ربما يستغرب القارئ للوهلة الأولى من عنوان الموضوع ، فما شأن حسن البنا والفن ؟ وهل فعلاً كان للبنا تجربة في الفن ؟ وهل هذه التجربة ثرية لدرجة أن تتناول ، ويوجد فيها مادة تجعلها جديرة بالبحث ؟
هذه الأسئلة التي ربما يثيرها عقل القارئ ، أثارها عقل عصام تليمه عند دراستة للموضوع عند الإمام البنا رحمه الله ، ولكني بعد أن انقدحت محاور الموضوع في رأسه رأي أنه بالفعل موضوع حري بأن يبحث ، وأن يناقش ويثار ، وهو من الموضوعات القلائل التي نأى الباحثون بأنفسهم وأقلامهم عن البحث فيها ، إما لوضع نتائج مسبقة قبل البحث بأن علاقة البنا بالفن لن تتجاوز حدود إصدار فتوى ، أو العروج من قريب أو بعيد بالفن من حيث الحل والحرمة لا أكثر .
ويقول لقد كنت نويت أن أجعل الحديث عن البنا وتجربة الفن بما للفن من مجالات رحبة ، ومن حيث تقسـيم الفن إلــى فنون صوتية ، وحركية ، ويدوية ، وتناولت من الفنون الصوتية : فن الغناء والإنشـاد ، وفن النكتة . ومن الفنون الحركية : فن التمثيل . ومن الفنون اليدوية : فن التصوير والرسم الكاريكاتوري . ولكني وجدت أن صفحات البحث ستطول كثيراً ، إذا أفردت لكل ألوان الفن عند البنا وجماعة الإخوان المسلمين حديثاً مفصلاً ، فاكتفيت بالحديث عن الفن التمثيل ومسرح الإخوان .
مكانة الفن في دعوة الإخوان :
لم يقف البنا من الفن مجرد المنظر أو مبدي الرأي الفقهي ، أو الداعي نظرياً إلى تبني الفن ، دون الولوج إلى ذلك عملياً ، بل ربما سبق عند البنا جانب التطبيق الجانب التنظيري ، وليس معنى ذلك أن البنا لم يكن معنياً بذلك ، بل لم يكن معنياً بالوقوف كثيراً عند الإسهاب في التنظير ، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء ، وهذا ما حدث مع الأستاذ البنا رحمه الله ، فقد جعل للفن مساحة ليست بالصغيرة في جماعة الإخوان المسلمين ، فأنشأ فرقة مسرحية ـ بل فرقاً مسرحية ـ لعل أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة ، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقاص مسرحية ، كشعبة السيدة عائشة ، والتي قدمت عدداً من المسرحيات للناس ، منها ما هو تاريخي ، ومنها ما هو خلقي ، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي .
بل إن أول رسالة صدرت تهاجم الفن والتمثيل عند جماعة الإخوان المسلمين ، كانت بسبب مسرحية قامت بها شعبة طنطا ، وقد نما إلى علم المؤلف أن هذه الفرقة المسرحية في شعبة طنطا ، قد قامت بتمثيل قصة ( الذبيح إسماعيل عليه السلام ) وأنهم جاؤوا إلى المسرح بكبش ، ومثلوا شخصية إسماعيل عليه السلام ، مما حدا بالمؤلف أن يهاجم هذا الموقف ، ويهاجم أن يكون في دعوة إسلامية فرقة مسرحية من الأساس ، اعتماداً على أن التمثيل يرتكز بالأساس على الكذب ، والكذب كبيرة من الكبائر ، لا يجوز للمسلم أن يتخذها سلوكاً ولا مهنة ، حتى وإن كانت من باب الترفيه !
كما كان للأستاذ البنا نهج في جريدة ( الإخوان المسلمون ) اليومية ، لم أره في أي صحيفة إسلامية أخرى في مثل هذا الوقت ، ولا فيما بعد ، فقد كان يكتب في إحدى صفحات الجريدة اليومية برامج الإذاعة المصريـة ، بداية بالقرآن الكريم ، ومروراً بأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم ، وغيرهما ، وكان يضع تحت عنوان الباب قوله تعالى إن السـمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) الإسراء ، آية 36 .
مسرح الإخوان المسلمين :
يعتبر مسـرح الإخوان المسلمين أول مسرح تنشئه جماعة إسلامية في مصر ، فقد نشأ في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي ، وقد تولى هذا الأمر الأستاذ عبد الرحمن البنا ـ شقيق الأستاذ البنا ـ المعروف بميوله الأدبية ، والذي صدر له عدة مسرحيات ومؤلفات أدبية ، وكانت أولى مسرحيات مسرح الإخوان المسلمين ، مسرحية ( جميل بثينة ) وقد أنتجت المسرحية ( لجنة تشجيع التمثيل ) التابعة لوزارة المعارف ـ التربية والتعليم ـ وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934 م ، وقد نجحت المسرحية الأولى للإخوان المسلمين نجاحاً مبهراً ، مما حدا بأحد الباحثين وهو الدكتور شرقي قاسم في رسالته للدكتوراه ( الإسلام والمسرح المصري ) يقرر : أن مسرحية جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء ( مجنون ليلى ) .
هذا عن دلالة نجاح المسرحية من حيث التأليف ، أما من حيث الحرفية المسرحية فيكفي أن نقف على أسماء النجوم المشاركين في المسرحية ، فمنهم : جورج أبيض ، وأحمد علام ، وعباس فارس ، وحسـن البارودي ، وفتوح نشاطي ، ومحمود المليجي . ومن العناصر النســائية : فاطمة رشـدي ، وعزيزة أمير .
تبع هذا العمل عدة أعمال أخرى ، وبدأ الأستاذ البنا في تعميم تجربة إنشاء الفرقة المسرحية ، من المحترفين أو الهواة على حد سواء ، كانت الفرقة الأم الكبرى فـي القاهرة ، وكانت هناك فرق أخرى عن طريق قسم الطلبة في الإخوان ، وذلك بتمرين طلبة القسم الثانوي على الأداء المسرحي ، وتمّ تعميم الفكرة على معظم شُعب الإخوان في بقية المحافظات ، لتكون بديلاً للريف المصري والمناطق النائية عن المسارح والسينمات ، ولغرس أهداف وقيم تصل سريعاً عن طريق الفن ، أكثر من أي وسيلة أخرى ، وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم تجربته الشخصية في هذا المجال المسرحي ، يقول رحمه الله : ( لم يكن بقوة ـ في تلك الأيام ـ أية مؤسسة من مؤسسات الترفيه ، منافسة السينما والمسرح ، وقد رأيتها فرصة سانحة لنقل الأفكار الإسلامية إلى عقول الفلاحين وعقول الناشئة وأهليهم ، فصغت من أحداث نفي مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم في شعب من شعاب مكة مسرحية . وكنت قبلُ قد وضعت أحداث معركة القادسية في مسرحية طويلة ، وكانت هاتان المسرحيتان باللغة الفصحى ، فرأيت أن أضع بجانب ذلك مسرحية باللغة العامية لتخاطب عامة الناس ، وجعلت هدفها معالجة ما درج عليه الفلاحون ، وفي ذلك الوقت من الاستدانة بالربا من اليهود الذين أنشأوا مكاتب في المدن ويبعثون بمندوبهم إلى القرى والعزب للإيقاع بهؤلاء الفلاحين العوام ، ولما كانت مسرحية القادسية طويلة فقد اجتزأت بفصلها الأخير .
وقد استغرقت وقتاً طويلاً في تدريب مجموعة من شباب الشعبة على التمثيل حتى أتقن كلٌ منهم الدور الذي أسند إليه تمام الإتقان .
وقد أدت الفرقة التي كونها الأستاذ محمود عبد الحليم في بداية الأربعينيات في ريف البحيرة أكثر من مسرحية ، وكان من ثمرتها: أن عدلت من مسار كثير من الناس ، وكانت سبباً في افتتاح شُعَب كثيرة على حد قوله .
واستمر مسرح الإخوان المسلمين في تقديم أعماله ، بل رأينا من بين فنانيه عدداً ليس بالقليل من عمالقة الفن المصري فيما بعد ، مثل: عبد المنعم مدبولي ، وإبراهيم الشامي ، وسراج منير ، ومحمود المليجي ، ومحمد السبع ، وعبد البديع العربي ، وشفيق نور الدين ، وسعد أردش ، والأخوان : حمدي غيث وعبدالله غيث . وإبراهيم سعفان وغيرهم .
علاقة البنا بالفنانين
كما كوّن البنا علاقة بالفنانين الذين تيسّر له الوصول إليهم ، فقد كان يتعامل مع الفنانين والفن بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلامي عصره ، وهي روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم ، ولا حتى الحرص على السلام عليهم ، بل السخرية أحياناً والتنقٌص من امتهانهم للتمثيل ، على عكس البنا رحمه الله ، فقد أقام البنا علاقات مع الفنانين ، تركت أثراً طيباً عن دعوة الإخوان في نفوسهم ، سواء كانت العلاقة بلقاء عابر لا يفوته فيه غرس معنى من معاني الإسلام الحسنة ، أو بإقامة علاقة تواد وتودد معه ، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها ، أذكر من هؤلاء الفنانين ثلاثة فقط ، هو ما وصلت إليه من خلال بحثي وتنقيبي في هذا الأمر ، إضافة إلى أعضاء فرقة مسرح الإخوان المسلمين مع الفنانين .
أنور وجدي
أما أولهم فهو الفنان أنور وجدي ، الذي كان له صيت ذائع في فترة الأربعينيات من القرن العشرين ، والذي كان يلقب بفتى الشاشة ، وله جمهوره المتابع لفنه ، يقول الدكتور محمود عساف :
( في يوم من أيام صيف عام 1945م ، وكان الجو صحواً ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة ، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات ، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الإستعجال ، قال لي : قم بنا لنذهب إلى البنك العربي لنفتح حساب للإخوان هناك " إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت" .
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء ، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان ، دخلنا وألقينا السلام ، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب ، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحونا ، وكان يتحدث مع شومان بك ( رئيس البنك ) وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة ، فاجأنا شومان بك بقوله : " أهلاً وسهلاً " بصوتٍ عال جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا ، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفاً ويهتف " حسن بك ؟ أهلاً وسهلاً يا حسن بك ، ثم تقدم نحونا مصافحاً الإمام ثم إباي . ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال : أنا أنور وجدي ... والمشخصاتي ... يعني الممثل ... طبعاً أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعاً .
كانت مفاجأة لي ، فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا : فضيلة الأستاذ . أما حسن بك ، فقد كانت نشازا .
قال له الإمام : يا أخ أنور أنتم لستك كفرة ولا عصاة بحكم عملكم ، فالتمثيل ليس حراماً في حد ذاته ، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراماً . وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعوا إلى مكارم الأخلاق ، بل إنكم تكونون أكثر قدرة على نشر الدعوة الإسلامية من كثير الوعاظ وأئمة المساجد .
إني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله . فعندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الإمام البنا بكى أنور وجدي وقبل يده ورأسـه ، بعدهـا رأينا لأنور وجدي في فلم ( ليلى بنت الفقراء ) .
حسين صدقي :
والفنان الآخر : هو حسين صدقي الذي يشير بعض معاصري البنا إلى علاقة بينه وبين البنا في نهاية الأربعينات من القرن الماضي ، قبل وفاة البنا ببعض شهور ، وأكمل الأستاذ سيد قطب المشوار الدعوي معه ، إذ كان يسكن بجواره الفنان حسين صدقي رحمه الله ، وقد ذهب إليه يخبره أنه ينوي اعتزال التمثيل ، وتركه نهائياً ، فقال له سيط قطب : إنني أكتب عشرات المقالات ، وأخطب عشرات الخطب ، وبفيلم واحد تستطيع أن تنهي على ما فعلته أنا ، أو تقويه ، أنصحك أن تستمر ولكن بأفلام هادفة .
وبالفعل قدم حسين صدقي بعد ذلك فيلمين : الأول ضاع عن ذهني اسمه ، وقد مثل فيه معه : حسن فايق وعزيزة حلمي ، وماجدة ، وكان يدور حول علاقة الأب بأبنائه ، وأسلوب التربية الخطأ ، وقد دخل هذه الأسرة المفككة فأقام علاقة جيدة بالأولاد ، مما كان سبباً في تحسين علاقتهم بأبيهم وربهم .
أما الفيلم الآخر : فهو فيلم : ( الشيخ حسن ) ولم أره ، ولا يعرضه التلفزيون المصري ، فقد صادرته الرقابة آنذاك ، ولكني رأيت إعلانه في الجرائد القديمة ، وقد رأيت صورة حسين صدقي يرتدي الزي والعمامة الأزهرية ، وشاركته في البطولة ليلي فوزي ، وسألت أحد الذين شاهدوا الفيلم ، فحكى لي أنه يدور حول شيخ أزهري ، عرف فتاة مسيحية فدعاها إلى الإسلام فأسلمت فأثار الفيلم ضجة ـ واعتراضا من المسيحيين في مصر ، فآثرت الرقابة السلامة فمنعته .
عمر الشريف :
أما الفنان الثالث الذي يبدو أن البنا والإخوان أقاموا معه علاقة وتعامل ، أو رأى منهم سلوكيات تشعره بموقفهم تجاه الفن ، مما أثر في رأيه تجاه الإخوان بالإيجابية ، فهو الفنان العالمي المصري المعروف عمر الشريف الذي هاجت الدنيا بعد فوز الإخوان في انتخابات البرلمان المصري في نوفمبر 2005 م ، متخوفين من موقف الإخوان تجاه الفن والثقافة ، فصرّح عمر الشريف أكثر من مرة بأنه لا أساس لهذا الخوف من الإخوان فهو يعرفهم منذ القدم ، وهم ليسوا ضد الفن ، ولا شك أن هذه الصورة تكونت لديه من نهاية الأربعينات وبدايات الخمسينات ، كما ذكر في تصريحه ، فقد غابوا بعد ذلك فترة طويلة وراء السجون إلى منتصف السبعينات .
البنا والفن اليدوي :
أما عن البنا والفن اليدوي والمتمثل في التصوير الفوتوغرافي والرسم وغيره ، فموقف البنا فيهمسرح الاخوان الاخوان والفن موقف معروف ، فلم يكن البنا ضد التصوير الفوتوغرافي ولا ضد الرسوم الكاريكاتورية ، فمن أول مجلة أنشأها الإمام البنا استخدم فيها الصور ، وهي مجلة ( جريدة الإخوان المسلمون ) ففي السنة الأولى منها فاجأ البنا الجميع بأمر لم يكن مألوفاً في المجلات الإسلامية ، فقد أعلن عن إنشاء قسم الأخوات المسلمات في جماعة الإخوان المسلمين ، فكتب تحت عنوان : إلى الأخوات المسلمات نداء من السيدة لبيبة هانم أحمد مسؤولة قسم الأخوات المسلمات ، تدعو فيه أخواتها المسلمات للتعاون معها في هذا القسم ، ثم ثنّى على ذلك البنا بتعقيب على ما كتبته السيدة لبيبة هانم أحمد ، بعنوان : مثال المرأة المسلمة الصالحة السيدة لبيبة هانم أحمد ، وقدمها بما فيها من خلال وصفات ، وقد وضع في رأس الصفحة صورة السيدة لبيبة هانم أحمد ويعتبر هذا أول مرة تجرؤ مجلة إسلامية على نشر صورة امرأة في صدر صفحة من صفحاتها ، أو في أي صفحة من صفحات مجلتها .
ثم اقترح أحد الإخوان على الأستاذ البنا أن ينشر صور أعضاء جمعية الإخوان المسلمين من باب التعارف ، وذلك في السنة الثالثة من المجلة ، فبادر الإمام البنا بتنفيذ الفكرة ، فنشر صورته ، ثم بعد ذلك صور عدد من الإخوان ، كلما أرسل عضو صورته نشرت مع ذكر اسمه وذكر منطقته . ونفذ نفس الفكرة في مجلة ( الشهاب ) آخر مجلات البنا إصداراً ، فقد كان يفرد في نهاية المجلة صفحة أو صفحتين ينشر فيها صوراً لعلماء ومفكرين ودعاة ، معرّفاً في صفحة أخرى أو أكثر بأصحاب الصور بما يليق بهم من تعريف ، ويعطي القارئ نبذة مختصرة عنهم .
هذا الأمر يجعلنا نخرج بنتيجة : وهي أن الإمام البنا كان رأيه جواز التصوير الفوتوغرافي ، وعدم ممانعته في ذلك ، وإن لم يكن هناك أي فتوى للبنا في حكمه ، ولكن رأينا له فعلاً عملياً في ذلك .
البنا وفن الكاريكاتير :
كـانت علاقة الإمام البنا بالجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامي وطيدة ، يجمع بينهما الود والتعاون ، وكذلك حاول مع بعض الأحزاب ، إلا أن هناك أحزاباً ناصبته العداء ، وسخرت صحافتها للنيل منه ، والتهكم عليه ، وعلى دعوته ، وكثيراً ما كانوا يرسمونه في صورة كاريكاتورية تعبر عن سخريتهم من دعوة الإخوان ، ومنه شخصياً ، كما في تعمدهم دوماً عند الحديث عنه نعته بمدرس الخط ، وكان البنا يرد على ذلك كله بالرد الجميل ، وكان يرسل خطاباته للنحاس باشا رئيس وزراء مصر بهذا الأسلوب : من مدرس الخط إلى دولة رئيس الوزراء ، وقد كان لصحف الوفد النصيب الأكبر في النقد والتهكم .
غير إن كثرة تجاوز الصحف التي سخرت أقلامها للنيل من البنا ودعوته دفعت بعض الإخوان للجوء للرد عليهم بنفس الأسلوب ، وقد قرر عضوان من الإخوان إصدار مجلة ساخرة كاريكاتورية ، وأعلنوا مراراً في جريدة ( الإخوان المسلمون ) اليومية عن مسابقة للبحث عن عنوان لمجلة لا حزبية ، ثم استقر صاحبا المجلة على أن تصدر باسم ( الكشكول الجديد ) وقد قررا الاستقالة من تنظيم الإخوان حتى لا تحسب كتاباتهما عليه ، على الرغم من حملهما أهداف الجماعة ، ونشرا استقالتهما في المجلة ، وطلبا من الأستاذ البنا التعقيب على ذلك ورأيه في المجلة نفسها ، فرد عليهما الأستاذ البنا فكتب يبين رأيه في هذا الفن ، وكيف يكون ، والخطة التي يقترحها عليهما ، فكتب رحمه الله قائلاً :
( تلقيت استقالتكما من الإخوان المسلمين ، وقرأت ما كتبتماه عن ذلك في مجلة ( الكشكول ) في عددها وعرضتها على الهيئة التأسيسية للإخوان في اجتماعها الماضي فوافقت عليها شاكراً لكما جهودكما الصادقة في خدمة الدعوة الكريمة سابقاً ، وحسن استعدادكما لخدمتها لاحقاً . وجميل ثنائكما عليها واعترافكما بما تقدم للشباب من خير وحسن توجيه ، فأبلغكما ذلك سائلاً الله تبارك وتعالى أن يوفقنا جميعاً لخير دينه ، والعمل على إعلاء كلمته ، وإرشاد الناس إلى سبيله ، آمين .
ولقد تابعت بعد ذلك ما يكتب في الكشكول ، فأردت أن أتقدم لكما بمخلص النصيحة ، نصيحة من لا يزال وسيظل يشعر لكما بعاطفة الأخوة الكاملة التي ربط الله بها قلوب عبادة المؤمنين فـي محكم كتابه إذ يقول: ( إنما المؤمنون إخوة ) الحجرات : الآية 10. ذلك أني وإن وافقتكما موافقة تامة في وجوب محاربة الحزبية والاستعمار ومقاومة المبادئ الهدامة الفاسدة كائنة ما كانت ، فإني لا زلت أخالفكما في الأسلوب على الصورة التي رأيتها في ( الكشكول الجديد ) .
ولهذا أرجو أن تسلكوا به مسلكاً آخر نحو بناء جديد . حاربوا الحزبية بصورتها البغيضة التي ظهرت بها في مصر ، فأحرجت الصدور ، وجرحت الأبرياء ، ونفرت القلوب ، وقززت النفوس ، وأوهنت القوى وأفسدت الأخلاق والضمائر ، وفعلت بالمجتمع الأفاعيل .
وحاربوا الاستعمار الغاشم الظالم الماكر الخادع الذي سلب حريتنا ، وقيد استقلالنا ، وتدخل في كل شؤوننا ، وحرمنا خيرات بلادنا ، وتراث كدنا وكفاحنا ، واستأثر دوننا بكل شيء ومهّد في وطننا لكل دخيل ، وكان في حياتنا الاجتماعية رأس كل خطيئة .
وحاربوا المبادئ الهدامة التي لا تتكشف في حقائقها وأهدافها ومراميها إلا عن الإلحاد والكفران والإباحية والإثم والعصيان ، والتمكين للمستعمر القديم ، أو التمهيد للمتحفز الجديد ، كأنما كُتب على هذه الأمة ألا تنقل من سيادة إلا إلى سيادة ، وألا تتذوق طعم الحرية أبداً على أيدي هؤلاء الخبثاء . ويأبى الله ذلك والمؤمنون .
حاربوا كل هذا واكشفوا عن مخازيه للناس ، وحذّروهم إياه ، ولقد كان سفيان الثوري يقول لأصحابه إذا اجتمع إليهم : تعالوا نذمّ ساعة في سبيل الله ، لا تجالسوا فلاناً فإنه كذاب، ولا تأخذوا عن فلان فإنه يضع الحديث ، ولا تتقوا بفلان فإنه متهم في دينه ، أو رأيه وهكذا .
ولكن تحرّوا في ذلك كلمة الحق الذي لا يفتري ولا يعتدي ولا يكذب ، والجد الذي يحفظ على النفوس قوتها لا تتميع معه الأخلاق ولا تموت بكثرته القلوب ، ولا يذهب برهبته العدوان ، ولا يضعف مشاعر السخط وهي عدّة المجاهدين ، ولا ينافي ذلك ورود المزحة القاسية ، والنكتة اللاذعة ، ورّب واحدة من هذه أبلغ من قول كثير ، ثم خصصوا أبواباً لهذا ، واحرصوا على أن يظهر هذا اللون واضحاً .
وتجنبوا الانحياز إلى جهة فإنكم تحاربون مذاهب وآراء وأعمالاً على يد كائن من كان . ولا تكشفوا عما ستر الله من النقائص الشخصية ، فإن الإذاعة عن ذلك في ذاتها إثم من الآثام ما لم يتعلق بذلك حق للمجتمع ، أو مصلحة تعود على الناس ، والعفة عن الولوغ في الأعراض أدب الإسلام ، ولا أجمل من التورع والاحتشام .
كونوا كذلك واطبعوا مجلتكم بهذا الطبع وانهجوا به نهجاً جديداً ، ( ونحو بناء جديد ) وأعتقد أنكم بذلك ستقدمون إلى الناس غذاءً شهياً سائغاً لا تعبَ معه ، ولا ضرر فيه إن شاء الله . وحينئذ يكون لمثلي على ضعفه وضيق وقته ألا يحرم نفسه المساهمة معكما في هذا الجهاد والله أسال لي ولكما كمال الهداية ودوام التوفيق . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا النص يتبين لنا بوضوح موقف البنا من هذا الفن ( الكاريكاتير )، وهو الموافقة والتأييد ، بل جعله جهاداً ، ولكنه وضع شروطاً هامة في كيفيته ، وأخلاقيات على من يمارسه أن يتخلق بها ، لا أرى فائدة في إعادتها ، فهي واضحة المعالم والعناصر في صلب مقال البنا .
البنا وفن النكتة :
كما كان البنا رحمه الله يستخدم لوناً من الفن اشتهر به المصريون ، وهو فن النكتة وهو يمتاز بهذا الفن تذوقاً ، وإنشاء ، ومن ذلك ما حكاه الشيخ الغزالي رحمـه الله مـن قصة زواجه ودور البنـا فيه ، يقـول الشيخ الغزالي رحمـه الله :
( مع تسلمي للعمل الحكومي ، تم زواجي ، وكان الأستاذ البنا قد تدخل في المسألة التي بدأت معقدة ، فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في زوج أغنى مني .. إنه من قريتنا ، وإن كان موظفاً بوزارة العدل في القاهرة ، وعلم أن مرتبي ستة جنيهات ، أعطي أبي نصفها تقريباً ..!
لكن الأستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري ، والمسـتقبل بيد الله ، وسيكون خيراً .
وتزوجت وسألني الأسـتاذ المرشـد : ماذا فعلت مع فلان ـ يعني صهري ـ ؟ فقلت : دخلت بابنته . قال عاتباً : لِمَ لم تدعني ؟ وتمثل بقول الشـاعر ، وهو يبتسم :
وإذا تكون كريهة أدعى لها .... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
فقلت : لم تكن هناك وليمة ، اكتفينا بأشربة حلوة ، تناولها بعض الزملاء ، وأوسع لي الرجل غرفة في بيته والحمد لله ، فدعا لنا بالبركة ) .
ويحكي الدكتور جابر قميحة نكتة قصها عليه الحاج عبد الرزاق هويدي ـ والد الكاتب الإسـلامي المعروف الأسـتاذ فهمي هويدي ـ خلاصتها : أنه ركب ( حنطوراً ) مـع الإمام الشـهيد ومعهما ثالث قاصدين إحدى القرى المجاورة لــ ( بنها ) لا تقصدها السيارات لضيق الطريق ، وكان الجو بارداً عاصفاً ، فطلب الإمام رفع غطاء الحنطور إلى الخلف ؛ لأن وضعه الحالي يزيد من مقاومة الحصان للهواء فيتعبه . قال الحاج عبد الرزاق : بل نتركه يا فضيلة المرشد لأن الجو بارد . ولا ضير فصاحب الحنطور من الإخوان . فصاح الإمام : سبحان الله يا أخي !!! لكن الحصان مش من الإخوان .
وكان الإمام البنا إضافة إلى أنه يمازح ويضاحك من حوله ، كان من هواة القفشات الضاحكة ، كما حدث وأن زار عمدة ( رشيد ) محمد بك طبق ، وفي جلسة تعارف ـ كما هي عادة البنا ـ بدأ العمدة فقال : ( محمد طبق ) عمدة رشيد ، ثم تلاه بجواره في التعارف قائلاً : ( محمد سمك ) رئيس مجلس بلدية رشيد ، وقدم الذي يليه نفسه بقوله : ( زكي طبيخة ) طالب !!
فقال الأسـتاذ البنا وهـو يبتسم : ( سـفرة دايمة ) وضحك الجالسون جميعاً .
البنا وفن الإنشاد والغناء :
وقد استخدم البنا من أول دعوته فن الإنشاد وبخاصة الديني منه ، الذي يغرس القيم ويذكّر بالماضي التليد . ولا غروَ أن رأينا أكبر جماعة إسلامية لها رصيد هائل من الأناشيد وهي جماعة الإخوان المسلمين ، ولا يشاركها أو ينازعها في هذا الكم جماعة أخرى . فقد اختار البنا نشيداً ليكون نشيد الإخوان ، والذي ألفه شاعر الإخوان الأستاذ أحمد حسن الباقوري بعنوان ( يا رسول الله هل يرضيك أنا ) .
ثم بعد ذلك توالت الأناشيد كنشيد الكتائب الذي ألفه الأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وغيره من أناشيد الجوالة ، وأناشيد الجهاد .
إذاعة الإخوان المسلمين:كما أنشأ الأستاذ البنا إذاعة خاصة ، وكان هذا الأمر في عهد الملكية المصرية قبل ثورة يوليو أمراً ممكناً ، وقد سلمها إلى الحكومة المصرية بعد قرار حلّ الإخوان الأول في عهد النقراشي .
وأحياناً كانت جريدة الإخوان المسلمين اليومية تُعيد كتابة ما تبثه من أحاديث الأستاذ البنا ، كمقالي (صور من الماضي) و (ثمن الحياة) .
بقلم : عصام تليمه
موقع السودان الإسلامى