منتديات الحوار الجامعية السياسية

قسم مختص باستقبال أسئلة الطلاب
#27381
ميكافيلي والميكافيلية
قاعدة الغاية تبرر الوسيلة مقيدة بضوابط اخلاقية رفيعة

للمؤرخ العراقي د. كمال مظهر



مثلما سلط غاليلو منظاره الي الكواكب، فوجد انها مجبولة من ذات التربة التي تكونت منها الارض، سلط ميكافيلي منظاره الي الملوك، فوجد انهم يتصرفون مثل الوحوش في الغلاة. كلاهما بدأ تاريخا جديدا في مجاله، وكان من اسباب ظهور نظرة جديدة الي الطبيعة والمجتمع. وكلاهما اسيء فهمه واضطهد.
لكن اذا كان غاليلو سرعان ما أعيد اعتباره، فان شيطنة ميكافيلي بقيت خصوصا في اذهان الشرقيين متجسدة كما كانت في اوروبا القرون الماضية.
ولعل المؤرخ العراقي د. كمال مظهر قد اخذ علي عاتقه مهمة استعادة الصورة الحقيقية لميكافيلي في اوساط الرأي العام العربي، من خلال كتابه الموسوم (ميكافيلي والميكافيلية) الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية والنشر في بغداد عام 1984.

نبذة عن حياة ميكافيلي
ولد نيكولو دي بيرناردو ميكافيلي في 3 أيار (مايو) 1469 بمدينة فلورنسة الواقعة في وسط ايطاليا. وهو ينتمي الي اسرة توسكانية نبيلة عريقة شغل افرادها علي مدي عقود طوال مراكز حساسة، فأصبحوا بحكم ذلك في معمعان الحياة السياسية الفلورنسية النشطة حتي ان عائلة جده الاكبر قد تعرضت للنفي من المدينة من جراء ذلك في العام 1260، وقضي أحد أسلافه نحبه في السجن. وقد تدهور الوضع المالي لأسرة ميكافيلي قبل مجيئه الي الحياة مما ترك بعض الاثر علي تصرفاته كما نلاحظ ذلك فيما بعد.
لقد ترعرع ميكافيلي في كنف السياسة والثقافة. فان والده كان محاميا معروفا، وكانت أمه تقرض الشعر. ومع ان المعلومات فيما يتعلق بالفترة المبكرة لحياة ميكافيلي غير متوفرة بشكل يمكن من خلاله القاء أضواء كافية علي مصادر ثقافته الاولية، الا ان مما لا شك فيه انه تلقي تعليما جيدا بالنسبة لعصره اذ درس القانون والتاريخ (1)، وفي السابعة من عمره بدأ بتعلم اللاتينية (2) ـ لغة العلم والثقافة آنذاك ـ وفي بداية شبابه أظهر ميكافيلي الميل نحو الثقافتين القديمة والحديث، فقرأ خطب الكاتب والخطيب الروماني المعروف شيشرون (106 ـ 43 ق.م.) ودرس مؤلفات ارسطو وتابع باهتمام مؤلفات رائدي النهضة دانتي (1265 ـ 1321) وبترارك (1304 ـ 1374).
الا ان مدرسة ميكافيلي الاساسية كانت شوارع مدينة فلورنسة التي منحت العالم ابرز عباقرة النهضة من امثال دانتي وليوناردو دافنشي وميخائيل انجيلو وغيرهم، فان هذه المدينة تميزت عن غيرها من المدن الايطالية بنشاطها السياسي الواسع الذي لم يقتصر علي النخبة، كما كان عليه الامر في مدينة البندقية المهمة مثلا، بل زاوله كل فلورنسي ففي هذه المدينة كان الجميع ساسة حسب وصف أحد المؤرخين (3). وفعلا شهدت شوارع فلورنسة احداثا سياسية متلاحقة مليئة بالدروس والعبر تركزت في ذاكرة الناس فكانوا يرددونها ويقرنون بها احداثهم الحياتية الخاصة.

أخلاقه
عينان براقتان تنمان عن نظرة ثاقبة معبرة، طول متوسط وشفتان دقيقتان تفصح ابتسامتهما عما كان يجول في أعماق نفسه ـ هكذا تصف المصادر المظهر الخارجي لميكافيلي مستندة في ذلك الي ما كتبه عنه معاصروه والي لوحات بعض رسامي عصر النهضة. وكان يختفي وراء هذا المظهر عالم زاخر مليء بالقيم. فقد عرف ميكافيلي بسرعة البديهة بشكل نادر وبتأثيره علي مستمعيه وباجادته للحديث الجاد والمرح مع مختلف المستويات بدءا بحطابي قريته ومرورا بأمراء ايطاليا وانتهاء بملوك اوروبا، محاولا، في كل الاحوال، ان يكون مرغوبا قريبا الي قلوب الآخرين.
كان ودودا في غاية الاخلاص لأصدقائه، يأتي كل ما في وسعه عملا وقولا، من اجل خيرهم ورفعتهم. وكان بعيدا عن القسوة في حياته ويعطف علي كل ضحية بريئة مما يبدو جليا من رسائله الكثيرة لاصدقائه. أما في صراحته فلم يضاهه احد من اعلام عصره (4). وهو، الي جانب كل ذلك، كان شكوكيا وسواسا. ومع انه قال عن نفسه ذات مرة ولدت فقيرا فتعلمت الحاجة قبل المتعة (5) الا انه عرف الاخيرة في الحياة وفهمها فهما ايطاليا اصيلا. كان يحب الحياة، سخيا لا يعرف للبخل معني، فيصرف علي نفسه وأصدقائه دون تردد (6). ومع انه كان زير نساء وعاشقا للجمال الا انه لم يفقد القيم ابدا ولم يفسح المجال لأمر ما ان يفسد عليه حياته العائلية فأسبغ علي اولاده الستة حنان الاب الرؤوف ومنح زوجته كل رعاية وحب. وجاءت طموحاته الواسعة متوافقة تماما مع عبقريته الفذة وحبه الجم للعمل واسداء الخدمات علي احسن وجه.
جعل كل ذلك نيكولو يبدو غريبا في مجتمع كانت بقايا الفكر الاقطاعي، ولا سيما فرديته ونفاقه، تطغي علي عقول الجانب الاكبر من اصحاب الكلمة والفكر فيه. فقد كان ضعاف النفوس من اقرانه يحسدونه ويحاولون النيل منه عن طريق خلق المشاكل له واشاعة الرذائل عنه والطعن في اخلاصه، فلم يجد من الاصدقاء المخلصين ـ لا سيما بعد نفيه ـ سوي الذين كانوا علي مستوي تفكيره او من كانوا في اخلاقهم ارفع من ان يسمحوا لأنفسهم بالتحلل والانحطاط، ويأتي علي رأسهم المؤرخ المعروف كويجارديني والدبلوماسي الفلورنسي فرانسيسكو فيتوري. وكما يقول عنه المؤرخ. أ. ك. جيفيليكوف انه كان وحيدا لكنه كان ارفع من الآخرين (7).
كان حساد ميكافيلي يأخذون عليه صراحته المطلقة. والواقع انه لم يستطع ان يخفي حبه وامتعاضه عن الآخرين، فكانت ملامح وجهه وابتسامته الساخرة او العطوف تعبر عنهما حتي وان حاول هو اخفاءهما عبثا. لذا فانه بدا شاذا في وسط كان اغلب مثقفيه يتلونون كالحرباء ويتزلفون لكل قوي، مركزا وجاها وان كان الاضعف قيما. وعندما اضطر ان يجاري المنافقين علق بنفسه ساخرا فكتب يقول:
منذ زمن بعيد لا اقول ما افكر فيه ولا افكر مطلقا فيما اقول واذا حدث لي مرة ان اقول الحق فانني اغلفه بغطاء من الاكاذيب بحيث يصعب بلوغ كنهه (8).
وقد اتهموه بالسخرية التي لم تكن، حسب وصف احد المؤرخين الطليان، سوي التعبير الامين عن ايمان شخص كان يثق مخلصا بمنطقه الخاص ، فهو لم يكن يخفي ما كان يخفيه غيره وان اخفي فانه انما كان يخفي من صفاته الجليلة ما جعلت طيبته تبدو للعيان دون حقيقتها (9).
غالبا ما لجأ حساد ميكافيلي الي اساليب وضيعة للنيل منه ولتشويه سمعته. فانهم، اتهموه بالجشع الذي دفعه ـ حسب ادعائهم ـ الي الزواج من ماريا كورسيني طمعا في ثروتها في الوقت الذي بلغت قدسية الرابطة بين الزوجين الحد الذي ظلت فيه وفية له كل الوفاء حتي الرمق الاخير، بحيث اوصي لها في أول وصية له بالصداق الكامل علي ان تنتفع هي وأولادهما فقط بما يترك بعد الموت. وعلي مدي ثلاثة وعشرين عاما ظلت علاقات نيكولو وماريا علي افضل ما يكون. وكما تبين رسائله فانه كان في كل سفرة له يتحرق للعودة سريعا الي اسرته التي كانت تنتظره ايضا بتلهف كبير، ولا سيما زوجته التي كان يسميها مداعبا اياها بـ قائدنا la brigata(10). وبالرغم من نجاحاته المشهودة في حياته العملية فان البعض حاولوا القاء ظلال من الشك عليها، ولا سيما نجاحاته في اعماله الدبلوماسية (11)، غير انها كانت ظلالا باهتة.
ولَّد هذا الموقف غير النبيل من لدن اقرانه ومعارفه، مع مشاكله الخاصة، بعض التشاؤم في نفس ميكافيلي فقد غدا يعتقد ان الحسد غريزة متأصلة في طبيعة الانسان وبأن شيمة الجنس البشري عامة الميل الي التقليل من اعمال بعضهم البعض اكثر من الميل الي اطرائها المطارحات (12) لكن ميكافيلي نفسه لم يكن من الطراز الاخير من الناس لأنه كان مدفوعا دائما بالرغبة الطبيعية في العمل دون اكتراث بأي شيء آخر، لما فيه خير المجموع (المطارحات). لذا كان من المنطق ان يعطي التاريخ حكمه العادل: افلت اسماء حساد ميكافيلي وكأنها لم تكن ليبقي نجمه صاعدا في سماء ايطاليا الصافية واسمه حيا في كل محفل فكري وسياسي. فهو حتي اليوم يتحكم بشكل او بآخر في السياسات من اعماق قبره، وتفرض آراؤه نفسها علي كل مفكر سياسي.
بالرغم من امكاناته وفكره الثاقب فان ميكافيلي لم يحتل في وقت مبكر المكان المرموق اللائق به في جهاز الحكم والوسط السياسي الفلورنسي. والسبب في ذلك يعود بالاساس الي افتقاره للوسيلة، او للوسيط الذي كان بامكانه ايصاله الي مسرح الاحداث. وعندما بلغ اعتاب الاخير كان يبلغ من العمر 29 عاما وقد سبقه الاخرون الي المراكز الحساسة فيه. مع ذلك من الطبيعي ان يثبت نيكولو وجوده ويفرض نفسه بسرعة. فان الرجل، كما ذكر عن نفسه، قد شاء له طالعه ان لا يستطيع الحديث عن فن صناعة الحرير، ولا عن فن نسج الصوف (13)، ولا عن الربح او الخسارة، بل عن موضوع واحد هو قضايا الدولة.. (14). لذا فعندما عهد اليه بمنصب سكرتير مجلس العشرة في تموز (يوليو) 1498، اثر اعلان النظام الجمهوري في فلورنسة، اثبت جدارة فائقة في كل ما قام به بحيث طغي علي الاخرين مباشرة. انه لم يحرر قبل ذلك التاريخ اي تقرير رسمي ولم يخطب في اي مكان، ولكن مع ذلك فان الصياغة الرصينة لأولي كتبه الرسمية تبين وكأن له تجارب السنين المتراكمة في هذا الميدان (15).
ولم تكن مهمته قليلة الشأن، فان مجلس العشرة كان يشرف علي الشؤون العسكرية والعلاقات الخارجية للجمهورية التي عاشت احداثا حاسمة، لا سيما بسبب تشابك علاقات فلورنسة مع حكومات المدن الايطالية وجراء الاطماع الاجنبية في كل البلاد التي تمخضت عنها سلسلة حروب مستمرة اصطدمت فيها مصالح الدولتين الاوروبيتين القويتين اسبانيا وفرنسا. وقد تعزز موقف ميكافيلي اكثر عندما اختير صديقه بييرو سوديريني (Soderini) رئيسا للمجالس فأضحي ضمن واضعي سياسة الجمهورية ومخططيها. ظل ميكافيلي في وظيفته حوالي خمسة عشر عاماً قام خلالها بأربع وعشرين بعثة دبلوماسية هيأت له ظروف الاتصال المباشر بأهم الشخصيات الايطالية والاوروبية يومذاك منهم البابا وملك فرنسا وامبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة. وقد اكتسب ميكافيلي خلال سفراته هذه خبرات واسعة بان وقف عن كثب علي خفايا العلاقات الدولية وأساليب الحكم الاوروبي. فانه زار البلاط الفرنسي وحده اربع مرات استغرقت اشهرا عدة عرف خلالها عادات الفرنسيين ودسائس البلاط وغيرها من مقومات حكمهم مما انعكس، مع تجاربه الاخري، في مؤلفاته بشكل واضح. فخلال سفراته الدبلوماسية ادرك ميكافيلي ان في هذا العالم شيئا يستحق التأمل والتقصي عنه (16).
سقط النظام الجمهوري في فلورنسة عام 1512 وعادت اسرة ميديتشي الي الحكم بفضل القوات الاسبانية الغازية، فالتجأ سوديريني الي الممتلكات العثمانية وهرب آخرون من رجال الحكم، اما ميكافيلي الذي بذل كل ما في وسعه للحيلولة دون سقوط الجمهورية فقد أبعد عن وظيفته. وفي بداية العام 1513اتهم بالاشتراك في مؤامرة استهدفت نظام ميديتشي الارهابي فاعتقل وتعرض للتعذيب ست مرات خلال وجوده في السجن، واخيرا تقرر نفيه الي مسقط رأسه قرية سانتا كروس المجاورة لمدينة فلورنسة.

آراء ميكافيلي السياسية
يمكن الوقوف علي آراء ميكافيلي السياسية من خلال دراسة ثلاثة من اهم مؤلفاته الاربعين ـ الامير و المطارحـــات و فن الحرب مع مجموعة رسائله التي بعثها الي اقـــــرب اصدقائه في ظروف متباينة.
يعتبر الامير من اصغر مؤلفات ميكافيلي حجما واكثرها شهرة (18). ومع ان مؤلفاته الاخري لا تقل خطورة عن الامير الا ان المرء عندما يقرأه يشعر حقا ان السنين الخمس عشرة التي كرسها ميكافيلي لادارة قضايا الحكم لم تذهب سدي كما يقول ذلك بنفسه (19).
بدأ تداول هذا الكتاب بشكل مخطوط في حياته علي نطاق واسع، وقد طبع لأول مرة في العام 1532، اي بعد وفاة صاحبه بخمس سنوات. وسرعان ما ترجم الي جميع اللغات الاوروبية ومن ثم الاخري وأعيد طبعه عشرات المرات، بل واكثر، وحظي بدراسة المئات من المفكرين والساسة والمؤلفين، وهو اليوم يدخل ضمن مواد التدريس في العديد من المؤسسات الاكاديمية المعروفة، منها جامعة اكسفورد والجامعة الامريكية ببيروت وغيرهما. وقد دفع كل ذلك بالمختصين الي اعتبار الامير نتاجا خالدا عن حق من بين نتاجات النهضة الايطالية المعطاة (20).
اعتبر ميكافيلي في البداية، الجمهورية نظاما امثل للحكم. لكن بعد تحليله للاوضاع القائمة في ايطاليا التي كانت في عهده مقسمة علي خمس دول هي مملكة نابولي في الجنوب ودوقية ميلان في الشمال الغربي وجمهورية البندقية الارستقراطية في الشمال الشرقي وجمهورية فلورنسة والدولة البابوية في الوسط، والتي كانت علاقاتها تتسم باستفحال الحروب والخلافات فيما بينها مما جعل كل الوطن هدفا سهلا للغزو الاجنبي المستمر، توصل ميكافيلي في الامير الي الاستنتاج بأن خير نظام يمكنه تحقيق وحدة ايطاليا والذود عنها هو ذلك النظام الذي يستند الي سلطة مركزية دكتاتورية مطلقة قوية لا تقف في سبيلها الاعتبارات الدينية والدنيوية والاخلاقية، فان مصالح الدولة العليا، وبوجه خاص وحدة البلاد، تبرر رأيه لجوء الامير الي جميع السبل كاستخدام القوة التي تشكل ـ كما كان يؤكد ـ اساس الحق، والقسوة والاغتيال وخيانة العهد والقسم والتوسل بالتضليل والرشوة والركون الي الخديعة والكذب والنفاق، اي ان الغايات السامية تبرر الوسائل ايا كانت. وهو كان ينصح الامير بألا يخجل في اختيار اي اسلوب مهما تدني لتحقيق اهدافه وطموحاته السياسية، فالحاكم الناجح هو الذي يلجأ الي الاساليب الانسانية والحيوانية حسب الظروف والحاجة ويعرف كيف يجمع بين خدع الثعالب وفورات الاسود لأن المحك والاساس لتقييم السياسة هو النجاح.
وبالاستناد الي ذلك بشكل مجرد وبفضل انتقاء الحكام من افكار ميكافيلي ما كان يناسبهم حسب طريقة ولا تقربوا الصلاة ظهر فيما بعد مصطلحا الميكافيلية و المكيافيلي ويطلق الأول عادة علي السياسة التي لا تعير القيم الاخلاقية اي اعتبار ويطلق الثاني علي الشخص الذي يتبني مثل تلك السياسة.
ولكن ذلك لا يعدو كونه ذروة المكيافيلية بصورتها المشوهة. فان الرجل لم يطلق آراءه الخطيرة تلك دون ضوابط اخلاقية رفيعة او تفسيرات منطقية تبين الامور علي حقيقتها وتضع السياسة في اطارها الواقعي زمانا ومكانا. فالخير، كل الخير للامير في ان يتظاهر بالرحمة وحفظ الوعد والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين وان يكون فعلا متصفا بها ولكن عليه ان يعد نفسه عندما تقتضي الضرورة ليكون متصنعا بعكسها ، لذا فان من واجب الامير ان يجعل عقله مستعدا للتكيف مع الرياح، ووفقا لما تمليه اختلافات الجدود والحظوظ وان لا يتنكر لما هو خير، كما قلت، اذا امكنه ذلك، شريطة ان ينزل الاساءة والشر، اذا ما اضطر الي ذلك وضويق (الامير ـ الباب الثامن عشر).
والواقع ان التاريخ لم يعطنا مثلا واحدا لم ينزل فيه الامير، وحتي غير الامير، الاساءة والشر، اذ اما اضطر الي ذلك وضويق ، فهذه حقيقة تكاد تكون سمة ملازمة لطبائع الناس شئنا ام أبينا، اعترفنا ام بررنا. فلا تكمن الخطورة اذن، في هذا الجانب من آراء ميكافيلي الذي رأي مثل غيره ولكنه لم يسكت، علي العكس من غيره. انما تكمن المأساة في ان القيم والضوابط التي أراد ميكافيلي ان يتصف بها الامير في الظروف الاعتيادية ـ الرحمة وحفظ الوعد والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين ـ اندر في بطون التاريخ من الماء في الصحراء. فلو عمل كل امير بآراء ميكافيلي لتقلصت الصفحات السود في سجل التاريخ الي حد كبير.

الأمير ... الحق
والآن لنمض مع ميكافيلي في كتابه الامير ولنر ما يضع لأميره الجديد من خطوط ودورس. فعلي الامير ان يكون حريصا، علي ان لا يفضح نفسه باقواله وعليه ان يجعل الناس يرون فيه، ويسمعون منه الرحمة مجسدة، والوفاء للعهود والنبل والانسانية والتدين (الامير ـ الباب الثامن عشر). وعليه ان يتجنب كل ما يؤدي الي تعرضه للاحتقار والكراهية ، وهو يتعرض للكراهية اذا اصبح سلابا نهابا، يغتصب ممتلكات رعاياه ونساءهم، وهو ما عليه تجنبه . وقد يعتبر الامير دنيئا حقيرا اذا رأي الناس فيه تقلبه، وتفاهته، وتخنثه، وجبنه، واستخذاءه، وهي امور يجب ان يقي الامير نفسه منها، علي اعتبار انها الصخرة التي تمثل الخطر، وان يدبر امره، بحيث تبدو من اعماله مخائل العظمة والحيوية، والرصانة والجلد . اما بالنسبة الي حكم رعاياه فعلي الامير ان تكون احكامه مبرمة لا تقبل النقض، وان يتمسك بقراراته، فلا يسمح لانسان بخديعته او الاحتيال عليه (الامير ـ الباب التاسع عشر).
وقد استهدف ميكافيلي من هذه الشروط ان يكون الشعب راضيا عن الامير، ورأي في هذا شرطا اساسيا من شروط الحكم الراسخ الناجح. فان رضا الشعب من اهم المواضيع الذي يتحتم علي الامير العناية به ، ذلك لأن علي الامير ان لا يخشي كثيرا من المؤامرات اذا كان الشعب راضيا عنه، اما اذا كان مكروها، ويحس بعداء الشعب له، فان عليه ان يخشي من كل انسان ومن كل شيء ، فالقلاع مهما حصنت لا تحمي الامير فيما لو غض الطرف عن كراهية شعبه (21) او حبه (الامير ـ الباب التاسع عشر والباب العشرون). وأفضل للامير ان يصل دست الحكم بمساندة الشعب من مساعدة النبلاء (الامير ـ الباب التاسع). والامير الذي لا يستطيع كسب شعبه الي جانبه بواسطة المشاريع النافعة له فانه يضطر الي الوقوف دائما وسيفه في يده (الامير ـ الباب الثامن). ومن الضروري جدا ان يكون الامير مثقفا، فعليه ان يقرأ التاريخ وان يدرس اعمال الرجال البارزين، فيري اسلوبهم في الحروب، ويتفحص اسباب انتصاراتهم التي ادت الي الهزائم (الامير ـ الباب الرابع عشر).

رجال الأمير
أراد ميكافيلي من الامير الجديد ان يقيم جهازا متكاملا للادارة، يعهد بشؤونه الي اناس قديرين لا شائبة فيهم، فيضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وعليه ان يظهر نفسه دائما ميالا الي ذوي الكفاءة والجدارة وان يفضل المقتدرين، ويكرم النابغين في كل فن (الامير ـ الباب الواحد والعشرون). وهذه المسألة خطيرة في بابها لأن الانطباع الاول الذي يتولد لدي الانسان عن الامير وعن تفكيره، يكون في رؤية اولئك الذين يحيطون به. فعندما يكونون من الاكفاء والمخلصين، يتأكد الانسان من حكمة الامير، لأنه استطاع تمييز هذه الكفاءة والاحتفاظ بهذا الاخلاص . ويجب الا يكون هؤلاء من المتزلفين والمتملقين والمنافقين المداهنين الذين تغص بهم بلاطات الملوك والامراء (الامير ـ البابان الثاني والعشرون والثالث والعشرون). ولكن علي هؤلاء ان يعلموا جيدا ويدركوا بأن وزنهم انما يعتمد علي الموقف الذي يتبناه الامير في ضوء اخلاصهم وتفانيهم له ولنظامه. وعلي الامير لكي يحتفظ بولاء وزيره واخلاصه، ان يفكر به، وان يغدق عليه المال ومظاهر التكريم، مبديا له العطف، ومانحا اياه الشرف، وعاهدا اليه بالمناصب ذات المسؤولية، بحيث تكون هذه الاموال ومظاهر التكريم، المغدقة عليه كافية، تحول دون ان يطمع بثروات او القاب جديدة، وبحيث تكون المناصب التي يشغلها مهمة الي الحد الذي يخشي عنده علي ضياعها (الاميرـ الباب الثاني والعشرون).
ومن المنطلق نفسه يجب علي الامير ان يختار لمجلسه حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية بالحديث اليه ومجابهته بالحقائق، علي ان تقتصر هذه الحرية علي المواضيع التي يسألهم عنها، ولا تتعداها. ولكن عليه ان يسألهم عن كل شيء وان يستمع الي آرائهم في كل شيء، وان يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه ان يتصرف في هذه المجالس، ومع كل مستشاريه، بشكل يجعل كل واحد منهم واثقا من انه كلما تكلم بصراحة واخلاص، كان الامير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك ان لا يستمع الي اي انسان، بل يدرس الموضوع بنفسه في ضوء آراء مستشاريه، ويتخذ قراراته التي لا يتراجع عنها . ولا بد للامير الحديث ان يقبل النصيحة دائما. ولكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الاخرون، بل عليه ان لا يشجع مطلقا المحاولات لاسداء النصيحة اليه، الا اذا طلبها. ولكن عليه ان يكثر من سؤالها وان يحسن الاصغاء الي الحقائق التي تسرد عليه عندما يسأل عنها (الامير ـ الباب الثالث والعشرون). ومع ذلك عليه ان يكون حذرا في تصديق ما يقال له، وفي العمل ايضا، دون ان يخشي ظله .

ضوابط ثابتة
وعلي الامير ان يضع لكل شيء ضوابط ثابتة مع مراعاة الحاجات والظروف دائما. فللسخاء والبخل حدودهما، وللطيبة مداها الذي يجب ان ينتهي قطعا عند الاصطدام بمصالح الدولة. فمن الضروري لكل امير يرغب في الحفاظ علي نفسه ان يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وان يستخدم هذه المعرفة او لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها (الامير ـ الباب الخامس عشر). ولكن عليه ان يحاول حصر هذا الابتعاد الاضطراري الي أقصي حد وينتهي مع ضمان الاستقرار والامن ، بل يستبدل في الحال بتدابير نافعة للرعايا الي اقصي حد ممكن (الامير ـ الباب الثامن).
كرر ميكافيلي الافكار نفسها بعمق اكبر في كتابه الآخر المطارحات الذي قضي حوالي خمسة اعوام في تأليفه جامعا فيه آراءه في السياسة وأصول الحكم والاخلاق والعلاقات الدولية وغيرها مستندا في تقييماته الي تجارب روما القديمة. واهم ما يستخلصه قارئ المطارحات (22) هو ان الفضيلة المثلي لكل مواطن تقاس بمدي تكريس ذاته لخدمة الصالح العام. ويحسن المرء في المطارحات ، كما في الامير ، بجدية ميكافيلي في البحث عن النظام الامثل الذي كان يحلم باقامته في ايطاليا. فلا ريب في انها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية التي تخرج رجلا حكيما يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها والتي لا يضطرون الي تقويمها (المطارحات، الكتاب الاول ـ 2) ومرة اخري نري الامير الانموذج في المطارحات هو ذلك الذي يجعل من الشعب كله صديقا له (المطارحات، الكتاب الاول ـ 40). بل ان ميكافيلي يذهب هنا الي مدي ابعد مما جاء في الامير بصدد موقع الشعب من السلطة. فان الرجل العاقل لا يتجاهل الرأي العام بالنسبة الي المسائل المعينة والجزئية، كمسألة توزيع المناصب والافضليات والترقيات، اذ ان الشعب هنا، عندما يترك الي نفسه، لا يخطئ ابدا، واذا ما اخطأ احيانا، تكون اخطاؤه نادرة اذا ما قورنت بالاخطاء التي ستقع حتما لو ان القلة هي التي قامت بمثل هذا التوزيع (المطارحات، الكتاب الاول ـ 47).
وفي المطارحات يشدد ميكافيلي من جديد علي ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والاستفادة الي اقصي حد من الكفاءات والعبقريات الشابة فعندما يتميز شاب بالفضيلة التي رافقت عملا عظيما من اعماله، يغدو موضع حديث الجميع، فان من العار كل العار ان لا تنتفع الدولة من خدماته، وان يضطر هذا الشاب الي الانتظار حتي يكبر سنه، في غضون ذلك قد فقد ما يميزه من نشاط عقلي ومن سرعة في العمل، كان في وسع بلاده ان تستغلهما في الوقت المناسب استغالا نافعا (المطارحات، الكتاب الاول ـ 60).