الطفل 1905-1930:
يحكي لنا هنا عن طفولته عن والده ووالدته..عن عمه وزوجة عمه..عن قسنطينه وتبسة..
نراه يتنقل بين تبسه "موطنه" و"قسنطينه" عند عمه..
عند انتقاله للمرة الأولى إلى قسنطينه كانت بدأت تتأثر بالاستعمار وتختفي هويتها شيئا فشيئا..
"لقد بدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق ويسوده الفقر من تحت"
"تواجد اليهود والفرنسيين بكثرة و"حياة السكان الأصلية أخذت تتقلص لتنعزل في الشوارع الضيقة وزقاق سيدي راشد"
_أمه
كانت امه مؤثرة جدا في حياته فنراها عند كل سفر تسكب الماء عند قدمه كي يعود..وعندما تمرض تنيب ابنتها لتفعل ذلك..أو تتعكز بعكاز وهي تسكب الماء عند قدمه ليعود إليها!
اهتم والداه بأن يتصل بالثقافة العربية والإسلامية رغم فقرهم الشديد ..فوالدته اضطرت أن تبيع سريرها لتسدد راتب معلم القرآن..
_ حكايا جدته لأمه..
كانت لحكاياها أكبر الأثر في تشكيل اخلاقه كطفل." كانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري فمنها عرفت ان الإحسان في مرتبة عليا من الخلق الإسلامي"
" في ظهيرة يوم الجمعة أخذت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة وفجأة سمعت بباب الدار سائلا ينادي "أعطوني من مال الله" ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف ومع ذلك بادرت بإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه"
_ الحرب العالمية الأولى
المذكرات ومع انها شخصية..إلا انه يتوقف عند كثير من الأحداث التي مر بها ويستعرض أثارها..أليست مذكرات شاهد للقرن؟!
"حين اندلعت الحرب العالمية الأولى التي غيرت فيما بعد وجه العالم لم يكن لذلك الحدث وقع كبير في نفسي فالرابع عشر من أب 1914 لم يكن بالنسبة لي غير يوم كباقي أيام السنة....وعلى كلِ فأنا أعتقد ان جميع الشعوب كانت في ذلك الوقت طفلة مثلي فلم تستطع أن تقدّر ماهية الحدث وأبعاده. ذلك أنها لم تكن تستطع ذلك"
_تبسة وقسنطينه
تنقله بين تبسه وقسنطينه في بداية حياته كانت اولى الخطوات في تشكيل ثقافته وتعزيزها " " لقد تركت قسنطينه..أمي بهيجة وجدي وكلبه بأسى شديد ولكني حملت معي من تلك الإقامة فائدة واحدة, الأمور بدأت تتصنف في تفكيري وذاتي
ففي تبسة كنت أرى الأمور من زاوية الطبيعة والبساطة أما في قسنطينة فقد أخذت أرى الأشياء من زاوية المجتمع والحضارة واضعا في هذه الكلمات محتوى عربيا واوروبيا في آن واحد"
_المشرق والمغرب..يلخص مالك في شهادته الصراع الذي كان يحتدم في داخله بين حضار استعمارية وحضارة المشرق..حضارة يحن إليها وأخرى تجذبه اليها بكل عنف..
"لقد بدأ الشرق القديم منه والحديث يستهويني بأمجاده ومآسيه. وكان الحديث عنه يبكيني أو يبهرني. إنما في الحالات جميعها يشدني إلى شيء خبيء في نفسي بدأت أدركه في شيء من الصعوبة."
حتى انه كان من انصار الحركة الإصلاحية في الجزائر ويرى انها امتداد للحركات الاصلاحية..
" كان الداعون للتجديد يتعاقبون ابتداء من "ابن تيمية" في القرن الثامن عشر,وكان محمد بن عبد الوهاب _مؤسس أول إمبراطورية وهابية قوّض أركانها بعد ذلك محمد علي_ استمرارا لابن تيمية في الجزيرة العربية."
ومع تصالحه مع ثقافة المشرق بل وتشربه منها إلا انه مرت عليه فترات تعارض بين ثقافتين..وكان المخرج دائما هو في العودة لثقافته الإسلامية
"في الواقع فقد قرأت هذه السنة" التلميذ" لبيار بورجي وهذه القصة فتحت أمامي عالم النفس الذي أتاح لعقلٍ فتيٍ كعقلي أن يتخلى عن شيء من أوهامه وسذاجته.
وكان لهذا الإتجاه أن يأخذ بي أبعد من ذلك لولا دروس الشيخ مولود بن موهوب في التوحيد وسيرة النبي وتلك التي للشيخ ابن عابد في الفقه فقد كانت هذه مذكّرا قويا يعود بروحي إلى الطريق الصحيح"
_ كتب
كان لقراءة كتابين "الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق" لأحمد رضا و "رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده" أثر كبير في احداث توازن بين عواطفه وعقله في التعامل مع الشرق..
فهما"كتابين أنا مدين لهما بالتحول في فكري منذ تلك اللحظة".
هذه الكتب أثرت فيه إذ إنها أعادت التوازن إليه..وصححت تلك النظرة الرومانطقية للمشرق التي انجرف لها كثير من المثقفين الجزائريين في ذلك الوقت.
_تأثره ببن باديس..في احدى الكنائس كان هناك نقاشات حول الوهية المسيح..هناك تعرف على بعض تلاميذ الشيخ بن باديس..
" لقد شعرت بأنني وهؤلاء في اتجاه فكري واحد...كان اسم الشيخ يتردد في المدينة وتعرّفي على بعض تلامذته جعلني أدرك أننا ننتمي إلى عائلة فكرية واحدة ستسمى فيما بعد في الجزائر "حركة الإصلاح".
_ الاسطوانات المصرية!
حدث أخر كان له تأثير على الاتجاه الفني والسياسي للبلد وهو دخول "الاسطوانات" الموسيقية المصرية للجزائر..
"كانت تلك مرحلة بطولية..تمكنت فيها هذه الألحان الجديدة من أن تعيد للموسيقى العربية في نفوسنا مكانتها.فتثأر لنا من موسيقى الجاز وسيطرتها"
"في الوقت الذي كان الذوق الأوروبي يتأمرك..كان ذوقنا نحن الجزائريين "يتمصّر"
_ فرنسا
يصل إلى العشرين وتضيق به الأرض بما رحبت في الجزائر..فالجزائر تبدو كمن أغلقت أبوابها في وجهه..ولم يعد لابنائها مكان إلا كمستعمَرين راضخين..
فيمم وجهه شطر فرنسا..ثم عاد سريعا..تصحبه غصة ففرنسا ضاقت هي الاخرى بالجزائريين
وأصداء ثورة الفلاحين في الجزائر وصلت لفرنسا..لذلك ضيق على الكثير من الجزائريين..
_ السؤال الأهم "ماذا أعمل؟"يصادفنا هذا السؤال كثيرا ونحن نقرا المذكرات..فبعد كل تجربة فاشلة ..بعد كل عودة من قسنطينه نجده يسأل ماذا أعمل...مما يعكس حيرته وبحثه الدؤوب عن هوية تخصه..وأيضا اصراره وعدم يأسه عند كل عائق يصادفه.
_ عمله في المحكمة
ثم يبتسم له الحظ ويقبل في العمل كمتعاون في المحكمة..وهناك يتعرف أكثر على "الإنسان الجزائري"
الذي عندما يذهبون إليه لينفذوا فيه حكما يلمح قدومهم من بعيد ويعلم لماذا هم قادمون.".فينادي على امرأته لتعد القهوة "للضيوف" فهم ضيوفه ونزلاؤه..
" الرجل لم يغير لهجته ولا تعامله معنا. وإنني الآن أعلم أن المسلم قد احتفظ بقيمه في سائر محن الحياة. وأعلم أنه حتى في ظروف حياة الفلاح الخشنة فالإسلام قد صقل الإنسان في شروط أقرب ما تكون إلى أخلاق حضارة".
_ أفلو وشاتودان
انتقل إلى "أفلو" تلك البلدة الصغيرة التي لم يصلها الإستعمار قط.."ثمة شعور منذ تلك العشيّة تملكني..لقد وجدت في ذلك الجو الجزائر المفقودة.."
ومن أفلو المغرقة في جزائريتها الأرض البكر التي لم يطأها المستعمر ينتقل ل"شاتودان"..التي كانت مركز للمستعمرين.." أما حياة السكان الأصليين فكانت نوعا من الإقامة في أرض أجنبية فارغة من كل محتوى أصيل وصحيح "
_ الردعلى السؤال الملح "ماذا أعمل"؟
كانت الجزائر تستعد للأحتفال بمرور100 عام على الإستعمار..وكان ذلك اليوم يوم مفصلي في حياته ونهاية للسؤال الذي ظل يؤرقه كثيرا "ما العمل؟"
"في ذلك اليوم قررت عدم الخروج من منزلي سمعت الفرقة الموسيقية تجوب المدينة في الليل , بينما كانت جدتي لأمي تسبح بسبحتها, وأمي مستلقية على ظهرها بسبب مرضها تتأمل كعادتها نجوم سماء تبسة الصافية,,
لقد دخلت الجزائر القرن الثاني من الاستعمار, في ذلك الزمن كنا نقرأ كتاب "إنسان يعيش على ماضيه" لم أعد أعرف إسم مؤلفه.
لقد نال جائزة كونكور لذلك العام ,وقرأت أيضا كتاب " السفر ضرب من الموت" فقررت إذن السفر..هذه المرة ليس شغفا بالبعيد ولكنه كان قرارا محددا..لقد أخفيت مشروعي عن امي ولكن لا شيء يخفى على قلب الأم"
وعندما يعود يفاجأ بأمه تدعوه لتطلب منه السفر إلى فرنسا لإكمال تعليمه واردف والده "سوف نرسل لك كل شهر ماتحتاجه"
وهنا ينتهي الجزء الأول من الكتاب لتبدأ فصول أخرى من حياته..