- الأحد فبراير 27, 2011 3:52 pm
#33007
يعتبر افلاطون (427 ــ 347 ق. م) أول من وضع نظاما سياسيا فلسفيا صاغه في الجمهورية وفي النواميس لاحقا. إذ حسب تصوره ان المشكلة الفلسفية الحقيقية انما هي مشكلة سياسية تقع في صميم المجتمع وحياته المدنية التي تحتاج الي اعادة بناء جذري بغية قيام نظام مثالي. وهذا التصور الفكري له صلة بحياته وخبرته سياسيا واجتماعيا وفنيا وادبيا وعسكريا ايضا. فهو سليل أسرة عريقة بالمجد والشرف السياسي والاجتماعي من جهة. وقد مارس من جهة اخري نظم الشعر وتأليف المسرحيات ونبغ في الرياضيات والبلاغة والموسيقي. وشارك في حروب البلوبونيزن عام 404 ق. م. ونال جائزة لشجاعته. يضاف الي ذلك سفراته ورحلاته لطلب العلم والمعرفة ومنها ذهابه الي مصر. علاوة علي المرارة النفسية التي ذاقها منذ اعدام استاذه سقراط بدوافع سياسية وليست فكرية الي بيعه في سوق صقلية كالعبيد لسبب سياسي لا أكثر.
أقول كل تلك الامور والقضايا والاسباب خلقت عند افلاطون رؤية فلسفية مميزة قدم من خلالها الحل الامثل لمشكلة السياسة داخل المدينة (او الدولة) الفاضلة Utopia. وبما أن الفيلسوف يحيا فقط بهذا النوع من المدن وليس في مضاداتها، وبما ان الحياة السياسية عبر كل العصور فيها شرور وبطش وفساد. لذا شيد افلاطون جمهوريته النظرية القائمة علي أسس العلم والمعرفة من ناحية. والمحكومة بقيادة العقل والفلسفة من ناحية اخري.
ولكي نفهم تركيبة التفكير السياسي عند افلاطون، علينا أن نفهم ايضا بنية تفكيره الاخلاقي، لانها متضمنة ومتداخلة فيها. فالسياسة ليست أكثر من امتداد طبيعي للاخلاق. وهذا النهج اتبعه افلاطون ثم ارسطو وبقية فلاسفة اليونان قاطبة.
ومن هنا كان افلاطون يدحض مزاعم السوفسطائين القائلين بانكار قوانين الاخلاق وقوانين الدولة. بدعوي أنها من اختراع الضعفاء من أجل حماية انفسهم من جبروت الاقوياء. فالسلطة حسب رأيهم إن هي إلا حق شرعي للاقوي دائما. بينما ينص افلاطون بأن احراز السلطة، انما يكون بقوة العقل لا بقوة الغاب الوحشية. وهذا الرد رفع أكثر من شأن السياسة كونها علماً متصلاً بالاخلاق وقوانينها.
أما أبو نصر محمد الفارابي (257 ــ 339هـ/870 ــ 950م) الذي يعد المعلم الثاني للفكر الفلسفي بعد أرسطو. فانه أول فيلسوف في الاسلام اتبع هذا النهج الافلاطوني في آراء أهل المدينة الفاضلة وكذلك في السياسة المدنية .
بيد أن تأثره هذا لا يعني بأنه وضع فكره السياسي علي نحو انقيادي تقليدي. فالكنْدي الذي أول من وضع الحجر الاساس للفلسفة العربية، لم يكن له شأن في هذا المضمار، ولم يحفل بالسياسة رغم وجود القلاقل في عصره. ولكن هنالك حالة مشتركة نوع ما بين افلاطون والفارابي من الناحيتين الذاتية والموضوعية. فقد شهد الفارابي الاضطرابات السياسية والفتن والحروب. ولقد ترك بغداد وتنقل من دمشق الي مصر ثم حلب. علاوة علي سفراته في طلب العلم والمعرفة وبراعته في أكثر من حقل فكري او فني او صوفي.
كل هذه الاشياء قد أثرت في نفسية الفارابي ليضع مدينته الفاضلة علي غرار افلاطون. وهنا أركز علي كلمة (نفسية) لا عقلية. بدليل أن الفارابي لم يتقلد أي منصب سياسي ولم يشترك في معتركها قط. بل اكتفي بتحريك عقليته الفلسفية لا أكثر.
الدولة والشعب
دولة الحق التي شيدها افلاطون يعمقها العدل أساسا. انها صورة مكبرة للفرد، لأن غاية الاخلاق هي الدولة لا الفرد. بمعني آخر أن الفرد عبارة عن صورة مصغرة للدولة. والدولة هي الهيكل الضخم لهذا الفرد. وبما أن (القوة الناطقة) في الفرد تعتبر أعظم القوي جميعا. لذلك يجب أن تكون الفلسفة هي القوة الحقيقية في توجيه الدولة، ويجب أن يكون رئيسها فيلسوفا. لأن العدالة في الفرد وفي الدولة لا يمكن أن تتم ما لم يبسط العقل نفوذه ويحكم.
ولقد قسم افلاطون الدول التي تضاد دولة العدل الي أربعة أقسام هي:
1 ــ الدولة الدينية وهي حكومة الطبقة الوسطي، التي تسمح بالملكية الخاصة وما يصيب النظام من اختلال بسبب ذلك، فتجعل العسكر في هذه الطبقة هم الافضل. مما يؤدي الي العنف والحرب.
2 ــ الدولة الاقطاعية: ناتجة عن الدولة الدينية، حيث يعتاد الافراد علي جمع المال بأية وسيلة كانت. وبسبب ذلك تضمحل وتنتهي الفضيلة ولا يبقي غير الاثرياء لقيادة الدولة كونهم الافضل.
3 ــ دولة الشعب: وهو الحكم الديمقراطي الفوضوي، حيث يثور الفقراء علي الاغنياء، بسبب الحرمان والتعسف، ويصبح الحكم شائعا للجميع، لا نظام ولا قائد مُسيطر، بل الشعب يحكم نفسه بنفسه.
4 ــ الدولة الاستبدادية: وهو حكم الطغيان والمصالح الشخصية. إذ بعد أن تعم الفوضي لحكم الشعب، تفرز هذه الحالة فردا من المجتمع يوهم الجميع علي انه سوف يبني دولة الرفاه بلا ضرائب ولا ظلم.
هذا وقسم افلاطون ايضا شرائح المجتمع الي ثلاث طبقات مثلما قسم النفس الانسانية. فالاولي هي طبقة الحكام والتي تقابلها النفس الناطقة.
والثانية: طبقة الكتلة العسكرية وتقابلها النفس الغاضبة. وأخيرا طبقة العمال: وهي تقابل النفس الشهوانية.
وهنا يختلف الفارابي جذريا عن افلاطون. فهو يري أن الشعب كأنه جسم واحد تام صحيح لا توجد فيه طبقات البتة كي تنفصل بعضها عن البعض الآخر. كما وأنهم علي شكل سلسلة ذات درجات تبدأ من الرئيس الاول ثم الثاني وهكذا دواليك الي الدرجة التي تخدم ولا ترأس.
ان الشعب في بنيانه وأدواره يمثله الفارابي بأنه أشبه بالموجودات الطبيعية من حيث الائتلاف والارتباط والتدرج والترتيب، بحيث كل موجود يعمل بحسب قوته وموقعه ابتداءا من الاعلي ثم الادني فالادني حزاما ينتهي الي المادة التي تخدم ولا رئاسة لها.
الحاكم والرئيس
ينص افلاطون علي أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفا ويسميه المثل الاعلي. والسبب الرئيس في ذلك هو أن الفليسلوف، او قل الفلاسفة الحكام هم وحدهم الذين يدركون المثل لا الاستبداد. سيما وأنهم لا يبغون السلطة من أجل المال او الجاه او التسلط. بل غايتهم المصلحة العامة فقط.
ويذهب افلاطون الي أبعد من ذلك حينما جعل طبقة الفلاسفة أن لا يقترن أحدهم بامرأة معينة. لكي لا تأخذ منهم الاسرة مهام ومسؤولية الدولة وطالب أن تكون النساء مشاعا لهم. دونما أن يعرف الاب ابنه ولا المولود والده. حتي لا تتكون عواطف وميول تؤثر علي عقلية الحكام والنظام الصارم. ولكن هذا التشدد الذي يبديه افلاطون تجاه نظام الفلاسفة القادة، يقابله فتور تجاه العامة من الناس. فلا يحفل بهم ولا يضع لهم أية نظام ولو بسيطاً. سوي انه يطالبهم بأن يتبعوا الاخلاق الشعبية المتبعة، والالتزام بالعادات والتقاليد الموروثة.
أما الفارابي فيخبرنا عن شخصية الرئيس كيف تكون؟ قبل ذي بدء لا يمكن أن ينال درجة الرئاسة أي انسان عادي. حيث أن المفهوم الرئاسي عنده نابع من صنفين: الاول، يكون الرئيس معداً لذلك بالنظرة والطبع. والثاني يكون مهيئا للرئاسة بالملكة الارادية والشكل ويسميه الرئيس الاول .
باختصار انه ليس فقط رئيس يحتل وظيفة سياسية عليا في مدينة الفارابي الفاضلة. بل انه معلم اخلاقي وفيلسوف مثالي ونبي ديني، ومثال يتشبه به كل أفراد المجتمع والدولة علي حد سواء. هذا الرئيس الاول هو نبي وفيلسوف في آن واحد.
النظام والتربية
يري افلاطون بأن الانسان المثالي هو الذي يسيطر بقواه العقلية علي قوتي الغضب والشهوة. لذا فان نظام الدولة يكون مثاليا شريطة أن تسيطر طبقة الحكام علي طبقتي الجيش والعمال. وكذلك نظام الدولة هو المسؤول عن تربية الافراد وتنشئة الجيل المتميز بالعدالة. فمنذ أن يولد الاطفال ــ الذكور والاناث ــ تتعهد الدولة لهم بعد عزلهم عن ذويهم ثم يفرزون طبقيا بعد ما تنهي الدولة دراستهم علي كافة الفنون والعلوم والرياضة وكل من يرسب في امتحان تفرزه الدولة فيأخذ منزلته العملية في المجتمع.
وهذا النظام التربوي ينتهي بالافراد في سن الخمسين. إذ عند ذاك تصل القلة القليلة لبلوغ طبقة الفلاسفة الحكام، حيث هذبهم السن والخبرة وامتلأت نفوسهم بالعلم والمعرفة. حتي صاروا جديرين بنيل المثل العليا في رئاسة الدولة والحفاظ علي نظامها التربوي والتعليمي.
أما الفارابي فبحكم عقيدته الاسلامية فان النظام والتعليم يكون عنده علي صورة مغايرة تماما عن نظام أفلاطون. الا انه يشير الي الاشياء المشتركة التي يتوجب أن يعرفها جميع أهل المدينة الفاضلة. ألا وهي نظرياته الفلسفية التي وضعها في: معرفة السبب الاول وجميع ما يوصف به، والاشياء المفارقة للمادة، والجواهر السماوية والطبيعية، ومعرفة النفس وقواها، ومعرفة الرئيس الاول، والمدينة الفاضلة والمدن المضادة لها الخ.
تقييم
1 ــ بلا ريب ان الفارق في الرأي بين افلاطون والفارابي موجود والتقارب والتباعد موجود ايضا. فالدولة والشعب عند افلاطون علي شكل بناء هرمي. وبما انه لا يؤمن بتغير لصنف العمل. إذن تبقي طبقة العمال هي الاخس والادني أبدا. ورغم التعديل الذي أتي به أرسطو فيما بعد. الا انه بقيت هذه الطبقة علي حالها. وإذا أخذنا ثورة العبيد في روما الذي بني عليها كارل ماركس جزء من حججه الفكرية. نري أن ماركس علي جهة كلية قد رفع طبقة علي حساب طبقة اخري. وبهذا فقد جعل البناء الهرمي الافلاطوني مقلوب الشكل ليس إلا. وعليه فانه لم يحل تماما المشكلة السياسية في الآلية الاجتماعية. ولهذا نجد أن الفكر الماركسي قد تلاشي بعد سبعين سنة من تطبيقه في روسيا. ناهيك بالحديث عن شرقي اوروبا، والانهيار الشيوعي السريع عام 1991.
2 ــ رغم ان الفارابي امتاز برفضه اختلاف الطبقات. لكنه استعار تشبيه (الجسم) عن ارسطو. أضف الي ذلك رغم سعة الدولة الاسلامية فان فيلسوفنا الكبير فضل استخدام كلمة (مدينة) تأثرا بافلاطون في (الجمهورية). وحبذا لو أخذ بعض الشيء من معاصره المتنبي في قوة المقارعة.
3 ــ إذا كان رأي افلاطون بأن زعيم الدولة يجب أن يكون فيلسوفا. فان الفارابي قد غالي ورفعه الي منزلة النبي. وذلك بحكم اتصاله (بالعقل الفعال) الذي يصل به الي مرتبة (العقل المستفاد) من خلال استكمال (عقله المنفعل) للمعقولات جميعا. وبذلك يكون الفارابي قد خرج عن تعاليم الشريعة. وحبذا مرة اخري لو اكتفي بصفات (الرئيس الإمام) من خلال مذهبه الشيعي.
أضف الي كل ذلك ان هذه النزعة الادراكية هي حصيلة الافلاطونية المحدثة في الاسكندرية، بزعامة فيلون وإفلوطين.
4 ــ جعل افلاطون دولته العادلة علي شكل وحدة جامعة تكون فيها علاقة الفرد بالدولة علي أساس عدالة في الفرد علي شكل وحدة وعدالة في الدولة . ورغم أن أرسطو أدخل تأثير الزمان والمكان علي الفرد وأخذ منعطفا آخر. الا أننا نلمس ان هذا المبدأ قد انقسم بين الفلسفة الوجودية والماركسية. فالاولي بشقيها المؤمنة والملحدة ومنذ مؤسسها (سورين كيركيجارد) يدور فلكها حول محور (الأنا) في الفرد. بينما الثانية تري أن العدالة في الدولة او المجتمع هي غاية العدالة في الفرد.
5 ــ لقد تجاهل الفارابي او تجنب بمعني أدق الآراء الافلاطونية التي تتنافر وسلوكيته الدينية والاجتماعية. ومنها اباحية الحكام ومشاعية النساء، والاولاد، والمرأة في عمل الرجل، واحتكار المال، وأجزاء الحب الافلاطوني. والحق كان الاجدر بفيلسوفنا القدير أن يعرضها ويرد عليها بما هو أصح وأصبح، لا سيما وانه قد شرح الكثير من آراء وافكار افلاطون وأرسطو.
6 ــ صفوة القول أن الفكر الساسي لدي الفيلسوفين الكبيرين بقي قابعا في بطون كتبها ولم ير حيز التطبيق قط. ذلك أن افلاطون شيد دولته المثالية التي هي أقرب الي السماء منها الي الارض، صحيح انه في (النواميس) أدخل القانون واجبارية التجنيد، وألغي مشاعية النساء، والاعتراف بالاولاد، ونادي بالتطبيق الاشتراكي في توزيع الثروة علي الجميع وغيرها من الامور الايجابية. الا أن سياسته بقيت بعيدة عن أرض الواقع.
وكذلك سياسة الفارابي أتت ضعيفة عديمة السبك والواقعية المطلوبة. انه صوفي يحب الاعتزال، لذا فان افكاره السياسية مثل شخصية معزولة عن المجتمع.
المصدر: منتديات ملاك روحي - من قسم: الفلسفة والعلوم النفسية والانسانية
أقول كل تلك الامور والقضايا والاسباب خلقت عند افلاطون رؤية فلسفية مميزة قدم من خلالها الحل الامثل لمشكلة السياسة داخل المدينة (او الدولة) الفاضلة Utopia. وبما أن الفيلسوف يحيا فقط بهذا النوع من المدن وليس في مضاداتها، وبما ان الحياة السياسية عبر كل العصور فيها شرور وبطش وفساد. لذا شيد افلاطون جمهوريته النظرية القائمة علي أسس العلم والمعرفة من ناحية. والمحكومة بقيادة العقل والفلسفة من ناحية اخري.
ولكي نفهم تركيبة التفكير السياسي عند افلاطون، علينا أن نفهم ايضا بنية تفكيره الاخلاقي، لانها متضمنة ومتداخلة فيها. فالسياسة ليست أكثر من امتداد طبيعي للاخلاق. وهذا النهج اتبعه افلاطون ثم ارسطو وبقية فلاسفة اليونان قاطبة.
ومن هنا كان افلاطون يدحض مزاعم السوفسطائين القائلين بانكار قوانين الاخلاق وقوانين الدولة. بدعوي أنها من اختراع الضعفاء من أجل حماية انفسهم من جبروت الاقوياء. فالسلطة حسب رأيهم إن هي إلا حق شرعي للاقوي دائما. بينما ينص افلاطون بأن احراز السلطة، انما يكون بقوة العقل لا بقوة الغاب الوحشية. وهذا الرد رفع أكثر من شأن السياسة كونها علماً متصلاً بالاخلاق وقوانينها.
أما أبو نصر محمد الفارابي (257 ــ 339هـ/870 ــ 950م) الذي يعد المعلم الثاني للفكر الفلسفي بعد أرسطو. فانه أول فيلسوف في الاسلام اتبع هذا النهج الافلاطوني في آراء أهل المدينة الفاضلة وكذلك في السياسة المدنية .
بيد أن تأثره هذا لا يعني بأنه وضع فكره السياسي علي نحو انقيادي تقليدي. فالكنْدي الذي أول من وضع الحجر الاساس للفلسفة العربية، لم يكن له شأن في هذا المضمار، ولم يحفل بالسياسة رغم وجود القلاقل في عصره. ولكن هنالك حالة مشتركة نوع ما بين افلاطون والفارابي من الناحيتين الذاتية والموضوعية. فقد شهد الفارابي الاضطرابات السياسية والفتن والحروب. ولقد ترك بغداد وتنقل من دمشق الي مصر ثم حلب. علاوة علي سفراته في طلب العلم والمعرفة وبراعته في أكثر من حقل فكري او فني او صوفي.
كل هذه الاشياء قد أثرت في نفسية الفارابي ليضع مدينته الفاضلة علي غرار افلاطون. وهنا أركز علي كلمة (نفسية) لا عقلية. بدليل أن الفارابي لم يتقلد أي منصب سياسي ولم يشترك في معتركها قط. بل اكتفي بتحريك عقليته الفلسفية لا أكثر.
الدولة والشعب
دولة الحق التي شيدها افلاطون يعمقها العدل أساسا. انها صورة مكبرة للفرد، لأن غاية الاخلاق هي الدولة لا الفرد. بمعني آخر أن الفرد عبارة عن صورة مصغرة للدولة. والدولة هي الهيكل الضخم لهذا الفرد. وبما أن (القوة الناطقة) في الفرد تعتبر أعظم القوي جميعا. لذلك يجب أن تكون الفلسفة هي القوة الحقيقية في توجيه الدولة، ويجب أن يكون رئيسها فيلسوفا. لأن العدالة في الفرد وفي الدولة لا يمكن أن تتم ما لم يبسط العقل نفوذه ويحكم.
ولقد قسم افلاطون الدول التي تضاد دولة العدل الي أربعة أقسام هي:
1 ــ الدولة الدينية وهي حكومة الطبقة الوسطي، التي تسمح بالملكية الخاصة وما يصيب النظام من اختلال بسبب ذلك، فتجعل العسكر في هذه الطبقة هم الافضل. مما يؤدي الي العنف والحرب.
2 ــ الدولة الاقطاعية: ناتجة عن الدولة الدينية، حيث يعتاد الافراد علي جمع المال بأية وسيلة كانت. وبسبب ذلك تضمحل وتنتهي الفضيلة ولا يبقي غير الاثرياء لقيادة الدولة كونهم الافضل.
3 ــ دولة الشعب: وهو الحكم الديمقراطي الفوضوي، حيث يثور الفقراء علي الاغنياء، بسبب الحرمان والتعسف، ويصبح الحكم شائعا للجميع، لا نظام ولا قائد مُسيطر، بل الشعب يحكم نفسه بنفسه.
4 ــ الدولة الاستبدادية: وهو حكم الطغيان والمصالح الشخصية. إذ بعد أن تعم الفوضي لحكم الشعب، تفرز هذه الحالة فردا من المجتمع يوهم الجميع علي انه سوف يبني دولة الرفاه بلا ضرائب ولا ظلم.
هذا وقسم افلاطون ايضا شرائح المجتمع الي ثلاث طبقات مثلما قسم النفس الانسانية. فالاولي هي طبقة الحكام والتي تقابلها النفس الناطقة.
والثانية: طبقة الكتلة العسكرية وتقابلها النفس الغاضبة. وأخيرا طبقة العمال: وهي تقابل النفس الشهوانية.
وهنا يختلف الفارابي جذريا عن افلاطون. فهو يري أن الشعب كأنه جسم واحد تام صحيح لا توجد فيه طبقات البتة كي تنفصل بعضها عن البعض الآخر. كما وأنهم علي شكل سلسلة ذات درجات تبدأ من الرئيس الاول ثم الثاني وهكذا دواليك الي الدرجة التي تخدم ولا ترأس.
ان الشعب في بنيانه وأدواره يمثله الفارابي بأنه أشبه بالموجودات الطبيعية من حيث الائتلاف والارتباط والتدرج والترتيب، بحيث كل موجود يعمل بحسب قوته وموقعه ابتداءا من الاعلي ثم الادني فالادني حزاما ينتهي الي المادة التي تخدم ولا رئاسة لها.
الحاكم والرئيس
ينص افلاطون علي أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفا ويسميه المثل الاعلي. والسبب الرئيس في ذلك هو أن الفليسلوف، او قل الفلاسفة الحكام هم وحدهم الذين يدركون المثل لا الاستبداد. سيما وأنهم لا يبغون السلطة من أجل المال او الجاه او التسلط. بل غايتهم المصلحة العامة فقط.
ويذهب افلاطون الي أبعد من ذلك حينما جعل طبقة الفلاسفة أن لا يقترن أحدهم بامرأة معينة. لكي لا تأخذ منهم الاسرة مهام ومسؤولية الدولة وطالب أن تكون النساء مشاعا لهم. دونما أن يعرف الاب ابنه ولا المولود والده. حتي لا تتكون عواطف وميول تؤثر علي عقلية الحكام والنظام الصارم. ولكن هذا التشدد الذي يبديه افلاطون تجاه نظام الفلاسفة القادة، يقابله فتور تجاه العامة من الناس. فلا يحفل بهم ولا يضع لهم أية نظام ولو بسيطاً. سوي انه يطالبهم بأن يتبعوا الاخلاق الشعبية المتبعة، والالتزام بالعادات والتقاليد الموروثة.
أما الفارابي فيخبرنا عن شخصية الرئيس كيف تكون؟ قبل ذي بدء لا يمكن أن ينال درجة الرئاسة أي انسان عادي. حيث أن المفهوم الرئاسي عنده نابع من صنفين: الاول، يكون الرئيس معداً لذلك بالنظرة والطبع. والثاني يكون مهيئا للرئاسة بالملكة الارادية والشكل ويسميه الرئيس الاول .
باختصار انه ليس فقط رئيس يحتل وظيفة سياسية عليا في مدينة الفارابي الفاضلة. بل انه معلم اخلاقي وفيلسوف مثالي ونبي ديني، ومثال يتشبه به كل أفراد المجتمع والدولة علي حد سواء. هذا الرئيس الاول هو نبي وفيلسوف في آن واحد.
النظام والتربية
يري افلاطون بأن الانسان المثالي هو الذي يسيطر بقواه العقلية علي قوتي الغضب والشهوة. لذا فان نظام الدولة يكون مثاليا شريطة أن تسيطر طبقة الحكام علي طبقتي الجيش والعمال. وكذلك نظام الدولة هو المسؤول عن تربية الافراد وتنشئة الجيل المتميز بالعدالة. فمنذ أن يولد الاطفال ــ الذكور والاناث ــ تتعهد الدولة لهم بعد عزلهم عن ذويهم ثم يفرزون طبقيا بعد ما تنهي الدولة دراستهم علي كافة الفنون والعلوم والرياضة وكل من يرسب في امتحان تفرزه الدولة فيأخذ منزلته العملية في المجتمع.
وهذا النظام التربوي ينتهي بالافراد في سن الخمسين. إذ عند ذاك تصل القلة القليلة لبلوغ طبقة الفلاسفة الحكام، حيث هذبهم السن والخبرة وامتلأت نفوسهم بالعلم والمعرفة. حتي صاروا جديرين بنيل المثل العليا في رئاسة الدولة والحفاظ علي نظامها التربوي والتعليمي.
أما الفارابي فبحكم عقيدته الاسلامية فان النظام والتعليم يكون عنده علي صورة مغايرة تماما عن نظام أفلاطون. الا انه يشير الي الاشياء المشتركة التي يتوجب أن يعرفها جميع أهل المدينة الفاضلة. ألا وهي نظرياته الفلسفية التي وضعها في: معرفة السبب الاول وجميع ما يوصف به، والاشياء المفارقة للمادة، والجواهر السماوية والطبيعية، ومعرفة النفس وقواها، ومعرفة الرئيس الاول، والمدينة الفاضلة والمدن المضادة لها الخ.
تقييم
1 ــ بلا ريب ان الفارق في الرأي بين افلاطون والفارابي موجود والتقارب والتباعد موجود ايضا. فالدولة والشعب عند افلاطون علي شكل بناء هرمي. وبما انه لا يؤمن بتغير لصنف العمل. إذن تبقي طبقة العمال هي الاخس والادني أبدا. ورغم التعديل الذي أتي به أرسطو فيما بعد. الا انه بقيت هذه الطبقة علي حالها. وإذا أخذنا ثورة العبيد في روما الذي بني عليها كارل ماركس جزء من حججه الفكرية. نري أن ماركس علي جهة كلية قد رفع طبقة علي حساب طبقة اخري. وبهذا فقد جعل البناء الهرمي الافلاطوني مقلوب الشكل ليس إلا. وعليه فانه لم يحل تماما المشكلة السياسية في الآلية الاجتماعية. ولهذا نجد أن الفكر الماركسي قد تلاشي بعد سبعين سنة من تطبيقه في روسيا. ناهيك بالحديث عن شرقي اوروبا، والانهيار الشيوعي السريع عام 1991.
2 ــ رغم ان الفارابي امتاز برفضه اختلاف الطبقات. لكنه استعار تشبيه (الجسم) عن ارسطو. أضف الي ذلك رغم سعة الدولة الاسلامية فان فيلسوفنا الكبير فضل استخدام كلمة (مدينة) تأثرا بافلاطون في (الجمهورية). وحبذا لو أخذ بعض الشيء من معاصره المتنبي في قوة المقارعة.
3 ــ إذا كان رأي افلاطون بأن زعيم الدولة يجب أن يكون فيلسوفا. فان الفارابي قد غالي ورفعه الي منزلة النبي. وذلك بحكم اتصاله (بالعقل الفعال) الذي يصل به الي مرتبة (العقل المستفاد) من خلال استكمال (عقله المنفعل) للمعقولات جميعا. وبذلك يكون الفارابي قد خرج عن تعاليم الشريعة. وحبذا مرة اخري لو اكتفي بصفات (الرئيس الإمام) من خلال مذهبه الشيعي.
أضف الي كل ذلك ان هذه النزعة الادراكية هي حصيلة الافلاطونية المحدثة في الاسكندرية، بزعامة فيلون وإفلوطين.
4 ــ جعل افلاطون دولته العادلة علي شكل وحدة جامعة تكون فيها علاقة الفرد بالدولة علي أساس عدالة في الفرد علي شكل وحدة وعدالة في الدولة . ورغم أن أرسطو أدخل تأثير الزمان والمكان علي الفرد وأخذ منعطفا آخر. الا أننا نلمس ان هذا المبدأ قد انقسم بين الفلسفة الوجودية والماركسية. فالاولي بشقيها المؤمنة والملحدة ومنذ مؤسسها (سورين كيركيجارد) يدور فلكها حول محور (الأنا) في الفرد. بينما الثانية تري أن العدالة في الدولة او المجتمع هي غاية العدالة في الفرد.
5 ــ لقد تجاهل الفارابي او تجنب بمعني أدق الآراء الافلاطونية التي تتنافر وسلوكيته الدينية والاجتماعية. ومنها اباحية الحكام ومشاعية النساء، والاولاد، والمرأة في عمل الرجل، واحتكار المال، وأجزاء الحب الافلاطوني. والحق كان الاجدر بفيلسوفنا القدير أن يعرضها ويرد عليها بما هو أصح وأصبح، لا سيما وانه قد شرح الكثير من آراء وافكار افلاطون وأرسطو.
6 ــ صفوة القول أن الفكر الساسي لدي الفيلسوفين الكبيرين بقي قابعا في بطون كتبها ولم ير حيز التطبيق قط. ذلك أن افلاطون شيد دولته المثالية التي هي أقرب الي السماء منها الي الارض، صحيح انه في (النواميس) أدخل القانون واجبارية التجنيد، وألغي مشاعية النساء، والاعتراف بالاولاد، ونادي بالتطبيق الاشتراكي في توزيع الثروة علي الجميع وغيرها من الامور الايجابية. الا أن سياسته بقيت بعيدة عن أرض الواقع.
وكذلك سياسة الفارابي أتت ضعيفة عديمة السبك والواقعية المطلوبة. انه صوفي يحب الاعتزال، لذا فان افكاره السياسية مثل شخصية معزولة عن المجتمع.
المصدر: منتديات ملاك روحي - من قسم: الفلسفة والعلوم النفسية والانسانية