السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
فرنسا على كرسي الاعتراف ..
بقلم/ ممدوح الشيخ
الدول أيضا أحيانا تكون في حاجة إلى "التطهر" (أو الكاثارسايز)، ولم يعد اعتراف دولة بالمسئولية عن خطأ في تاريخها ترفا معرفيا، من الاعتراف بمجازر الأرمن إلى الاعتراف بالهولوكوست، وتتزايد الأهمية النسبية لهذه القضايا ذات المغزى الإنساني والأخلاقي في العلاقات الدولية على نحو غير مسبوق، وهو ما يعني أن صفحة "تأليه الدولة" انطوت ربما إلى غير رجعة، فإعمال حق السيادة على نحو ما قد يكون موضع تجريم، من محاكمات نورمبرج إلى موجة المحاكمات الدولية السابقة والقائمة: قادة الخمير الحمر، والرئيس الصربي الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش وقادة الميليشيات الصربية، والبقية تأتي.
ومؤخرا جلست فرنسا على كرسي الاعتراف مرتين خلال أيام قليلة لتعترف بالمسئولية عن واقعتين خطيرتين، الاعتراف الأول تضمنه حكم محكمة إدارية في فرنسا بأن الدولة كانت مسئولة عن ترحيل اليهود الفرنسيين أثناء الحرب العالمية الثانية. الحكم التاريخي يشير لواقعة اعتقال 76 ألف يهودي في فرنسا بين عامي 1942 و1944 نقلوا في أوضاع مزرية لمعتقلات النازي ولم يعد منهم سوى 3 آلاف. ويرسي حكم مجلس الدولة الهام اعترافا قانونيا بدور فرنسا في عمليات الترحيل.
وقد قالت المحكمة في بيان مكتوب: "مجلس الدولة يعترف بخطأ ومسؤولية الدولة.. ..وهذا الاضطهاد الذي يخالف تماما القيم والمبادئ… المتضمنة في إعلان حقوق الإنسان وتقاليد الجمهورية أوقع أضرارا غير عادية خطيرة للغاية". ورأى مجلس الدولة أن: "الاعتقالات والاحتجاز والنقل إلى مخيمات العبور تمثل المرحلة الأولى قبل نقل المعتقلين إلى المخيمات حيث تمت إبادة أكثرهم".
واعتبر المجلس الذي يعد أعلى سلطة قضائية إدارية في البلاد أن "مسؤولية" الدولة نابعة من الأضرار التي نجمت عن تصرفات سيئة، لم تأت تحت إكراه من المحتل، وسمحت أو سهلت نقل أشخاص – انطلاقا من فرنسا – كانوا ضحايا اضطهاد معاد للسامية.
والاعتراف ليس وليد الحقبة الساركوزية التي تشهد بالفعل تحولات نوعية في السياسة الفرنسية إذ كان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أول رئيس فرنسي يعترف بتواطؤ الدولة في الترحيل في خطبة تاريخية عام 1995 في تحول عن الجهود الماضية للنأي بفرنسا عن نظام فيشي المتعاون مع الألمان. وفتح اعتراف شيراك بتورط فرنسا الباب أمام أسر الضحايا. ومن التعليقات الموحية على هذا الحكم قول سيرجي كلارسفيلد وهو صائد نازيين فرنسي شهير: "فرنسا الآن تظهر نفسها على أنها قائد بين الدول التي تواجه ماضيها".
الاعتراف الفرنسي الثاني خلال أيام معدودة كان الاعتراف بالمسئولية عن ضحايا التفجيرات النووية في الجزائر، وهو نشاط ظل ملفه سرا لسنوات، وفي العام 1997 أنشئت جمعية 13 فبراير 1960 برفان وهي الوحيدة محليا التي تحاول أن تجمع وتوثق حقائق هذه التجارب. ومؤخرا تحول الاعتراف بمأساة التفجيرات قانونا فرنسيا، وبدأت التفاصيل تخرج للنور. وتتداول ألسنة شهود التفجيرات قيام القوات الفرنسية قبل تفجير القنبلة بإحصاء المباني والسكان ونصحها هؤلاء السكان بالاحتماء بغطاء خارج ديارهم ووضع قلادات على رقابهم لقياس شدة الإشعاعات التي تعرضوا لها. وقد ذكر تقرير لمؤسسة جزائرية هي المركز الوطني للدراسات والبحث أن ضابطا فرنسيا هو الكولونيل بيكاردا اقترح على الحكومة الفرنسية استعمال 200 مجاهدا مسجونا قصد تعريضهم للإشاعات وإجراء اختبارات عليها. وفي صباح 13 فبراير 1960 وضعت القنبلة في أعلى برج معدني يرتفع على مستوى الأرض بـ 106 مترا ووضعت أيضا من حوله أبراج مختلفة تحمل كاميرات لتسجيل مختلف مراحل الانفجار والإشعاع الحراري الناتج عنه
وفي عام 2006 أقيمت في الجزائر ندوة لباحث فرنسي متخصص في التجارب النووية الفرنسية وجه فيها اتهاما خطيرا للحكومة الفرنسية حيث ذكر الباحث الفرنسي برينو باريلو أن الاستعمار الفرنسي استخدم 42 ألف جزائري "فئران تجارب" في تفجيرها أولى قنابلها النووية حيث فجرت القنبلة على سكان محليين وأسرى من جيش التحرير الجزائري، ما يمثل أقسى صور الإبادة والهمجية. وقد عرض باريلو صوراً لمجاهدين جزائريين مصلوبين يلبسون أزياء عسكرية مختلفة، وصوراً أخرى لحجم الدمار الذي أحدثته القنبلة على البيئة وما آلت إليه معدات عسكرية (طائرات ومدرّعات) كانت رابضة على مبعدة كيلومتر من مركز التفجير. وأوضح أنّ الفرنسيين تعمّدوا الإكثار من ضحايا التجريب وتنويع الألبسة، للوقوف على مستوى مقاومة البشر للإشعاعات النووية على مسافات مختلفة وما زالت معظم الصحراء الجزائرية متضررة من الإشعاعات النووية التي نشرتها الرياح.
وبدءا من العام 2006 وفي سابقة ملفتة أحيت الجزائر ذكرى التفجير ، فبعض الضحايا نظموا أنفسهم مطالبين بكشف الحقيقة وتقديم الاعتذار والتعويضات.
والعملية كان اسمها "اليربوع الأزرق" سرعان ما أصبح الحديث عن سلسلة تفجيرات انطوت على سلسلة من الجرائم، فقد أجرت فرنسا سلسلة تفجيرات متعددة الطاقات بدأتها باليربوع الأزرق بدأتها في فبراير 1960، وبلغ عددها 17 تفجيرا تراوحت طاقتها بين (7,3 - 127) كليوطن وبينها أربعة تفجيرات سطحية.
والاعتراف الفرنسي الخاص بالتفجيرات النووية في الجزائر أطلق سلسلة من الأعمال الوثائقية التي توثق الواقعة بتفاصيل مخيفة، وهذا الشهر عرض في فرنسا فيلم "اليربوع الأزرق" للمخرج الجزائري جمال وهاب ومدته 90 دقيقة، ويروي تفاصيل صادمة.
وهكذا تجلس فرنسا على كرسي الاعتراف لتقر بصفحات من تاريخها طالما جادلت عنها بعنف وتشددت في الإنكار، وأيا كانت الخسائر فإن الاعتراف بحد ذاته يستحق التحية التقدير، لكنه بالقدر نفسه يستحق التأمل، وبخاصة الاعتراف بأن فرنسا لم تكن مجبرة على المساهمة في تسهيل الهولوكوست وبأن الدافع لذلك كان "معاداة السامية"!