منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#66434
" أزمة مالي "بين اليورانيوم والنفط :



هل كان الجسد الأفريقي في حاجة إلي المزيد من الجراح المفتوحة حتى تأتي أزمة مالي مع كل تداعياتها واستحقاقاتها لتزيد من آلام القارة السمراء التى ما فتت تلتقط الأنفاس من حروب الاستعمار العسكري الرسمي لتتحول إلي ساحة للقتال تحت أغطية ومسميات عدة متباينة؟ لعل ما جري في مالي مؤخراً كان الداعي لهذا التساؤل والأمر يلقي بعلامة استفهام أولية عند القارئ لجهة ما هي أبعاد تلك الأزمة بادئ ذي بدء، ومن ثم يمكن للمحلل أن يرصد أو يستشرف ما ورائيات ما يجري هناك.
البداية كانت لها صلة وثيقة بذاك الذي جري في ليبيا، فمع سقوط نظام العقيد القذافي في ليبيا، تحتم على المئات من المسلحين الطوارق المعروفين باسم "حركة تحرير أزواد" والذين كان القذافي يستعين بهم ضمن صفوف كتائبه المسلحة المختلفة، العودة إلي شمال مالي، وقد وقع على أثر عودتهم اشتباكات بينهم وبين الجيش المالي النظامي، تعرض فيها الأخير لهجمات شرسة وتلقي هزائم قوية عدة مرات متابعة مما دعا الجيش المالي لأن يطلب من حكومته المزيد من المدد لمواجهة "أزواد" لاسيما وأن الآخرين دخلوا في تحالف جديد مع "حركة أنصار الدين الإسلامية" التى تتفق معهم في التوجهات الراديكالية.
غير أن عدم استجابة الحكومة المالية لطلبات الجيش المالي والهزائم المتتالية التى تعرض لها دعت العسكريين للقيام بانقلاب في باماكو بتاريخ 22 مارس 2012 تمت فيه الإطاحة بالرئيس المالي الذي رفض دعم العسكر من قبل.
على أن المثير في الأمر أن التحالف بين حركة "تحرير أزواد" وحركة أنصار الدين الإسلامية، لم يدم طويلا، إذ نشبت الخلافات سريعا بينهم وحدثت معارك أدت في النهاية إلي سيطرة الحركة الأخيرة بجانب عدة حركات إسلامية أصولية أخرى بسطت هيمنتها على شمال مالي.
لاحقا طالبت حركة أنصار الدين الإسلامية ومن معها من الحركات الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل سلمي كامل في شمال مالي وبالفعل بدأوا ذلك ومن هنا بدأت التساؤلات تثار في الملأ الغربي هل نحن أمام أفغانستان ثانية في قلب إفريقيا؟
ثم كان التدخل الفرنسي الرسمي وقد بررته باريس بضرورة وقف تقدم المتمردين الإسلاميين وتلبية طلب رسمي من الحكومة المالية، وهو ما حظي بتزكية من الأمم المتحدة، رغم المنتقدين الذين يرون في القرار الفرنسي مظهرا من مظاهر الاستعمار الجديد.
يحق لنا أن نتساءل لماذا هذا التدخل الفرنسي الذي واجهته برودة شديدة في التعاطف من قبل الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة إذ لم يتخذ الاتحاد الأوربي قرارا بإرسال قوات عسكرية إلي مالي بل تعهد بمساعدات محدودة لا تتعدي 12 مليون يورو؟
الجواب يعود بنا إلي إشكالية المواجهة الغربية للإرهاب حول العالم والتى لم تبارح مكانها منذ الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001، وعند فرنسا أن التدخل العسكري على ذاك النحو ليس إلا خطة استباقية لمنع إرهاب المتمردين في غرب أفريقيا إلي خطر مباشر يهدد أوربا.
هذا الأمر أشارت إليه "كاترين سولد" من الجمعية الإلمانية للسياسة الخارجية في تصريح آخير لها" أن فرنسا تخشي أن تتحول مالي إلي معقل ومركز تكوين للإرهاب الإسلامي في حال سقوط مالي في يد الجهاديين ",.
والشاهد أن العديد من الأصوات الفرنسية تبرر هذا التدخل العسكري إنطلاقا من أن فرنسا باتت بالفعل مستهدفة وبشكل متزايد من الجماعات الإرهابية في المنطقة فعلي سبيل المثال ومنذ 2010 يحتجز متشدون إسلاميون أربعة رهائن فرنسيين كانوا يعملون لدى شركة الطاقة "آريفا" في مالي. كما أن تنظيم القاعدة في المنطقة هدد بمزيد من الاختطافات وحتى الضربات الإرهابية داخل فرنسا أو ضد الجالية الفرنسية في مالي والتى يقدر عددها بخمسة ألاف فرد.
هل يكمن سر تدخل فرنسا في مالي في كلمة "آريفا" وما وراءها من نفط ويورانيوم بنوع خاص؟
حكما يمكن أن تكون هناك أبعاد متعددة لمثل هذا التدخل ودون التقليل من خطر الجماعات المتشددة التى يجب مواجهتها بشكل دولي وليس أحاديا، فإن فرنسا سارعت بخوض الحرب للدفاع عن نفوذها الاستراتيجي فيما يسمي "إفريقيا الفرنسية" وخاصة الدفاع عن مصادر اليورانيوم بسبب اقتراب الخطر من النيجر، وهو حديث أشار إليه بعض الساسة الفرنسيين المحسوبين على جناح حزب الخضر في فرنسا، وكانوا أول من ربط طرح قضية اليورانيوم بالتدخل العسكري الفرنسي في مالي خوفا من سقوط النيجر التى تشكل أهم مصادر اليورانيوم في العالم وتستغله فرنسا دون باقي الدول.
والثابت أنه رغم وجود اتفاقية للتعاون بين فرنسا ومالي لمواجهة حالات مماثلة، وأن فرنسا تدخلت بطلب شرعي ورسمي من الحكومة المالية للمساعدة في وقف المتمردين الإسلاميين نحو العاصمة باماكو إلا أن ما جري يستدعي كثير من التداعيات التى لا تتوقف نتائجها على الحال بل تمتد ولاشك للاستقبال.. ماذا عن ذلك؟
أول الأمر يمكننا أن نشير إلي وجود اتجاه لتخليق أزمات من نوع خطير في أفريقيا، أزمات تتعلق بحروب إمبريالية غربية في القارة الأفريقية، على مقياس ومن عينة التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان، والصومال من قبل، ولاشك أن تدخلا أمريكيا حادث وسيحدث بقوة في أفريقيا لاحقا، وهو أمر سيؤدي إلي اختلال حالة الأمن والسلم في جزء هام من العالم.
هذه المدركات أشار إليها رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي "جان بينغ" في كلمته الافتتاحية لاجتماع مجلس السلم والأمن للاتحاد الأفريقي عندما قال "أن الأزمة الحالية في مالي تعد من أخطر الأزمات التى تواجهها قارتنا، وأن استمرارها بشكل خطراً حقيقيا على ديمومة الدولة المالية والاستقرار والأمن الإقليمي.
والأمر الثاني في سلسلة تداعيات التدخل العسكري الفرنسي في مالي يتصل بفكرة صراع الحضارات والأديان ونقل ساحتها إلي موقع بكر في العالم هو أفريقيا، بل ويجعل من دول القارة السمراء مجالا خصبا لمواجهات بين جماعات مسلحة ذات مسحة أصولية وبين الحكومات العالمية وفي المقدمة منها فرنسا المدعومة سراً لا جهراً حتى الساعة من الولايات المتحدة الأمريكية.. كيف ذلك؟
من المعروف أنه ومنذ إنشاء قيادة القوات المسلحة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) في 2008، نشر الأمريكيون حوالي خمسة آلاف عنصر وطائرات من دون طيار وطائرات استطلاع وأقاموا محطات تنصت في كل أنحاء أفريقيا بما في ذلك منطقة الساحل.
وفي هذا السياق فإن فرنسا تستفيد من المعلومات التى تؤمنها الطائرات من دون طيار والأقمار الاصطناعية الأمريكية، بالإضافة إلي قدراتها الخاصة في مجال الاستخبارات الضرورية اللازمة لنجاح العملية، والمعروف أيضا أنه ومنذ زمن بعيد تقوم أجهزة الاستخبارات العسكرية والمدنية الفرنسية بعمليات تبادل ثنائي للمعلومات البشرية والتقنية وتنسج علاقات قوية أنما سرية مع نظيراتها الأمريكية والأوربية.
هل التعاون الأمريكي الأوربي في مالي مرشح للمزيد من التصاعد وربما سيقود إلي عمليات مشابهة في عدد من دول أفريقيا في الأشهر القليلة المقبلة في سياق خطة منهجية موضوعية لها أهدافها وأجندتها؟
الحقيقة أن هناك أدراكا مهما بدأ يسود في الأوساط السياسية والاستخبارية الغربية وأن كان يتردد همسا هذه الأيام لكن حكما سيرتفع الصوت عما قريب.
الإدراك يذهب إلي أن واشنطن تحديدا وبوصفها القطب المنفرد بمقدرات العالم، قد أخطأت بشكل كبير في تشجيع حركة أو حركات الربيع العربي والتى قادت إلي صحوة أسلامية في دول شمال أفريقيا، تونس، ليبيا، مصر، والجزائر يتواجد بها بالفعل تيار إسلامي أصولي عريض، ولهذا فإنه في ضوء المخاوف القاتلة ـ في ذهن الغربيين على الأقل ـ المترتبة على هذه الصحوة، والتى يمكن أن تكون نواة لفكرة الخلافة، في مبتدأها الجغرافي واللوجستي، فإنه بات ضروريا ولازما على القوى القطبية حول العالم أن تفصل شمال إفريقيا الإسلامي العروبي، عن الجزء الأوسط ومن ثم الجنوبي من دول أفريقيا وأن صنع حاجزاًُ بشريا من دول وحدود وسدود تقف حائلا في مواجهة انتشار تلك الأفكار والجماعات الأصولية الإسلامية هناك، ولهذا فإن التدخل ربما لن يتوقف عند حدود مالي فقط بل يتجاوزها إلي غيرها من الدول الأفريقية، حيث باتت العودة إلي فكرة شد الأطراف الاستخبارية التى عرفها العالم إبان المواجهة الشيوعية الغربية في ستينات القرن في أفريقيا تحديدا.. هل من خلاصة لهذا الجزئية؟
بدون اختصار مخل، يقودنا المشهد إلي التنبؤ وربما التوقع بالمزيد من التدخلات العسكرية الغربية والتى ستنزع سلام القارة السمراء أمنياً.. ما الذي سيترتب على هذا الوضع من جهة أخري؟
حكما أن أبعاداً اقتصادية سيئة ستلقي بظلالها على المشهد الأفريقي وربما الشرق أوسطي برمته من جراء ما يجري في مالي، فقد أعتبر مسئول رفيع في صندوق النقد الدولي أن النزاع في مالي الذي أمتد مؤخراً عبر عملية احتجاز للرهائن في منشأة للغاز في الجزائر، يمثل "مصدر هشاشة لاقتصاد المنطقة". وقد أعتبر مسئول منطقة الشرق وآسيا الوسطي في الصندوق "مسعود أحمد" أنه من دون شك ما يجري في مالي سيؤثر سلبا على بلدان شمال أفريقيا ومنطقة الساحل وهي الأكثر عرضة للتأثير بالنزاع الدائرين القوات المالية والفرنسية من جهة والمتمردين الإسلاميين من جهة ثانية.
على أنه بجانب توازنات المال والاقتصاد وبين إرادة السيطرة على الساحل الغني والرغبة في استنزاف خبرات شمال أفريقيا الملئ بالنفط والثروات الطبيعية يبقي السؤال هل تعيد التطورات العسكرية في مالي ترتيب توازنات منطقة الساحل الأفريقي والمغرب العربي؟
الشاهد أنه منذ فترة طويلة والحديث عن وجود جماعات إرهابية أو جهادية في منطقة الساحل الأفريقي حتى أن البعض أطلق عليها لفظة "ساحل ستان" ورغم توالي التقارير والتحذيرات الإقليمية والغربية من تنامي الأنشطة الإرهابية في هذا المجال الصحراوي الواسع، لم تسفر المساعي الإقليمية لمواجهة الأرهاب داخلها عن نتائج تذكر، وعليه في هذا السياق يكون التدخل الفرنسي في مالي خلخلة لتوازن هش ساهمت الحسابات السياسية لعدد من دول المنطقة وخلافاتها في استمراره، ومع ما يوفره ذلك من استقواء للمجموعات المسلحة.
وفي السياق نفسه يمكن فهم الموقفين الجزائري والموريتاني بخصوص حرب مالي باعتبارها مواقف ساعية إلي الحفاظ على هذا التوازن وتحاشي أي صراع مع المجموعات الجهادية المسلحة في الساحل.
ومما لاشك فيه أن ما يجري في مالي وفي غيرها من دول أفريقيا يطرح حقيقية مؤلمة وهي فشل الدول الأفريقية منذ خلاصها من الاستعمار، أو على الأقل عدد بالغ منها حتى لا يكون التعميم خطيئة، في قيام دولتها الحديثة وليست الحداثية، تلك التى تستوعب كل الأطياف والأطراف السياسية والفكرية والإيديولوجية في ثوب وطني يذوب فيه الجميع دون تمايز أو انفصال، ومن خلال إشراك الجميع في سلطة البلاد، وقيام حياة برلمانية سليمة، والفشل هنا ينعكس في بروز جماعات مهمشة تسعي إلي المشاركة في السلطة مع سيطرة العسكريين على عدد من الدول ورفضهم تسليم السلطة إلي حكومة مدنية، ومن هنا وكما جري في مالي يتم اللجوء عادة إلي أطراف خارجية مسلحة لديها من القوة العسكرية ما يكفل في الحال تغيير المشهد على الأرض، لكن في الاستقبال سيزداد الاحتقان، وما يجري على الأراضي الأفغانية خير شاهد على ذلك رغم ما تعرضت له طالبان من عنف أمريكي مسلح.
يؤلم المرء أن تبقي أفريقيا دائرة ملتهبة وأن تفتح في الجسد الأفريقي جراح ساخنة وغائرة جديدة، في الوقت الذي كان يتوجب عليها أن تسعي في سبيل التنمية والديمقراطية والحرية لخير شعوبها.









« منقول » ...