منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#33119
هي الحرب إذن بين الولايات المتحدة والصين.وهل يجوز أن نسمي مثل هذا الصراع حربا وهولا يشهد إطلاق رصاصة واحدة بين الطرفين المتصارعين؟.نعم وقد فعلها العالم من قبل في تصوير الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الثانية،ألم تسم "الحرب "الباردة،رغم أن الطرفين لم يطلق أي منهما طلقة تجاه أرض أوجيش الآخر؟.ثم ألم ينتج عنها ما هوأخطر من الحرب العسكرية؟.ألم يتفكك الاتحاد السوفيتي وينهار تحت وطاة تلك الحرب؟.ألم يخرج من معادلة الصراع مهزوما؟.
هي الحرب إذن بين الولايات المتحدة والصين،إذ دخل البلدان في مرحلة "توليد وتصعيد المشكلات والصراعات والدخول في مواجهات تتعدد لتشق مجرى واسعا لتلك الحرب.في الأيام الماضية فتحت مجالات جديدة وتطورت أخرى أورميت فيها كرات لهب.قضية الخلاف حول موقع جوجل الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية تحولت إلى نزاع تجاري وسياسي تبحث عن حل يبدوأنه لن يأتي بسهولة أوأن ثمة إرادة بعدم حله الآن على الأقل.وقضية صفقة التسليح الأمريكية لتايوان المقررة منذ سنوات،أعيد إحياؤها واتخذت إجراءات لبدء تنفيذها،بعد أن كانت قد شهدت تهدئة أوبعد أن مرت بمرحلة كانت وضعت خلالها في الأدراج.وقضية لقاء أوباما مع الزعيم الروحي للتيبت،تجددت وتحدد لإجرائها موعد،بما أعاد للأذهان مخاوف الصين من محاولات أمريكية لتفكيكها من الداخل عبر دفع التيبت للتمرد والثورة والمطالبة بالانفصال،وقضية الصراع بين الكوريتين عادت للتنشيط على الصعيد العسكري بعد أسابيع كانت تسير فيها نحوتهدئة أعمق في ضوء الاتصالات بين شطري الوطن.وقبلها كانت الاحتكاكات بين السفن الحربية الصينية والأمريكية في بحر الصين الجنوبي،والضغوط الأمريكية من أجل تخفيف سعر العملة الصينية،وقضايا الإغراق..إلخ.
هي الحرب إذن بين الولايات المتحدة والصين،لكنها حرب من نوع خاص بل وخاص جدا،إذ البلدان لم يقرر أحدهما الصعود إلى قمة الجبل لمصارعة الآخر،أوأن الصين لم تصعد إلى قمة الجبل لمواجهة الولايات المتحدة وإنزالها من التربع على قمة قيادة العالم،بالقوة.هي ليست حربا باردة ولن تكون،إذ العنوان الإيديولوجي الذي اعتمد أساسا للصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في هذا النوع من الحرب غير موجود في الحرب الصينية الأمريكية،وإن كان في الحرب مضمون حضاري لاختلاف القيم والبنى الحضارية.إذن لم لا نقول إنها حرب تجري على خلفية وضمن مفهوم صراع الحضارات،وبالتالي هي حرب ذات طبيعة إيديولوجية على نحوأوآخر؟.هذا التوصيف لأنها حرب لا — ولن — تجري على أساس صراع بين الكونفوشوسية والمسيحية (الحضارة المسيحية الغربية)،وإذا سميت كذلك فلن يكون للتسمية معنى،لأسباب عديدة منها أن الصين تعيش سيطرة الحزب الشيوعي لكنها تأخذ بالرأسمالية ولأنها تعيش ضمن محتوى حضاري "صيني" لكنها تأخذ من الحضارة الغربية الكثير،بل هي لا تشن حربا إيديولوجية على الحضارة الغربية..إلخ.
وهي ليست حربا باردة وفق نمط السابقة،التي كانت ساخنة مفتوحة على يد وكلاء في مختلف أقاليم العالم،هي ليست كذلك حتى نسميها حربا وفق معنى الحرب الباردة،حين كان السوفيت والأمريكان يتواجهون بيد آخرين من فيتنام إلى كوبا..إلخ.يمكن القول بأن أهم سمات الحرب الجديدة هي أنها لن تشهد مواجهات عسكرية على النحوالسابق ووفق نمطه،وربما سيكون العنف عبر وكلاء منعدما على نحوكبير للغاية،إذ الصين لا تسير بمنطق السوفيت في العداء الإيديولوجي ولا حتى في نمط إستراتيجية الصراع،وكذا لأن عصر الحروب التحررية وفق النمط القديم الذي تدعم فيه دولة أعداء الدولة الأخرى،قد غادرت الحياة الإنسانية في هذه الحقبة على الأقل.هي في الأغلب،حرب ستدور وفق نموذج تستخدم فيه وسائل القوة الناعمة أكثر من تلك الصلبة أوالعسكرية.
وهي ليست حربا اقتصادية ضمن معسكرين منغلقين لكل منهما نمطه الاقتصادي،كما كانت تجري بين منظومة الكوميكون الاشتراكية والسوق الرأسمالي الغربي،إذ الصين والولايات المتحدة في حالة زواج اقتصادي بالغ التعقيد حتى يصعب تصور الفكاك بين اقتصاديّ البلدين،فضلا عن أن كليهما يعيش في داخل دوامة سوق عالمية واحدة أوموحدة.لكنها مع ذلك،تعتمد مضمون الصراع الاقتصادي لكن وفق آليات وطرق وأساليب لا يصلح فيها الصراع المباشر،على الأقل لأن العالم صار يصعب تقسيمه إلى معسكرين اقتصاديين أوعسكريين.
إذن بماذا نسميها؟.هي الحرب المراوغة،التي لن تشهد أبدا في مراحلها الأطول نمطا معلنا من الصراع يتواصل ويسير متقدما في اتجاه صاعد بالتوتر ثابت الملامح محدد المعالم. هي حرب في كل المجالات دون تحول أي من الطرفين إلى إعلان الآخر خصما وعدوا.وهي حرب تتصاعد من الإقليم الذي تعيش فيه الصين على النفوذ ومعالم السطوة والسيطرة،بإرادة الطرفين لا طرف واحد،إذ الصين لا تسعى إلى خوض حرب عالمية الطابع مع الولايات المتحدة،سواء لأنها تركز جهدها على ترتيب قوتها وسطوتها في الإقليم أولأنها لا تسعى إلى الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية على الدول الأخرى.وكذا لأن الولايات المتحدة ترى أن نقطةإضعاف الصين هي في جعلها تدور في دورة صراعات في الإقليم،وهي تحاول إحاطتها بأعداء أقوياء منذ وقت مبكر (الهند — اليابان — تايوان وفي الجنوب أستراليا ).
صفقة دفاعية
لا يرغب الطرفان في الوصول بأمر الصراع بينهما إلى ما هوأبعد في الوقت الراهن،إذ الأنسب لكل منهما ممارسة نمط مراوغ من الصراع،لا أكثر ولا أقل الآن أوممارسة نمط من الصراع الحذر،على طريقة حرص اللاعبين في المباريات الختامية للمسابقات،بأن لا يسجل الخصم هدفا أولأن المعركة هي في حكم مباريات الملاكمة التي تنتهي بالنقاط لا الضربة القاضية.في قضية صفقة السلاح الأمريكى لتايوان يبدوالأمر جليا.الصفقة ليست جديدة،بل هي مقررة منذ حكم جورج بوش،ومن ثم فإن تأجيلها كل هذا الوقت هوفي نفسه عنصر من عناصر إظهار كيف المراوغات تجري بين البلدين.وإذا كان الأمر أقدم من ذلك إذ هويعود إلى الثمانينات (1982 ) حين صدر بيان أمريكي صيني مشترك التزمت خلاله الولايات المتحدة بتقليل تسليح تايوان،فإن خروج بوش على ما جاء في ذاك البيان جاء بلا تنفيذ،ليظل ضمن دورة المراوغة والضغوط.وفي العودة الآن لإبرام الصفقة — في عهد أوباما — فإن ما جرى هوأن الإدارة قد حولت طلب الصفقة إلى الكونجرس للموافقة عليها.هنا لم اتخذ أوباما الخطوة؟ الأسباب متعددة،وكلها ضمن إطار الحرب المراوغة.هي تستهدف إضعاف وإبطاء التطور المتصاعد إيجابيا في العلاقات الصينية التايوانية.الولايات المتحدة تدرك جيدا أن الخط الساري الآن في تايوان من السعي لتطبيع العلاقات مع الصين،ينتهي إلى حل مشكلة تايوان،بما يضيف للصين قوة منافسة هائلة في مواجهة الولايات المتحدة،كما هويضعف القدرة الأمريكية على الضغط على الصين،كما هي تدرك أن أحد أسباب التطور الإيجابي من جانب تايوان إنما يعود إلى تعاظم قوة الصين وضعف تايوان بالمقابل اقتصاديا وعسكريا.الولايات المتحدة تريد إضافة قوة للأجنحة المتشددة ضد الصين في تايوان.والولايات المتحدة تستهدف من هذه الخطوة طمأنة اليابان وكوريا،بأنها ما تزال قادرة على الحركة في المحيط الإقليمي للصين،إذ كل من البلدين قد تزعزعت ثقتهما في حماية الولايات المتحدة لهما،جراء الأزمة الكورية،حيث تمكنت كوريا الشمالية من الإفلات بتحولها إلى قوة نووية دون قدرة على كبح جماحها من قبل الولايات المتحدة،بما وضع كوريا واليابان في موقف دفاعي حرج.ويمكن القول،بأن ثمة أسباب أمريكية داخلية حدت بالإدارة الأمريكية إلى هذا التغيير المرحلي في حالة علاقتها مع الصين عبر تايوان،إذ يمكن القول بأننا أمام صفقة بين الديموقراطيين والجمهوريين،تحقق إدارة أوباما بمقتضاها خطوة متقدمة في طريق إقرار نظام تأمين الرعاية الصحية الذي زاد عوامل تعثره تغيير الأغلبية في مجلس الشيوخ لمصلحة الجمهوريين بعد نجاح عضوجمهوري في الوصول للمجلس في المقعد الذي خلا بوفاة السيناتور كيندي.الإدارة قدمت الصفقة التي يطالب بها الجمهوريون لكسب تصويتهم بالمقابل تجاه نظام الرعاية المتعثر.ويمكن القول كذلك،بأن الدافع الاقتصادي كان حاضرا في خلفية القرار الأمريكي إذ حجم الصفقة (5.5 مليار دولار ) يأتي ضمن عملية انعاش مجمع الصناعات العسكرية.لكن الأهم في تأكيد مراوغة الخطوة،هوأن معظم الأسلحة المباعة ذات طابع دفاعي وأن الصفقة لن تجري كما قررها بوش،بل جرى اختصار بعض الأسلحة منها،وهوما يعني عدم الخروج كثيرا على الثوابت المحددةفي الصراع مع الصين.
وفي الجانب المقابل،فإن الصين لم ترد ردا واسعا وحاسما بل هي اتخذت خطوة سبق أن اتخذتها من قبل بتعليق العلاقات العسكرية الرسمية مع الولايات المتحدة.هي لم ترد بتسليح آخرين ولا على الصعيد الاقتصادي،بل اختارت جانبا لا يمثل تصعيدا بقدر ما يمثل إقلاقا للقيادة العسكرية الأمريكية بشأن ما يجري في الترسانة العسكرية الصينية.
مراوغات أخرى
لم يكن أمر الصفقة هوالمراوغ فقط،بل الأحداث الثلاثة الأخرى وهي أزمة جوجل والتسخين الجاري في المياه البحرية بين الكوريتين ولقاء أوباما مع الزعيم الروحي لمواطني التيبت،كلها تجري بشكل مراوغ يستهدف ممارسة الضغوط دون الدخول في حالة حرب تكسير عظام أوفي حرب حادة الملامح بين البلدين،على غرار الحرب الباردة مثلا.
في قضية جوجل ظهر سعي من قبل جوجل إلى تصعيد الأمر حد التهديد بوقف أنشطتها في الصين وإغلاق موقعها باللغة الصينية والموجه للصينيين،وهوما قابلته الصين بتهديد حذر إذ سعت إلى توضيح حدود المشكلة والتشديد على أن الطرف الآخر يضخمها،وفي ختام الأمر لم يجر تصعيد متبادل واختفى الأمر من ساحة الإعلام،إلى غرف المفاوضات المسقوفة بالسرية.
وفي تسخين الجبهة الكورية في البحر — هذه المرة —،ورغم حدوث إصابات لأفراد وسفن،لم يتصاعد الأمر إلى ما هواسوا،وهولن يتصاعد،إذ لا إرادة لدى طرفي النزاع،والطرفين الداعمين (أمريكا — الصين)،للدخول في مواجهات حادة وواسعة.
وفي قضية استقبال الرئيس الأمريكي باراك أوباما للزعيم الروحي لمواطني إقليم التيبت،يبدوالأمر فيه جانب من المراوغة والضعوط المتبادلة أكثر منه إعلان حرب لتقسيم الصين وتفتيتها — وأمريكا لا تكره ذلك بالطبع — إذ تعلم الولايات المتحدة كيف أن الصين المركزية يصعب تفكيكها بحكم القوة والسيطرة الحاصلة للدولة،كما الصين لا تريد التصعيد الحاد،إذ صدرت تصريحات صينية بشأن المفاوضات معه حول التيبت،تشترط عليه التخلي العلني عن فكرة الانفصال أوالاستقلال،لقبول مثل هذا التفاوض.
الحرب المراوغة
هي حرب مراوغة لا يرغب طرفاها في الولوج في شكل حاسم لها لأن الأمر ليس في مصلحة أي منهما.الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالقدرات ذاتها التي واجهت بها الاتحاد السوفيتي السابق (على المستوى الاقتصادي خاصة )،وفي الجانب الآخر،لا تسعى الصين إلا إلى مراوغات تكتيكية في المواجهة،إذ أن مصالحها تتعارض والدخول في حرب مع بلد يمكنه تعويق نهوضها الحالي وتأخيره (أي تقليل معدلات النمو) ولوقرر تغيير سعر الدولار على نحوكبير بما يضر بالمدخرات الصينية (بالدولار )،حتى يمكن القول بأن بقاء تطور النموفي الصين مرتكن في جانب مهم باستمرار العلاقة مع الولايات المتحدة،بل وبعدم سقوط وانهيار أمريكا في الوقت الراهن.وفي الجانب الآخر،فإن بإمكان الصين البدء في بيع سندات الخزانة الأمريكية للدول والشركات بما يصيب الاقتصاد الأمريكي بالاهتزاز والصدمة..إلخ.
طرفا مثل تلك الحرب يصعب على كل منهما الانفصال عن الآخر كليا،حتى يمكن القول بأنها حرب متداخلة يحتاج طرفاها إلى وقت طويل للغاية حتى يمكن الإعلان حتى عن مسمى الحرب،مهما كانت التسمية.
طرفا مثل تلك الحرب يصعب على كل منهما التجابه الآن على الصعيد الدولي،ولكل منهما أسبابه في عدم الوصول بالصراع إلى هذا الحد أوتلك المرحلة،ولا بديل أمام كل منهما — وكليهما — إلا اختيار هذا النمط التكتيكي في خطواته ومجالاته وجغرافيته،في محاولة لتعديل شروط العلاقات وتوازنات القوى.
_____________