- الخميس إبريل 23, 2009 5:39 pm
#17650
العولمة ووهم تهديد الخصوصية الثقافية - خالد الحروب
2007-10-29
الحياة
في أي مقهى شيشة (نرغيلة) أو مطعم عربي في أي مدينة من مدن العالم، أو قارة من قاراته، من أستراليا إلى آسيا، إلى أفريقيا، إلى أوروبا أو أميركا الشمالية أو الجنوبية، ترنم آذان المرتادين أغان عربية تبث على قناة «روتانا» أو غيرها من القنوات الترفيهية. وعندما يتجهم مزاج صاحب المطعم أو المقهى ويصمم على متابعة الكوارث والحروب في المنطقة ربما يبدأ بالتلذذ بتعذيب أولئك المرتادين بالاستماع إلى محطة «الجزيرة» أو «العربية» أو غيرهما من القنوات الإخبارية. وبذلك يصبح المقهى أو المطعم واحداً من تعبيرات الخصوصية الثقافية، وأحياناً قطعة منفصلة عن المحيط الاجتماعي والثقافي واللغوي المحيط به. وهذا يحدث أيضاً مع مختلف أنواع الجاليات والإثنيات الموزعة على العالم، والتي تستطيع الآن التواصل مع ثقافاتها الأصلية بطرق مدهشة السرعة والكثافة واللحظية.
وعبر أي مقهى انترنت متواضع في أي شارع فرعي في أي مدينة على الأرض يمكن أن يدلف العربي ويتصفح جرائد الصباح في بلده، ويتحدث مع أصدقائه أو أهله، أو يشتري أو يبيع في بورصة الأسهم في عاصمته. وإن كان لديه الوقت والرغبة فلربما استمع إلى قصائد المتنبي أو نزار قباني على الانترنت. أما إذا كان من أنصار ابن لادن فأمامه عدد وافر من المواقع الالكترونية التي توفر له وجبات الأخبار اليومية والتعليمات والفتاوى، وآخر مستجدات معركة «الفسطاطين». الحاجة أم بهاء السبعينية، من جهتها، والمقيمة في عمان بالأردن تتناول إفطار الصباح كل يوم ثم تتجه إلى طاولة الكمبيوتر والإنترنت, تلبس نظارتها الطبية، وتفتح «الشات» مع الكاميرا على «سكايب» لتلقي تحية الصباح على بناتها وأبنائها الموزعين في العالم والذين ينتظرون صباح الأم على كمبيوتراتهم أيضاً، وحيث تطمئن الحاجة ام بهاء عليهم وتسألهم أدق التفاصيل حتى عن «طبخة اليوم».
لم تمر أي لحظة زمنية في تاريخ العرب كان فيها التواصل العربي العربي من المحيط إلى الخليج، وما وراءهما، ولا معرفة العرب بأشقائهم العرب وبثقافاتهم كما هو حادث الآن وفي قلب اللحظة العولمية وبسببها. وكثافة التواصل ولحظيته لا تعنيان أنه تواصل تعاوني أو إيجابي برمته، لكن المقصود هنا هو طيفه وزمنيته الكثيفة. كما أن تنويعات هذا التواصل، السياسي، الثقافي، الإعلامي، المؤتمراتي والندواتي، الفني، الغنائي، الموسيقي، الكتابي، الإغاثي والكوارثي، وفي ظل العولمة، ترسخ «خصوصية ثقافية عربية» لم تترسخ كما هي عليه الآن من قبل. وكمثال طازج كان المغاربة خلال مهرجان المسلسلات الدرامية في شهر رمضان الفائت يتابعون الدراما السورية في ذات اللحظة التي يتابع السوريون فيها تلك المسلسلات في دمشق وحمص ودير الزور. كما كان عرب من مختلف المشارب والجنسيات ينشدون إلى ذات الدراما التلفزيونية من أمكنة سكناهم في زوايا الأرض جميعاً بسبب الفضائيات العربية التي يتم التقاطها في كل مكان: و «المتهم الكبير» في إحداث هذا التواصل الثقافي والمحافظة على «خصوصيته» هو العولمة الإعلامية!
وهكذا وعلى رغم أن معظم الشواهد على الأرض تشير إلى أن أثر العولمة يكرس من الخصوصيات الثقافية باالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر من نشره لقيم عابرة لتلك الخصوصيات إلا أن ثمة بكائية عربية دائمة الترداد تكيل للعولمة الشتائم تلو الشتائم لأنها تهدد «الخصوصية الثقافية». وعندما تسأل ما هو المقصود بالعولمة على وجه الدقة فإن تعريفات تضخيمية تقدم لك من قبيل أنها «نظام هيمنة متكامل يبلع الشجر والبشر والطبيعة ويعيد انتاجها على شكل سلع», كما يصفها غير واحد من المفكرين العرب. ولأنها كذلك، أي كائن خرافي مهول يعمل على القضاء على ما هو موجود من ثقافات متنوعة، فيجب أن تحارب جملة وتفصيلاً، وإن لم نفعل ذلك اليوم وليس غداً، فإن مصيرنا هو النهاية المحتومة: الخروج من التاريخ والوقوع فريسة للعولمة وأصحابها.
وعندما يُطرح السؤال لكن من هم أصحاب العولمة التي تهدد الخصوصيات الثقافية؟ هل هي الولايات المتحدة التي تزداد انعزالاً وحمائية خوفاً من «العولمة» ذاتها ومن أن تفرض قوانينها على السياسة والاقتصاد والثقافة الأميركية، وهل هي أوروبا الفرانكوفونية أم أوروبا الأنغلوفونية أم المتعددة اللغات، أم الصين، أم آسيا، لا نعثر على جواب واضح، بل تهويمات عمومية. من يؤثر في من، ومن يعولم من؟ لا أحد يدري بالضبط. ولماذا تعقد إحدى لقاءات قمة الاتحاد الأوروبي قبل سنتين في لندن تحت شعار الانتباه من مخاطر العولمة على الاتحاد الأوروبي، ويشير الخطاب العالمثالثي بأصبع الاتهام إلى أوروبا باعتبارها مصدر الهيمنة الثاني على الأقل في ما خص العولمة؟
ما توفره العولمة من آليات تواصل وتكنولوجيا هي برسم الاستخدام من قبل أي ثقافة على الأرض هو ببساطة أمر غير مسبوق تاريخياً. صحيح طبعاً أن الثقافة الأميركية خصوصاً عبر السينما وصور نمط الحياة هي من أكبر المستفيدين من المناخ العولمي التكنولوجي، لكن هذا الوضع ليس بجديد. فسيطرة الإعلام والسينما ونمط الحياة الأميركي على مخيلة كثير من شعوب العالم لم يحدث خلال السنوات العشر أو العشرين الماضية فقط، حين تكثف حضور وأثر العولمة، بل هو سابق لذلك بعقود. والحقيقة هي أن المستفيد الأكبر من التعولم الحالي هو الثقافات الأقل حضوراً من الثقافة الغربية حيث وفرت لها وسائل العولمة الاتصالية قدرة على التواصل والإنتاج ما كان لها أن تتوفر عبر الوسائل التقليدية أو تخصيص مصادر مادية وبشرية هدفها «تعزيز تلك الخصوصيات».
والواقع أن العولمة تتحمل مسؤولية مهمة، إن لم نقل كبيرة, في تعزيز أنماط من الشوفينيات وأنماط التعصب القومي والديني المختبئ تحت مظلة الخصوصية الثقافية. فلحظة العولمة هي التي وفرت يسر وسهولة نشر أي فكرة عصبوية بالغة التطرف، وتجميع أنصار لها، وخلق شبكات تواصل حول نظريات تدميرية. وحتى لا نظل نحوم في العموميات لنا أن نتأمل ما يحدث في الفضاء العربي والإسلامي جراء العولمة الاتصالية، المتهمة بأنها تهدد الخصوصية الثقافية بينما هي تعمل على عكس ذلك تماماً. فنحن الآن نعيش في «ذروة» المد الإسلاموي الحركي بأشكاله المختلفة وهو الذي يمثل أكثر تعبيرات الخصوصية الثقافية صلابة وعدم مساومة. ومن المعروف أن التنظيمات الإسلامية السياسية أو العنفية بل وحتى الجمعيات الإسلامية الدعوية غير العنفية هي من أنشط الشرائح استخداماً للعولمة الاتصالية، بما في ذلك الإنترنت والفضائيات والإذاعات. فكيف لنا أن نفسر بلوغ هذا المد إلى أقصى إتساع ممكن، معززاً أكبر وأصلب قيم ثقافية ممكنة، في ظل العولمة التي من المفترض أنها تهدد «الخصوصية الثقافية» بحسب الاتهام العربي المسلوق؟
أما المثال الأكثر سطوعاً على هشاشة مقولة تهديد العولمة للخصوصية الثقافية فهو حال الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. فما يمكن قوله في هذا السياق هو وجود فائض من «الخصوصية الثقافية» تعززه وتسنده آليات العولمة بما توفره من سهولة تواصل مع البلدان الأم، ومع الثقافات الأصلية لتلك الجاليات. وهذا الفائض تحول إلى عبء ثقافي وقيمي ساهم في إقامة جدران عازلة بين هذه الجاليات والمجتمعات المضيفة. ومرة أخرى يحدث هذا في قلب لحظة العولمة، بل في «عقر دارها» الغربي. وعند مقارنة «صلابة» تعبيرات الخصوصيات الثقافية للعرب والمسلمين الحاليين في الغرب مع «مرونة» التعبيرات الخصوصية الثقافية لأجيال المهاجرين العرب الأوائل قبل مرحلة العولمة الراهنة، يمكن أن نلحظ بوضوح أثر العولمة الاتصالية والتواصلية على تعزيز الخصوصية الثقافية والإسلامية.
خلاصة القول هي أن تكرار اللازمة التقليدية في الأدبيات العربية المعاصرة حول العولمة بكونها تهديدا للهوية العربية وتهديداً للخصوصية الثقافية العربية هو تكرار لا معنى له، وصلته بأرض الواقع ضعيفة. بل ربما يمكن القول إن العولمة ووسائلها والآليات التي وفرتها مسؤولة عن انتشار الكثير من الرداءة الفكرية والسياسية والتعصبية التي ينسبها البعض إلى خصوصية ثقافية هنا أو هناك. لكن بطبيعة الحال لا يمكن أن نلوم الآليات أو التكنولوجيا، إذ لا يمكنها أن تحسن من نوع الحمولة الثقافية التي ينقلها البعض مستخدمين تلك الآليات. لكن أيضا يجب أن نقول إن الخصوصيات الثقافية المضخمة والمسكونة بذاتها والمتوترة تكون هي الأخرى عائقاً في طريق تحسين الشروط التاريخية للمجتمعات العربية، وتكون عبئاً يعيق من مرونة الحركة والنظر إلى المستقبل، وهذا حديث آخر يحتاج إلى تفصيل إضافي.
* كاتب وباحث اردني فلسطيني - جامعة كامبردج
http://www.dctcrs.org/s2775.htm
2007-10-29
الحياة
في أي مقهى شيشة (نرغيلة) أو مطعم عربي في أي مدينة من مدن العالم، أو قارة من قاراته، من أستراليا إلى آسيا، إلى أفريقيا، إلى أوروبا أو أميركا الشمالية أو الجنوبية، ترنم آذان المرتادين أغان عربية تبث على قناة «روتانا» أو غيرها من القنوات الترفيهية. وعندما يتجهم مزاج صاحب المطعم أو المقهى ويصمم على متابعة الكوارث والحروب في المنطقة ربما يبدأ بالتلذذ بتعذيب أولئك المرتادين بالاستماع إلى محطة «الجزيرة» أو «العربية» أو غيرهما من القنوات الإخبارية. وبذلك يصبح المقهى أو المطعم واحداً من تعبيرات الخصوصية الثقافية، وأحياناً قطعة منفصلة عن المحيط الاجتماعي والثقافي واللغوي المحيط به. وهذا يحدث أيضاً مع مختلف أنواع الجاليات والإثنيات الموزعة على العالم، والتي تستطيع الآن التواصل مع ثقافاتها الأصلية بطرق مدهشة السرعة والكثافة واللحظية.
وعبر أي مقهى انترنت متواضع في أي شارع فرعي في أي مدينة على الأرض يمكن أن يدلف العربي ويتصفح جرائد الصباح في بلده، ويتحدث مع أصدقائه أو أهله، أو يشتري أو يبيع في بورصة الأسهم في عاصمته. وإن كان لديه الوقت والرغبة فلربما استمع إلى قصائد المتنبي أو نزار قباني على الانترنت. أما إذا كان من أنصار ابن لادن فأمامه عدد وافر من المواقع الالكترونية التي توفر له وجبات الأخبار اليومية والتعليمات والفتاوى، وآخر مستجدات معركة «الفسطاطين». الحاجة أم بهاء السبعينية، من جهتها، والمقيمة في عمان بالأردن تتناول إفطار الصباح كل يوم ثم تتجه إلى طاولة الكمبيوتر والإنترنت, تلبس نظارتها الطبية، وتفتح «الشات» مع الكاميرا على «سكايب» لتلقي تحية الصباح على بناتها وأبنائها الموزعين في العالم والذين ينتظرون صباح الأم على كمبيوتراتهم أيضاً، وحيث تطمئن الحاجة ام بهاء عليهم وتسألهم أدق التفاصيل حتى عن «طبخة اليوم».
لم تمر أي لحظة زمنية في تاريخ العرب كان فيها التواصل العربي العربي من المحيط إلى الخليج، وما وراءهما، ولا معرفة العرب بأشقائهم العرب وبثقافاتهم كما هو حادث الآن وفي قلب اللحظة العولمية وبسببها. وكثافة التواصل ولحظيته لا تعنيان أنه تواصل تعاوني أو إيجابي برمته، لكن المقصود هنا هو طيفه وزمنيته الكثيفة. كما أن تنويعات هذا التواصل، السياسي، الثقافي، الإعلامي، المؤتمراتي والندواتي، الفني، الغنائي، الموسيقي، الكتابي، الإغاثي والكوارثي، وفي ظل العولمة، ترسخ «خصوصية ثقافية عربية» لم تترسخ كما هي عليه الآن من قبل. وكمثال طازج كان المغاربة خلال مهرجان المسلسلات الدرامية في شهر رمضان الفائت يتابعون الدراما السورية في ذات اللحظة التي يتابع السوريون فيها تلك المسلسلات في دمشق وحمص ودير الزور. كما كان عرب من مختلف المشارب والجنسيات ينشدون إلى ذات الدراما التلفزيونية من أمكنة سكناهم في زوايا الأرض جميعاً بسبب الفضائيات العربية التي يتم التقاطها في كل مكان: و «المتهم الكبير» في إحداث هذا التواصل الثقافي والمحافظة على «خصوصيته» هو العولمة الإعلامية!
وهكذا وعلى رغم أن معظم الشواهد على الأرض تشير إلى أن أثر العولمة يكرس من الخصوصيات الثقافية باالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر من نشره لقيم عابرة لتلك الخصوصيات إلا أن ثمة بكائية عربية دائمة الترداد تكيل للعولمة الشتائم تلو الشتائم لأنها تهدد «الخصوصية الثقافية». وعندما تسأل ما هو المقصود بالعولمة على وجه الدقة فإن تعريفات تضخيمية تقدم لك من قبيل أنها «نظام هيمنة متكامل يبلع الشجر والبشر والطبيعة ويعيد انتاجها على شكل سلع», كما يصفها غير واحد من المفكرين العرب. ولأنها كذلك، أي كائن خرافي مهول يعمل على القضاء على ما هو موجود من ثقافات متنوعة، فيجب أن تحارب جملة وتفصيلاً، وإن لم نفعل ذلك اليوم وليس غداً، فإن مصيرنا هو النهاية المحتومة: الخروج من التاريخ والوقوع فريسة للعولمة وأصحابها.
وعندما يُطرح السؤال لكن من هم أصحاب العولمة التي تهدد الخصوصيات الثقافية؟ هل هي الولايات المتحدة التي تزداد انعزالاً وحمائية خوفاً من «العولمة» ذاتها ومن أن تفرض قوانينها على السياسة والاقتصاد والثقافة الأميركية، وهل هي أوروبا الفرانكوفونية أم أوروبا الأنغلوفونية أم المتعددة اللغات، أم الصين، أم آسيا، لا نعثر على جواب واضح، بل تهويمات عمومية. من يؤثر في من، ومن يعولم من؟ لا أحد يدري بالضبط. ولماذا تعقد إحدى لقاءات قمة الاتحاد الأوروبي قبل سنتين في لندن تحت شعار الانتباه من مخاطر العولمة على الاتحاد الأوروبي، ويشير الخطاب العالمثالثي بأصبع الاتهام إلى أوروبا باعتبارها مصدر الهيمنة الثاني على الأقل في ما خص العولمة؟
ما توفره العولمة من آليات تواصل وتكنولوجيا هي برسم الاستخدام من قبل أي ثقافة على الأرض هو ببساطة أمر غير مسبوق تاريخياً. صحيح طبعاً أن الثقافة الأميركية خصوصاً عبر السينما وصور نمط الحياة هي من أكبر المستفيدين من المناخ العولمي التكنولوجي، لكن هذا الوضع ليس بجديد. فسيطرة الإعلام والسينما ونمط الحياة الأميركي على مخيلة كثير من شعوب العالم لم يحدث خلال السنوات العشر أو العشرين الماضية فقط، حين تكثف حضور وأثر العولمة، بل هو سابق لذلك بعقود. والحقيقة هي أن المستفيد الأكبر من التعولم الحالي هو الثقافات الأقل حضوراً من الثقافة الغربية حيث وفرت لها وسائل العولمة الاتصالية قدرة على التواصل والإنتاج ما كان لها أن تتوفر عبر الوسائل التقليدية أو تخصيص مصادر مادية وبشرية هدفها «تعزيز تلك الخصوصيات».
والواقع أن العولمة تتحمل مسؤولية مهمة، إن لم نقل كبيرة, في تعزيز أنماط من الشوفينيات وأنماط التعصب القومي والديني المختبئ تحت مظلة الخصوصية الثقافية. فلحظة العولمة هي التي وفرت يسر وسهولة نشر أي فكرة عصبوية بالغة التطرف، وتجميع أنصار لها، وخلق شبكات تواصل حول نظريات تدميرية. وحتى لا نظل نحوم في العموميات لنا أن نتأمل ما يحدث في الفضاء العربي والإسلامي جراء العولمة الاتصالية، المتهمة بأنها تهدد الخصوصية الثقافية بينما هي تعمل على عكس ذلك تماماً. فنحن الآن نعيش في «ذروة» المد الإسلاموي الحركي بأشكاله المختلفة وهو الذي يمثل أكثر تعبيرات الخصوصية الثقافية صلابة وعدم مساومة. ومن المعروف أن التنظيمات الإسلامية السياسية أو العنفية بل وحتى الجمعيات الإسلامية الدعوية غير العنفية هي من أنشط الشرائح استخداماً للعولمة الاتصالية، بما في ذلك الإنترنت والفضائيات والإذاعات. فكيف لنا أن نفسر بلوغ هذا المد إلى أقصى إتساع ممكن، معززاً أكبر وأصلب قيم ثقافية ممكنة، في ظل العولمة التي من المفترض أنها تهدد «الخصوصية الثقافية» بحسب الاتهام العربي المسلوق؟
أما المثال الأكثر سطوعاً على هشاشة مقولة تهديد العولمة للخصوصية الثقافية فهو حال الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. فما يمكن قوله في هذا السياق هو وجود فائض من «الخصوصية الثقافية» تعززه وتسنده آليات العولمة بما توفره من سهولة تواصل مع البلدان الأم، ومع الثقافات الأصلية لتلك الجاليات. وهذا الفائض تحول إلى عبء ثقافي وقيمي ساهم في إقامة جدران عازلة بين هذه الجاليات والمجتمعات المضيفة. ومرة أخرى يحدث هذا في قلب لحظة العولمة، بل في «عقر دارها» الغربي. وعند مقارنة «صلابة» تعبيرات الخصوصيات الثقافية للعرب والمسلمين الحاليين في الغرب مع «مرونة» التعبيرات الخصوصية الثقافية لأجيال المهاجرين العرب الأوائل قبل مرحلة العولمة الراهنة، يمكن أن نلحظ بوضوح أثر العولمة الاتصالية والتواصلية على تعزيز الخصوصية الثقافية والإسلامية.
خلاصة القول هي أن تكرار اللازمة التقليدية في الأدبيات العربية المعاصرة حول العولمة بكونها تهديدا للهوية العربية وتهديداً للخصوصية الثقافية العربية هو تكرار لا معنى له، وصلته بأرض الواقع ضعيفة. بل ربما يمكن القول إن العولمة ووسائلها والآليات التي وفرتها مسؤولة عن انتشار الكثير من الرداءة الفكرية والسياسية والتعصبية التي ينسبها البعض إلى خصوصية ثقافية هنا أو هناك. لكن بطبيعة الحال لا يمكن أن نلوم الآليات أو التكنولوجيا، إذ لا يمكنها أن تحسن من نوع الحمولة الثقافية التي ينقلها البعض مستخدمين تلك الآليات. لكن أيضا يجب أن نقول إن الخصوصيات الثقافية المضخمة والمسكونة بذاتها والمتوترة تكون هي الأخرى عائقاً في طريق تحسين الشروط التاريخية للمجتمعات العربية، وتكون عبئاً يعيق من مرونة الحركة والنظر إلى المستقبل، وهذا حديث آخر يحتاج إلى تفصيل إضافي.
* كاتب وباحث اردني فلسطيني - جامعة كامبردج
http://www.dctcrs.org/s2775.htm
,,, من كانت بدايته محرقة ... كانت نهايته مشرقة ,,,