منتديات الحوار الجامعية السياسية

محاضرات مكتوبة خاصة بالمقررات الدراسية
#32065
العلاقات الدولية في الإسلام:
قرر علماء الإسلام أن العقل الصريح لا يناقض الحديث الصحيح، فإذا صحّ في العلم التجريبي أن القوة والمصلحة هما أساس العلاقات الدولية، فهل يتناقض ذلك مع الإسلام؟!
يقرر القرآن الكريم في وضوح أن مناخ العلاقات الدولية، إنما هو مناخ الصراع والتدافع الدائم بين الأمم والأقوام، فهذه هي الصفة التي ميّزت تاريخ الإنسان منذ القدم، إذ ظلت تجمعاته وتكتلاته في حالة صراع وتدافع دائمين، هما صراع وتدافع بين الحق والباطل والخير والشر، وذلك هو مصداق قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251].

غير أن الإسلام مع إيمانه بواقع التدافع، لا يعمل على فرض إرادته على الجنس البشري أجمع، بل يقدم نفسه دين هداية، ولا يتجه إلى استئصال الأديان أو الأفكار الأخرى، ولا يستعين بالقوة أو الجهاد إلا من أجل إعلاء كلمة الله وفتح المجال أمام نشر هذا الدين.
وفي ضوء هذا نقول: إن العلاقات الدولية في الإسلام تقوم على أصلين:
1- إعلاء كلمة الله:
فالإسلام دين عالمي، لا بد أن يسود، ولا بد أن تخضع له الأوطان؛ إما بالدخول في الإسلام وإما بدفع الجزية، يقول تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: 'أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مَسيرةَ شهرِ، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة'.
فإن جاز لنا التعبير، فنقول: إن المصلحة القومية التي يسعى إليها الإسلام هو نشر الدين وإعلاء كلمة الله، ويتضح ذلك جليًا في سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وصحبه من بعده، حيث كان نهج الصحابة عند ملاقاة عدوهم عرض عليهم أمرًا من ثلاث؛ دخول الإسلام، أو دفع الجزية، أو الحرب.
2- الجهاد في سبيل الله:
أما الوسيلة لتحقيق تلك الغاية فهي الجهاد، يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}، إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد أن الجهاد والقوة أمر ليس مقصود لذاته, بل إنه مقصود لنشر الدين وإعلاء كلمة الله.
يقول ابن تيمية في 'مجموع الفتاوى' [28/263]: 'فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}, فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه, ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}, فمن عدل عن الكتاب قُوّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا [يعني السيف] من عدل عن هذا [يعني المصحف]'.
ويجمع هذين الأصلين، الدعوة والقوة، الحديث الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى'.

وقد شغب كثير من العلمانيين على هذا الحديث وطعن آخرون في صحته، ولم يدركوا أن علماء الإسلام أشاروا إلى الفرق بين المقاتلة والقتل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أُمر بالمقاتلة ولم يؤمر بالقتل والفرق بينهما هو أن المقاتلة ليست مقصودة لذاتها ولكنها مقصودة لرفع الحاجز والعائق أمام انتشار دعوة الإسلام، فإذا رفع ذلك الحاجز رفعت المقاتلة، فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليًا لقتال يهود خيبر قال:‏ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟! يعنى أرغمهم على الإسلام، فقال له: 'أنفذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم, ثم ادعهم إلى الإِسلام, وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدى اللّه بك رجلاً واحدًا خير من أن يكون لك حمر النَّعَم'. رواه مسلم.
وكما قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وإذا كان القتل غير مقصود لذاته، فإن القوة في الإسلام يضبطها قيمة عظيمة هي العدل وفقًا للميزان الإسلامي، والعدل في الإسلام قيمة ذات ميزان واحد يلتزم بها المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
قال المفسرون: المعنى: لا يحملكم بغض قوم يقاتلونكم في الدين على أن لا تعدلوا في معاملتهم.
ويتضح ذلك جليًا في وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقادة جيوشه، حيث كان صلى الله عليه وسلم: إذا بعث جيشاً يقول: 'اغْزُوا وَلاَ تغلّوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع'.
وبذلك يكون الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام على التحقيق هو الدعوة وليس السلم أو الحرب كما ذهب البعض، إلا أن تلك الدعوة لابد من قوة تحميها وتحوطها، غير أن هذه القوة ليست مطلقة وليست مرادة لذاتها.