صفحة 1 من 1

مساعدات دولية أم سياسات براجماتية ؟

مرسل: الخميس نوفمبر 28, 2013 7:49 am
بواسطة رائد الحربي ٣٢
مساعدات دولية أم سياسات براجماتية ؟


مع الاشراقات الأولي للعام الثالث من العقد الثاني في القرن الحادي والعشرين تجد البشرية نفسها أمام استحقاقات سياسية، وأخلاقية جديدة، لاسيما وأن هناك مخاض جديد يجري من حولنا في محاولة لبلورة نظام ما بعد النظام العالمي الجديد الذي بشر به الرئيس الأمريكي جورج بوش ألآب في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي، وغداة انهيار الاتحاد السوفيتي وهو نظام لم يقدر له أن يستمر طويلا وبالأدق لم تكن له معالم واضحة سياسيا أو اقتصاديا وربما عسكرياً.
ومع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة والتحرك شرقا من أجل الحد من تصاعد النفوذ الصيني والروسي في المحيط الهادئ من جهة ولتفعيل فكرة القرن الأمريكي بامتياز بحسب رؤية المحافظين الجدد، بدأ وكان هناك إعداد ما للمسرح الدولي، وفي القلب منه الشرق الأوسط والعالم العربي، والذي عرف منذ عامين تحديدا ظاهرة ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي وإن كان الآخرون يرون أنه شتاء إسلامي.
والشاهد أننا غير معنيين في هذا السياق بتحديد هوية ذاك الذي جرى ويجرى طوال العامين الماضين، فالقضية قطعا أعرض وأوسع من أن يحاط بحقائقها الآن، وإن كان ما يقال اليوم همسا في المخادع قطعا سينادي به غداً من فوق السطوح.
ولعل ما يهمنا هنا هو الحدود الفاصلة بين التدخلات الدولية في الدول التى شهدت ظاهرة الربيع العربي، وبين المساعدات الدولية التى تقدمها أوربا والولايات المتحدة لتلك الدول والتى تكاد من وجهة نظر البعض تصبح تدخلا سافراً ومشروطا في حياة وأعمال البشر في تلك الدول.
خذ إليك هذا المثال، من مصر، فغداة الحديث عن الدستور المصري الذي أنقسم المصريون من حوله بدأ وكأن هناك شروط مسبقة من بعض المنظمات الدولية والدول الاوربية تربط حصول مصر على قروض أو مساعدات مالية وبين مواد ذلك الدستور، بل أن هناك دولاً بعينها لم تكتف بتجميد أي مساعدات كانت مقررة سلفا لمصر، بل تجاوزت الأمر إلي طلب ديونها التى لها على مصر، وذهبت دول أخري إلي وقف النظر في مطالبات مصر القضائية الخاصة بأموال بعض رجالات النظام السابق والتى تم تهريبها إلي الخارج.. هل ما نراه تدخلات دولية في شئون داخلية للدول أم مساعدات إنسانية وإنمائية؟
الشاهد أن هناك بالفعل حالة من الضبابية حول سياسة الدعم الدولي التى تنتهجها الهيئات والمؤسسات الدولية والدول الكبري، ذات الوفر الاقتصادي والتى تستغله في خدمة مصالحها السياسية والاستراتيجية حول العالم.
والثابت أن هذا التداخل قد شغل تفكير عدة مراكز بحثية حول العالم ومنها مركز بروكنجز الذي قدم لنا مؤخراً دراسة شيقةعن هذا الموضوع بالتعاون مع برنامج العلاقة الأمريكية بالعالم الإسلامي، وقد قام على التقرير كل من سلمان شيخ وشادي حميد، والأول هو مدير مركز بروكنجز الدوحة وزميل في مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط، والثاني مدير الأبحاث لدى مركز بروكنجز الدوحة.. ماذا عن ذلك البرنامج وهذا المركز؟
هو برنامج بحثي رئيس تابع لمركز سابان لسياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، ويقوم المشروع بإجراء بحوث سياسية عالية الجودة، وتنظيم فعاليات ونشاط لكبار الشخصيات من صناع السياسات وقادة الرأي لمناقشة أهم المواضيع التى تتعلق بالعلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
أما معهد بروكنجز الدوحة فيقدم أبحاث سياسية مستقلة وعالية الجودة ذات تأثير في منطقة الشرق الأوسط.
فيما الورقة البحثية الدراسية فعنوانها " بين التدخل والمساعدة: سياسة الدعم الدولي في مصر وتونس وليبيا".. ماذا عن أهم ما ورد فيها؟
يلفت النظر أول الأمر وقبل الدخول في لجة فض الاشتباك بين فكرة المساعدة وإشكالية التدخل أن هناك حالة من التشاؤم لا تزال تحلق في الأجواء بالنسبة للدول الثلاث محل البحث، أي تونس ومصر وليبيا، ذلك أنها لم تعش بعد نهضة الربيع العربي المأمولة، لاسيما بعد أن وجد مواطني تلك الدول بونا شاسعا بين ما انتظروه حلما وأملا وما رأوه واقعا وعملاً.
يقر التقرير بأن خطر التحولات الفاشلة خطرا واقعيا. ويحتم هذا الخطر على المجتمع الدولي القيام بدور أكثر أهمية. ولا تزال الإجابات حتى هنا إجابات محيرة فقد أصبح دور الأطراف الفاعلة في دعم التحولات عبر المساعدات الخارجية ودعم منظمات المجتمع المدني والمساعدات الفنية بمثابة مانع للصواعق يستخدم عند الجدل في مصر، وأدي هذا الدور إلي توترات غير مسبوقة بين واشنطن والقاهرة.
يرشح من واقع الحال علامة استفهام :" هل المساعدات الدولية تساعد على إعادة التئام الجروح والكسور في جسد الدول التى أنهكتها التظاهرات والاعتصامات أم تعمق الشروخ التى يخشى المرء أن تتحول إلي فوالق تقود لاحقا إلي احتراب أهلي وطائفي ومذهبي؟
بحسب الدراسة التى بين أيدينا فقد وصلت القومية وكره الأجانب إلي أعلي المستويات على الإطلاق في مصر مما خلق جوا من الانقسام بين الأحزاب المتعددة، اليسارية والليبرالية والإسلامية على حد سواء، والتى اتهمت بعضها البعض بقبول تمويل ودعم أجنبي.. هل سيستمر هذا المشهد؟
نعم يتوقع أن يستمر هذا الاتجاه أما السبب وراء ذلك فيرجع إلي أن الدول العربية وبحسب بروكنجز ـ وهو ما يخالفه كثيرون ـ قد أصبحت أكثر ديمقراطية من ذي قبل، وأن الحكومات ومعارضيها يستخدمون المشاعر القومية للتأثير على الناخبين وجذبهم وتجعل مثل هذه الأجواء من الصعب على الولايات المتحدة والقوي الغربية الأخرى دعم تحولات البلدان العربية على نحو ظاهر، وما يبعث على السخرية هنا أن هذا يحدث في حين تحتاج هذه البلدان للمساعدة الاقتصادية والسياسية أكثر من أي وقت مضي.
ولعل المثير في قراءة هذه الورقة البحثية هو أنها تقدم لنا انعكاسا للثنائية الأمريكية المعهودة في سياساتها وتصرفاتها مع العالم الخارجي، أي الازدواجية الأمريكية المعهودة، فعلي سبيل المثال وفيما يخص المساعدات لمصر نري أن ازدواجية واضحة، فالرئيس أوباما وفي أيلول سبتمبر الماضي وصف مصر بأنها دولة ليست حليفة وليست عدوة للولايات المتحدة الأمريكية.
من هنا أنبري له البعض مثل البروفيسور "روبرت ساتلوف" المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بسؤال "إذا كانت مصر على هذا النحو أي ليست حليف ولا عدو فلماذا تطلب إدارتك مساعدات مالية تتجاوز الأربعمائة وخمسين مليون دولار كمساعدات طارئة لمصر"؟
ويزداد العجب من الازدواجية الأمريكية التى تحدد خطوط الطول والعرض بين التدخل والمساعدة عندما نري إدارة أوباما تسعي لتزويد المؤسسة العسكرية المصرية بصفقة طائرات حديثة من طراز "أف 16" وفي الوقت نفسه تعرقل لجان المساعدات الخارجية المختصة في مجلس الشيوخ تقديم المساعدات الطارئة لمصر، بسبب ما تراه صعود للمد الإسلامي وعدم احترام الأقليات، وتضييق مساحة الحريات وما الى ذلك من مبررات وذرائع أمريكية معهودة.
هل دعم المؤسسة العسكرية المصرية أمر يصب في خانة المصالح الاستراتيجية الأمريكية؟
ذلك كذلك بالفعل، ولكن في الوقت نفسه فإن الانعكاسات السلبية لتعطيل قرض صندوق النقد الدولي الذي تحتاجه القاهرة اليوم، إضافة إلي المساعدات المالية الأمريكية الطارئة جميعها تختصم لدى الشارع المصري من رصيد أي إيجابية لفكرة المساعدة الخارجية الأمريكية والأوربية على حد سواء واعتبارها أداة تدخل لا شك فيه لتوجيه دفه الأحداث كما تريد واشنطن.
والشاهد وبحسب الورقة البحثية التى نحن بصددها أن هناك ترابطا ما بين التحديات ذات الصلة بشروط تقديم المساعدات وبين تحديات الانتعاش الاقتصادي، وفي حين أن المتحدثين العرب انتقدوا الولايات المتحدة لتدخلها في شئون بلادهم من خلال برنامج المساعدات الاقتصادية بها، فأنهم انتقدوها كذلك لعدم تقديمها المزيد من المساعدات الاقتصادية.
واليوم وبعد نحو عامين من ثورات الربيع العربي، تقول "دانيا جرينفليد" من المجلس الأطلس أنه رغم أطلاق وعود عديدة من الرئيس باراك اوباما ومن وزير الخارجية هيلاري كلينتون فإنه لم يتم تنفيذ شئ قط".
هل كانت ثورات الربيع العربي مدخلا جهنميا للأيادي الأجنبية لإدارة شئون المنطقة وتوجيهها حسب مصالحها العليا لا كما يجب ويقتضي الصالح الوطني في تونس ومصر وليبيا؟
السؤال من عينة ألاسئلة التى تطرحها فكرة المؤامرة، والأصل أن التاريخ ليس مؤامرة، لكن في كل الأحوال تبقي المؤامرة كامنة في ثنايا التاريخ وتحولاته الاجتماعية.
الأمر إذن يستدعي نظرة سريعة على اقتصاديات البلدان الثلاثة التى تكافح من أجل النمو، وتشكل الانكماشات الاقتصادية التى شهدها كل بلد من هذه البلدان، والتى حدثت جزئيا بسبب مخاوف المستثمرين والسياح، تهديدا مستمرا لمسار هذه التحولات ففي مصر أنخفض معدل النمو من 7.5% عام 2009 ليصل إلي ما يزيد قليلا عن 1% في عام 2011، في حين تقلصت الاحتياطيات الدولية من 36 مليار دولار أمريكي إلي 16 مليار دولار أمريكي.
وفي تونس عاني الاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على الاستثمار الأجنبي والسياحة بصورة مماثلة، فانكمش نموه إلي 1.8% في عام 2011، في حين أرتفع معدل البطالة ارتفاعا شديدا فوصل إلي 19% بعد أن كانت نسبته 14%.
أما في ليبيا فالتدخل بشكل مغاير، ففي عام 2012 ترجم تعافي صناعتها الهيدروكربونية إلي إيردات ووصلت إلي 54.9 مليار دولار أمريكي ولهذا فإن ليبيا لا تحتاج مساعدات مالية، لكن التدخل فيها يأتي من خلال حاجتها الحقيقية إلي الخبرة الفنية والاستثمارات الكثيفة في البنية التحتية، للدولة بشكل عام ولقطاع النفط بنوع خاص، لاسيما وأن البلد قد شهد عقودا هوت خلالها البنية التحتية المؤسسية كما يؤكد العديد من الاقتصاديون حول العالم، ليس هذا فحسب، فالداعم الأجنبي الخارجي يعلم تمام العلم أن ليبيا ستحتاج إلي التركيز على تنويع اقتصادها بحيث لا يقتصر على قطاع النفط والغاز الذي لا يوفر إلا عددا محدوداً من الوظائف، ويساعدها ذلك في معالجة معدل البطالة الذي يزيد عن 30% بين خريجي الجامعات ولهذا يقول قائل داخل ليبيا "أننا لا نريد مساعدات أو منح، أننا نريد شراكات مناسبة، نريد اكتساب المهارات بينما تريد الشركات الدولية الربح"... هل هذا هو بيت القصيد أي أن حكومات العالم ومؤسساته المالية تريد الهيمنة والسيطرة الاقتصادية، التى تطوع إرادة صاحب القرار السياسي من جهة وتمهد لتحقيق مصالحها السياسية الاستراتيجية من جانب آخر، أما الشركات العالمية والتى باتت الشريك الفاعل والناجز في اتخاذ قرارات السلم والحرب حول العالم فلا تسعي إلا وراء الربح السريع وتعزيز قيمة أصولها وأسهمها في البورصات العالمية؟
تخلص الدراسة القيمة التى بين أيدينا إلي نتيجة مهمة للغاية ستحكم المشهد بين فكرة المساعدات وإشكالية التدخل في العقد الحالي على الأقل، وتتمحور حول اعتراف مسئوولي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي بوجود تحرك متزايد نحو زيادة الشروط ولكن التحدي سيكون في التنفيذ، نظراً للسياسات المختلفة لانعكاسات فكرة التدخل، لاسيما وأن جعل المساعدات مشروطة من المرجح أن يثير رد فعل عنيف للقومين.
يؤلم الأمر أشد الإيلام أن تكون بعض الأقطار العربية لقمة سائغة من جديد في فم الأجنبي، والأكثر إيلاما أن خطوط وحظوظ التعاون الاقتصادي العربي تتبخر في الهواء .







« منقول » ...