By محمد السلامة (4) - الجمعة ديسمبر 31, 2010 9:38 pm
- الجمعة ديسمبر 31, 2010 9:38 pm
#31239
رهان الصراع الأيديولوجي : التوفيق بين الإيمان والعقل والفصل بين المجالين
سمير امين
من اليسير - نظرياً - القول بأن الله هو المشرّع الوحيد، ولكن تطبيق المبدأ يصبح عسيراً لأن العملية تتطلب التوفيق بين الإيمان والعقل. فالحياة تفرض على المجتمع، وفي كل لحظة، الإبداع من أجل مواجهة تحديات جديدة لم تتصد لها الأجيال السابقة.
ويبدو أن المسيحيين والمسلمين واليهود قد واجهوا التحدي وأوجدوا حلولاً موافقة، فلم يكن رجال الماضي ناقصين عقلانية. كلا، وبالتالي أوجدوا الوسائل التي أتاحت لهم التوفيق بين تحكم العقيدة الدينية - أياً كانت - من جانب، وتوظيف قدرات العقل من الجانب الآخر.
والغريب - الذي أود أن ألفت النظر إليه - هو أن المسلمين والمسيحيين واليهود، خلال القرون الوسطى، قد لجأوا في هذا المضمار الى مصدر مشترك، وهو مصدر غير يهودي وغير إسلامي وغير مسيحي بل... إغريقي! أقصد فلسفة أرسطو. فمن المعروف أن طلائع المفكرين في العوالم الثلاثة - إبن رشد وتوما الأكويني وميمون على سبيل المثال - قد إقترحوا حلولاً متماثلة، مضمونها هو إضفاء النسبية على النصوص والدوغما، حيث طرحوا قراءة غير نصية للنصوص. لذلك قامت مؤسسة الحكم والدين بإدانتهم ومحاربتهم بأعنف الوسائل، وهذا ينطبق بالخصوص على إبن رشد وميمون.
من كسب هذه المعارك؟ لقد أثبت التاريخ أن قوى التقدم فرضت نظرتها في نهاية المطاف في أوربا - لسبب أو لآخر - بينما قوى الرجعية إحتلت المسرح في العالم الإسلامي. ومن بين أهم ممثلي هذه القوى الأخيرة الغزالي - عدو الفلسفة والفلاسفة - الذي يعتبر إلى الآن المرجع الأعلى عند آيات الله إيران وشيوخ الأزهر وعلماء السعودية!
خطت أوربا - إنطلاقاً من عصر النهضة - خطوة إضافية في تقدم الفكر، فخرج مفكروها من إشكالية التوفيق بين الإيمان والعقل، التي تمكنوا من إنجازها خلال القرون الوسطى، ليطرحوا أسئلة جديدة.
فأصبحت مشكلة تعبئة العقل من أجل التحرر تحتل مقدمة المسرح في إهتمامات المفكرين، وثم إعلان إستقلال العقل وفصله عن الإيمان دون أن يعني ذلك إنكار وجود مجال يحكمه الإيمان، بل فقط أن هناك أسئلة غير التوفيق بين الإيمان والعقل، لا تقل أهمية. هي تلك الأسئلة الناتجة عن إحتياجات جديدة مثل : تكريس حرية الفرد، مواجهة مسؤولية المجتمع في سن القوانين التي يراها مفيدة، بعبارة أخرى صنع المستقبل.
هذا هو ما يمثل جوهر مفهوم العلمانية، بمعنى إبعاد المرجعية الدينية - أو أية مرجعية أخرى فوق المجتمع - في النقاش حول ما هو مطلوب مجتمعياً. وقد خطت في هذا السبيل بعض المجتمعات الحديثة خطوات واسعة، وبعضها الأخرى خطوات متواضعة، بحسب جذرية الثورة البرجوازية فيها. فبقدر ما كانت الثورة البرجوازية أكثر جذرية كانت إنجازات العلمانية أقوى وأوضح.
لقد تكيفت المسيحية لهذا التطور ذي البعد العميق، ومن أجل ذلك أخذت في إعادة تفسير معناها ومغزاها ودورها الإجتماعي. فتخلت عن دورها القديم في إدارة المجتمع، لصالح القيام بدور إلهام المؤمنين في جو من الحرية. بيد أن المسيحية لم تخسر من هذا التحول، قتعمق الإيمان لدى المؤمنين الذين تحولوا إلى أفراد مقتنعين بالمعنى الحقيقي للكلمة بدلاً من أن يكونوا أعضاء في مجتمع يفرض عليهم إيماناً طقوسياً.
وهكذا أصبحت المسيحية المعاصرة ديانة متحررة من الدوغما، لدى معظم المؤمنين بها على الأقل، عدا فئات صغيرة من السلفيين الذين رفضوا التكيف - نظرياً على الأقل.
مرة أخرى، ودون العودة إلى إشكالية تفسير التطور التاريخية وبيان القوى المحركة فيه، أود فقط الإشارة بعجل إلى موقفي الشخصي الذي يتلخص في النقطتين الآتيتين :
أولاً، رفض الموقف الثقافوي الذي يرى أن الثقافة - ومنها العقائد الدينية - تمثل الثابت في التاريخ، بل أرى أن العوامل الثقافية هي الأخرى قابلة للتحول والتطور، شأنها العوامل البنيائية الأخرى.
ثانياً، إن المادية التاريخية - وهو المنهج الذي أراه أكثر خصوبة من غيره - لا تفترض الإبتذال الإقتصادي القائل أن الإقتصاد يتطور من تلقاء نفسه بسبب تقدم قوى الإنتاج، وأن العوامل الأخرى، وبالأخص على المستوى الأيديولوجي الذي تنتمي إليه العقائد الدينية، لا تأثير لها أو أنها لا بد أن تتكيف تلقائياً لإحتياجات الإقتصاد.
فلا أقبل هذا التبسيط لفكر ماركس، فأطرح إشكالية التماسك بين مختلف مستويات الواقع الإجتماعي : البنية الإقتصادية والبنية السياسية والبنية الأيديولوجية. بتعبير أخر، أقول إن التماسك أمر ضروري وواقع تاريخي. فالمجتمع - أي مجتمع - متماسك الأطراف، فيما عدا خلال مراحل إنتقالية قصيرة عندما يعاني من أزمة تفكك. ولكن لكل مستوى منطق خاص به، الأمر الذي قد يؤدي إلى المنافسة بينها في تحديد الهيمنة الإجمالية.
سمير امين
من اليسير - نظرياً - القول بأن الله هو المشرّع الوحيد، ولكن تطبيق المبدأ يصبح عسيراً لأن العملية تتطلب التوفيق بين الإيمان والعقل. فالحياة تفرض على المجتمع، وفي كل لحظة، الإبداع من أجل مواجهة تحديات جديدة لم تتصد لها الأجيال السابقة.
ويبدو أن المسيحيين والمسلمين واليهود قد واجهوا التحدي وأوجدوا حلولاً موافقة، فلم يكن رجال الماضي ناقصين عقلانية. كلا، وبالتالي أوجدوا الوسائل التي أتاحت لهم التوفيق بين تحكم العقيدة الدينية - أياً كانت - من جانب، وتوظيف قدرات العقل من الجانب الآخر.
والغريب - الذي أود أن ألفت النظر إليه - هو أن المسلمين والمسيحيين واليهود، خلال القرون الوسطى، قد لجأوا في هذا المضمار الى مصدر مشترك، وهو مصدر غير يهودي وغير إسلامي وغير مسيحي بل... إغريقي! أقصد فلسفة أرسطو. فمن المعروف أن طلائع المفكرين في العوالم الثلاثة - إبن رشد وتوما الأكويني وميمون على سبيل المثال - قد إقترحوا حلولاً متماثلة، مضمونها هو إضفاء النسبية على النصوص والدوغما، حيث طرحوا قراءة غير نصية للنصوص. لذلك قامت مؤسسة الحكم والدين بإدانتهم ومحاربتهم بأعنف الوسائل، وهذا ينطبق بالخصوص على إبن رشد وميمون.
من كسب هذه المعارك؟ لقد أثبت التاريخ أن قوى التقدم فرضت نظرتها في نهاية المطاف في أوربا - لسبب أو لآخر - بينما قوى الرجعية إحتلت المسرح في العالم الإسلامي. ومن بين أهم ممثلي هذه القوى الأخيرة الغزالي - عدو الفلسفة والفلاسفة - الذي يعتبر إلى الآن المرجع الأعلى عند آيات الله إيران وشيوخ الأزهر وعلماء السعودية!
خطت أوربا - إنطلاقاً من عصر النهضة - خطوة إضافية في تقدم الفكر، فخرج مفكروها من إشكالية التوفيق بين الإيمان والعقل، التي تمكنوا من إنجازها خلال القرون الوسطى، ليطرحوا أسئلة جديدة.
فأصبحت مشكلة تعبئة العقل من أجل التحرر تحتل مقدمة المسرح في إهتمامات المفكرين، وثم إعلان إستقلال العقل وفصله عن الإيمان دون أن يعني ذلك إنكار وجود مجال يحكمه الإيمان، بل فقط أن هناك أسئلة غير التوفيق بين الإيمان والعقل، لا تقل أهمية. هي تلك الأسئلة الناتجة عن إحتياجات جديدة مثل : تكريس حرية الفرد، مواجهة مسؤولية المجتمع في سن القوانين التي يراها مفيدة، بعبارة أخرى صنع المستقبل.
هذا هو ما يمثل جوهر مفهوم العلمانية، بمعنى إبعاد المرجعية الدينية - أو أية مرجعية أخرى فوق المجتمع - في النقاش حول ما هو مطلوب مجتمعياً. وقد خطت في هذا السبيل بعض المجتمعات الحديثة خطوات واسعة، وبعضها الأخرى خطوات متواضعة، بحسب جذرية الثورة البرجوازية فيها. فبقدر ما كانت الثورة البرجوازية أكثر جذرية كانت إنجازات العلمانية أقوى وأوضح.
لقد تكيفت المسيحية لهذا التطور ذي البعد العميق، ومن أجل ذلك أخذت في إعادة تفسير معناها ومغزاها ودورها الإجتماعي. فتخلت عن دورها القديم في إدارة المجتمع، لصالح القيام بدور إلهام المؤمنين في جو من الحرية. بيد أن المسيحية لم تخسر من هذا التحول، قتعمق الإيمان لدى المؤمنين الذين تحولوا إلى أفراد مقتنعين بالمعنى الحقيقي للكلمة بدلاً من أن يكونوا أعضاء في مجتمع يفرض عليهم إيماناً طقوسياً.
وهكذا أصبحت المسيحية المعاصرة ديانة متحررة من الدوغما، لدى معظم المؤمنين بها على الأقل، عدا فئات صغيرة من السلفيين الذين رفضوا التكيف - نظرياً على الأقل.
مرة أخرى، ودون العودة إلى إشكالية تفسير التطور التاريخية وبيان القوى المحركة فيه، أود فقط الإشارة بعجل إلى موقفي الشخصي الذي يتلخص في النقطتين الآتيتين :
أولاً، رفض الموقف الثقافوي الذي يرى أن الثقافة - ومنها العقائد الدينية - تمثل الثابت في التاريخ، بل أرى أن العوامل الثقافية هي الأخرى قابلة للتحول والتطور، شأنها العوامل البنيائية الأخرى.
ثانياً، إن المادية التاريخية - وهو المنهج الذي أراه أكثر خصوبة من غيره - لا تفترض الإبتذال الإقتصادي القائل أن الإقتصاد يتطور من تلقاء نفسه بسبب تقدم قوى الإنتاج، وأن العوامل الأخرى، وبالأخص على المستوى الأيديولوجي الذي تنتمي إليه العقائد الدينية، لا تأثير لها أو أنها لا بد أن تتكيف تلقائياً لإحتياجات الإقتصاد.
فلا أقبل هذا التبسيط لفكر ماركس، فأطرح إشكالية التماسك بين مختلف مستويات الواقع الإجتماعي : البنية الإقتصادية والبنية السياسية والبنية الأيديولوجية. بتعبير أخر، أقول إن التماسك أمر ضروري وواقع تاريخي. فالمجتمع - أي مجتمع - متماسك الأطراف، فيما عدا خلال مراحل إنتقالية قصيرة عندما يعاني من أزمة تفكك. ولكن لكل مستوى منطق خاص به، الأمر الذي قد يؤدي إلى المنافسة بينها في تحديد الهيمنة الإجمالية.