منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By محمد النشوان9
#33402
ماجد الشيخ
ليس من السهل على نظام "أدمن" السلطة، واحترفت أجهزته على اختلافها سرقة المال العام، وتربت في أحضانه أجهزة أمنية أدمنت البلطجة واحترفت هي الأخرى سرقة أموال الناس بطريقة أو بأخرى، نقول ليس من السهل على هؤلاء أو أولئك التخلي عن السلطة، من دون دفاع مستميت ولو بأفعال فاشية ودموية، للبقاء في ميادين ممارسة عنجهية التسلط والاستبداد؛ وفي أيامها الأولى أبت السلطة البوليسية التونسية إلاّ صبغ الشوارع بالدم، كما وفي يومها التاسع، أبى نيرونيو سلطة النظام المصري ببلطجييه المغرّر بهم، إلاّ صبغ الثورة الشعبية بالدم؛ وهي التي بدأت سلمية واستمرت حتى لطخ وجهها الأحمر القاني. وها نحن في مواجهة ذات السيناريو، تلجأ إليه أنظمة التسلط الشمولي، في مواجهة حركات الاحتجاج السلمي والثورات الشعبية في أكثر من بلد عربي، إضافة إلى ما يجري في طهران، وفي بلدان إقليمية أخرى ناضجة ومهيأة لذلك كالباكستان، في سعي منها إلى إجهاض حركة الإرادة الشعبية المنتفضة ضد أنظمتها الحاكمة، بعد استعصاء وانسداد كل سبل الحوار والإصلاح الذي فات أوانه، في ظل أنظمة لا تسمع سوى صوتها فقط. وها نحن كذلك نرى واقعات كـ "واقعة الجمل" في ميدان التحرير في مصر تتكرر في أكثر من موقع في عدد من البلدان من اليمن إلى الجزائر وليبيا، ومن البحرين إلى الأردن؛ ويبدو أن الحبل على الجرار، في المغرب والعراق وفي الشمال الكردي، يسجل ويشهد لاستعادة محاولات محاكاة تجارب البلطجة وإطلاق المساجين وجلب المرتزقة للاستعانة بهم، وإشعال النار في أماكن عدة، واتهام حركات الاحتجاج بها، وتصوير العنف الممارس في الشارع من قبل ميليشيات وزعران الأنظمة التوتاليتارية وبلطجييها؛ على أنه من سمات الثورات الشعبية.



في مواجهة الإرادات الحرة لشباب الثورة الشعبية في مصر، كان يجري تصنيع وتشجيع عناصر ثورة مضادة، يقودها رموز النظام المنتفعين والمستفيدين منه، وبلطجييه من فلول القوى الأمنية ومعتقلي السجون التي جرى إحراقها عمدا، وتوجيه مساجينها باتجاه المتظاهرين للصدام معهم حد القتل، وذلك في اصطفاف طبقي جديد، أراد نظامها السابق الحفاظ على مصر الدور والتاريخ والحضارة، والإبقاء عليها كما أراد لها النظام الإمبريالي المهيمن وذراعه الاستيطاني الاستعماري في فلسطين؛ مجرد دولة تابعة، جرّدها نظامها من كل عناصر قوتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحوّل طبقاتها إلى فئات أكثر تهميشا، لا تملك من عناصر التأثير والفعالية في محيطها الإقليمي سوى ذكريات ونوستالوجيا ما كان، وما أنجزته، طبقات المجتمع المصري في عهود الاستعمار من حداثات لم تكتمل، ومن إرهاصات نهضوية جرى إجهاضها في عهود ما بعد الاستعمار.



وها نحن في الفضاء العربي، في مواجهة نزوع نيروني لسلطات أنظمة فقدت كل مناعاتها الوطنية، أفقدت دولها كل مقومات الدولة المدنية الحديثة. وأفقدت البنى الطبقية كل مبانيها ومعانيها النبيلة، عبر تحويل أنظمتها إلى مؤسسات إفساد بديلة، حيث كان الفساد قد أمسى المؤسسة العليا المنظمة لدى أنظمة وديكتاتوريات الاستبداد الفردي والعائلي، بدءا من ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، مرورا بأنظمة النمور الآسيوية وصولا إلى بلادنا.. فإذا كانت الطبقة الوسطى قد أفقدت إمكانية تجديد وجودها، ففي أسوأ الاحوال فقدت وجودها ذاته، بفضل مؤسسة الفساد والإفساد العليا للنظام أو الأنظمة التي هيمنت على كامل التشكيلات الاجتماعية/الطبقية، حتى البرجوازية الوطنية سُلبت دورها الاجتماعي، قبل إفقادها أي دور سياسي أو اقتصادي، وقد سُحب البساط من تحت أرجلها، حين تم إفقادها قواعد تشكّلها الاجتماعي كطبقة رائدة في مجالات بناء الدولة الوطنية. ففي ظل النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي بلورته "الدولة الهجينة"، لم يبق من مبرر لإنماء أو تنمية طبقة منتجة، تقود تحولات التصنيع ومراكمة رأسمال وطني مستقل، يواجه التبعية والاستعباد والاستغلال بقدراته الذاتية، لكن ما يمكن تسميته "طبيعة التطور التبعي" السياسي والاقتصادي والإجتماعي، أدّى إلى اختفاء البرجوازية الوطنية في أروقة الأنظمة الهجينة.



إن البلطجة النيرونية لدى أنظمة الديكتاتوريات الفردية والعائلية والقبلية، هي المعادل الموضوعي لفاشية التوتاليتاريات الشمولية الحاكمة، التي أحلت ذاتها محل الوطن والدولة والمجتمع، وكذا رأس النظام وهو يعلن على الملأ، أنه "الضمانة" أو "البديل للفوضى وعدم الاستقرار"، أو وهو يهوّل بأنه بديل التيارات صاحبة الدعوة إلى "الدولة الدينية"، فلم نجد بعد مرور العشرات من السنين من عمر هذا النظام أو ذاك، سوى إنماء نظام دولة بوليسية أمنية، وقد ذهبت شعارات الدولة المدنية والديمقراطية وغيرها أدراج الرياح. وبعد كل تلك العقود من السنين، لا يجد مواطنو هذه البلاد، أو رعايا الأنظمة التسلطية سوى دولة بلطجة بوليسية، محاطة بمجموعات من مافيات وعصابات تجار احتكار السمسرات والوكالات والشركات، من ناهبي ثروات البلاد بالشراكة مع رأس النظام وعائلته والأقرباء والأنسباء، وكل أولئك الذين أرادوا أن يجعلوا من أنفسهم عبيدا مرتزقة، من أجل فتات من المال الحرام والإجرام التسلطي ضد الشعب والدولة والوطن، خدمة لأنظمة نيرونية لم تكن لترعوي أمام غضبة شعوبها العارمة.



ماذا يمكن أن نسمّي تلك المحاولات الدؤوبة لإحراق المتحف المصري، ومحاولات نهبه، واستكمال ما بدأته الطبقة الحاكمة نفسها، من سرقة بعض قطع الآثار، للاحتفاظ بها و/أو بيعها على طريقة بيع القطاع العام، سوى أن النزوع النيروني لأفراد وجماعات البلطجة، هو النزوع الأبرز لديهم في مواجهة أفواج وأمواج الثورة الشعبية وشبابها وشاباتها. وما فرار واختفاء أفراد الأجهزة الأمنية وترك الأمن الاجتماعي نهبا لبلطجيي تلك الأجهزة، ومستأجرين آخرين من مجرمين ومسجلي خطر، جرى "تهريبهم" إلى "الحرية" للقيام بمهمة مواجهة الثورة الشعبية بثورة مضادة؛ سوى نزوع نيروني آخر لا يهمه من الوطن والدولة والمجتمع، إلاّ الدفاع المستميت عن النظام ورأسه وقواعده الاجتماعية الدنيا، المتشكلة من بلطجيي الفئات الطفيلية والكومبرادورية المنقطعة الجذور والصلة، بواقع إجتماعي شعبي تغيب عنه حقوق المواطنة، كما وواجبات الدولة الغائبة أصلا في أروقة أنظمة السمسرة والوكالات الإفسادية.



إن خيانة الثورة ممن يفترض أنهم من أبنائها والمحسوبين عليها، هي النتيجة المنطقية لما صنعته أيادي الأنظمة الريعية الهجينة، العاملة على "إنتاج" قواعدها الإجتماعية "الخصوصية" وإيجاد الآليات الضرورية لتهميشها، مقدمة لتوظيفها في كل ما يلحق الأضرار بالدولة والوطن والمجتمع، وللإبقاء على النظام مقبولا من قبل هؤلاء وأولئك ممن يدافعون اليوم عن "شرعية" و"مشروعية" نظامهم الهجين، في مواجهة مطالب الثورة الشعبية ونداءاتها الأساسية برحيله.



وحدهم الإسرائيليون من بين شركاء "الغربان السود"، من هم ليسوا على استعداد لمغامرة تجريب نظام آخر على أنقاض النظام الذي تابع مبارك بناءه منذ أن كان نائبا لأنور السادات. فهو كان مصدر اطمئنان لهم وحافظ على "سلامهم"، وكان مصدر غازهم وبترولهم الرخيص، علاوة على دوره كحارس أمين، لا يُبارى في مرجعية النقص في الكرامة الوطنية.



لقد اكتشف الغرب؛ "غرب الأنظمة"، ذاك الكم الهائل من فنون الأكاذيب والتزوير والتزييف الذي اعتادت عليه أنظمة التبعية والتسلط الاستبدادي، ومارسته بطانتهم وعلى رأسهم وفي مقدمتهم "زعماء الاستقرار الأوحد"، من أجل تبرير البقاء والاستمرار بالقمع والإرهاب الذي تمارسه قوى البلطجة، وعبيدها وأزلامها من تجار المال الحرام والفساد المنظم، والإفساد الأكثر تأثيما للنفس البشرية. وها هي التجربة الحية تؤكد أن الأجهزة الأمنية في الدولة البوليسية التوتاليتارية، ليست أكثر من أجهزة مرتبطة بأزلام النظام، وليس من أهدافها حماية الوطن والمواطن، والدفاع عن الدولة كدولة لكل مواطنيها، بل كدولة خصوصية؛ صاحبها وأصحابها شخوص النظام ذاته، ذاك الذي استطاع "اقتلاع" الوطن والمجتمع الوطني الموحد من وجدان عبيده ومرتزقته، وغيّب الدولة والسياسة، ولم يبق سوى شخوصه محلا للتبجيل؛ حدّ العبادة!.