعيم إسلامي قوي هو عماد الدين زنكي أمير الموصل الذي استولى على إمارة حلب وحمل لواء الجهاد ضد الصليبين وتمكن من انتزاع إمارة الرها من أيديهم(7) .
ولما اشتد التنافس بين أمراء حلب وأمراء دمشق على السيطرة على السلطان الصغير أرسل شمس الدين بن المقدم إلى صلاح الدين يدعوه للقدوم من مصر إلى دمشق ليسلمها إليه وانتهز صلاح الدين هذه الفرصة وسار إلى دمشق وتسلمها سنة 570 هـ وأعلن أنه ليس خارجاً على الملك الصالح وأنه إنما جاء إلى الشام ليحافظ على ملكه(8) .
وفي سنة 577 هـ توفي الصالح إسماعيل ولم يترك وارثا للعرش وكان صلاح الدين بمصر فلما علم بوفاته اتجه إلى الشام فدانت له حلب وخضع لسلطانه أكثر مدن الموصل. وبذلك انتهت دولة الأتابكة في الشام التي كان قد أسسها عماد الدين زنكي سنة 522 وشيد بنيانها ابنه نور الدين محمود بعد أن حملت لواء الجهاد ضد الصليبين نحو نصف قرن حتى أنهكت قواهم وورثتها الدولة الأيوبية التي كانت ثمرة طيبة من ثمارها.
موقعة حطين:
لم تخل الفترة التي قضاها صلاح الدين في توحيد القوى الإِسلامية (572- 582 هـ) من حروب بينه وبين الصليبيين. وفي سنة 576 هـ عقدت هدنة بين صلاح الدين وبين (بلدوين الرابع) ملك بيت المقدس (ريموند) أمير طرابلس لمدة سنتين ولكن أرناط ( ريجينالد) أمير حصن الكرك الذي يتبع بيت المقدس لم يحترم تلك الهدنة ودأب على مهاجمة القوافل السائرة بين دمشق والقاهرة وفي السنة التالية لعقد الهدنة عزم على توجيه حملة إلى بلاد الحجاز ولكن عزّ الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين ونائبه على دمشق علم بذلك فأغار على حصن الكرك وشغل أرناط عن تنفيذ ما عزم عليه(9) .
وفي العام التالي لهذه الحادثة اتجه أرناط على رأس حملة بحرية إلى شواطئ الحجاز يريد غزو مكة والمدينة. وكان صلاح الدين بالموصل وقتئذ ونائبه في مصر أخوه العادل فأرسل العادلا أسطولاً التقى بأسطول الصليبيين شمال ينبع وهزمه هزيمة ساحقة وأسر كثيراً من بحارته وفر أرناط بمن بقي معه(10) .
وعلى الرغم من استنجاد (رايموند) الثالث أمير طرابلس بصلاح الدين ليساعده على تولى ملك بيت المقدس الذي تولاه ( جاى دى لوزينيان ) بمساعدة أرناط فإن صلاح الدين لم يشأ أن يتدخل في شئون الصليبيين الداخلية تمسكاً بالأخلاق الإسلامية التي تدعو إلى الوفاء بالعهد.
وفي سنة 582 هـ هاجم أرناط قافلة من الحجاج المسلمين كانت تعبر بلاده في طريقها إلى مكة ونهبها وأسر كثيراً من أفرادها فأرسل إليه صلاح الدين يطلب إطلاق سراح الأسرى فلم يفعل فغضب صلاح الدين واستعد للحرب ونذر أن يذبح أرناط بيده إن أظفره الله به(11) .
ولما علم الصليبيون باستعداد صلاح الدين لحربهم اجتمعوا في بلدة صفورية على مقربة من عكا ليدرسوا الموقف ويقرروا الخطة التي يسيرون عليها إذا هاجمهم صلاح الدين فأشارت الأقلية- وعلى رأسها أرناط- بمهاجمة صلاح الدين ولكن الأكثرية- وعلى رأسها جان دي لوزينيان- رأت أن يقف الصليبيون موقف الدفاع. غير أن أرناط أثر على الملك فانحاز إليه وترجحت كفة الداعين للهجوم وتقدم الجيش الصليبي وعسكر على تل قريب من قرية (حطين).
أما صلاح الدين فإنه فتح مدينة طبرية سنة 583 ولكن قلعتها لم تسلم ففك الحصار عنها واتجه نحو معسكر الجيش الصليبي وهاجمه هجوماً عنيفاً وأنزل بالصليبيين هزيمة ساحقة وقتل كثيراً منهم وأسر كثيراً من بينهم أرناط وجاي دي لوزينيان. وقتل السلطان أرناط بيده وفاء بنذره. ولما رأى ملك بيت المقدس ما حل بأرناط ارتعدت فرائصه ولكن صلاح الدين أمنه على حياته(12) .
أثر الموقعة:
أحرز صلاح الدين في موقعة( حطين) نصراً بيناً على الصليبيين فأصبح من السهل عليه أن يوالي انتصاراته عليهم بعد أن أباد معظم جيشهم في الموقعة فرجع إلى طبرية وشدد الحصار على قلعتها حتى سلمت ثم رحل إلى عكا وضرب الحصار عليها حتى فتحها واستنقذ منها أسرى المسلمين وكانوا زهاء أربعة آلاف. وخير أهلها المسيحيين بين الرحيل عنها بأموالهم وما يستطيعون حمله من أمتعتهم وبين الإِقامة بها على أن يدفعوا الجزية فاختار معظمهم الرحيل خوفاً من أن يغدر بهم صلاح الدين. وتسلم السلطان المدينة ثم أخضع معظم المدن الساحلية مثل قيسارية وحيفا ويافا وصيدا وغيرها(13) .
ثم حاصر السلطان مدينة عسقلان ووعد (جاي دي لوزينيان ) بإطلاق سراحه إن هو أقنع أهلها بالتسليم فسلموا على الشروط التي سلمت بها عكا من قبل وبرّ صلاح الدين بوعده لملك بيت المقدس فأطلق سراحه بعد سنة من تسليم عسقلان وبعد أن أخذ عليه عهداً ألا يشترك في حرب ضده ولكنه نقض العهد وحارب السلطان بعد ذلك(14) .
وكان صلاح الدين قد قضى على زهرة الجيش الصليبي في موقعة حطين واحتل المدن الساحلية القريبة من بيت المقدس وسيطر على الطرق المؤدية إليها وبذلك تهيأت الفرصة لفتحها فتقدم إليها وحاصرها أسبوعاً فاستسلمت حاميتها وطلب أهلها الصلح فأجابهم صلاح الدين وأمهل من أراد الجلاء من أهلها أربعين يوماً وشرط عليهم أن يدفعوا قبل رحيلهم فدية مقدارها عشرة دنانير عن الرجل وخمسة عن المرأة وديناران عن الطفل ذكراًَ كان أو أنثى فمن دفع سمح له بالخروج ومن لم يدفع أخذ أسيراًَ وأعفى من الفدية الشيوخ والعجزة والفقراء.
وتم تسليم المدينة في أواخر رجب سنة 583 هـ وخلّص صلاح الدين من كان فيها من أسرى المسلمين وكانوا زهاء ثلاثة آلاف(15) .
وكان سقوط مدينة بيت المقدس عاصمة المملكة الصليبية في يد صلاح الدين إيذاناً بجلائهم عن الشرق ورجوعهم من حيث أتوا وقد سر المسلمون سروراً عظيماً لهذا النصر المبين.
ولما دخل صلاح الدين المدينة حافظ على ما بها من آثار وعمر ما تخرب منها في أثناء الحصار ثم أرسل أخاه العادل لفتح حصن الكرك ففتحه سنة 584 هـ وتوجه هو على رأس بقية الجيش إلى مدينة صور وحاصرها وكانت قد تجمعت بها فلول النازحين من البلاد المفتوحة واحتموا بها فاستعصت عليه لأن الإمدادات كانت تأتيها عن طريق البحر ففك عنها الحصار(16) .
الحملة الصليبية المعروفة (بالثالثة) سنة 587 هـ:
لقد أثار سقوط بيت المقدس في يد صلاح الدين أوروبا فتناسى ملوكها ما بينهم من عداوات وقاد الجيوش للثأر من المسلمين كل من (فردريك بربروس) إمبراطور ألمانيا ورتشارد الأول (قلب الأسد) ملك إنجلترا وفيليب أغسطس ملك فرنسا. وكان هؤلاء الملوك الثلاثة أقوى ملوك أوروبا الغربية وكانت حملتهم أكثر الحملات الصليبية عدداً. وكان فردريك أول من اتجه إلى الشرق سالكاً الطريق البري عبر أوروبا الشرقية وآسيا الصغرى ولكنه غرق عندما كان يعبر أحد الأنهار في كيليكيا فعاد معظم جيشه إلى ألمانيا(17) .
أما ملكا فرنسا وإنجلترا فإنهما ركبا البحر من مرسيليا ووصلا بجيوشهما إلى جزيرة صقلية واستراحا بها فترة ثم غادراها دون أن يتفقا على خطة معينة فتوجه فيليب أغسطس نحو عكا مباشرة وعرج ورتشارد على جزيرة قبرص واحتلها ليتخذها قاعدة لأسطوله يهاجم منها فلسطين.
اتفق الصليبيون الذين كانوا بالشام مع ملك فرنسا ومن وصل إليهم من بقايا جيش إمبراطور ألمانيا على حصار عكا ونقض جاي ذي لوزينيان ملك بيت المقدس عهده لصلاح الدين عندما فك أسره وحاصر المدينة سنة 586 هـ وفى اليوم التالي لحصارها وصل صلاح الدين لإنقاذها وضرب خيامه في مواجهة العدو واشتدت المعارك براًَ وبحراًَ بين المهاجمين والمدافعين. وبعد فترة وصل رتشارد بجيشه ففرح الصليبيون بقدومه وقوي جانبهم وقد استبسلت حامية المدينة في الدفاع عنها وكانت أوامر صلاح الدين تصل إلى الحامية بواسطة السباحين وحمام الزاجل(18) . وقد استمر الحصار إلى سنة 587 هـ وساعد الفرنج على مداومته سيطرتهم على البحر.
ولما اشتد الضيق بحامية المدينة وعجز صلاح الدين عن إرغام الفرنج على فك الحصار عنها سلمت على أن يفتدى أهلها أنفسهم بمائتي ألف دينار وألف وستمائة أسير من أسرى الفرنج من بينهم مائة شخص طلب فداؤهم بالذات وأن يرد المسلمون صليب الصلبوت الذي كانوا قد أخذوه عندما فتحوا مدينة بيت المقدس(19) .
أخذ صلاح الدين يجمع المال ليفتدي حامية عكا ولما انقضى شهر ولم يدفع الملك المبلغ المتفق عليه أمر رتشارد بقتل ألفين وسبعمائة من أسرى المسلمين ولم يكن كريماً في معاملته للأسرى المسلمين كما فعل صلاح الدين بعد فتحه لبيت المقدس مع الأسرى الفرنج حيث أطلق آلافاً منهم عجزوا عن افتداء أنفسهم(20) .
وقد أصبحت عكا بعد أن استردها الصليبيون أهم مركز لدولة الفرنجة في الشرق وحلت محل بيت المقدس في الزعامة على المدن الصليبية الأخرى. وكان من المحتمل أن يكسب الصليبيون انتصارات أخرى مهمة على المسلمين ولكن سرعان ما دب دبيب الشقاق بينهم ورجع ملك فرنسا إلى بلاده وبقي (رتشارد) واستولى على مدينتي أرسوف ويافا وعزم على استرداد بيت المقدس فوجه صلاح الدين همته إلى تحصين المدينة والدفاع عنها ورأى أنه من الخير الاحتفاظ بالمدن الداخلية ريثما تتاح له فرصة تكوين أسطول بحري كبير يحمي به المدن الساحلية.
صلح الرملة:
كان رتشارد شديد الرغبة في فتح بيت المقدس ولكنه لم يكن واثقاً من الظفر بأمنيته ففكر في حيلة تحقق له بعض ما يتمناه واقترح أن يزوج أخته من العادل أخي صلاح الدين على أن يحكم الاثنان بيت المقدس ولكن هذا الاقتراح رفضه المسيحيون والمسلمون على السواء(21).
ثم حدثت بعض المعارك بين جيش رتشارد وصلاح الدين وكان رتشارد وصلاح الدين يتبادلان الهدايا والمكاتبات رغم الحرب الدائرة بينهما(22) .
ولما سئم كل من الطرفين الحرب دخلا ثانية في مفاوضات انتهت بعقد صلح الرملة سنة 588هـ على شروط أهمها ما يلي :
1- أن تخرب مدينة عسقلاة التي كانت قد وقعت في أيدي الصليبيين وكان بقاء هذه المدينة محصنة خطراً على بيت المقدس لأنها مفتاحه .
2- أن يستولى الصليبيون على المدن الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوباً وأن تبقى المدن الساحلية الواقعة جنوب يافا في أيدي المسلمين .
3-أن يمكن المسيحيون من الحج إلى بيت المقدس وألا يتعرض لهم المسلمون بأذى .
هذا كل ما تمخضت عن الحملة الصليبية المعروفة (الثالثة). يقول المؤرخ الإنجليزي المعروف (فيشير)معلقاً على فشل هذه الحملة ومن هذه النتيجة الضئيلة تتضح شناعة الخاتمة التي حلت بما عقد على تلك الحملة من آمال كما تتضح فداحة الدليل على عجز أوروبا عن توحيد المسيحية الغربية وتوجيهها نحو هدف عام(23) .
الأيوبيون والمماليك يواصلون جهاد الصليبيين:-
لم يعمر صلاح الدين طويلاً بعد صلح الرملة بل وافته منيته في صفر سنة 589 هـ ودفن بدمشق وتوارثت أسرته حكم الإمبراطورية التي أنشأها وحملت لواء الجهاد ضد الصليبين وصدت كل ما وجهوه إلى الشام ومصر من هجوم وكان آخر أبطالهم المعظم توران شاه بن السلطان الصالح أيوب الذي أظهر بطولة نادرة في حربه مع لويس التاسع ملك فرنسا وتغلب عليه وأسره مع كثير من أمراء دولته وجنده وقتل منهم سبعة آلاف في المعركة(24) .
وكان السلطان الصالح أيوب قد أكثر من شراء المماليك ورقاهم إلى أعلى رتب الجيش وكانوا أطوع له من بنانه وأكثر الناس ولاءً له وقد أبلوا بلاءً حسناً في محاربة الصليبين وكانوا من أقوى العناصر التي ساعدت على هزيمتهم فقوي مركزهم وطمعوا في انتزاع الملك من الأيوبيين بعد موته فلما أراد ابنه توران شاه أن يفرض عليهم نفوذه وسيطرته قتلوه بعد بضعة عشر يوماً من انتصاره على الصليبيين وهو ما يزال في أرض المعركة وقبل أن يعود إلى القاهرة(25) .
وبعد قتل السلطان توران شاه نادى المماليك بشجرة الدر أم ولد السلطان نجم الدين أيوب سلطانة على مصر وما يتبعها من بلاد الشام ويعدها أكثر المؤرخين آخر سلاطين الدولة الأيوبية لأنها زوجة الصالح أيوب.
ولما علم الخليفة العباسي المعتصم بالله بسلطنة الشجرة الدر أنكر ذلك إنكاراً شديداً(26) ، فرأت أن بقاءها في السلطنة غير ممكن فتزوجت من معز الدين أيبك التركماني أحد أمراء المماليك وتنازلت له عن السلطنة وبذلك انتقل الملك من الأيوبيين إلى المماليك. وقد واصل المماليك الجهاد ضد الصليبين ففتح الظاهر بيبرس (658-676هـ) كثيراً من مدنهم وأهمها قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا وأنطاكية وفتح المنصور قلاوون (679- 689 هـ) طرابلس وعزم على حصار عكا ولكن المنية عاجلته(27) . وخلفه ابنه الأشرف خليل (689- 693 هـ) فحاصرها نحو شهر حتى فتحها سنة 690 هـ. وكانت عكا آخر معقل للصليبيين في بلاد الشام فلما تم فتحها سلم ما بقي من أيديهم من المدن في ظرف شهرين دون مقاومة وقضى على دولتهم القضاء الأخيرة(28) .
وهكذا واصل المسلمون الجهاد حتى استردوا ما اغتصبه الصليبيون من بلادهم ولم يهنوا امتثالاً لقول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(1) وواصلوا جهادهم واثقين بوعد الله للمجاهدين في سبيله بالنصر حيث يقول جلّ شأنه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(29) .
فلعل المسلمين أن يقتدوا بأسلافهم ويُوحدوا جهودهم ليخلصوا بلادهم من الصهاينة كما فعل أسلافهم من قبل مع الصليبيين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(30) .