منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#33403
ماجد الشيخ
الحراك المجتمعي العربي الجاري اليوم على مسرح العديد من مجتمعات بلادنا العربية، حراك سياسي بامتياز، حراك يخرج على الضد من انسدادات واستعصاءات التغيير، نحو انفراج تاريخي يؤسس لنزوع من التحرر ولشغف ديمقراطي قادم، يدفن معه انسدادات تاريخية طويلة تسيّدها سلطويا استبداد أنظمة سياسية، واستبداد قوى قوموية ودينية إسلاموية، كان من نتائج استبدادهما تصحير مجتمعاتنا العربية، وتغييب السياسة والقانون من سرديات حياتنا اليومية، إلى حد موت السياسة، بل اغتيالها والتمثيل بجثتها طوال عقود من السنين التي حكمت فيها أنظمة تسلطية استبدادية، عانت فيها مجتمعاتنا نتائج كارثية مدمرة، وئدت خلالها العديد من ومضات النهوض والتنوير والحكم الرشيد، وليبرالية العقود الاجتماعية والقانونية الموروثة منذ عهود الاستعمار.



بين روح التغيير ورياحها التي هبت في حقبة إنهاء الاستعمار في خمسينات وستينات القرن الماضي، ورياح التغيير التي تفشي روحها المعطاءة، وتهبّ الآن لإنهاء أنظمة إستبدادية أبوية بونابرتية وتوتاليتارية؛ أكثر من مشترك، يقف في مقدمتها وفي طليعتها؛ تلك السيولة والسهولة التي تسجل لانتقال عملية التغيير الشعبية من بلد إلى آخر، حتى في ظل غياب قيادة سياسية متبلورة؛ فردية أو جماعية/ حزبية أو نقابية، ما يحمل على الاعتقاد أن منطلق التغيير الشعبي، لم يكن لينتظر بلورة وتشكّل مثل تلك القيادة من بين صفوف الأحزاب الموجودة، أو صياغة برنامج سياسي كامل أو مكتمل، بل إن الحركة الشعبية وهي تنضج أهدافها وبرامجها في الميادين العامة، إنما هي تهئ لإنضاج قيادة صلبة لها، من مهامها المبدئية والأولية تحديد الشعار السياسي المناسب في كل لحظة من لحظات الانتفاض، وصولا إلى إنضاج لحظة ثورية أشمل، تترجم مبادئ وأهداف الثورة الشعبية الآنية والمستقبلية.



وفي معمعان مواصلة الهبوب العاصفي لرياح التغيير، ها نحن نرى مجموعة انتقالات من تطبيق إلى آخر مختلف، لأساليب وتكتيكات الانتفاضة الشعبية، وهي تبدأ سلمية بقرار من جمهورها وقياداتها الافتراضية والواقعية، لتكمّل هكذا.. على الرغم من القمع والارهاب الفاشي الاستباحي الذي تقوم به أجهزة وبلطجية الأنظمة، التي تثبت اليوم أنها لا تجيد من فنون المقاومة سوى "مقاومة" شعبها، في محاولة للإبقاء على سلطتها وهي تواجه جماهير لم تعد تحتمل استبداد الأنظمة، واستطالة الانسدادات التاريخية التي حوّلت مجتمعاتها إلى كتل مهملة ومهمشة ومجوّعة، لا عاصم لها من القتل أو الانهيار سوى الانتفاض، فكانت الثورات الشعبية مفتتحا نحو انفراج تاريخي، يجسّد أحلام وتطلعات شعوب لم تكد تتحرر من سلطات الاستعمار القديم، حتى كبلتها بالأغلال أنظمة إستبدادية أقامت ورزحت طويلا على صدورها، من دون أن تخطو خطوة واحدة باتجاه الحق والعدل والقانون والتنمية الحقيقية، وبناء اجتماع مواطني وثيق الصلة بالعقود الاجتماعية.



وها نحن في موسم هبوب رياح تغيير بأدوات شعبية، ووفقا لمتطلبات واحتياجات محلية وطنية، لا علاقة لخارج إقليمي أو دولي في فرض أجنداته عليها، وإلاّ لكان هذا الخارج يفضل استمرار "الاستقرار" على نزوع التغيير الذي أطاح أنظمة تابعة، وموالية لغرب إستعماري يحاول مواءمة وأقلمة أهدافه في التوفيق التلفيقي بين التغيير والاستقرار. وفي هذا السياق يمكن العودة بالأذهان إلى الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية من ثورتي الشعبين التونسي والمصري في الفترة القريبة الماضية، وها نحن نرى مواقف مماثلة، بل أسوأ مما يجري في ليبيا، فالمصالح الموضوعية الرابطة بين نظام العقيد وواشنطن، والعديد من العواصم الأوروبية، أكبر من أن يجري التضحية بها؛ قبل تقرير الشعب الليبي لمصير نظامه الفاشي، وهو يرتكب من الجرائم ما يفوق ما ارتكبته أنظمة مماثلة في الفضاء الأوروبي (صربيا/كوسوفو) حين جرى تدخل حلف الناتو عسكريا ضد نظام ميلوسوفيتش في صربيا.



بين التغيير والاستقرار، تنحاز مجتمعات الشعوب التي عاشت طويلا تحت هيمنة الأنظمة السلطوية، إلى التغيير، بعد أن فاضت بها قدرة التحمّل، ولم يعد بمقدورها أن تحني ظهورها لوقائع إخضاعها كرهائن للصمت؛ الصمت على تزوير التاريخ، تزوير الحرية، تزوير الديمقراطية، تزوير التنمية، تزوير الهوية، تزوير الدولة، تزوير الوطن، تزوير كل ما هو مشرق في حياتنا. وحدها السلطة بانفلاتها كانت نهبا للطغاة، ورهينة للإكراه والغلبة الاستبدادية، حتى باتت الدولة رهينة السلطة، والوطن رهينة دولة بوليسية، والمجتمع رهينة أتباع "دولة دينية"، إلى أن كان الانتفاض الشعبي بمثابة الثورة الحقيقية على السلطة وكل نزعاتها الشخصانية والبوليسية، وصولا إلى سلطة استبداد غير مرئية يمتهنها إسلامويو "دولة الشريعة" التي لا يمكن الوثوق بأصحابها، نظرا لتوجهاتهم الانتقائية والانقلابية الانتهازية، وعداءهم لدولة مدنية تؤسسها الشرعية الشعبية.



إن خشية الغرب من استيلاء الإسلامويين على السلطة، يقابلها موضوعيا تلك الفرية التي يشيعها أهل السلطة، تحذيرا من هيمنة القاعدة وأتباع بن لادن على السلطة في غياب "سلطة الاستقرار"، وذلك في التقاء مصلحي بين الغرب وأتباعه من السلطات الحاكمة للوقوف في وجه التغيير وثورات الجماهير الشعبية، وفي محاولة للعودة بالوضع إلى ما كان عليه "استقرار" الأنظمة التابعة.



أما في ما يتعلق بتكرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في مصر أو تونس أو ليبيا أو غيرها، فمن المؤكد أن التجارب الأخيرة التي لم يتبلور فيها بعد شكل السلطة، تختلف اختلافا بيّنا عن تجربة تركية عمرها أكثر من ستين عاما، سادت فيها علمانية الدولة وقامت فيها ديمقراطية ليبرالية عريقة، على رغم الانقطاعات التي شهدتها، جرّاء الانقلابات العسكرية وتغوّل سلطة العسكر المدعومة من قوى في الغرب، طالما ادّعت دفاعها المستميت عن الديمقراطية!. ومهما يكن من أمر، فإن محاولات نسخ التجربة التركية أو إسقاطها على واقع بعض المجتمعات العربية، ليست متاحة وممكنة الآن؛ نظرا للفوارق التاريخية، ومعطيات التشكل الطبقي والقواعد الاجتماعية المتطورة هناك والمتخلفة هنا، حيث الواقع مختلف، وبالكاد يخرج توا من تحت عباءة سلطة إستبدادية، وما يني طريا حلمه ببناء ديمقراطي وعقد إجتماعي ومواطني وقانوني جديد، تعيد فيه السياسة الحركة إلى مفاصل مجتمعات، توقف نموها عند مستويات دنيا من فاعلية الاستنارة والحداثة والنهوض، وحيث الطريق نحو التغيير الناجز ما زال أطول مما يتصور المستعجلون، على الرغم من بدء الانفراج التاريخي الذي تغذيه اليوم؛ روح التغيير والثورات الشعبية المتناسلة.