- السبت يناير 08, 2011 11:44 pm
#32255
يثير الدكتور تركي الحمد، أحد أبرز رموز الليبرالية السعودية، الكثير والكثير من الجدل أينما حل.. أحيانا ما يبدأ الجدل بمنع أحد رواياته أو كتبه، ولكنه لا ينتهي عند صدور فتاوى إهدار الدم والتكفير.. وفي حواره مع «المجلة» يصف من أصدروا الفتاوى ضده بأنهم «فراعنة العصر» مؤكدا أنه غير خائف من تلك الفتاوى وأنه لا يؤمن بالثوابت في هذه الدنيا، فالحياة بالنسبة له كالنهر الجاري، والمرء لا يستطيع أن يستحم في ذات النهر مرتين، لأن الماء ليس هو ذات الماء على رغم أن النهر واحد.
السباحة ضد التيار هي ما يجيده الدكتور تركي الحمد الكاتب والمفكر الليبرالي السعودي، ولكنه أبدا لا يواصل السباحة في نفس النهر، حيث هجر الوسط الأكاديمي إلى عالم الرواية قبل أن يتجه إلى كتابة المقالات. ويعتبر الحمد في حواره مع «المجلة» أنه لا يوجد تعارض بين الإسلام وتطبيق الليبرالية، ويؤكد أن الليبرالية الحقيقية لا يمكن أن تكون إقصاءً، فلبها هو حرية الاختيار، وجوهرها هو التعددية، وفلسفتها هي نسبية الحقيقة، ومقدسها هو الفرد. والليبرالي الحقيقي، المؤمن حقا بقيم الليبرالية وفلسفتها، لا يمكن أن يكون إلا متسامحا.
«المجلة»: الأردن.. السعودية.. الولايات المتحدة الأميركية، ثم السعودية مرة أخرى.. محطات في حياة تركي الحمد، كيف انعكس تأثيرها على فكرك؟
- تعدد الخلفيات وثراء التجربة، فما الإنسان في النهاية إلا نتيجة الخلفية والتجربة وبينهما ملكات الإنسان التي تبلور كل ذلك على شكل فكر وشخصية ونظرة إلى الحياة، أو لنقل فلسفة حياة.
كان الأردن مسقط رأسي في الخمسينيات من القرن العشرين، وكانت الأحداث السياسية والتغيرات الاجتماعية تعصف به من كل اتجاه، وهو البلد الذي جمع بين العشائرية التقليدية والحزبية السياسية، فكان لكل ذلك أثر على تكويني المبكر، وبخاصة من الناحية السياسية حيث رسخت الأفكار القومية واليسارية في ذهني منذ ذلك الوقت. صحيح أنني كنت طفلا حينها لا يتجاوز السادسة أو السابعة من العمر، ولكن كانت تلك سنوات التنشئة والتأسيس، فإن لم تكن الأفكار الأولية تجد طريقها إلى الوعي الظاهر، فإنها تشق أنفاقها إلى أعماق اللاوعي لتسهم في النهاية في شخصية وفلسفة صاحبها، لذلك أنا أشدد دائما على الانتباه للعقول الغضة لأن من يشكلها هو من يشكل عالما بأسره في النهاية.
وفي دمام الستينيات من القرن العشرين، كانت المراهقة وبدايات الشباب، حيث بدأت الأفكار الأولية تتجسد وعيا وسلوكا، فكان الانفتاح على عوالم المعرفة وتيارات الفكر والسياسة، وكان الانخراط في التنظيمات السرية والاتجاهات السياسية التي كانت تلقي بظلالها على المنطقة، وبخاصة الاتجاهات القومية واليسارية.
أما في رياض السبعينيات، وبخاصة بعد سنوات النكسة ووفاة عبد الناصر وأيام أيلول في الأردن، فكانت بدايات مراجعة الذات، ومحاولة إعادة التفكير بأفكار كانت تعتبر من مسلمات الذات إلى قبل حين، وإن كانت النفس ما زالت متعلقة بتلك الأفكار تعلق الأم بطفلها على رغم أنه شب عن الطوق.
وفي أميركا كانت مرحلة عقلانية الفكر، أو محاولة ذلك، والتحرر المبدئي من أسر الأفكار القديمة، من حيث إيجاد معيار جديد يقوم على نخل الفكرة، كل فكرة وأي فكرة، في ميزان العقل ومنهج الشك حتى يثبت اليقين، وإن كان يقينا أوليا فليس هناك يقين مطلق في هذه الحياة.
وفي رياض الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة، كان المنهج قد اتضح، والرؤية قد تحددت إلى حد كبير: فلا ميزان إلا العقل، ولا منهج إلا الشك، ولا معنى لحياة من دون تنوع وتعدد واختلاف.
«المجلة»: هل هشام العابر بطل ثلاثيتك «أطياف الأزقة المهجورة» هو تركي الحمد أم أنه يحمل جزءا منك؟
- هشام العابر ليس تركي الحمد، وإن كان فيه الكثير منه، بمثل ما أن كمال عبد الجواد فيه الكثير من نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة. البطل في أي رواية لا بد أن يكون فيه شيء من صانع البطل، فالبطل لم يسقط من السماء وإنما هو تجسد، بهذا الشكل أو ذاك، لصانعه ولو في لمحات بسيطة، لدرجة أنه يمكننا القول إنه إذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فإن المؤلف قد ابتكر البطل على نمطه، وأظن في ذلك فضا للاشتباك بين تركي الحمد وهشام العابر.
«المجلة»: كنت وما زلت من أشد من واجهوا الثوابت الدينية والمجتمعية بطرح جريء تجاوز الخطوط الحمر.. ما الذي تندم عليه؟
- وهل هناك ما يجب أن أندم عليه؟ ثم من الذي ثبّت الثوابت، أو جعلها من الثوابت وهي في حقيقتها غير ذلك؟ لست من المؤمنين بالثوابت في هذه الدنيا، فالحياة كالنهر الجاري، ونحن لا نستطيع أن نستحم في ذات النهر مرتين، وإن اعتقدنا أننا قد فعلنا ذلك، لأن الماء ليس هو ذات الماء رغم أن النهر واحد. قد يأتي من يقول إن إنكار الثوابت، وبخاصة الثوابت الدينية، أو ما اصطلح على أنها ثوابت دينية، هو نوع من الهرطقة والتجديف إن لم يكن الكفر ذاته، وهنا أقول إن لكل شيء، سواء كان فكرا أو غيره، مصدرا ومرجعا يحدد مسار الأفكار والأشياء، وذلك بمثل ما تحدد جاذبية الشمس مسار الكواكب من حولها، ولكن ذلك لا يعني الثبات الذي أصبح يشمل في نظر البعض كل شيء، ثم لنتذكر أنه لا الشمس التي تحدد مسار الكواكب، ولا الكون الذي توجد فيه من الثوابت، بل كل في فلك يسبحون، وبذلك يمكن القول إنه لا ثابت إلا التغير، على رغم ما في الجملة من تناقض شكلي.
«المجلة»: ثلاث فتاوى لتكفيرك وإهدار دمك.. هل أنت خائف؟
- إطلاقا.. فإيماني بالخالق عميق جدا، على رغم كل ما يزعمون، ولذلك فإنني من المؤمنين بأن كل إنسان ميسر لما خُلق له، وأن القادر هو الممسك بمصائرنا، ولذلك تجدني أقول كلمتي وما أراه حقا وأمشي، رضي من رضي وغضب من غضب. فتاواهم لا تخيفني لأنني أعلم أن من يتحدثون باسمه هو رب الجميع، مسلمين وغير مسلمين، وليس ربهم وحدهم، وما فتاواهم إلا وسيلة أو سلاح لفرض هيمنتهم على الفكر والمجتمع، ولذلك وجب الوقوف في وجههم، وقد قيل في الأمثال: «يا فرعون من فرعنك، قال ما لقيت أحد يقول لي لا»، وهؤلاء تحولوا إلى فراعنة العصر ويجب أن يُقال لهم كفى من أجل الإنسان، بل ومن أجل الدين الذي احتكروه بل اختطفوه وشوهوه.
«المجلة»: منذ فترة توفي المفكر المصري نصر حامد أبو زيد.. هل سيندم من كفروه؟
- وتوفي الجابري وأركون وأحمد البغدادي وغيرهم، ولكن لن يندم من كفروهم، بل سيندم من لم يفهموهم على أنهم لم يستفيدوا من وجودهم وفكرهم في حينه. أما المكفرون فلن يندموا، لأن الندم يستوجب العقل ومراجعة الذات واليقينيات الزائفة، وهؤلاء، إلا من رحم ربك، لا عقل لهم ولا قدرة على مراجعة الذات والتحرر من القطعيات. هؤلاء المكفرون (المكفراتية) ما زالوا إلى يومنا هذا يكفرون ابن رشد وابن سينا وابن عربي والرازي وغيرهم، على رغم أن هذه الأسماء هي فخر حضارة العرب والمسلمين في ماضيهم، فما الذي سيجعلهم يفرقون اليوم بين أبو زيد وابن رشد مثلا؟
«المجلة»: ترفض تسييس الدين وتديين السياسة.. هل تريد عزل الدين تماما عن السياسة؟
- نعم لعزل المؤسسات الدينية عن السياسة، وهنالك فرق بين الدين والمؤسسة الدينية. فالدين فضاء رحب يمكن أن يكون متعدد التفسير والتأويل وبالتالي الفهم، وهو في جوهره علاقة بين الفرد وربه، ومن هنا قد تجد شخصين ينتميان إلى ذات الدين ولكن بفهمين مختلفين، ولا غضاضة في ذلك. أما المؤسسة الدينية فهي تجسيد لأحادية التفسير والفهم وبالتالي فهي غير قادرة على استيعاب تيار الحياة المتدفق والمتغير، وهنا يكمن الخلل في العلاقة بين المؤسسة الدينية وفكرها الذي لا بد أن يكون مستبدا، وبين جوهر الحياة. وفي النهاية، وكنتيجة لذلك، فإن تديين السياسة وتسييس الدين يؤديان حتما إلى الاستبداد، وكفى بالتاريخ شهيدا.
«المجلة»: في رأيك هل يوجد تعارض بين الإسلام وتطبيق الليبرالية؟
- بل على العكس، إذا كان فهمنا للدين على أساس أنه فضاء رحب، فالليبرالية هي الجو النقي الذي من خلاله يستطيع الفكر الديني، أسوة بأي فكر آخر، أن يتنفس ويزدهر، وأنا هنا أتحدث عن الفكر الديني وليس التفسير الأحادي للدين، أو المؤسسة الدينية كممثلة للدين، إذ أنه في هذه الحالة يمكن القول إن التعارض موجود والتناقض حتمي الحدوث، فالليبرالية عدو لأحادية التفكير فيما المؤسسة الدينية، ولا أقول الدين، تجسد لهذه الأحادية.
«المجلة»: البعض يعتبر أنه لا يوجد اختلاف بين الليبراليين والأصوليين فكلاهما إقصائي ينظر للآخر باستعلاء.. هل نحتاج إلى تسامح أكبر بين النخب سواء كانوا إسلاميين أم ليبراليين؟
- الليبرالية الحقيقية لا يمكن أن تكون إقصاءً، فلبها هو حرية الاختيار، وجوهرها هو التعددية، وفلسفتها هي نسبية الحقيقة، ومقدسها هو الفرد. والليبرالي الحقيقي، المؤمن حقا بقيم الليبرالية وفلسفتها، لا يمكن أن يكون إلا متسامحا، وإلا فهو غير ليبرالي وإن ادعى ذلك. أن تكون ليبراليا يعني القبول بحق الوجود للآراء والاتجاهات كافة، دينية كانت أو دنيوية، ولكن بشرط أن تقبل هذه الآراء والاتجاهات بحق الوجود لبعضها البعض، أي أن يكون التسامح هو البيئة التي يتعايش في كنفها الجميع، وأن لا يكون الإقصاء هو ديدن الجميع بالتالي.
«المجلة»: في مقالك «زرعوا فأكلنا» حلّلت الأسباب التي أدت إلى تفجيرات الرياض والخبر في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول).. كيف يمكن مقاومة الإرهاب؟
- باجتثاث جذوره الفكرية منذ الصغر، وزرع ثقافة التسامح في العقول الغضة، فالقضية في رأيي تربوية وتعليمية قبل أي شيء آخر.
«المجلة»: تحدثت عن الفارق بين وظيفة المثقف ووظيفة السياسي.. في أيهما ترى نفسك؟
- قد أكون محللا سياسيا ولكنني قطعا لست بسياسي. وإذا كانت وظيفة المثقف هي «اللسع» لعودة الوعي، فأظن أنني كذلك، أو أحاول أن أكون كذلك بالأصح.
«المجلة»: قلت في كتابك «الثقافة العربية في عصر العولمة» إن التاريخ يحكمه التنافس وإن البقاء للأفضل.. كيف يحيا العرب في ظل العولمة؟
- أن يتعولموا ويتحرروا من أوهامهم، بخاصة وهم التفرد، ووهم الفوقية، ووهم التقدم إلى الماضي.
«المجلة»: تقاعدت كأكاديمي مبكرا كي تتفرغ للكتابة.. هل يصعب الجمع بين العمل الأكاديمي والكتابة؟
- في ظل ثقافة متناقضة متهافتة تنهش نفسها وتدعي ما ليس بها، وفي ظل مؤسسات تعليمية تفتقد إلى الحرية، وفي ظل مجتمعات تفتقد إلى روح التسامح، أقول نعم.
«المجلة»: ما الفارق بين مفكر يكتب رواية وأديب يكتب رواية؟ ما الذي تقوله في رواياتك ولا يمكنك قوله في مقالاتك؟
- المهم هو جودة المنتج ورسالته وصدق التجربة، والباقي مجرد تفاصيل لا أثر لها. حرارة التجربة، وحيوية الحياة هما ما يمكن التعبير عنه في الرواية ولا تستطيعه المقالة.
«المجلة»: العادي أم المثقف النخبوي.. من منهما قارئ تركي الحمد؟
- بين بين.. فالنخبوي يرى أنني أقل من المستوى المطلوب، والعادي يرى أنني أعلى من المطلوب، وأنا بينهما لا يهمني إلا وصول الفكرة في النهاية.
«المجلة»: ما تحليلك لمستوى الرواية السعودية؟ ما تقييمك لتجربة المرأة الروائية في السعودية؟
- تسير قدما ولكنها لم تصل إلى مستوى النضج التام، وإن اقتربت منه كثيرا. أما التجربة الروائية للمرأة السعودية، فأعتقد أنها في مجملها، ولا أقول كلها، عبارة عن أدب بوح عن المسكوت عنه اجتماعيا أكثر من كونها رواية، مع استثناء عدد يسير منهن، ولا أرى ضرورة لذكر أسماء.
«المجلة»: هل تمارس ضد كتبك رقابة انتقائية؟
- ربما.. لا أجزم.. ولكنني أميل إلى ذلك، وبخاصة عندما أرى وجود أعمال تعد أعمالي بجانبها محافظة جدا.
«المجلة»: عندما يتعلق الأمر بك هل تمنع كتبك بسبب الاسم أم المحتوى؟
- ربما كان السبب في الماضي هو المحتوى، أما اليوم فأنا أشك في أن المحتوى هو السبب، إذ إنه يوجد من الكتاب والكاتبات السعوديين اليوم من هو أكثر جرأة مني في السابق ومع ذلك فهو ليس من «المغضوب عليهم».
«المجلة»: لمن تقرأ من الكتاب الروائيين الشباب؟ ومن هو كاتبك السياسي المفضل؟
- أقرأ لمعظمهم عندما يسعفني الوقت، واعفني من ذكر الأسماء، وليس لدي كاتب سياسي مفضل بعينه، فالموضوع هو الذي يهمني وليس الاسم.
«المجلة»: ما مشروعاتك المقبلة؟ هل تنوي إعداد ثلاثية جديدة؟
- لكل شيء أوان.. فلندع كل شيء لأوانه.
السباحة ضد التيار هي ما يجيده الدكتور تركي الحمد الكاتب والمفكر الليبرالي السعودي، ولكنه أبدا لا يواصل السباحة في نفس النهر، حيث هجر الوسط الأكاديمي إلى عالم الرواية قبل أن يتجه إلى كتابة المقالات. ويعتبر الحمد في حواره مع «المجلة» أنه لا يوجد تعارض بين الإسلام وتطبيق الليبرالية، ويؤكد أن الليبرالية الحقيقية لا يمكن أن تكون إقصاءً، فلبها هو حرية الاختيار، وجوهرها هو التعددية، وفلسفتها هي نسبية الحقيقة، ومقدسها هو الفرد. والليبرالي الحقيقي، المؤمن حقا بقيم الليبرالية وفلسفتها، لا يمكن أن يكون إلا متسامحا.
«المجلة»: الأردن.. السعودية.. الولايات المتحدة الأميركية، ثم السعودية مرة أخرى.. محطات في حياة تركي الحمد، كيف انعكس تأثيرها على فكرك؟
- تعدد الخلفيات وثراء التجربة، فما الإنسان في النهاية إلا نتيجة الخلفية والتجربة وبينهما ملكات الإنسان التي تبلور كل ذلك على شكل فكر وشخصية ونظرة إلى الحياة، أو لنقل فلسفة حياة.
كان الأردن مسقط رأسي في الخمسينيات من القرن العشرين، وكانت الأحداث السياسية والتغيرات الاجتماعية تعصف به من كل اتجاه، وهو البلد الذي جمع بين العشائرية التقليدية والحزبية السياسية، فكان لكل ذلك أثر على تكويني المبكر، وبخاصة من الناحية السياسية حيث رسخت الأفكار القومية واليسارية في ذهني منذ ذلك الوقت. صحيح أنني كنت طفلا حينها لا يتجاوز السادسة أو السابعة من العمر، ولكن كانت تلك سنوات التنشئة والتأسيس، فإن لم تكن الأفكار الأولية تجد طريقها إلى الوعي الظاهر، فإنها تشق أنفاقها إلى أعماق اللاوعي لتسهم في النهاية في شخصية وفلسفة صاحبها، لذلك أنا أشدد دائما على الانتباه للعقول الغضة لأن من يشكلها هو من يشكل عالما بأسره في النهاية.
وفي دمام الستينيات من القرن العشرين، كانت المراهقة وبدايات الشباب، حيث بدأت الأفكار الأولية تتجسد وعيا وسلوكا، فكان الانفتاح على عوالم المعرفة وتيارات الفكر والسياسة، وكان الانخراط في التنظيمات السرية والاتجاهات السياسية التي كانت تلقي بظلالها على المنطقة، وبخاصة الاتجاهات القومية واليسارية.
أما في رياض السبعينيات، وبخاصة بعد سنوات النكسة ووفاة عبد الناصر وأيام أيلول في الأردن، فكانت بدايات مراجعة الذات، ومحاولة إعادة التفكير بأفكار كانت تعتبر من مسلمات الذات إلى قبل حين، وإن كانت النفس ما زالت متعلقة بتلك الأفكار تعلق الأم بطفلها على رغم أنه شب عن الطوق.
وفي أميركا كانت مرحلة عقلانية الفكر، أو محاولة ذلك، والتحرر المبدئي من أسر الأفكار القديمة، من حيث إيجاد معيار جديد يقوم على نخل الفكرة، كل فكرة وأي فكرة، في ميزان العقل ومنهج الشك حتى يثبت اليقين، وإن كان يقينا أوليا فليس هناك يقين مطلق في هذه الحياة.
وفي رياض الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة، كان المنهج قد اتضح، والرؤية قد تحددت إلى حد كبير: فلا ميزان إلا العقل، ولا منهج إلا الشك، ولا معنى لحياة من دون تنوع وتعدد واختلاف.
«المجلة»: هل هشام العابر بطل ثلاثيتك «أطياف الأزقة المهجورة» هو تركي الحمد أم أنه يحمل جزءا منك؟
- هشام العابر ليس تركي الحمد، وإن كان فيه الكثير منه، بمثل ما أن كمال عبد الجواد فيه الكثير من نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة. البطل في أي رواية لا بد أن يكون فيه شيء من صانع البطل، فالبطل لم يسقط من السماء وإنما هو تجسد، بهذا الشكل أو ذاك، لصانعه ولو في لمحات بسيطة، لدرجة أنه يمكننا القول إنه إذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فإن المؤلف قد ابتكر البطل على نمطه، وأظن في ذلك فضا للاشتباك بين تركي الحمد وهشام العابر.
«المجلة»: كنت وما زلت من أشد من واجهوا الثوابت الدينية والمجتمعية بطرح جريء تجاوز الخطوط الحمر.. ما الذي تندم عليه؟
- وهل هناك ما يجب أن أندم عليه؟ ثم من الذي ثبّت الثوابت، أو جعلها من الثوابت وهي في حقيقتها غير ذلك؟ لست من المؤمنين بالثوابت في هذه الدنيا، فالحياة كالنهر الجاري، ونحن لا نستطيع أن نستحم في ذات النهر مرتين، وإن اعتقدنا أننا قد فعلنا ذلك، لأن الماء ليس هو ذات الماء رغم أن النهر واحد. قد يأتي من يقول إن إنكار الثوابت، وبخاصة الثوابت الدينية، أو ما اصطلح على أنها ثوابت دينية، هو نوع من الهرطقة والتجديف إن لم يكن الكفر ذاته، وهنا أقول إن لكل شيء، سواء كان فكرا أو غيره، مصدرا ومرجعا يحدد مسار الأفكار والأشياء، وذلك بمثل ما تحدد جاذبية الشمس مسار الكواكب من حولها، ولكن ذلك لا يعني الثبات الذي أصبح يشمل في نظر البعض كل شيء، ثم لنتذكر أنه لا الشمس التي تحدد مسار الكواكب، ولا الكون الذي توجد فيه من الثوابت، بل كل في فلك يسبحون، وبذلك يمكن القول إنه لا ثابت إلا التغير، على رغم ما في الجملة من تناقض شكلي.
«المجلة»: ثلاث فتاوى لتكفيرك وإهدار دمك.. هل أنت خائف؟
- إطلاقا.. فإيماني بالخالق عميق جدا، على رغم كل ما يزعمون، ولذلك فإنني من المؤمنين بأن كل إنسان ميسر لما خُلق له، وأن القادر هو الممسك بمصائرنا، ولذلك تجدني أقول كلمتي وما أراه حقا وأمشي، رضي من رضي وغضب من غضب. فتاواهم لا تخيفني لأنني أعلم أن من يتحدثون باسمه هو رب الجميع، مسلمين وغير مسلمين، وليس ربهم وحدهم، وما فتاواهم إلا وسيلة أو سلاح لفرض هيمنتهم على الفكر والمجتمع، ولذلك وجب الوقوف في وجههم، وقد قيل في الأمثال: «يا فرعون من فرعنك، قال ما لقيت أحد يقول لي لا»، وهؤلاء تحولوا إلى فراعنة العصر ويجب أن يُقال لهم كفى من أجل الإنسان، بل ومن أجل الدين الذي احتكروه بل اختطفوه وشوهوه.
«المجلة»: منذ فترة توفي المفكر المصري نصر حامد أبو زيد.. هل سيندم من كفروه؟
- وتوفي الجابري وأركون وأحمد البغدادي وغيرهم، ولكن لن يندم من كفروهم، بل سيندم من لم يفهموهم على أنهم لم يستفيدوا من وجودهم وفكرهم في حينه. أما المكفرون فلن يندموا، لأن الندم يستوجب العقل ومراجعة الذات واليقينيات الزائفة، وهؤلاء، إلا من رحم ربك، لا عقل لهم ولا قدرة على مراجعة الذات والتحرر من القطعيات. هؤلاء المكفرون (المكفراتية) ما زالوا إلى يومنا هذا يكفرون ابن رشد وابن سينا وابن عربي والرازي وغيرهم، على رغم أن هذه الأسماء هي فخر حضارة العرب والمسلمين في ماضيهم، فما الذي سيجعلهم يفرقون اليوم بين أبو زيد وابن رشد مثلا؟
«المجلة»: ترفض تسييس الدين وتديين السياسة.. هل تريد عزل الدين تماما عن السياسة؟
- نعم لعزل المؤسسات الدينية عن السياسة، وهنالك فرق بين الدين والمؤسسة الدينية. فالدين فضاء رحب يمكن أن يكون متعدد التفسير والتأويل وبالتالي الفهم، وهو في جوهره علاقة بين الفرد وربه، ومن هنا قد تجد شخصين ينتميان إلى ذات الدين ولكن بفهمين مختلفين، ولا غضاضة في ذلك. أما المؤسسة الدينية فهي تجسيد لأحادية التفسير والفهم وبالتالي فهي غير قادرة على استيعاب تيار الحياة المتدفق والمتغير، وهنا يكمن الخلل في العلاقة بين المؤسسة الدينية وفكرها الذي لا بد أن يكون مستبدا، وبين جوهر الحياة. وفي النهاية، وكنتيجة لذلك، فإن تديين السياسة وتسييس الدين يؤديان حتما إلى الاستبداد، وكفى بالتاريخ شهيدا.
«المجلة»: في رأيك هل يوجد تعارض بين الإسلام وتطبيق الليبرالية؟
- بل على العكس، إذا كان فهمنا للدين على أساس أنه فضاء رحب، فالليبرالية هي الجو النقي الذي من خلاله يستطيع الفكر الديني، أسوة بأي فكر آخر، أن يتنفس ويزدهر، وأنا هنا أتحدث عن الفكر الديني وليس التفسير الأحادي للدين، أو المؤسسة الدينية كممثلة للدين، إذ أنه في هذه الحالة يمكن القول إن التعارض موجود والتناقض حتمي الحدوث، فالليبرالية عدو لأحادية التفكير فيما المؤسسة الدينية، ولا أقول الدين، تجسد لهذه الأحادية.
«المجلة»: البعض يعتبر أنه لا يوجد اختلاف بين الليبراليين والأصوليين فكلاهما إقصائي ينظر للآخر باستعلاء.. هل نحتاج إلى تسامح أكبر بين النخب سواء كانوا إسلاميين أم ليبراليين؟
- الليبرالية الحقيقية لا يمكن أن تكون إقصاءً، فلبها هو حرية الاختيار، وجوهرها هو التعددية، وفلسفتها هي نسبية الحقيقة، ومقدسها هو الفرد. والليبرالي الحقيقي، المؤمن حقا بقيم الليبرالية وفلسفتها، لا يمكن أن يكون إلا متسامحا، وإلا فهو غير ليبرالي وإن ادعى ذلك. أن تكون ليبراليا يعني القبول بحق الوجود للآراء والاتجاهات كافة، دينية كانت أو دنيوية، ولكن بشرط أن تقبل هذه الآراء والاتجاهات بحق الوجود لبعضها البعض، أي أن يكون التسامح هو البيئة التي يتعايش في كنفها الجميع، وأن لا يكون الإقصاء هو ديدن الجميع بالتالي.
«المجلة»: في مقالك «زرعوا فأكلنا» حلّلت الأسباب التي أدت إلى تفجيرات الرياض والخبر في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول).. كيف يمكن مقاومة الإرهاب؟
- باجتثاث جذوره الفكرية منذ الصغر، وزرع ثقافة التسامح في العقول الغضة، فالقضية في رأيي تربوية وتعليمية قبل أي شيء آخر.
«المجلة»: تحدثت عن الفارق بين وظيفة المثقف ووظيفة السياسي.. في أيهما ترى نفسك؟
- قد أكون محللا سياسيا ولكنني قطعا لست بسياسي. وإذا كانت وظيفة المثقف هي «اللسع» لعودة الوعي، فأظن أنني كذلك، أو أحاول أن أكون كذلك بالأصح.
«المجلة»: قلت في كتابك «الثقافة العربية في عصر العولمة» إن التاريخ يحكمه التنافس وإن البقاء للأفضل.. كيف يحيا العرب في ظل العولمة؟
- أن يتعولموا ويتحرروا من أوهامهم، بخاصة وهم التفرد، ووهم الفوقية، ووهم التقدم إلى الماضي.
«المجلة»: تقاعدت كأكاديمي مبكرا كي تتفرغ للكتابة.. هل يصعب الجمع بين العمل الأكاديمي والكتابة؟
- في ظل ثقافة متناقضة متهافتة تنهش نفسها وتدعي ما ليس بها، وفي ظل مؤسسات تعليمية تفتقد إلى الحرية، وفي ظل مجتمعات تفتقد إلى روح التسامح، أقول نعم.
«المجلة»: ما الفارق بين مفكر يكتب رواية وأديب يكتب رواية؟ ما الذي تقوله في رواياتك ولا يمكنك قوله في مقالاتك؟
- المهم هو جودة المنتج ورسالته وصدق التجربة، والباقي مجرد تفاصيل لا أثر لها. حرارة التجربة، وحيوية الحياة هما ما يمكن التعبير عنه في الرواية ولا تستطيعه المقالة.
«المجلة»: العادي أم المثقف النخبوي.. من منهما قارئ تركي الحمد؟
- بين بين.. فالنخبوي يرى أنني أقل من المستوى المطلوب، والعادي يرى أنني أعلى من المطلوب، وأنا بينهما لا يهمني إلا وصول الفكرة في النهاية.
«المجلة»: ما تحليلك لمستوى الرواية السعودية؟ ما تقييمك لتجربة المرأة الروائية في السعودية؟
- تسير قدما ولكنها لم تصل إلى مستوى النضج التام، وإن اقتربت منه كثيرا. أما التجربة الروائية للمرأة السعودية، فأعتقد أنها في مجملها، ولا أقول كلها، عبارة عن أدب بوح عن المسكوت عنه اجتماعيا أكثر من كونها رواية، مع استثناء عدد يسير منهن، ولا أرى ضرورة لذكر أسماء.
«المجلة»: هل تمارس ضد كتبك رقابة انتقائية؟
- ربما.. لا أجزم.. ولكنني أميل إلى ذلك، وبخاصة عندما أرى وجود أعمال تعد أعمالي بجانبها محافظة جدا.
«المجلة»: عندما يتعلق الأمر بك هل تمنع كتبك بسبب الاسم أم المحتوى؟
- ربما كان السبب في الماضي هو المحتوى، أما اليوم فأنا أشك في أن المحتوى هو السبب، إذ إنه يوجد من الكتاب والكاتبات السعوديين اليوم من هو أكثر جرأة مني في السابق ومع ذلك فهو ليس من «المغضوب عليهم».
«المجلة»: لمن تقرأ من الكتاب الروائيين الشباب؟ ومن هو كاتبك السياسي المفضل؟
- أقرأ لمعظمهم عندما يسعفني الوقت، واعفني من ذكر الأسماء، وليس لدي كاتب سياسي مفضل بعينه، فالموضوع هو الذي يهمني وليس الاسم.
«المجلة»: ما مشروعاتك المقبلة؟ هل تنوي إعداد ثلاثية جديدة؟
- لكل شيء أوان.. فلندع كل شيء لأوانه.