- السبت يناير 08, 2011 11:03 pm
#32249
حديثي مع نيكسون في سياقه
هنري كيسنجر
السبـت 19 محـرم 1432 هـ 25 ديسمبر 2010 العدد 11715
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
بالنسبة لشخص مثلي خسر في المحرقة الكثير من أفراد أسرته، وعددا كبيرا من الذين نشأ معهم، أشعر بالألم حين أرى تصريحا لي يؤخذ من سياقه بصورة تتناقض مع ما كنت أقصده، ومع قناعاتي التي شكلتها هذه الأحداث. لا توجد إشارة إلى غرف الغاز في الخطاب السياسي، وأنا أتأسف لصدور هذا التصريح مني قبل 37 عاما.
ففي عموده المنشور بتاريخ 21 ديسمبر (كانون الأول)، «ما بعد واقعية كيسنجر»، (ترجم المقال ونشر بتاريخ 23/12 في «الشرق الأوسط» تحت عنوان «عندما تفتقر السياسة الواقعية» – المحرر)، اعتمد مايكل غيرسون على تصريح أدليت به خلال محادثة مدتها دقيقة واحدة مع الرئيس ريتشارد نيكسون ليوضح التناقض بين عدم أخلاقية ما يوصفون بأصحاب النهج الواقعي في السياسة الخارجية، ومنتقديهم من أصحاب النظرة الإنسانية. وبصورة عامة، فإن هذا الكلام قد تجاوز نطاق مقال الرأي.
أمور تتعلق بالسياق، يعرض غيرسون قضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي في سبعينات القرن العشرين كما لو كانت جدالا مجردا بين أولئك الذين يدعمون السياسات الساعية لتخفيف حدة التوترات ودعاة المواجهة الآيديولوجية. ويرى أن أصحاب النهج الواقعي كانوا على استعداد للتضحية بالهجرة اليهودية من أجل إحداث انفراجة في العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. لكن العكس هو الصحيح، فالهجرة حدثت بسبب سياسات «أصحاب النهج الواقعي» في البيت الأبيض. وقضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي لم تطرح من قبل أي إدارة أميركية كموقف رسمي، ليس بسبب عدم الأخلاقية، ولكن التوتر الشديد فرض أولويات أخرى. وفي عام 1969، طرحنا هذه القضية من خلال القنوات الرئاسية باعتبارها قضية إنسانية، لأننا رأينا أن المواجهة السياسية قد تؤدي إلى رفض السوفيات وزيادة التوتر. ونتيجة لذلك، شهدت الهجرة اليهودية زيادة مطردة من 700 في السنة عام 1969 إلى ما يقرب من 40 ألفا عام 1972. وبلغ إجمالي عدد اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي إلى الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية الأولى لنيكسون أكثر من 100 ألف. كما تمكنا أيضا من طرح مئات القضايا للذين يواجهون مشكلات هناك، وحققنا بعض النجاحات، على فترات متقطعة. وللحفاظ على هذا التدفق عن طريق الدبلوماسية الهادئة، لم نستخدم هذه الأرقام لأغراض سياسية.
وقد أصبحت قضية علنية بسبب نجاح سياستنا في الشرق الأوسط عندما طردت مصر المستشارين السوفيات. ولاستعادة علاقاته مع القاهرة، فرض الاتحاد السوفياتي ضريبة على الهجرة اليهودية. ولم يكن هناك تعديل جاكسون - فانيك حتى كان هناك جهد هجرة ناجح.
وقد سعى السيناتور هنري جاكسون، الذي كنت وما زلت أكن له كل التقدير والاحترام، إلى إلغاء الضرائب بالتعديل الذي قدمه. وكنا نرى أن استمرارنا في نهج الدبلوماسية الهادئة أجدى. ولكن حدث التوتر فقط بعد إضفاء الطابع المؤسسي للضرائب الواردة في تعديل جاكسون - فانيك، والتي كنا قد أزلناها من خلال نهجنا السابق.
لم يثر النقاش بشأن هذا الموضوع كبيان للسياسات من قبلي، لكن بناء على طلب الرئيس مني مخاطبة عضوي مجلس الشيوخ جافيتس وجاكسون وإيضاح سبب اعتقادنا أن توجههما غير حكيم. وقد حاولت في جوابي أن ألخص هذا السياق بعبارة إذا قرئت بعد 37 عاما فإنها بالطبع ستكون جارحة. وتم توجيه هذه العبارة إلى رئيس كان مهتما بهذه القضية ولم يستخدمها لغرض سياسي من أجل الحفاظ على إطارها الإنساني. وقولي للرئيس نيكسون بأن هجرة اليهود ليست من اختصاص السياسة الخارجية يجب أن تفسر في هذا السياق.
كذلك ينبغي إدراك أن المحادثة تمت بعد 15 دقيقة من اجتماع بين نيكسون وغولدا مئير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، والذي حضرته أنا وإسحاق رابين، السفير الإسرائيلي. واتفق الطرفان خلال الاجتماع على تسليم معدات عسكرية، خاصة الطائرات، وعلى إجراء عملية سلام عن طريق البيت الأبيض، ووضع التفاوض والخطوات نحو تشجيع مصر على فك تحالفها مع الاتحاد السوفياتي. ومن أجل الحفاظ على هذه الاستراتيجية طلب نيكسون مني الاتصال بعضوي مجلس الشيوخ.
أثبتت الأحداث صحة النهج الذي تبنيناه، حيث تراجع معدل هجرة اليهود بنحو الثلث عن المعدل المرتفع السابق، ولم تستمر الهجرة بشكل كبير على مدار 20 عاما بحسب ما أقره غيرسون. وكان هذا إبان انهيار الاتحاد السوفياتي. أرجع غيرسون انهيار الاتحاد السوفياتي جزئيا إلى تعديل جاكسون - فانيك. ولم يلعب التعديل دورا كبيرا فيما نتج عن التوسع الإمبريالي والإدارة غير الفاعلة للاقتصاد والمقاومة الشديدة لتولي رؤساء من كلا الحزبين والتي زادت خلال عهد ريغان.
يسخر غيرسون من هذه الانفراجة وكأنها كانت نوعا من التنازل المعنوي. وما أقصر عمر الذكريات، فقد تم هذا الحديث خلال مناقشة دارت في 1 مارس (آذار) عام 1973، في وقت كانت حرب فيتنام قد انتهت لتوها ولم يعد الأسرى بعد.
وتزامن ذلك مع استراتيجية عالمية فاعلة من الانفتاح على الصين وإجراء حوار شامل مع الاتحاد السوفياتي، وحدوث تقدم كبير في مصر فيما يتعلق بهجرة اليهود. وأجري هذا الحديث في المكتب البيضاوي من أجل الحفاظ على تلك السياسة، لذا يجب قراءته ضمن ذلك السياق.
* وزير الخارجية الأميركي الأسبق
خدمة «واشنطن بوست»
هنري كيسنجر
السبـت 19 محـرم 1432 هـ 25 ديسمبر 2010 العدد 11715
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
بالنسبة لشخص مثلي خسر في المحرقة الكثير من أفراد أسرته، وعددا كبيرا من الذين نشأ معهم، أشعر بالألم حين أرى تصريحا لي يؤخذ من سياقه بصورة تتناقض مع ما كنت أقصده، ومع قناعاتي التي شكلتها هذه الأحداث. لا توجد إشارة إلى غرف الغاز في الخطاب السياسي، وأنا أتأسف لصدور هذا التصريح مني قبل 37 عاما.
ففي عموده المنشور بتاريخ 21 ديسمبر (كانون الأول)، «ما بعد واقعية كيسنجر»، (ترجم المقال ونشر بتاريخ 23/12 في «الشرق الأوسط» تحت عنوان «عندما تفتقر السياسة الواقعية» – المحرر)، اعتمد مايكل غيرسون على تصريح أدليت به خلال محادثة مدتها دقيقة واحدة مع الرئيس ريتشارد نيكسون ليوضح التناقض بين عدم أخلاقية ما يوصفون بأصحاب النهج الواقعي في السياسة الخارجية، ومنتقديهم من أصحاب النظرة الإنسانية. وبصورة عامة، فإن هذا الكلام قد تجاوز نطاق مقال الرأي.
أمور تتعلق بالسياق، يعرض غيرسون قضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي في سبعينات القرن العشرين كما لو كانت جدالا مجردا بين أولئك الذين يدعمون السياسات الساعية لتخفيف حدة التوترات ودعاة المواجهة الآيديولوجية. ويرى أن أصحاب النهج الواقعي كانوا على استعداد للتضحية بالهجرة اليهودية من أجل إحداث انفراجة في العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. لكن العكس هو الصحيح، فالهجرة حدثت بسبب سياسات «أصحاب النهج الواقعي» في البيت الأبيض. وقضية هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي لم تطرح من قبل أي إدارة أميركية كموقف رسمي، ليس بسبب عدم الأخلاقية، ولكن التوتر الشديد فرض أولويات أخرى. وفي عام 1969، طرحنا هذه القضية من خلال القنوات الرئاسية باعتبارها قضية إنسانية، لأننا رأينا أن المواجهة السياسية قد تؤدي إلى رفض السوفيات وزيادة التوتر. ونتيجة لذلك، شهدت الهجرة اليهودية زيادة مطردة من 700 في السنة عام 1969 إلى ما يقرب من 40 ألفا عام 1972. وبلغ إجمالي عدد اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي إلى الولايات المتحدة خلال الفترة الرئاسية الأولى لنيكسون أكثر من 100 ألف. كما تمكنا أيضا من طرح مئات القضايا للذين يواجهون مشكلات هناك، وحققنا بعض النجاحات، على فترات متقطعة. وللحفاظ على هذا التدفق عن طريق الدبلوماسية الهادئة، لم نستخدم هذه الأرقام لأغراض سياسية.
وقد أصبحت قضية علنية بسبب نجاح سياستنا في الشرق الأوسط عندما طردت مصر المستشارين السوفيات. ولاستعادة علاقاته مع القاهرة، فرض الاتحاد السوفياتي ضريبة على الهجرة اليهودية. ولم يكن هناك تعديل جاكسون - فانيك حتى كان هناك جهد هجرة ناجح.
وقد سعى السيناتور هنري جاكسون، الذي كنت وما زلت أكن له كل التقدير والاحترام، إلى إلغاء الضرائب بالتعديل الذي قدمه. وكنا نرى أن استمرارنا في نهج الدبلوماسية الهادئة أجدى. ولكن حدث التوتر فقط بعد إضفاء الطابع المؤسسي للضرائب الواردة في تعديل جاكسون - فانيك، والتي كنا قد أزلناها من خلال نهجنا السابق.
لم يثر النقاش بشأن هذا الموضوع كبيان للسياسات من قبلي، لكن بناء على طلب الرئيس مني مخاطبة عضوي مجلس الشيوخ جافيتس وجاكسون وإيضاح سبب اعتقادنا أن توجههما غير حكيم. وقد حاولت في جوابي أن ألخص هذا السياق بعبارة إذا قرئت بعد 37 عاما فإنها بالطبع ستكون جارحة. وتم توجيه هذه العبارة إلى رئيس كان مهتما بهذه القضية ولم يستخدمها لغرض سياسي من أجل الحفاظ على إطارها الإنساني. وقولي للرئيس نيكسون بأن هجرة اليهود ليست من اختصاص السياسة الخارجية يجب أن تفسر في هذا السياق.
كذلك ينبغي إدراك أن المحادثة تمت بعد 15 دقيقة من اجتماع بين نيكسون وغولدا مئير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، والذي حضرته أنا وإسحاق رابين، السفير الإسرائيلي. واتفق الطرفان خلال الاجتماع على تسليم معدات عسكرية، خاصة الطائرات، وعلى إجراء عملية سلام عن طريق البيت الأبيض، ووضع التفاوض والخطوات نحو تشجيع مصر على فك تحالفها مع الاتحاد السوفياتي. ومن أجل الحفاظ على هذه الاستراتيجية طلب نيكسون مني الاتصال بعضوي مجلس الشيوخ.
أثبتت الأحداث صحة النهج الذي تبنيناه، حيث تراجع معدل هجرة اليهود بنحو الثلث عن المعدل المرتفع السابق، ولم تستمر الهجرة بشكل كبير على مدار 20 عاما بحسب ما أقره غيرسون. وكان هذا إبان انهيار الاتحاد السوفياتي. أرجع غيرسون انهيار الاتحاد السوفياتي جزئيا إلى تعديل جاكسون - فانيك. ولم يلعب التعديل دورا كبيرا فيما نتج عن التوسع الإمبريالي والإدارة غير الفاعلة للاقتصاد والمقاومة الشديدة لتولي رؤساء من كلا الحزبين والتي زادت خلال عهد ريغان.
يسخر غيرسون من هذه الانفراجة وكأنها كانت نوعا من التنازل المعنوي. وما أقصر عمر الذكريات، فقد تم هذا الحديث خلال مناقشة دارت في 1 مارس (آذار) عام 1973، في وقت كانت حرب فيتنام قد انتهت لتوها ولم يعد الأسرى بعد.
وتزامن ذلك مع استراتيجية عالمية فاعلة من الانفتاح على الصين وإجراء حوار شامل مع الاتحاد السوفياتي، وحدوث تقدم كبير في مصر فيما يتعلق بهجرة اليهود. وأجري هذا الحديث في المكتب البيضاوي من أجل الحفاظ على تلك السياسة، لذا يجب قراءته ضمن ذلك السياق.
* وزير الخارجية الأميركي الأسبق
خدمة «واشنطن بوست»