- الجمعة أكتوبر 15, 2010 1:59 pm
#28401
#000000فرنسوا بورغا(**)
1. اختلاف خطير مع جيل الإسلام السياسي المعتدل(1)
في حين يُفترَض بالعلاقات بين الاتّحاد الأوروبي والمعارضات أن تحرّر المجتمعات الأهليّة من وصاية الدولة، تعاني من الأحكام المسبقة نفسها: فما خلا الاستثناءات، تقتصر حصراً على الفاعلين "العلمانيين" في هذه "القوّة الثالثة" التي تقضي مهمّتها، في المخيّلة السياسية الغربية، بأن تقف وجهاً لوجه بين الأنظمة السلطوية ومعارضيها الإسلاميين.
المشكلة التي تطرحها هذه القوّة الثالثة الأسطورية مزدوجة: أ) في العشرين سنة الماضية، أظهرت إلى حدّ كبير أنّها لا تتمتّع بقاعدة شعبيّة تسمح لها بأن تشكّل بديلاً ذا صدقيّة من الأنظمة؛ ب) تستند إلى قراءة للتيّارات الإسلامية تُظهرها بأنّها منيعة في شكل كامل على ديناميّات التحرّر السياسي و"الدمقرطة"، مع أنّ هذه ليست الحال أبداً، وهو مؤشّر الى خطأ التقدير الأخطر الذي وقعت فيه النظرة الغربية الطاغية، وفي هذه الحالة، الهيئات الأوروبية المعنيّة.
1. 1: إسلام مؤسّسي مؤمّم
في العالم العربي، هناك ميل إلى اعتبار الاتّحاد الأوروبي ممثّلاً لمجتمعات "متخلّية عن المسيحية" أكثر منها علمانية، ما يشكّل أحد الفوارق الأساسية بينه وبين المجتمع الأميركي الذي يُعتبَر مجتمعاً دينياً. يعمل هذا التديّن الأميركي أحياناً لمصلحة الولايات المتّحدة التي، وخلافاً لأوروبا، لا يشكّل وجود الدين في المساحة العامّة مشكلة بالنسبة إليها. في قلب أوروبا، لا تُتَّهم فرنسا فقط بإقصاء الحجاب الإسلامي من المدارس إنّما أيضاً، وبطريقة أقلّ شرعيّة، بشجبه في أجزاء كاملة من المساحة العامّة. في المقابل، يُندَّد بالتديّن الأميركي باعتبار أنّه يغذّي المشاريع التبشيرية للمنظّمات البروتستانتية غير الحكومية التي غالباً ما تدعم دولة إسرائيل بشغف شديد ويُعتبَر تأثيرها مضرّاً جداً بالسياسة الخارجية للمحافظين الجدد.
في العالم العربي، غالبيّة الفاعلين الدينيين المؤسّسيين (المفتين والعلماء الذين يديرون الجامعات الإسلامية الكبرى مثل الأزهر) متّصلون جداً بالأنظمة إلى درجة أنّهم لا يمكنهم التعبير عن أيّ شيء آخر غير تحاليل هذه الأنظمة واستراتيجيّاتها. بناءً عليه، الانتظارات المعبَّر عنها حيال أوروبا في الحوارات العديدة بين الأديان وحلقات عمل ولقاءات أخرى مع هؤلاء الممثّلين عن المؤمنين في العالم العربي، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بتحليل أسباب "العنف الإرهابي" تحجب أحد الأسباب الأساسية ألا وهو القبضة القمعيّة السائدة في كلّ من مجتمعاتهم. في مجال التواصل "بين الأديان"، هذا هو بلا شكّ أحد المصادر الأساسية لقصر نظر الاتّحاد الأوروبي في مجال المعلومات والصورة والتحرّك.
لا تقتصر سيطرة الأنظمة على السلطات الدينية، على السيادة السياسية لهذه السلطات وحسب، بل تتجلّى أيضاً إلى حدّ كبير داخل أوروبا حيث تؤثّر بالدرجة نفسها في سير عمل بعض المؤسّسات المسلمة وتالياً في صفتها التمثيلية. بناءً عليه، لن يؤدّي "حوار بين الأديان" يجمع، بتشجيع من أوروبا، سلطات مسجد باريس التي ظلّ تأثير النظام الجزائري عليها حاسماً، والسلطات الدينية الجزائرية أو التونسية أو المغربية، سوى إلى إبراز الأوجه المختلفة لسلطويّة متشابهة، وفي شكل أساسي إلى حجب الانتظارات المتلاقية في هذا المجال للمؤمنين في الجهتَين. في شكل عام، "الفاعلون الدينيون" الرسميون الذين يمنعون أنفسهم من أن يأخذوا في الاعتبار الدور – الأساسي – للأنظمة في صعود العنف الموصوف ب"الإسلامي"، يميلون إلى التعويض عن هذا الفراغ بالإفراط في إضفاء طابع لاهوتي على التشنّجات السياسية. في مختلف الأحوال، فإنّ تعبئتهم للمؤسّسات الأوروبية والمجتمعات الدينية أو السياسية أو بكلّ بساطة البشرية في جهتَي المتوسّط، لا تسمح إلاّ بطريقة محدودة ومتناقضة، بالدخول في تفاعل غير مثمر كثيراً.
تقتضي استراتيجيّات الالتفاف على هذه السيطرة أن يختار الاتّحاد الأوروبي اللجوء إلى محاورين دينيين متحرّرين من أيّ ولاء للأنظمة وتالياً متجذّرين نوعاً ما في المشهد المعارِض. غير أنّ الجمع بين "تكلّم اللغة المسلمة" وموقف معارض يكفي في شكل عام، حتّى يومنا هذا، لجعل الفاعل المسلم في نظر الاتّحاد الأوروبي غير قابل للتعامل معه.
1. 2: إسلام معارض أضفي عليه الطابع الشيطاني
إنّ الوضع الغريب جداً الذي وجد الاتّحاد الأوروبي نفسه فيه عبر اختيار مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة حديثاً يعكس بقوّة التناقضات التي من شأن تراكم وسليتَي التموضع الأوروبي – الانحراف في اتّجاه إسرائيل وعدم فهم طبيعة القوى البديلة من الأنظمة العربية القائمة – أن يجعلها تمتدّ إلى علاقة الاتّحاد مع مجمل محيطه العربي.
تُحدِث الوسائل نفسها التي تُضعِف التعريف الأوروبي ل"المجتمعات الأهليّة" العربية "الشرعيّة" أضراراً مماثلة في تحديد المعارضين السياسيين. عندما يخطر للاتّحاد الأوروبي التحدّث مع آخرين من خارج دائرة الفاعلين الحكوميين أو الممثلّين الرسميين للمجتمعات الأهلية، يُجري فرزاً لصفتهم التمثيلية فيه الكثير من الأحكام المسبقة. تتمتّع المعارضات المعروفة ب"العلمانية" من الجيل الأوّل (الوريثة التاريخية نوعاً ما للاشتراكيّات العربية) بحصّة الأسد من الاهتمام الأوروبي. وغالباً ما تكون درجة الاعتراف مرهونة بالجهود التي تبذلها لتشويه سمعة منافسيها الإسلاميين. والإجحاف الأكبر هو أنّ ممثّلي البديل العلماني من الأنظمة (الذين غالباً ما يصفون أنفسهم بـ"الديموقراطيين"، وهي تسمية توحي بأنّ كلّ التيارات الإسلامية محكمة الإغلاق أمام هذا المفهوم)، لا يملكون في مجتمعاتهم سوى صفة تمثيلية غير متناسبة مع تلك التي يتمتّعون بها
في القنصليات ووسائل الإعلام الأوروبية.
على الأرض، حلّ مكان الجيل القومي في كلّ مكان خلفاؤهم الإسلاميون الذين، وعبر إعادة إدخال مصطلح الثقافة المسلمة "الداخليّة النموّ" في الخطاب السياسي، أطالوا بطريقة مبتذلة في المجال الثقافي والرمزي عمليّة "إبعاد" المستعمِر القديم التي أطلقوها هم أنفسهم. مع ذلك، فشلت أوروبا حتّى الآن فشلاً ذريعاً في ترشيد نظرة هذا الجيل السياسي وفتح حدّ ادنى من قنوات التواصل معه، ما قلّص كثيراً معرفتها بالمكوّن الأغلبيّ في محيطها العربي والاعتراف به. ما خلا بعض الاستثناءات الجديرة بالثناء (عرف ممثّلو الاتّحاد الأوروبي كيف يقيمون اتّصالاً مع "حزب الله" اللبناني ويحافظون عليه، ولم يوقفوا التعاون مع وزارة الطاقة عندما عُيِّن على رأسها عضو في الحرب)، تمرّ النظرة الأوروبية إلى انتظارات العالم العربي بفتحة ضيّقة جداً: يحجب صوت الأنظمة أصوات المجتمعات الأهليّة، ويقنِّع صوت المعارضات العلمانية الأقلّية جداً صوت الجيل الإسلامي بكامله.
في صفوف الإسلاميين، أوروبا متّهمة، وهذا ليس مفاجئاً، بأنّها ما زالت تبحث حتّى يومنا هذا عن "قوّة ثالثة" أسطوريّة من شأنها أن تستثمر موارد رفضها المزدوج لـ "الطاعون" (العسكري) و"الكوليرا" (الإسلامية). يختصر جامعي جزائري منفيّ، هو عبّاس عروة، هذا المأزق الذي وقعت فيه الرؤية السياسية الأوروبية: "أصابت فرضيّة "لا طاعون ولا كوليرا" أوروبا ب"عمى" سياسي. فأوروبا التي تخدعها نظرة إيديولوجية قريبة أحياناً من رُهاب الإسلام (كما أظهرت بعض ردود الفعل الرسمية جداً أثناء أزمة الرسوم الكاريكاتورية)، وهي نظرة تهدّئ مخاوفها المتوارثة، [...] وتركض، على غرار الجنرال ديغول في الخمسينات، وراء "طريق ثالث" وهميّ، ظلّت عمياء أمام تطوّر الواقع الجزائري والعربي الذي يعتبر أنّ المصالح الشرعيّة يضمنها في شكل أفضل الممثّلون الحقيقيون للشعوب المعنيّة والذين ستنجح القوى الممثِّلة فعلاً للمجتمع، عاجلاً أم آجلاً، في جعلهم يصلون إلى السلطة".
1. 3: برشلونة والمأزق المبرمَج لمقاطعة الحكومة الفلسطينية
في الأراضي العربية، لا يملك الاتّحاد الأوروبي إذاً اليوم محاورين ووسطاء وموارد يسمحون له بالاستعداد فعلياً لتحدّيات المراحل الانتقالية السياسية الحالية واللاحقة في هذه البلدان. تعتبر غالبيّة كبرى من المعارضين، ليس الإسلاميين فقط (وتالياً غالبيّة كبرى من المواطنين في هذه المنطقة من العالم)، أنّ القضاء العشوائي على كلّ تعبير سياسي معارِض – أو حتّى في حالة "حماس"، حكومي – مصدره العالم العربي ويستخدم أصحابه لغة الثقافة المسلمة، هو أحد الأسباب الأساسية لواحد من أخطر الإخفاقات التي تعاني منها الديبلوماسية الأوروبية: إنّها بكلّ تأكيد "عمليّة برشلونة" التي يعتبر غالبية المراقبين اليوم أنّها بقيت حبراً على ورق.
العجز الأوروبي عن رؤية العمليّة التاريخية المبتذلة نسبياً التي تفسّر بروز هذه القوى ومركزيّتها الحالية في المشهد السياسي العربي هو في قلب هذا الإخفاق. لا يرفض الاتّحاد الأوروبي الاعتراف بأهمّية القاعدة الشعبية للمعارضات الإسلامية المعتدلة وحسب إنّما أيضاً استشفاف قدرتها التحديثية – في كلّ ميادين التحرّر السياسي بما في ذلك ترسيخ الحقوق الفردية للنساء والرجال على السواء – من المنظار نفسه الذي يتعامل به مع الفاعلين "العلمانيين" في المشهد السياسي.
منذ أكثرمن عامَين، انضمّ عدد كبير من مراكز الأبحاث الأميركية إلى هذه النظرة التي تعتبر "الإسلاميين المعتدلين" "مفتاح الإصلاح العربي" كما جاء في عنوان مقال لعمر حمزاوي الباحث في "مؤسّسة كارنيجي للسلام الدولي"(2). فقد أكّد في شكل أساسي أنّه لا يمكن تحقيق أيّ إصلاح ذا معنى في العالم العربي قبل أن تبدأ "الولايات المتّحدة وأوروبا بإقامة علاقات مع الإسلاميين المعتدلين، وهو أمر أقلّ صعوبة ممّا قد يبدو عليه، لأنّ هؤلاء الإسلاميين تبنّوا القواعد الديموقراطية وأظهروا دعماً حقيقياً جداً لدولة القانون".
ويشهد على ذلك في شكل خاص، في العالم العربي بأسره، التحالفات المتعدّدة التي يعقدها الإسلاميون، بدءاً من لبنان (حيث تحالف الجنرال المسيحي جداً ميشال عون مع "حرب الله" الشيعي) وصولاً إلى اليمن (حيث تحالف الاشتراكيون في الانتخابات الرئاسية في 20 أيلول 2006، مع "التجمّع اليمني من أجل الإصلاح" القريب من الإخوان المسلمين) مروراً بموقّعي ميثاق سانت إجيديو النموذجي في كانون الثاني 1995 بين كلّ مكوّنات المعارضة الجزائرية.
عندما تقترن مفاعيل الانحراف في اتّجاه إسرائيل مع العجز عن بناء علاقات مع الفاعلين في التيّارات الإسلامية بطريقة عقلانية، يمكن أن يتّخذ الأسوأ شكل مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة شرعياً والرسالة المتناقضة إلى أقصى الحدود التي وجّهها لمجموع المعارضات العربية. لفرط ما أظهرت أوروبا عدم رغبة في الاعتراف بجيل سياسي، وطوّعت مبادئها مع أهمّية موارد محاوريها العرب الاقتصادية وأسواقهم، وضحّت بمبادئ السياسة الطويلة الأمد على مذبح المصالح الماليّة والانتخابية القصيرة الأمد، أضرّت على ما يبدو إلى حدّ كبير بقيمة تبادلاتها مع محيطها العربي والمسلم وفاعليّتها. فنظراً إلى عجزها عن تحديد محاورين غير الأنظمة السلطويّة أو من خارج الأطراف الهشّة للمجتمعات التي تعطيها صورة مريحة عن طابعها الكوني، أوروبا معرّضة لأن تجد نفسها في المدى الطويل في وضع غير مستقرّ مع جزء كامل من العالم.
2. بعض التوجيهات لجعل تحرّك الاتّحاد الأوروبي متوازناً من جديد
2. 1: تأكيد الاعتراف الكامل بكلّ القوى السياسية غير المذهبية بما فيها "الإسلامية"
التغيير الأوّل والأكثر إلحاحاً الواجب إجراؤه في سياسات الاتّحاد الأوروبي هو العمل على مدّ جسور فكرية وغير رسمية قبل أن تكون سياسية وممأسسة، مع رقعة الشطرنج الديموقراطية العربية كاملة. يجب إعادة بناء مفهوم التيّار الإسلامي انطلاقاً من تمييز نادراً ما يتمّ إجراؤه: تميل غالبيّة من الفاعلين السياسيين، لأسباب ذات طبيعة على صلة بالهويّة، إلى تأكيد علامات الثقافة المسلمة. لا تحدّد عمليّة التأكيد هذه استخدام أنماط تحرّكات سياسية معيّنة ولا يمكن اعتبارها بأيّ من الأحوال بأنّها تتناقض مع ديناميات التحرّر السياسي والتحديث الاجتماعي وتُقصيها. بالتأكيد، يستطيع الاتّحاد الأوروبي وينبغي عليه أن يحتفظ بحقّ الابتعاد عن الفاعلين السياسيين الذين لا يحترمون أخلاقيّاته الخاصّة. لكن يجب أن يفعل ذلك بالقوّة نفسها أياً تكن اللغة التي يستخدمها الفاعلون المعنيّون وليس فقط على أساس "إسلاميّتهم" المحتملة التي تجعله يقصي جملةً وتفصيلاً كلّ المجموعات السياسية المصنَّفة بـ"الإسلامية".
من دون التفلّت من أيّ من المقتضيات الديبلوماسية، يستطيع الاتّحاد الأوروبي أن يُدرج في لائحة محاوريه (الحكوميين بالتأكيد إنّما أيضاً المعارضين وأعضاء المجتمعات الأهليّة) مجمل العائلات السياسية الموجودة على الساحة وفي شكل خاصّ كلّ التيّارات الإسلامية – أي غالبيّة ساحقة – التي تقبل مبدأ هذه الحوارات أو التفاعلات. فهذه التيّارات الموجودة غالباً في الهيئات البرلمانية، كما هي الحال في فلسطين أو اليمن أو الأردن أو لبنان أو الكويت أو العراق أو السعودية، ناهيك عن الحالات التي يشاركون فيها في حكومة أو يديرونها (كما في لبنان أو فلسطين وغداً في العراق وأماكن أخرى) يجب ألاّ تتعرّض لإقصاء من شأنه أن يستمرّ في ترسيخ الفكرة المتجذّرة بعمق الآن بوجود مذهبيّة مناهضة للإسلام في أوروبا، كما فعل الأداء المخيِّب في الموضوع الفلسطيني.
لا شكّ في أنّ المثقّفين المشاركين في برامج الاتّحاد الأوروبي يجب أن يكونوا من مختلف آفاق الفكر، وألا يقصوا بطريقة منهجيّة (كما فعل إلى درجة معيّنة برنامج المنتدى المدني والمنظّمات غير الحكومية) الفاعلين الذين يُعتبَرون قريبين أو جزءاً من الحركات الإسلامية.
2. 2: تخطّي القراءة اللاهوتية الطابع للتشنّجات السياسية
يفرض الاعتراف بالتيّارات الإسلامية المعتدلة على الاتّحاد الأوروبي عدم الانجرار – ولو كان لدى بعض الفاعلين، بمن فيهم الحكوميون، ميل إلى القيام بذلك – وراء إضفاء طابع أيديولوجي أو أسوأ من ذلك، لاهوتي على قراءة التشنّجات داخل العالم العربي ومعه. أبعد من جهود التقارب الثقافي أو الديني، على الرغم من أنّها ضروريّة، تحتاج العلاقة الأوروبية - العربية اليوم إلى آليّات قادرة على تأمين توزيع أفضل للموارد السياسية أي درجة أعلى من العدالة الدولية أو حتّى فقط درجة إجحاف أقلّ وضوحاً.
قد يكون التقارب الثقافي قادراً على المشاركة في هذه التسوية لكنّه لا يستطيع أبداً الحلول مكانها. إذاً يجب ألاّ يبرّر سجلّ "حوار الثقافات" أو "الحضارات" أبداً رفض قراءة دنيويّة للتشنّجات مع العالم العربي وردّ محض سياسي عليها. في الواقع، يحول اللجوء إلى مقاربة ثقافوية أو لاهوتية أو "مستندة إلى الحضارة"، دون إدراك الطابع الدنيوي والسياسي لتضارب المصالح، وبناءً عليه، مسؤوليّات الفاعلين على الصعيد الإقليمي أو العالمي أو على صعيد كلّ دولة.
2. 3:إعادة تحديد مهمّات الحوار بين الثقافات
"تتشاطر أوروبا والولايات المتّحدة القيم نفسها" هذا ما أكّده عام 2004 الرئيس الفرنسي جاك شيراك برفقة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. هذا مؤكّد. لكن أيعني ذلك أنّه ينبغي على "هذين البلدين" (كذا بالحرف الواحد) أن "يخوضا معارك مشتركة"؟ ربّما لكن... ضدّ من؟ ضدّ "حضارات"، أفريقية أو آسيوية، يعني المستور في هذه الصيغة أنّها لا تملك القيم نفسها؟
غالباً ما يُعمَّم التنوّع الرمزي للممارسات والطقوس والمراجع، خطأً، لتأكيد فكرة وجود اختلافات أكثر جوهريّة قائمة على "قيم" يُفترَض أنّها غير ملائمة. من شأن الحوار بين الثقافات أن يُستعمَل إذاً لجعل أكبر عدد ممكن في ضفّتَي المتوسّط يدرك أنّ تنوّع الثقافات يقتصر في الواقع على ميدان الأمور الرمزية (المراجع التاريخية أو الأسطورية، الدنيوية أو الدينية) التي تحشدها المجموعات الثقافية المختلفة من أجل شرعنة قيمها، لكنّها لا تتضمّن في شكل أساسي القيم نفسها.
ليس الإرباك جديداً ونتائجه، السلبيّة كلّها، متعدّدة الشكل. من أتاتورك الذي قاد مواطنيه إلى اعتناق الحداثة وإلى اعتمار شكل محدّد من القبّعات "الأوروبية" الى التحفّظات الفرنسية الانفعاليّة حيال ارتداء الحجاب (ليس فقط في المدارس الرسمية)، مروراً بالميل السائد لدى المؤمنين في كلّ الأديان إلى إنكار وجود قاسم مشترك إنسانيّ يتجاوز الانتماءات الدينية، تكثر الحيطان المسدودة، التحليلية والسياسية، التي يقود إليها هذا الخلط بين "جوهر" القيم والمراجع الرمزية التي تُحشَد لشرعنتها. يجب أن يساهم الحوار بين الثقافات الذي تروّجه أوروبا في كشفها والتنديد بها، مع تحديد الأساليب الكثيرة التي تُنكِر من خلالها العقائد والمبادئ والعصبيّات الجماعية على ثقافة الآخر قدرتها على التعبير عن مرجع كوني.
2. 4: التمعّن في أحاديّة العلاقة الثقافية وتجاوزها: كيف نَسمع كي نُسمَع، ونتعلّم لنعلِّم
لا شكّ في أنّ تطوير وسائل الاتّصال الأوروبية في اتّجاه العالم العربي، لا سيّما السمعيّة والبصرية، هو هدف جدير بالثناء. لكن يجب ألا يؤدّي إلى تفاقم عدم التوازن في التدفّقات الإعلامية بين الشمال والجنوب. إذا كانت أوروبا تريد أن تكون مسموعة، ينبغي عليها أن تسمح – بدون تمييز – للآراء العامّة في العالم العربي أن تُسمِع هي أيضاً صوتها داخل الاتّحاد.
على الأراضي الأوروبية، يشكّل تعدّد المعلومات السياسية حول العالم العربي والمسلم أحد الشروط المسبقة الأساسية لتلاشي التشنّجات والأمور التي هي محطّ سوء تفاهم مع هذه المنطقة من العالم. لكن في الوقت الراهن، يبقى توزيع الكلام العامّ حول النزاعات في الشرق الأدنى غير متوازن إلى حدّ كبير. فعندما تسمح رِجل كرسي أو طاولة لنفسها أن تكون أعلى من الأرجل الأخرى، أو عندما يُمنَع على رِجل ما بلوغ العلوّ الذي يسمح لها بالمشاركة في التوازن الجماعي... يواجه احتمال "العيش معاً" (على الصعيد الوطني أو الدولي) بسرعة كبيرة خطر التداعي. هذا الخلل في التوازن، مع نتائجه المروِّعة، هو الذي يجب الإشارة إليه بالإصبع من أجل تجاوزه.
يجب ألاّ تخشى أوروبا تشجيع محاوريها العرب على تكوين معارف مستقلّة حولها. في المراكز القيّمة التي تعنى بأبحاث العلوم الاجتماعية حول العالم العربي (والتي يمكن إضفاء الطابع الأوروبي عليها لتعزيز إمكاناتها وقدرتها على الاستقطاب) يمكن إضافة مراكز عربيّة لدراسة أوروبا من أجل المنفعة المتبادلة المتمثّلة ببناء معارف
علميّة مشتركة وتالياً مجرّدة من العواطف.
مع الاحتفاظ بطموحاتها بأن تلقى آذاناً صاغية وتعلِّم في الجنوب، ينبغي على أوروبا أن تنتهز كلّ الفرص المتاحة أمامها للإصغاء إلى العالم العربي والتعلّم منه. من شأن البرامج الأوروبية لتعلّم لغات العالم العربي ورحلات الطلاّب الأوروبيين للاطّلاع على ثقافة هذه المنطقة أن تشكّل بلا أدنى شكّ إحدى أفضل ركائز التحرّك في هذا المجال.
2. 5: تخفيف الموجبات التقنية
غالباً ما يُشار إلى فقدان الشركاء المحتملين لأوروبا العزيمة أمام الثقل الشديد لإجراءات التمويل التعاقدية. والحالة هذه، غالباً ما تكون البُنى الصغيرة التي لا تملك الوسائل الضرورية لتلبية المقتضيات التقنية اللازمة للإفادة من دعم كهذا، الأكثر تجذّراً في النسيج الاجتماعي.
(1) للحصول على شرح أكثر وضوحاً لفرضيّاتنا حول الإسلام السياسي، انظر: فرنسوا بورغا، "الإسلامويّة في المغرب العربي: صوت الجنوب"، كارتالا، باريس، 1988؛ بايوت، 1995؛ "الإسلاموية وجهاً لوجه"، لا ديكوفرت، باريس، 1995، 1996، 2002؛ "الإسلاموية في حقبة "القاعدة""، لا ديكوفرت، باريس، 2005؛ ج. إسبوزيتو وف. بورغا، "تحديث الإسلام. الدين في المساحة العامّة في أوروبا والشرق الأوسط"، هورست أند كومباني، لندن، 2002.
(2) عمر حمزاوي، "مفتاح الإصلاح العربي: الإسلاميون المعتدلون"، بحث رقم 40، 26 يوليو/تموز 2005. كتب "طوال عقود، استخدمت الأنظمة العربية استراتيجيا الخوف لتشجيع الولايات المتّحدة وأوروبا على دعم سياستها القمعيّة حيال الحركات الإسلامية مروِّجة صورة المتعصّبين المناهضين للغرب الذين يستولون على السلطة في صناديق الاقتراع. غير أنّ الإسلاميين المعتدلين في هذه الأيام لم يعودوا يجسّدون هذا الكابوس. إنّ الفاعلين والمراقبين السياسيين الذين لا يزالون يصرّون على أنّه لا وجود لـ"إسلامويّة معتدلة" لا يأخذون في الاعتبار أن المنظّمات المجاهدة في المغرب والجزائر ومصر والأردن والكويت واليمن نشأت بعد عقود من الفشل في معارضتها للأنظمة القمعية. بدلاً من التعلّق بسراب الدول الثيوقراطية، يدرك عدد من الحركات الإسلامية الآن صواب خيار التنافس السلمي للمشاركة في الحكم والعمل في إطار المؤسّسات الموجودة لترويج انفتاحات ديموقراطية تدريجية".
(*) جزء من دراسة مقدمة مقدمة لالتحاد الأوربي تحت عنوان: إقتراحات لإعادة التوازن لسياسات الإتحاد الأوروبي العربية.
1. اختلاف خطير مع جيل الإسلام السياسي المعتدل(1)
في حين يُفترَض بالعلاقات بين الاتّحاد الأوروبي والمعارضات أن تحرّر المجتمعات الأهليّة من وصاية الدولة، تعاني من الأحكام المسبقة نفسها: فما خلا الاستثناءات، تقتصر حصراً على الفاعلين "العلمانيين" في هذه "القوّة الثالثة" التي تقضي مهمّتها، في المخيّلة السياسية الغربية، بأن تقف وجهاً لوجه بين الأنظمة السلطوية ومعارضيها الإسلاميين.
المشكلة التي تطرحها هذه القوّة الثالثة الأسطورية مزدوجة: أ) في العشرين سنة الماضية، أظهرت إلى حدّ كبير أنّها لا تتمتّع بقاعدة شعبيّة تسمح لها بأن تشكّل بديلاً ذا صدقيّة من الأنظمة؛ ب) تستند إلى قراءة للتيّارات الإسلامية تُظهرها بأنّها منيعة في شكل كامل على ديناميّات التحرّر السياسي و"الدمقرطة"، مع أنّ هذه ليست الحال أبداً، وهو مؤشّر الى خطأ التقدير الأخطر الذي وقعت فيه النظرة الغربية الطاغية، وفي هذه الحالة، الهيئات الأوروبية المعنيّة.
1. 1: إسلام مؤسّسي مؤمّم
في العالم العربي، هناك ميل إلى اعتبار الاتّحاد الأوروبي ممثّلاً لمجتمعات "متخلّية عن المسيحية" أكثر منها علمانية، ما يشكّل أحد الفوارق الأساسية بينه وبين المجتمع الأميركي الذي يُعتبَر مجتمعاً دينياً. يعمل هذا التديّن الأميركي أحياناً لمصلحة الولايات المتّحدة التي، وخلافاً لأوروبا، لا يشكّل وجود الدين في المساحة العامّة مشكلة بالنسبة إليها. في قلب أوروبا، لا تُتَّهم فرنسا فقط بإقصاء الحجاب الإسلامي من المدارس إنّما أيضاً، وبطريقة أقلّ شرعيّة، بشجبه في أجزاء كاملة من المساحة العامّة. في المقابل، يُندَّد بالتديّن الأميركي باعتبار أنّه يغذّي المشاريع التبشيرية للمنظّمات البروتستانتية غير الحكومية التي غالباً ما تدعم دولة إسرائيل بشغف شديد ويُعتبَر تأثيرها مضرّاً جداً بالسياسة الخارجية للمحافظين الجدد.
في العالم العربي، غالبيّة الفاعلين الدينيين المؤسّسيين (المفتين والعلماء الذين يديرون الجامعات الإسلامية الكبرى مثل الأزهر) متّصلون جداً بالأنظمة إلى درجة أنّهم لا يمكنهم التعبير عن أيّ شيء آخر غير تحاليل هذه الأنظمة واستراتيجيّاتها. بناءً عليه، الانتظارات المعبَّر عنها حيال أوروبا في الحوارات العديدة بين الأديان وحلقات عمل ولقاءات أخرى مع هؤلاء الممثّلين عن المؤمنين في العالم العربي، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بتحليل أسباب "العنف الإرهابي" تحجب أحد الأسباب الأساسية ألا وهو القبضة القمعيّة السائدة في كلّ من مجتمعاتهم. في مجال التواصل "بين الأديان"، هذا هو بلا شكّ أحد المصادر الأساسية لقصر نظر الاتّحاد الأوروبي في مجال المعلومات والصورة والتحرّك.
لا تقتصر سيطرة الأنظمة على السلطات الدينية، على السيادة السياسية لهذه السلطات وحسب، بل تتجلّى أيضاً إلى حدّ كبير داخل أوروبا حيث تؤثّر بالدرجة نفسها في سير عمل بعض المؤسّسات المسلمة وتالياً في صفتها التمثيلية. بناءً عليه، لن يؤدّي "حوار بين الأديان" يجمع، بتشجيع من أوروبا، سلطات مسجد باريس التي ظلّ تأثير النظام الجزائري عليها حاسماً، والسلطات الدينية الجزائرية أو التونسية أو المغربية، سوى إلى إبراز الأوجه المختلفة لسلطويّة متشابهة، وفي شكل أساسي إلى حجب الانتظارات المتلاقية في هذا المجال للمؤمنين في الجهتَين. في شكل عام، "الفاعلون الدينيون" الرسميون الذين يمنعون أنفسهم من أن يأخذوا في الاعتبار الدور – الأساسي – للأنظمة في صعود العنف الموصوف ب"الإسلامي"، يميلون إلى التعويض عن هذا الفراغ بالإفراط في إضفاء طابع لاهوتي على التشنّجات السياسية. في مختلف الأحوال، فإنّ تعبئتهم للمؤسّسات الأوروبية والمجتمعات الدينية أو السياسية أو بكلّ بساطة البشرية في جهتَي المتوسّط، لا تسمح إلاّ بطريقة محدودة ومتناقضة، بالدخول في تفاعل غير مثمر كثيراً.
تقتضي استراتيجيّات الالتفاف على هذه السيطرة أن يختار الاتّحاد الأوروبي اللجوء إلى محاورين دينيين متحرّرين من أيّ ولاء للأنظمة وتالياً متجذّرين نوعاً ما في المشهد المعارِض. غير أنّ الجمع بين "تكلّم اللغة المسلمة" وموقف معارض يكفي في شكل عام، حتّى يومنا هذا، لجعل الفاعل المسلم في نظر الاتّحاد الأوروبي غير قابل للتعامل معه.
1. 2: إسلام معارض أضفي عليه الطابع الشيطاني
إنّ الوضع الغريب جداً الذي وجد الاتّحاد الأوروبي نفسه فيه عبر اختيار مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة حديثاً يعكس بقوّة التناقضات التي من شأن تراكم وسليتَي التموضع الأوروبي – الانحراف في اتّجاه إسرائيل وعدم فهم طبيعة القوى البديلة من الأنظمة العربية القائمة – أن يجعلها تمتدّ إلى علاقة الاتّحاد مع مجمل محيطه العربي.
تُحدِث الوسائل نفسها التي تُضعِف التعريف الأوروبي ل"المجتمعات الأهليّة" العربية "الشرعيّة" أضراراً مماثلة في تحديد المعارضين السياسيين. عندما يخطر للاتّحاد الأوروبي التحدّث مع آخرين من خارج دائرة الفاعلين الحكوميين أو الممثلّين الرسميين للمجتمعات الأهلية، يُجري فرزاً لصفتهم التمثيلية فيه الكثير من الأحكام المسبقة. تتمتّع المعارضات المعروفة ب"العلمانية" من الجيل الأوّل (الوريثة التاريخية نوعاً ما للاشتراكيّات العربية) بحصّة الأسد من الاهتمام الأوروبي. وغالباً ما تكون درجة الاعتراف مرهونة بالجهود التي تبذلها لتشويه سمعة منافسيها الإسلاميين. والإجحاف الأكبر هو أنّ ممثّلي البديل العلماني من الأنظمة (الذين غالباً ما يصفون أنفسهم بـ"الديموقراطيين"، وهي تسمية توحي بأنّ كلّ التيارات الإسلامية محكمة الإغلاق أمام هذا المفهوم)، لا يملكون في مجتمعاتهم سوى صفة تمثيلية غير متناسبة مع تلك التي يتمتّعون بها
في القنصليات ووسائل الإعلام الأوروبية.
على الأرض، حلّ مكان الجيل القومي في كلّ مكان خلفاؤهم الإسلاميون الذين، وعبر إعادة إدخال مصطلح الثقافة المسلمة "الداخليّة النموّ" في الخطاب السياسي، أطالوا بطريقة مبتذلة في المجال الثقافي والرمزي عمليّة "إبعاد" المستعمِر القديم التي أطلقوها هم أنفسهم. مع ذلك، فشلت أوروبا حتّى الآن فشلاً ذريعاً في ترشيد نظرة هذا الجيل السياسي وفتح حدّ ادنى من قنوات التواصل معه، ما قلّص كثيراً معرفتها بالمكوّن الأغلبيّ في محيطها العربي والاعتراف به. ما خلا بعض الاستثناءات الجديرة بالثناء (عرف ممثّلو الاتّحاد الأوروبي كيف يقيمون اتّصالاً مع "حزب الله" اللبناني ويحافظون عليه، ولم يوقفوا التعاون مع وزارة الطاقة عندما عُيِّن على رأسها عضو في الحرب)، تمرّ النظرة الأوروبية إلى انتظارات العالم العربي بفتحة ضيّقة جداً: يحجب صوت الأنظمة أصوات المجتمعات الأهليّة، ويقنِّع صوت المعارضات العلمانية الأقلّية جداً صوت الجيل الإسلامي بكامله.
في صفوف الإسلاميين، أوروبا متّهمة، وهذا ليس مفاجئاً، بأنّها ما زالت تبحث حتّى يومنا هذا عن "قوّة ثالثة" أسطوريّة من شأنها أن تستثمر موارد رفضها المزدوج لـ "الطاعون" (العسكري) و"الكوليرا" (الإسلامية). يختصر جامعي جزائري منفيّ، هو عبّاس عروة، هذا المأزق الذي وقعت فيه الرؤية السياسية الأوروبية: "أصابت فرضيّة "لا طاعون ولا كوليرا" أوروبا ب"عمى" سياسي. فأوروبا التي تخدعها نظرة إيديولوجية قريبة أحياناً من رُهاب الإسلام (كما أظهرت بعض ردود الفعل الرسمية جداً أثناء أزمة الرسوم الكاريكاتورية)، وهي نظرة تهدّئ مخاوفها المتوارثة، [...] وتركض، على غرار الجنرال ديغول في الخمسينات، وراء "طريق ثالث" وهميّ، ظلّت عمياء أمام تطوّر الواقع الجزائري والعربي الذي يعتبر أنّ المصالح الشرعيّة يضمنها في شكل أفضل الممثّلون الحقيقيون للشعوب المعنيّة والذين ستنجح القوى الممثِّلة فعلاً للمجتمع، عاجلاً أم آجلاً، في جعلهم يصلون إلى السلطة".
1. 3: برشلونة والمأزق المبرمَج لمقاطعة الحكومة الفلسطينية
في الأراضي العربية، لا يملك الاتّحاد الأوروبي إذاً اليوم محاورين ووسطاء وموارد يسمحون له بالاستعداد فعلياً لتحدّيات المراحل الانتقالية السياسية الحالية واللاحقة في هذه البلدان. تعتبر غالبيّة كبرى من المعارضين، ليس الإسلاميين فقط (وتالياً غالبيّة كبرى من المواطنين في هذه المنطقة من العالم)، أنّ القضاء العشوائي على كلّ تعبير سياسي معارِض – أو حتّى في حالة "حماس"، حكومي – مصدره العالم العربي ويستخدم أصحابه لغة الثقافة المسلمة، هو أحد الأسباب الأساسية لواحد من أخطر الإخفاقات التي تعاني منها الديبلوماسية الأوروبية: إنّها بكلّ تأكيد "عمليّة برشلونة" التي يعتبر غالبية المراقبين اليوم أنّها بقيت حبراً على ورق.
العجز الأوروبي عن رؤية العمليّة التاريخية المبتذلة نسبياً التي تفسّر بروز هذه القوى ومركزيّتها الحالية في المشهد السياسي العربي هو في قلب هذا الإخفاق. لا يرفض الاتّحاد الأوروبي الاعتراف بأهمّية القاعدة الشعبية للمعارضات الإسلامية المعتدلة وحسب إنّما أيضاً استشفاف قدرتها التحديثية – في كلّ ميادين التحرّر السياسي بما في ذلك ترسيخ الحقوق الفردية للنساء والرجال على السواء – من المنظار نفسه الذي يتعامل به مع الفاعلين "العلمانيين" في المشهد السياسي.
منذ أكثرمن عامَين، انضمّ عدد كبير من مراكز الأبحاث الأميركية إلى هذه النظرة التي تعتبر "الإسلاميين المعتدلين" "مفتاح الإصلاح العربي" كما جاء في عنوان مقال لعمر حمزاوي الباحث في "مؤسّسة كارنيجي للسلام الدولي"(2). فقد أكّد في شكل أساسي أنّه لا يمكن تحقيق أيّ إصلاح ذا معنى في العالم العربي قبل أن تبدأ "الولايات المتّحدة وأوروبا بإقامة علاقات مع الإسلاميين المعتدلين، وهو أمر أقلّ صعوبة ممّا قد يبدو عليه، لأنّ هؤلاء الإسلاميين تبنّوا القواعد الديموقراطية وأظهروا دعماً حقيقياً جداً لدولة القانون".
ويشهد على ذلك في شكل خاص، في العالم العربي بأسره، التحالفات المتعدّدة التي يعقدها الإسلاميون، بدءاً من لبنان (حيث تحالف الجنرال المسيحي جداً ميشال عون مع "حرب الله" الشيعي) وصولاً إلى اليمن (حيث تحالف الاشتراكيون في الانتخابات الرئاسية في 20 أيلول 2006، مع "التجمّع اليمني من أجل الإصلاح" القريب من الإخوان المسلمين) مروراً بموقّعي ميثاق سانت إجيديو النموذجي في كانون الثاني 1995 بين كلّ مكوّنات المعارضة الجزائرية.
عندما تقترن مفاعيل الانحراف في اتّجاه إسرائيل مع العجز عن بناء علاقات مع الفاعلين في التيّارات الإسلامية بطريقة عقلانية، يمكن أن يتّخذ الأسوأ شكل مقاطعة الحكومة الفلسطينية المنتخبة شرعياً والرسالة المتناقضة إلى أقصى الحدود التي وجّهها لمجموع المعارضات العربية. لفرط ما أظهرت أوروبا عدم رغبة في الاعتراف بجيل سياسي، وطوّعت مبادئها مع أهمّية موارد محاوريها العرب الاقتصادية وأسواقهم، وضحّت بمبادئ السياسة الطويلة الأمد على مذبح المصالح الماليّة والانتخابية القصيرة الأمد، أضرّت على ما يبدو إلى حدّ كبير بقيمة تبادلاتها مع محيطها العربي والمسلم وفاعليّتها. فنظراً إلى عجزها عن تحديد محاورين غير الأنظمة السلطويّة أو من خارج الأطراف الهشّة للمجتمعات التي تعطيها صورة مريحة عن طابعها الكوني، أوروبا معرّضة لأن تجد نفسها في المدى الطويل في وضع غير مستقرّ مع جزء كامل من العالم.
2. بعض التوجيهات لجعل تحرّك الاتّحاد الأوروبي متوازناً من جديد
2. 1: تأكيد الاعتراف الكامل بكلّ القوى السياسية غير المذهبية بما فيها "الإسلامية"
التغيير الأوّل والأكثر إلحاحاً الواجب إجراؤه في سياسات الاتّحاد الأوروبي هو العمل على مدّ جسور فكرية وغير رسمية قبل أن تكون سياسية وممأسسة، مع رقعة الشطرنج الديموقراطية العربية كاملة. يجب إعادة بناء مفهوم التيّار الإسلامي انطلاقاً من تمييز نادراً ما يتمّ إجراؤه: تميل غالبيّة من الفاعلين السياسيين، لأسباب ذات طبيعة على صلة بالهويّة، إلى تأكيد علامات الثقافة المسلمة. لا تحدّد عمليّة التأكيد هذه استخدام أنماط تحرّكات سياسية معيّنة ولا يمكن اعتبارها بأيّ من الأحوال بأنّها تتناقض مع ديناميات التحرّر السياسي والتحديث الاجتماعي وتُقصيها. بالتأكيد، يستطيع الاتّحاد الأوروبي وينبغي عليه أن يحتفظ بحقّ الابتعاد عن الفاعلين السياسيين الذين لا يحترمون أخلاقيّاته الخاصّة. لكن يجب أن يفعل ذلك بالقوّة نفسها أياً تكن اللغة التي يستخدمها الفاعلون المعنيّون وليس فقط على أساس "إسلاميّتهم" المحتملة التي تجعله يقصي جملةً وتفصيلاً كلّ المجموعات السياسية المصنَّفة بـ"الإسلامية".
من دون التفلّت من أيّ من المقتضيات الديبلوماسية، يستطيع الاتّحاد الأوروبي أن يُدرج في لائحة محاوريه (الحكوميين بالتأكيد إنّما أيضاً المعارضين وأعضاء المجتمعات الأهليّة) مجمل العائلات السياسية الموجودة على الساحة وفي شكل خاصّ كلّ التيّارات الإسلامية – أي غالبيّة ساحقة – التي تقبل مبدأ هذه الحوارات أو التفاعلات. فهذه التيّارات الموجودة غالباً في الهيئات البرلمانية، كما هي الحال في فلسطين أو اليمن أو الأردن أو لبنان أو الكويت أو العراق أو السعودية، ناهيك عن الحالات التي يشاركون فيها في حكومة أو يديرونها (كما في لبنان أو فلسطين وغداً في العراق وأماكن أخرى) يجب ألاّ تتعرّض لإقصاء من شأنه أن يستمرّ في ترسيخ الفكرة المتجذّرة بعمق الآن بوجود مذهبيّة مناهضة للإسلام في أوروبا، كما فعل الأداء المخيِّب في الموضوع الفلسطيني.
لا شكّ في أنّ المثقّفين المشاركين في برامج الاتّحاد الأوروبي يجب أن يكونوا من مختلف آفاق الفكر، وألا يقصوا بطريقة منهجيّة (كما فعل إلى درجة معيّنة برنامج المنتدى المدني والمنظّمات غير الحكومية) الفاعلين الذين يُعتبَرون قريبين أو جزءاً من الحركات الإسلامية.
2. 2: تخطّي القراءة اللاهوتية الطابع للتشنّجات السياسية
يفرض الاعتراف بالتيّارات الإسلامية المعتدلة على الاتّحاد الأوروبي عدم الانجرار – ولو كان لدى بعض الفاعلين، بمن فيهم الحكوميون، ميل إلى القيام بذلك – وراء إضفاء طابع أيديولوجي أو أسوأ من ذلك، لاهوتي على قراءة التشنّجات داخل العالم العربي ومعه. أبعد من جهود التقارب الثقافي أو الديني، على الرغم من أنّها ضروريّة، تحتاج العلاقة الأوروبية - العربية اليوم إلى آليّات قادرة على تأمين توزيع أفضل للموارد السياسية أي درجة أعلى من العدالة الدولية أو حتّى فقط درجة إجحاف أقلّ وضوحاً.
قد يكون التقارب الثقافي قادراً على المشاركة في هذه التسوية لكنّه لا يستطيع أبداً الحلول مكانها. إذاً يجب ألاّ يبرّر سجلّ "حوار الثقافات" أو "الحضارات" أبداً رفض قراءة دنيويّة للتشنّجات مع العالم العربي وردّ محض سياسي عليها. في الواقع، يحول اللجوء إلى مقاربة ثقافوية أو لاهوتية أو "مستندة إلى الحضارة"، دون إدراك الطابع الدنيوي والسياسي لتضارب المصالح، وبناءً عليه، مسؤوليّات الفاعلين على الصعيد الإقليمي أو العالمي أو على صعيد كلّ دولة.
2. 3:إعادة تحديد مهمّات الحوار بين الثقافات
"تتشاطر أوروبا والولايات المتّحدة القيم نفسها" هذا ما أكّده عام 2004 الرئيس الفرنسي جاك شيراك برفقة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير. هذا مؤكّد. لكن أيعني ذلك أنّه ينبغي على "هذين البلدين" (كذا بالحرف الواحد) أن "يخوضا معارك مشتركة"؟ ربّما لكن... ضدّ من؟ ضدّ "حضارات"، أفريقية أو آسيوية، يعني المستور في هذه الصيغة أنّها لا تملك القيم نفسها؟
غالباً ما يُعمَّم التنوّع الرمزي للممارسات والطقوس والمراجع، خطأً، لتأكيد فكرة وجود اختلافات أكثر جوهريّة قائمة على "قيم" يُفترَض أنّها غير ملائمة. من شأن الحوار بين الثقافات أن يُستعمَل إذاً لجعل أكبر عدد ممكن في ضفّتَي المتوسّط يدرك أنّ تنوّع الثقافات يقتصر في الواقع على ميدان الأمور الرمزية (المراجع التاريخية أو الأسطورية، الدنيوية أو الدينية) التي تحشدها المجموعات الثقافية المختلفة من أجل شرعنة قيمها، لكنّها لا تتضمّن في شكل أساسي القيم نفسها.
ليس الإرباك جديداً ونتائجه، السلبيّة كلّها، متعدّدة الشكل. من أتاتورك الذي قاد مواطنيه إلى اعتناق الحداثة وإلى اعتمار شكل محدّد من القبّعات "الأوروبية" الى التحفّظات الفرنسية الانفعاليّة حيال ارتداء الحجاب (ليس فقط في المدارس الرسمية)، مروراً بالميل السائد لدى المؤمنين في كلّ الأديان إلى إنكار وجود قاسم مشترك إنسانيّ يتجاوز الانتماءات الدينية، تكثر الحيطان المسدودة، التحليلية والسياسية، التي يقود إليها هذا الخلط بين "جوهر" القيم والمراجع الرمزية التي تُحشَد لشرعنتها. يجب أن يساهم الحوار بين الثقافات الذي تروّجه أوروبا في كشفها والتنديد بها، مع تحديد الأساليب الكثيرة التي تُنكِر من خلالها العقائد والمبادئ والعصبيّات الجماعية على ثقافة الآخر قدرتها على التعبير عن مرجع كوني.
2. 4: التمعّن في أحاديّة العلاقة الثقافية وتجاوزها: كيف نَسمع كي نُسمَع، ونتعلّم لنعلِّم
لا شكّ في أنّ تطوير وسائل الاتّصال الأوروبية في اتّجاه العالم العربي، لا سيّما السمعيّة والبصرية، هو هدف جدير بالثناء. لكن يجب ألا يؤدّي إلى تفاقم عدم التوازن في التدفّقات الإعلامية بين الشمال والجنوب. إذا كانت أوروبا تريد أن تكون مسموعة، ينبغي عليها أن تسمح – بدون تمييز – للآراء العامّة في العالم العربي أن تُسمِع هي أيضاً صوتها داخل الاتّحاد.
على الأراضي الأوروبية، يشكّل تعدّد المعلومات السياسية حول العالم العربي والمسلم أحد الشروط المسبقة الأساسية لتلاشي التشنّجات والأمور التي هي محطّ سوء تفاهم مع هذه المنطقة من العالم. لكن في الوقت الراهن، يبقى توزيع الكلام العامّ حول النزاعات في الشرق الأدنى غير متوازن إلى حدّ كبير. فعندما تسمح رِجل كرسي أو طاولة لنفسها أن تكون أعلى من الأرجل الأخرى، أو عندما يُمنَع على رِجل ما بلوغ العلوّ الذي يسمح لها بالمشاركة في التوازن الجماعي... يواجه احتمال "العيش معاً" (على الصعيد الوطني أو الدولي) بسرعة كبيرة خطر التداعي. هذا الخلل في التوازن، مع نتائجه المروِّعة، هو الذي يجب الإشارة إليه بالإصبع من أجل تجاوزه.
يجب ألاّ تخشى أوروبا تشجيع محاوريها العرب على تكوين معارف مستقلّة حولها. في المراكز القيّمة التي تعنى بأبحاث العلوم الاجتماعية حول العالم العربي (والتي يمكن إضفاء الطابع الأوروبي عليها لتعزيز إمكاناتها وقدرتها على الاستقطاب) يمكن إضافة مراكز عربيّة لدراسة أوروبا من أجل المنفعة المتبادلة المتمثّلة ببناء معارف
علميّة مشتركة وتالياً مجرّدة من العواطف.
مع الاحتفاظ بطموحاتها بأن تلقى آذاناً صاغية وتعلِّم في الجنوب، ينبغي على أوروبا أن تنتهز كلّ الفرص المتاحة أمامها للإصغاء إلى العالم العربي والتعلّم منه. من شأن البرامج الأوروبية لتعلّم لغات العالم العربي ورحلات الطلاّب الأوروبيين للاطّلاع على ثقافة هذه المنطقة أن تشكّل بلا أدنى شكّ إحدى أفضل ركائز التحرّك في هذا المجال.
2. 5: تخفيف الموجبات التقنية
غالباً ما يُشار إلى فقدان الشركاء المحتملين لأوروبا العزيمة أمام الثقل الشديد لإجراءات التمويل التعاقدية. والحالة هذه، غالباً ما تكون البُنى الصغيرة التي لا تملك الوسائل الضرورية لتلبية المقتضيات التقنية اللازمة للإفادة من دعم كهذا، الأكثر تجذّراً في النسيج الاجتماعي.
(1) للحصول على شرح أكثر وضوحاً لفرضيّاتنا حول الإسلام السياسي، انظر: فرنسوا بورغا، "الإسلامويّة في المغرب العربي: صوت الجنوب"، كارتالا، باريس، 1988؛ بايوت، 1995؛ "الإسلاموية وجهاً لوجه"، لا ديكوفرت، باريس، 1995، 1996، 2002؛ "الإسلاموية في حقبة "القاعدة""، لا ديكوفرت، باريس، 2005؛ ج. إسبوزيتو وف. بورغا، "تحديث الإسلام. الدين في المساحة العامّة في أوروبا والشرق الأوسط"، هورست أند كومباني، لندن، 2002.
(2) عمر حمزاوي، "مفتاح الإصلاح العربي: الإسلاميون المعتدلون"، بحث رقم 40، 26 يوليو/تموز 2005. كتب "طوال عقود، استخدمت الأنظمة العربية استراتيجيا الخوف لتشجيع الولايات المتّحدة وأوروبا على دعم سياستها القمعيّة حيال الحركات الإسلامية مروِّجة صورة المتعصّبين المناهضين للغرب الذين يستولون على السلطة في صناديق الاقتراع. غير أنّ الإسلاميين المعتدلين في هذه الأيام لم يعودوا يجسّدون هذا الكابوس. إنّ الفاعلين والمراقبين السياسيين الذين لا يزالون يصرّون على أنّه لا وجود لـ"إسلامويّة معتدلة" لا يأخذون في الاعتبار أن المنظّمات المجاهدة في المغرب والجزائر ومصر والأردن والكويت واليمن نشأت بعد عقود من الفشل في معارضتها للأنظمة القمعية. بدلاً من التعلّق بسراب الدول الثيوقراطية، يدرك عدد من الحركات الإسلامية الآن صواب خيار التنافس السلمي للمشاركة في الحكم والعمل في إطار المؤسّسات الموجودة لترويج انفتاحات ديموقراطية تدريجية".
(*) جزء من دراسة مقدمة مقدمة لالتحاد الأوربي تحت عنوان: إقتراحات لإعادة التوازن لسياسات الإتحاد الأوروبي العربية.