مقدمة:
تتوقف حيوية المجتمع ونشاطه في عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، إلى حد كبير، على مدى فاعلية النظام التعليمي، فالتربية سمة العصر وبدون التربية ما كانت الإنجازات الهائلة والتغيرات السريعة في مجالات العلم والتكنولوجيا، وذلك يتطلب ضرورة تكيف النظام التعليمي مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تلقى بها رياح العصر.
ومع ذلك لم يعد تعديل بنية النظام التعليمي أو تشريعاته أو مناهجه وخططه كافياً لتحقيق أهدافه، بل أصبح من الضروري قبل ذلك الاهتمام بإعداد المعلم اهتماماً يتناسب مع دوره في العملية التربوية، فالمعلم هو صاحب الدور الأساسي في العمل المدرسي، لأنه أكثر أعضاء المدرسة احتكاكاً بالتلميذ وأكثرهم تفاعلاً معه، ومن خلال هذا الاحتكاك والتفاعل يتم التأثير في النشء سلباً أو إيجاباً، ومن ثم كان "المعلم هو حجر الزاوية في العملية التربوية والمسئول عن أثمن ثروة يملكها المجتمع ألا وهي الخامة البشرية"، فالمعلم الكفء يهدي الأجيال الحالية والمقبلة إلى طريق الخير والصلاح، ويبث فيها المبادئ الدينية والخلقية والاجتماعية والوطنية، وينشر بينها العلم والمعرفة، ويسهم بنصيب وافر في نجاح الخطط الإنمائية في مجتمعه، ويدفع بأمته للنهوض إلى أسمى درجات الحضارة والتقدم. (جيمس، 1999).
ونظراً لأهمية المعلم كمدخل من مدخلات النظام التعليمي، يحتل التخطيط لإعداد المعلمين مكاناً بارزاً في جميع مخططات التنمية في المجتمع، ويأتي في مقدمة الأولويات بكل مشروعات تطوير التربية والتعليم، فأي برنامج مخطط لتربية النشء ـ مهما بلغت دقته ـ لا يغني عن مقدرة المدرس، ولا فائدة منه إذا لم يحسن المدرس تنفيذه بما أوتي من علم وخبرة ومهارة، ومن هنا يرى كرمن وبرومان "Cremnin & Borrowman" أنه لم تكن هناك مدرسة خير من مدرسيها، ولا يوجد منهج مدرسي يمكن أن يرتفع فوق مستوى مدرسيه، فالمعلم هو الصانع الذي تعهد إليه الأمة شرف تنمية شخصية أبناءها تنمية متكاملة متزنة، بقدرته على التأثير فيهم، وبإدراكه لأصول فئة، وبممارسته لتلك الأصول عن فهم وإيمان برسالته وأهميتها وخطورتها. (Cremin, 1999).
ومن هنا تهتم كافة الدول ـ المتقدمة والنامية على السواء ـ بإعداد المعلمين وتدريبهم ً، وتشجيع العناصر الممتازة من شبابها على الالتحاق بمهنة التعليم، وتبذل الدول مزيداً من الجهد لرفع المستوى المادي والمعنوي للمعلمين حتى يقوموا بدورهم في إعداد النشء بحماس وفاعلية، وتحرص الدول النامية على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المدرسين المؤهلين علمياً وتربوياً بكافة مراحل التعليم وفق خطة زمنية معينة، وتزويد المعلمين غير المؤهلين بالخبرات الثقافية والعلمية والمهنية التي تمكنهم من تأدية رسالتهم كمعلمين ومربين ورواد اجتماعيين، وتبذل الدول النامية جهوداً واضحة في تطوير إعداد المعلمين كماً وكيفاً لتحقيق مستويات تواكب الاتجاهات الحديثة في مجال تربية المعلمين وتدريبهم لتغيير ما هو قائم ومألوف في نظامنا التربوي الذي يعيق التقدم والتطور ومواكبة التوجهات الحديثة التي تشهدها الدول المتقدمة في أنظمتها التعليمية، لابد من التجديد في قطاع التربية في شتى المجالات المادية مثل: التجهيزات المدرسية وغير المادية التي تتناول عناصر المنهاج التعليمي أو طرائق التدريس واستراتيجياته أو العاملين وغيرها من قرارات وتشريعات وقوانين لتحقيق تقدم ملموس يساعد في تغيير ممارسات العاملين في التربية والتعليم التي ألفوها لعقد من الزمان، وبخاصة المعلمين الذين يؤثرون سلباً وإيجاباً على سلوك الأفراد وعلى جودة التعليم ونوعيته.
ويتم ذلك من خلال التطوير المهني كما هو الموضح في الشكل (1) التالي:
الشكل (1) نموذج لعملية التطوير المهني للمعلمين في إثناء الخدمة
فتعريف التجديد: هو تحسين مقصود ومخطط له، يمكن قياسه، ويدوم طويلاً ولا يحصل بكثرة.
ويعرف: بأنه الاختيار والتنظيم والاستخدام المبدع للموارد البشرية، وفق طرائق فريدة تسمح ببلوغ مستوى أعلى في تحقيق الأهداف المرسومة (هوبرمن، 1974م، ص 105).
وبما أن التدريب في أثناء خدمة الإستراتجيات المعتمدة لتنفيذ أي تجديد أو تغيير في النظام التربوي، فقد كان للتدريب في أثناء الخدمة أهمية كبيرة في معظم دول العالم، وبخاصة الدول المتقدمة، ومنها بريطانيا وأمريكا واليابان، وفي وقتنا الحاضر تعد عمليات التدريب أكثر الأعمال أهمية، كما أنها من الأمور الملحة لقيام الجميع بعملهم كفاءة وفاعلية، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية للقوى البشرية، كما أنه يحظى باهتمام القائمين جميعهم على عمليات الإنتاج لأنه مرتبط بالكفاية الإنتاجية في أي مؤسسة ومنها المؤسسة التربوية، ولما كان المعلمون التربويون أحد الأقطاب المهمة والحساسة في هيكل النظام التربوي التعليمي، فإن تدريبهم في أثناء الخدمة يشغل حيزاً من اهتمام المخططين، لما لذلك من ضرورة لتطوير عطائهم ورفع قدراتهم، وخصوصاً بعد الانفجار العلمي والمعرفي وظهور اتجاهات حديثة في التربية، وبعد أن أصبح العالم قرية صغيرة، مما يجعل هذا التدريب أكثر إلحاحاً وأهمية هو مفهوم العولمة الذي نعيشه الآن، ويؤكد ذلك تقرير جاك ديلور Jacques Delors الذي أفرد له عنوان (التعليم ذلك الكنز المكنون) الذي من أهم مبادئه "التعلم مدى الحياة"، وإذا كان التعلم مدى الحياة مهماً لجميع الأفراد فهو أكثر أهمية بالنسبة للمعلمين؛ فهم صناع الأجيال بل وصناع العقول، كما أن من الأشياء التي تجعل التدريب في أثناء الخدمة أكثر إلحاحاً هو ظهور مفهوم التربية المستمرة (اليونسكو، 1996).
قام كل من غسكي وهو برمن Gus key & Huber man عام 1995م، بتصميم نموذج لعملية تغيير المعلم خلال التطوير المهني كما في الشكل (2) الآتي:
الشكل (2): نموذج غسكي وهو برمن لعملية تغيير المعلم خلال التطوير المهني
حيث يظهر هذا النموذج بأن التغيير في ممارسات المعلم تحدث بعد خضوعه إلى برامج تدريب، وتؤدي إلى تغير في طرق تدريس المعلمين، واستخدم الأدوات والتنويع في الأنشطة، وبالتالي بعد أن يلمس المعلم نجاح هذا التغيير من خلال النتائج التعليمية التي يحققها الطلبة يحدث تغيير في معتقدات المعلمين واتجاهاتهم نحو تقبل تجديد ما (Gus key, 2002, P. 383).
ونظراً لما للتدريب من أهمية في تحصيل الطلبة، وهو ما أثبتته الدراسات السابقة، قام كل من أولسليفان وبايبر وكاربوناري (O, Sullivan et al., 1981) بوضع نموذج لبرنامج تدريبي للمعلمين في أثناء الخدمة.
الشكل (3): نموذج اوسليفان وبايبر وكاروناري لبرنامج تدريبي للمعلمين أثناء الخدمة
ويشير هذا النموذج إلى أن التدريب في أثناء الخدمة قد يؤدي إلى تغيير في اتجاهات المعلمين، أو تغيير في ممارسات المعلمين في غرفة الصف أو في الاثنين معاً، ولكن تحصيل الطلبة لا يتأثر إلا بتغيير اتجاهات المعلمين وممارستهم في غرفة الصف معاً بفعل التدريب في أثناء الخدمة.
ولابد من التنويه هنا بأن المصطلحين: (التدريب في أثناء الخدمة، والتطوير المهني) يستخدمان بطريقة تبادلية ولكن بينهما فروق طفيفة من حيث المعنى.
ووفقاً لـ "OECD" (منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي) يعد التطوير المهني أي نشاط من شأنه تطوير المهارات الفردية والمعرفة والخبرة والخصائص الأخرى خاصة بالمعلمين وتشمل دراسة الشخصية، والنواحي الفكرية وكذلك الدورات الرسمية، ولكن التعليم والتدريب في أثناء الخدمة يشير إلى نشاطات تعليمية أكثر تحديداً وخصوصية يشارك فيها المعلمون عملياً (Judith, 2002).
وكما هو موضح في الشكلين (2،3) فإن عملية تنفيذ ما تدرب عليه المعلمون في أثناء الخدمة يؤدي إلى نتائج إيجابية، وهو مرتبط بعوامل عدة من أهمها معتقدات المعلمين واتجاهاتهم وفهمهم، ولكي يتحقق نجاح أي تغيير أو تجديد في النظام التربوي، لابد لنا أ، نكتشف العوامل الإيجابية والسلبية التي تؤثر في تنفيذ المعلمين لبرامج التدريب، وممارستهم لها في غرفة الصف.
ويعد روبلي (Rupley) المعلم أكثر العوامل أهمية في اختيار وتنظيم المؤثرات المختلفة في الطالب والتي تساعده في تحقيق الأهداف التربوية المحددة، كما يؤكد ديوي (Dewey) أهمية تدريب المعلمين بقوله: "إن الإصلاحات التعليمية كافة مرتبطة بنوعية وشخصية العاملين في مهنة التعليم، ولا شك أن مفهوم جون ديوي عن التربية عملية نمو واستمرار في النمو وإعادة بناء الخبرات الإنسانية، صحيحة من كل الوجوه وستظل دائماً من أعمق المفاهيم التربوية أثراً في حياة المشتغلين بالتربية، فالمعلم في أمس الحاجة إلى إعادة بناء خبراته وتجديدها لتتمشى مع هذا العالم المتطور المتغير (اليونسكو، 1996).
"والتدريب بمعناه السليم عملية تحقيق الانسجام بين الفرد وعمله عن طريق رفع مستوى الأداء مما يجعل العاملين قادرين على استغلال طاقاتهم البشرية إلى أقصى حد ممكن حتى يتحقق التوازن بين أوجه النشاط المختلفة، وإن الإعداد ينبغي أن يفهم على أنه ضرورة واستمرارية، لا على أنه مكسب نهائي، فلا قيمة لأي إعداد كان مستمراً ومتواصلاً". (الشيخ، 2000، ص 85).
كما يعرف كارتر التدريب بأنه: "مجموعة من الأنشطة المنظمة والمخططة التي تهدف إلى تطوير معارف المتدربين وخبراتهم ومؤهلاتهم وتساهم في تجديد معلوماتهم ورفع كفاءاتهم الإنتاجية، وحل مشكلاتهم، وتحسين أدائه في عملهم" (Carter, 1973, P244).
ويعرفه دي سنزو وروبنز بأنه: "تطوير الإنسان إلى الأفضل من أجل تحمل أعباء المستقبل ومسؤولياته". (De cenzo & Robbins, 1996).
أما تدريب المعلمين في أثناء الخدمة فيراه بأنه: "عملية تفاعل الشخص مع خبرات تعلميه تهدف إلى بناء وتطوير خصائص وقدرات، ومهارات أدائية ومهارات اتجاهية مرغوبة تجعله قادراً على أداء مهام وواجبات محددة ضمن ظروف وتسهيلات معينة (جابر، 2001، ص 21).
وأرى بأنه عملية علمية منظمة ومخطط لها تهدف إلى إكساب المتدربين معارف متجددة ومهارات فنية تؤدي إلى حل مشكلاتهم، ورفع كفاءاتهم الإنتاجية وزيادة تقبلهم وإتقانهم لعملهم.
لذا فإن الواجب أن ننظر بعين الاعتبار لعمليات التدريب التي يتلقاها هؤلاء المعلمون خلال فترة عملهم ومتابعة تنفيذيهم لها، خاصة أنهم لا يتلقون الإعداد الكافي للقيام بدورهم كمعلمين تربويين يضطلعون إلى مهام كبيرة ويترتب على عملهم تحسين العملية التعليمية.
وتبذل وزارت التربية والتعليم في الدول النامية جهوداً متنوعة في سبيل رفع مستوى المعلمين وبخاصة فيما يتعلق بمهارات التدريس المتمثلة في بعض طرائق التدريس وإستراتيجياته مثل التقويم التشخيصي والاستقصاء والتعلم التعاوني حيث تعد الإستراتيجية التعليمية من المهارات والأساليب المهمة والضرورية لعمل المعلم في حقل التدريس، وإن إستراتيجيات التدريس كانت ولا تزال ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى عملية التدريس الصفي،