منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#30807
عادت الحرب الباردة لكن بين واشنطن وبيكين


نفس اللغة الدعائية ونفس المصطلحات العدائية و نفس العبارات المتشنجة ونفس الغيوم المتلبدة عادت تملأ الفضاء السياسي والإعلامي والدبلوماسي ما بين القوتين الأعظم للمرحلة الراهنة: الولايات المتحدة و الصين. وهي ذات الأجواء التي تعودنا عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 حتى انهيار جدار برلين سنة 1989 مابين واشنطن وموسكو. ومن المتوقع و الطبيعي أن تعود الحرب الباردة مع تحول قلب الحراك الدولي من ضفاف المحيط الأطلسي إلى ضفاف المحيط الهادي ومع حلول جمهورية الصين الشعبية محل الاتحاد السوفييتي في منطق الثنائية القطبية الجديدة، وبذلك انتقلت المواجهة الناعمة من مدارها التقليدي الأيديولوجي ما بين غرب ليبرالي و شرق شيوعي إلى مدارها المصلحي الاقتصادي ما بين غرب مهيمن و صين متعملقة.
الأسبوع الماضي سجل على هذا الصعيد أربعة أحداث أو بالأحرى أربع أزمات ما بين الولايات المتحدة والصين:
الحدث الأول هو تعليق الصين لتعاونها العسكري مع أمريكا بسبب بيع واشنطن أسلحة متطورة لدولة جزيرة تايوان بمبلغ 6,5 مليار دولار وهو رغم أنه تنفيذ لصفقة وقعها بوش مع رئيس تايوان السابق فقد توقعت بيكين أن أوباما إما سيلغيها أو سيحورها حينما سمعه الصينيون في بيكين أثناء زيارته للصين في نوفمبر الماضي و لعلهم أصيبوا بنفس المفعول السحري المخدر لخطاب البركة بن الحسين المعسول كما وقع لنا نحن العرب في خطاب القاهرة. و لكن لم يقع شيء من هذا. و تعتبر الصين عن حق بأن طبيعة الأسلحة المباعة لغريمتها المتمردة و "القزمة" لا تبعث على الارتياح لأنها مشكلة من صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ و من كاسحات ألغام بحرية و من مروحيات بلاك هاوك. وهو ما يجعل بيكين تعتقد بأنها أسلحة شبه-هجومية و دبلوماسيا لا تساعد على إقرار جو من الوفاق والتعاون بين أمريكا والصين.
الأزمة الثانية هي نشوب معركة بين محرك غوغل وحكومة الصين. و من الطريف أن تستعمل السيدة هيلاري كلنتون عبارة " الستار الحديدي " لتصف تقوقع الصين داخل حدودها إزاء انتشار شبكة إنترنت و وضعت وزيرة الخارجية الأمريكية المعضلة التي نشبت بين بيكين و محرك غوغل في إطار دبلوماسي مستفز حين وجهت انتقادات لما سمته قمع الصين لحرية التعبير و لجم المدونين واتهمت السلطات الصينية بإرادة توظيف غوغل لفرض الاستبداد، و مصطلح الستار الحديدي هو ذاته الذي ابتدعه ونستون تشرشل في الخمسينيات لنعت امبراطورية الاتحاد السوفييتي. عادت إذن نفس اللغة لتعبر عن وضع جديد نشأ بين قوتين متنافستين لا على مستوى العقيدة السياسية بل على مواقع التجارة العالمية و مواطن التأثير الإستراتيجي التي تساير التوسع الاقتصادي و تعززه. و اعتبرت الصين من خلال افتتاحية يومية الحزب الشيوعي يوم الاثنين الماضي "بأن أمريكا تريد فرض قيمها و ثقافتها على الأمم الأخرى من وراء السعي لإشاعة شبكة النت بدون ضوابط و بلا حدود!" و هذا هو البعد الثقافي و السياسي للحرب الباردة الجديدة.
الأزمة الثالثة جاءت كتصعيد أمريكي- صيني مشترك وهي تتعلق بإعلان الرئيس الأمريكي نيته استقبال (الدالاي لاما) حين يزور واشنطن. و بيكين لم تتعب و لم يصبها السأم على مدى خمسين عاما منذ مغادرة الزعيم الروحي لوطنه التبت و ضربه في أرض الله لمدة نصف قرن. لا هو يئس من المعارضة السلمية ولا الصين يئست من ملاحقته باللعنات. إن الرجل بثوبه البرتقالي و البني تحول إلى أيقونة روحية ورمز فولكلوري ولم يعد يخيف أحدا. و ما هذه الأزمة سوى عملية تسخين سوء التفاهم و تتعمد واشنطن عاصمة الحرية إثارة الصين كأنها تريد إحراج هذا العملاق الشيوعي الماوي باستقبال رجل دين لا يشكل خطرا على الصين للتأكيد على أن أمريكا تبقى وطن الحريات أمام صين تظل خائفة من (دالاي لاما) يحمل زهرة و عصا يهش بها على شعبه منذ نصف قرن.
المشكلة الرابعة التي تغذي الحرب الباردة هي الخلاف الأمريكي الصيني حول ملف النقد والعملات فوزير الخزانة الأمريكي دعا الصين يوم الخميس الماضي إلى إعادة النظر في قيمة عملتها ( اليووان) في صرفه مع الدولار بينما تصر بيكين على أن عملتها غير قابلة للتعديل وهنا لا بد أن نسجل غضبة الرئيس الأمريكي ذاته حين قال منذ أيام بأن الصين تمارس الحمائية تجاه البضائع الأمريكية بينما تفتح واشنطن الأبواب أمام الصادرات الصينية وفي الأمر مخالفة لتوقيع الصين على معاهدة المنظمة العالمية للتجارة.
*رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريس.