منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#66724
لا خلاف على أن خصائص كل منظور معرفي تنعكس فى منظومة مفاهيمه الأساسية والتأسيسية وفي نسق العلاقة بين هذه
المفاهيم. وإن كثيرًا من المفاهيم المحورية في حقل العلاقات الدولية لا يمكن أن يتناولها الباحث فرادى أو منبتة الصلة عن شجرة عائلتها وخريطة نسبها. ومن ذلك أنه لا يمكن استيعاب مفهوم مثل "الجهاد" الذي حظى بالكثير من الاهتمام عبر مسيرة الحضارة والتاريخ الإسلامي، ولا مفهوم "كالقوة" الذي صار مركزيًا في النسق المعرفي الغربي والعلوم الاجتماعية المنبثقة عنه، وله حضوره في الرؤية الإسلامية، لا يصح تناول أي من هذين المفهومين بانفصال عن مفهوم مثل "الدعوة". فالوصل بين هذه الثلاثية في منظومة دلالاتها أولى وأجدر أن يحقق الفهم العميق والواسع لأبعادها المختلفة. وفيما يلى قدر من التفصيل لهذه الفرضية:
أ- الدعوة:
إن الأساس الشرعي للعلاقات الدولية في الإسلام - وفق أحد الاتجاهات الفقهية - هو "الدعوة"، كما أن المدخل القيمي لدراسة هذه العلاقات يوضح أيضًا كيف أن الدعوة هي أساس العلاقات. ويقدم إسهام كل من د. أحمد عبد الونيس، ود. سيف الدين عبد التفاح على التوالي (ضمن مشروع العلاقات الدولية في الإسلام) شرحًا وافيا على التوالي لكل من الأساس الشرعي لتأسيس الدعوة كأصل للعلاقات من ناحية، والمدخل القيمي من ناحية أخرى. وإذا كانت مناقشة أدلة وأسانيد الاتجاهات الفقهية الكبرى قد قادت إلى اجتهاد يتبنى هذا الاتجاه القائل بالدعوة كأساس للعلاقات(1)، فإن تشغيل مدخل القيم السباعي (رؤية عقدية، حقائق شرعية، قيم تأسيسية وفرعية، أمة فاعلة، حضارة عامرة، سنن قاضية، مقاصد حافظة) قد بيّن أيضًا عددًا من الأمور المكملة التي يمكن إجمالها على النحو التالي(2):
الدعوة هي عملية ممتدة وجهادية تتعلق بالفرد والأمة، بالداخل والخارج، بالسلم والحرب، وتتأسس على رؤية توحيدية راسخة. فالرؤية العقدية القائمة على قيمة التوحيد والتي تحمل رؤى فرعية ومتكاملة حول الإنسان والكون والحياة، في سياق مفاهيم مثل الأمانة والتكليف والعمارة والاستخلاف، هذه العقيدة لا تؤسس العلاقة بين البشر ضمن حالة استثنائية وهي الحرب، أو حالة السلم المؤدية إلى فعل الاسترخاء وعدم الفاعلية والقعود عن معاني الأمانة والرسالة والخيرية. إن السلم الكامل والحرب الدائمة والشاملة ليست سوى أشكال وأساليب حدية على متصل تتفاوت عليه الأحوال والأشكال.
ولهذا فوفقًا للمدخل السباعي للقيم المشار إليه - كإطار مرجعي لمشروع العلاقات الدولية فى الإسلام- فليست الحرب فقط أو السلم فقط هى أصل العلاقة الدولية مع غير المسلمين أو محركها، فلا الفطرة تقبل أن يظل المسلمون في حالة حرب تامة أو فوضى دائمة، أو أن يظلوا في حالة سلام تامة يحتملون ما يحيق بهم من ظلم أو عدوان. ولهذا فإن التاريخ يبين لنا كيف أن الحرب فقط لم تكن أداة العلاقات الوحيدة مع الآخر في ظل القوة الإسلامية(3). وبناء عليه تصبح "الدعوة" هي أساس العلاقة، لأن غاية هذه العلاقة ليست إقصاء الآخر أو استبعاده أو القضاء عليه، ولكن الدعوة من أجل إبلاغ رسالة الإسلام العالمية من جانب "أمة الدعوة" في مواجهة "أمة الإجابة".
وبناء عليه أيضًا يمكن إزالة الضبابية التى أحاطت بمفهوم الجهاد – باعتباره حالة قتالية بالأساس - ومن ثم علاج تحيزات الخطابات التى تتحدث عن الإسلام بوصفه إما سلامًا أو حربًا لا غير.
بعبارة أخرى فإن الظرف التاريخي وحالة عناصر القوة يحددان متى تكون الحرب ومتى يكون السلام استثمارًا فاعلاً، حتى تصبح الحركة الحضارية ملتزمة وواعية وقادرة على أن تحقق لكل ظرف أهدافه في ظل شروطه، وهي الحركة التي تجعل من الدعوة عملية تسندها عناصر القوة والإعداد لها، وتجعل من الجهاد قيمة وآلية فى نفس الوقت. ومن ثم فهى تحدد أيضًا مفهوم القوة: من حيث طبيعة مصادر القوة، نمط توزيعها، غاياتها وآثارها. كيف؟
ب- القوة:
مفهوم القوة - من حيث طبيعة مصادرها وهياكل توزيعها وأنماط تفاعلاتها وقضاياها- يقع في صميم دراسة المنظورات الغربية الكبرى، سواء في تعاقبها على سيادة مجال الدراسة أو في جدالاتها مع بعضها البعض. ذلك لأن القوة مفهوم محوري ومركزي في علم العلاقات الدولية وفي علم السياسة الغربي بصفة عامة. وإذا كانت درجة هذه المركزية والمحورية قد اهتزت مع عملية المراجعة من الداخل إلا أنه يظل مفهومًا مفتاحًا في المنظورات الغربية. فلقد وقع في صميم المنظور الواقعي خلال مرحلة سيادته وهيمنته على دراسة العلاقات الدولية(4)، ثم وقع في صميم منظور التعددية والاعتماد المتبادل وعبر القومية وفي جدالها مع الواقعية خلال مرحلة ما بعد السلوكية(5)، وهو يقع الآن في صميم مرحلة العولمة أو الكونية أو عصر المعلومات(6). وفي هذا السياق تبرز المقارنة بين التحرك من أولوية مفهوم "القوة العسكرية" إلى أولوية مفهوم "القوة الاقتصادية" إلى أولوية مفهوم "قوة المعرفة والمعلوماتية"، وما اقترن بهذا الحراك من رؤى حول أنماط العلاقات وأدواتها، وحول التطور في موازين القوى العالمية بين القوى القائدة في النظام الدولي الراهن (منذ بداية القطبية الثنائية وحتى انهيارها وما بعده)(7).
وهذه التغيرات فى مفهوم القوة والجدالات حوله، تبين مدى عدم الثبات النظرى استجابة للتغيرات المستمرة فى الواقع الدولى، كما تبين مدى الاستقطابات – مرة أخرى- بين الثنائيات المتصلة بعناصر القوة ومصادرها وتجلياتها: عسكرية أم اقتصادية أم قيمية ثقافية..، وأخيرًا تبين ارتباط التنظير العلمي بالقوى الغربية المهيمنة عالميًا وكيفية التوظيف لخدمة دوائر مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية على التوالى، تدعيمًا وإحكامًا لنطاق هيمنتها على كافة المستويات. ومن ثم فإن إعادة بناء مفهوم القوة يمثل مجالاً أساسيًا لإسهام منظورات حضارية أخرى.
هذا ولقد قدم مدخل القيم لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام محاولة لإعادة بناء مفهوم القوة في التقاليد الفكرية الغربية بروافدها المختلفة(8). فهي - وإن تنوعت حول بعض التفاصيل - إلا أنها تعكس إجمالاً الملامح الكبرى للنسق المعرفي الغربي السائد (الوضعى - المادى) وإن شهدت عمليات مراجعة داخلية تحاول رد الاعتبار للقيم كما سبق التوضيح.
ولهذا تنطلق محاولة إعادة البناء هذه - التي اجتهد حولها أ. د. سيف الدين عبد الفتاح - من انتقاد جملة الاستنادات الفلسفية الكبرى التي تتحرك ضمنها عناصر المفاهيم الغربية للقوة. هذه الاستنادات هي:
- إعلاء العناصر المادية في القوة، الفهم الدارويني لطبيعة التطور بحيث صار "الأصلح هو الأقوى" في تجلياته وحركته المادية.
- عبادة القوة ضمن فلسفة الحادية حركت كل عناصرها "موت الإله".
- فصل القيم السياسية عن القيم الأخلاقية (في معظم الأحيان، وإن اعترفت بعض الروافد بالأخلاق في السياسة فهي تحيطها بشروط مراعاة المصالح القومية أو الاعتبارات الأيديولوجية).
- القوة غاية في حد ذاتها لدرجة جعلت من القوة القيمة العليا وقيمة التأسيس.
- تكريس سياسات الأمر الواقع التي تحقق مصالح القوى المهيمنة، مغلَّفة بجملة من الشعارات اللازمة لإضفاء الشرعية، بحيث أضحى الحفاظ على الأمر الواقع - بكل خلله ومظالمه- يعني ضمن ما يعني الاستقرار والأمن والسلم. ولذا يتم تسويغ الحركة وتفسيرها ضمن حركة شرعية ممارسة القوة طالما اتفقت مع عناصر الرؤية الكلية للأقوى ماديا، وإسقاط الشرعية عن ممارسة القوة إذا مورست من طرف أضعف يتحدى مفهوم الأقوى عن الاستقرار والأمن والسلم.
بعبارة أخرى، فإن هذه الاسنادات الفلسفية تعني حتمية القوة باسم الواقعية والرشادة، وتعني إقرارا لعلاقات التبعية بحيث لا يتصور الانفكاك منها، وتعني فرض أجندة بحثية لا تبرز خصوصيات مفهوم المصلحة وتهمل حقيقة وجوهر مبادئ وسياسات مثل "الدعوة من أجل السلام والتعايش وثقافة التسامح".
ومقارنة بهذه الاستنادات الفلسفية وعواقبها، فإن بناء مفهوم إسلامي للقوة يجب أن يقوم على ما يلي:
- القوة حقيقة استخلافية تحرك الفعل الحضاري العمراني فهي ليست قوة طغيان ولكن عمران، وهي لا تعني الوهن والهوان بل هي فعل مأمور به (نموذج الانتفاضة الفلسطينية، ومقاومة حزب الله فى لبنان).
- ولذا فإن هذا المفهوم للقوة قد يفرض إعادة تعريف مفهوم السياسة ذاته، بحيث يصبح هو القيام على الأمر بما يصلحه، وتكون القوة هنا عناصر إصلاح وعمران، والسياسة بناء لعمران، وليس - كما في المفهوم الغربي- مجرد توازن واستقرار في ظل تكريس الواقع. والعمران نسق حضارى ومجال معرفى وفكرى إسلامى يتخطى حدود الفقه التقليدى ويتجاوزها فى رؤيته للعالم التى يستند إليها، ولذا فهو يقدم بديلاً حضاريًا للتقسيم الفقهى التقليدى للمعمورة إلى دار سلم ودار حرب.
- ومن ثم فإن مفهوم القوة يتحرك ضمن منظومة منفتحة على عدد من المفاهيم مثل: الحق، والعدل، والبناء (وليس الصراع، وتوازن القوى، وتوازن المصالح)
- القوة - وفق هذا التصور- هي وسيلة، هي مقدمة الواجب. والواجب هنا هو الحق والعدل. ولذا فإن القوة لا تعني الإكراه بل هي حركة استخلاف ليست مستقلة عن حركة الفعل القيمي أو فاعليته.
- القوة ليست عناصر مادية فقط، فعلى أهمية هذه العناصر القصوى إلا أن هناك أيضًا عناصر معنوية تضفي على معاني القوة معاني الإرادة والإعداد والقدرة.
ج- الجهاد
بدون التوقف بالتفصيل عند المدرستين الفقهيتين التى ترى احداهما أن الجهاد هو قتال وهجوم، أو الأخرى التى ترى أن الجهاد هو سلمي ودفاعي، وبدون التوقف أيضًا عند أسباب اختلافهما، سواء الراجعة إلى قواعد أصول الفقه (وبالأخص قاعدة النسخ) أو إلى طبيعة السياق التاريخى الذى برزت فيه كل منهما (حيث برزت وسادت الأولى فى ظل عصر القوة والفتوح، فى حين برزت الثانية بدرجة أكبر فى ظل عصر التراجع والدفاع)، فيكفى القول أن هاتين المدرستين فى تفسير الجهاد تعكسان الاختلاف حول أصل العلاقات بين المسلمين وغيرهم: حرب هي أم سلام(9).
وانطلاقًا من موضع الجهاد في منظومة "الدعوة – القوة"، وعلى عكس الفهم والاستخدام الشائع للجهاد لدى الغربيين، أى باعتباره حربًا عدوانية، يمكن القول أن هناك اتجاهًا ثالثًا فى التفسير، تتلخص مقولاته فى الآتي(10):
• الجهاد هو بذل المسلم أقصى الجهد لخدمة الإسلام، ولا يمكن جعله مرادفًا للحرب فقط، سواء دفاعية أو هجومية. كذلك من الخطأ المرادفة بينه وبين المفهوم الغربى "للحرب المقدسة".
• • تأسيس العلاقات على الحرب أو السلام يعكس سوء فهم، فهى تقوم على الدعوة التى تحتاج للجهاد لنشرها.
• • الجهاد - كمبدأ أو قيمة إسلامية أساسية - لا يستبعد وقوع الصراع المسلح، ولا يفرض السلام كبديل وحيد فى كل المواقف.
ولذا من الضرورى الوعي بدلالاته المختلفة وفقًا لاختلاف الحالات. لذا فإن البحث فى متى ولماذا وكيف يتم استخدام القوة المسلحة أو الأساليب السلمية، يعد أمرًا حيويًا، آخذين فى الاعتبار قواعد القتال فى الإسلام من ناحية، والتحديات المحيطة بالمسلمين من ناحية أخرى. بعبارة أخرى لا يجب إسقاط أي من الحرب أو السلام لحساب الآخر عند تعريف الجهاد، ففى هذه الحالة يكون تعريفًا اختزاليًا. أما التعريف الكلى الشامل فهو يرى أن للجهاد أشكالاً وأساليبًا متنوعة، لكل منها منطقه ومبرراته فى ظل ظروف محددة، ويعكس هذا التعريف التكامل بين معانى القرآن الخاصة بالعلاقة مع الآخر فى ظل القيم والسنن والأخلاق فى القرآن. ولذا فوفق هذا المفهوم فإن الجهاد عملية أدواتها الحرب والسلام من أجل الدعوة.
• ومفهوم الجهاد على هذا النحو - إنما يقوم على إدراك واقعى قيمى: فهو يفسح المجال أمام مواقف وحالات وسياقات مختلفة تواجهها شعوب الأمة (قوة أو ضعفًا) وتجعل من الجهاد حركة لتصحيح العلاقات غير العادلة أو غير المتكافئة سواء سلميًا أو عسكريًا.
• • وبناء عليه، يمكن القول أن المنطق الغائب عن خطابات الحرب أو خطابات السلام فى الإسلام هو المنطق الذى يدحض ويكسر الحلقة المفرغة للاستقطاب الثنائى الحاد بين هاتين المجموعتين من الخطابات المتضادة، ومن ثم يفسح المجال امام المنطق الباحث فى العلاقة بين الإسلام والقوة


• .
http://almuslimalmuaser.org/index.php?o ... :manzoumet