منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#33433
مقدمة تاريخية لظهور الروس في القوقاز

كان الروس منذ زمن بعيد قد تعرفوا على القوقاز والجبليين. ففي سنة 1561 تزوج القيصر ايفان الرهيب من الاميرة ماريا تيمريوكفنا من كاباردين. ومنذ ذلك الحين طلب مختلف الامراء الجبليين عونا من موسكو وقبلوا المواطنة الروسية. وفي عصر ما يسمى بالفترة المظلمة، حيث كانت روسيا نفسها ضعيفة انقطعت العلاقات مع القوقاز، ولكن في زمن القياصرة الاوائل من سلالة رومانوف اعيدت العلاقات بسرعة. وفي وثائق الارشيف مجموعة كبيرة من طلبات الملوك والامراء الجبليين لمنحهم المواطنة الروسية.

وتشير الوثائق الاولية الى ان الاتصالات بين الروس والشيشان كانت في القرن السادس عشر متقطعة ولم تترك اي اثر في التاريخ. وببساطة طبيعية اهتم الروس بجورجيا الارثدوكسية، واهتم الجورجيون بروسيا. وتقع على الطريق بين موسكو وتفليس منطقة القوقاز الشمالي وشعوب جبلية مختلفة ومنهم الشيشان.

وتشير الوثائق الى انه بعد فترة وجيزة، اي في زمن القيصر الكسي ميخائيلوفيتش، ومن ثم ورثته، طلب الشيشانيون من القيصر الروسي بالحاح منحهم الحماية واعدين بطاعة ملك موسكو وتقديم المساعدة له في محاربته اعداء روسيا.

وفي زمن بطرس الأكبر نجل القيصر الكسي ميخائيلوفيتش الذي كان يحارب الفرس فان الجيوش الروسية ليس فقط لم تحصل على مساعدة من الشيشان، بل كانت مجبرين على رد هجمات هجماتهم. وبهذه الفترة بالذات، وردا على هذه الهجمات قام الروس بحملات عسكرية تنكيلية مشكوك في نجاحها ضد الجبليين. وبشكل عام يمكن اعتبار هذه المصادمات حوادث عابره، لان اهتمامات بطرس الاساسية كانت نحو الغرب وليس في القوقاز. اضافة لذلك فان المناطق المجاورة لبحر قزوين والتي اخضعها بطرس تنازل لاحقا عنها لفارس.

وبدأ في زمن الامبراطورة انا ايونوفنا بناء التدعيمات الروسية في القوقاز والتي سميت بخط القوقاز. ولم يكن الهدف من ذلك اخضاع الجبليين الذين كانت عواطفهم وكراهيتهم تتنقل بين روسيا وفارس وتركيا. بل كان هذا الخط يمثل ما يشبه الحدود التي تفصل مناطق النفوذ بين روسيا وتركيا،حسب معاهدة سنة 1739. اضاقة لذلك ساعد هذا الخط على الحفاظ على اتصالات دائمة مع جورجيا. مرات عديدة ساعد الروس الجورجيين، وقاتلت الفصائل الجورجية الى جانب الروس ضد الاتراك.

وفي عام 1785 عندما هدد عمر خان (قائد) العيفاريين جورجيا،اراد الروس تقديم المساعدة لهم ولكنهم لم يتمكنوا بسبب الحرب المندلعة في الشيشان. وحسب شهادات الكثيرين لم تكن بمنحى عن المشاركة الفعلية للاتراك. عندها بالذات كان على الروس ولاول مرة الصدام مع الشيشانيين. وبدأ الجيش الجبلي "حرب الجهاد ضد الكفرة" بقيادة راع فقير اعلن انه مختار من محمد،وباسم الشيخ منصور. وبالذات فان هذا الراعي الامي من قرية "الدي"وضع اسس الغزوات"حرب الجهاد" في شمال القوقاز.

منصور-الامام الكذاب

حسب شهادات العسكريين الروس كان تعداد قوات منصور في اوج قوته يبلغ 25 الف رجل، وشكل هذا خطورة جدية لكل خط القوقاز. وباءت بالفشل اول محاولة للقوات الروسية بقيادة العقيد يوري بيري الواثق من نفسه للوصول الى"مكان الامام الكذاب". لقد اباد الشيشانيون تقريبا كل الفصيل الروسي. وكان نجاح منصور قصيرا، ولم تتكلل بالنجاح كل محاولاته اللاحقة لاقتحام التحصينات الروسية، وخاصة كيزلار، بل ادت الى خسائر بشرية كبيرة وفقدان نفوذه وهروب الكثير من اتباعه. وبدعم الاتراك بالمال و السلاح للامام الكذاب منصور تمكن لعدة سنوات من ازعاج القوات الروسية، وفي اكتوبر/تشرين اول عام 1787 هزم من قبل القوزاق ولم يتمكن من اعادة تنظيم نفسه. وكان انسحاب منصور خلال الجبال المغطات بالثلوج مأساويا، حيث عثر في الربيع في طريق انسحابه على جثث متجمدة كثيرة، اما منصور نفسه فقد لجأ الى قلعة "سودجوك-كالي" التركية حيث اسر صيف عام 1791 .

هنا نشير مباشرة الى ان دور تركيا وكذلك فارس وانجلترا في حوادث القوقاز اللاحقة سيكون نشطا. فانجلترا خاصة كالعادة تقيم التواجد الروسي في هذه المنطقة كتهديد لسيادتها في الهند، لذلك حاولت جاهدة (نادرا بشكل مباشر،في اغلب الاحيان بمساعدة الاتراك و الايرانيين) كلما سنحت الفرصة، التأثير على احداث القوقاز على ضوء مصالحها.

ومع كل مآسي الحرب الروسية ضد "الشيخ منصور"الكذاب والشيشانيين من مؤازري "حرب الجهاد ضد الكفار" وبرايي فانه حتى هذه الحادثة التاريخية لا يمكن اعتبارها بثقة كاملة نقطة البداية في المواجهة بين الروس والشيشان. ان اكثر اسباب المجابه كان بتأثير شخصية منصور نفسه و تعصبه الديني والتدخلات الاجنبية، وليس خلاف مبدئي بين روسيا و الشيشان، خاصة وان لروسيا تاريخيا علاقات طيبة مع المسلمين الروس ولم يكن من مصلحتها اثارة الحرب في المنطقة على ارضية دينية.

حرب القوقاز الاولى

ان الحرب المبدئية و القاسية في المصالح بين روسيا والشيشان بدأت فيما بعد، وقد املتها حالة جيوسياسية طارئة "حادثة تاريحية سيئة" حصلت للروس والشيشان. وتؤرخ بداية حرب القوقاز في الاعوام 1817-1864. ومن الجدير بالذكر ان سببها كان الانضمام الطوعي لجورجيا الى الامبراطورية الروسية. فاذا كانت المصادمات بين الروس والقبائل الشيشانية المتفرقة الى هذه اللحظة متقطعة فانه بعد انضمام جورجيا الى الامبراطورية اصبح شمال القوقاز، وبشكل خاص الشيشان جغرافيا داخل الامبراطورية وعلى الطريق المهم من مركز روسيا الى جورجيا.

ولم يكن قبول جورجيا ضمن روسيا ناتجا عن غطرسة امبراطورية، بل هو دين لاخوة في المعتقد، كانوا يتعرضون خلال قرون عديدة لملاحقة قاسية وتحت خطر الابادة الجماعية.(اقراؤا بالتفصيل في وثائق تاريخ جورجيا).

وعلى اساس هذا السياق التاريخي من الصعب اعتبار روسيا مسؤولة عن اشعال حرب القوقاز، ولا حاجة في اتهام الشيشان بذلك ايضا: فلم يكن لهم شأن في فواجع الجورجيين او كرامة الروس القادمين لمساعدة الجورجيين، فهم لم يروا غير القوزاق على ارضهم ويمكن ان نشفق على الشيشان، لانها وقعت تحت عجلة التاريخ، ويمكن ان نشفق على روسيا ايضا لانها سحقت بنفس العجلة ولكن بشكل خاص.

ويمكن مساواة اخضاع القوقاز من قبل روسيا باخضاع انجلترا للهتد والاسبان لامريكا. وهناك امثلة كثيرة غير هذه. ففي جميع الحالات المماثلة كانت الطرق المستخدمة تقريبا متطابقة و تضمنت كقاعدة السوط والحلوى. ونفس الشئ فعلته روسيا، فكانت في مكان ما تخضع الجبليين بالقوة، وفي مكان آخر تكسب اعيان المنطقة من خلال تقديم الهدايا لهم وتعيينهم . ولم يكن عدد الامراء القوقاز الذين قربوا من العرش الامبراطوري قليلا. واخيرا كان الكثيرون ينتقلون طوعا وبدون مقابل الى الجانب الروسي بحثا عن ظهير قوي، بعد ان تعبوا من الحروب الداخلية المحلية، آملين بالاستقرار وبفوائد اقتصادية والتعاون مع شريك قوي و متحضر.

وكان الاباطرة الروس متاكدين من انهم ينقلون الى القوقاز الحضارة،وكانوا مستعدين اذا تطلب الامر فرضها بالقوة، ولكن لم يكن هناك اي تعصب قومي(شوفيني ). ومن زمن بطرس الاكبر سلكت السلطة الروسية نفس الشئ، حتى مع رعاياها الاصليين، اي مع الروس انفسهم. وكان بطرس الاول، ومن اتى بعده، متأكدين بانه يجب تعليم المواطنين بالقوة، وقد فعلوا ذلك وبشكل دؤوب. ان اصلاحات بطرس العظيم وخاصة في المرحلة الاولى ترابطت مع انتفاضات عديدة سحقت بنفس القسوة التي سحقت فيها انتفاضات الجبليين لاحقا.

واخيرا، تمكنت روسيا، بهذا الشكل او ذلك، من الاتفاق مع الجميع بأستثناء الشيشان. واستمرت الهجمات على القوافل الروسية وعلى الجيران،واخذ الرهائن وتجارة الرق، بالرغم من جميع اشكال العلاقة مع الشيشان والاتفاق معهم. ومع الاسف الشديد فان القانون الدولي الاوربي الحضاري لم يعمل في القوقاز.

فالامبراطور الكساندر الاول مثلا غير سياسته تجاه الشيشان. في بادئ الامر كانت سياسة تمالك النفس. وعندما تصبح الهجمات غير مطاقة كان جواب الروس الاضطهاد. وبعد عدد من العمليات التأديبية والتي كانت خلالها القوات الروسية تحرق القرى"المذنبة" وفي عام 1813 اوعز الامبراطور الى الجنرال رتيشيف تغيير التكتيك "كمحاولة لاعادة الهدوء على خط القوقاز بمودة وتسامح" ولكن الشيشان اعتبروا ذلك ضعفا، فازدادت الهجمات على الروس. وبعد ذلك ومع ظهور الجنرال الكسي يرمولوف في القوقاز عام 1816 تم الرهان على استخدام القوة. ولكن مع تغيير طريقة تنفيذ العملبات العسكرية، بحيث تكون تدريجية: التحصن في المواقع المحتلة ... شق طريق في الغابة للتخلص من الكمائن وبناء تحصينات جديدة. طريقة يرمولوف هذه في الحرب سارت ببطء، ولكن دائما سارت نحو الامام وابعاد الشيشان نحو الجبال ومعاقبتهم عن كل هجمة سطو ونهب.

الجنرال يرمولوف- مروض القوقاز وخبيره

كان الجنرال الكسي يرمولوف شخصية بارزة ونجاحاته في القوقاز تفسر بشكل كبير، ليس فقط معرفته الجيدة للوضع وعدم تخوفه من اتخاذ القرارات، بل وكونه احد القادة الروس القلائل في القوقاز الذين عرفوا جيدا نفسية الجبليين والمسلمين. وفي نفس الوقت كان يرمولوف يكرر دائما بانه ينحدر من اصل الوجيه التتري ارسلان، وان تصرفاته في القوقاز ونمط حياته مبني على الاسلوب الشرقي، مع علمه بانه مراقب دائما من قبل عيون فضولية لتقييمه. وقليلون يعلمون بان يرمولوف تزوج اثناء وجوده في القوقاز ثلاث مرات من زوجات مسلمات، عاقدا مع اولياء امورهن الاتفاق على الزواج المؤقت، مقدما لهم الهدايا الثمينة والمال، كما كان متبعا انذاك. وكان القصر الامبراطوري ينظر الى ذلك كنزوة جديدة. وعمليا من وجهة النظر المسيحية بقى الجنرال عازبا. وعندما انتهت خدمة الجنرال في القوقاز فان زوجاته المسلمات (مع بنات يرمولوف )عدن الى بيوتهن وتزوجن مرة ثانية، اما اولاده الثلاثة – فيكتور(باختيار ) وسيفير(اللهيار) وكلافدي (عمر) فانه اخذهم معه الى روسيا، حيث رباهم واصبحوا ضباطا مثاليين في الجيش الروسي.

ونشير الى ان جميع العسكريين الروس الذين استحقوا المجد وادخلوا الرعب في العدو في القوقاز متفقين على كيفية قيادة الحرب النفسية، اعتمادا على التقاليد والاعراف المحلية.

ومع ذلك فان سرعة البديهية واستخدام القوة لدى يرمولوف وعدد كبير من الضباط الروس جلبت لروسيا العديد من الانتصارات الحربية، الا ان كل هذه الانتصارات لم تتمكن بشكل جذري من حل المشكلة.

وطبعا يرمولوف لم يستخدم القوة و السخاء فقط، بل من المعلوم انه كانت له محاولات خرقاء لادخال الحضارة للمنطقة. فقد قام بجلب النساء من روسيا لتزويجهن من مرؤوسيه من القوزاق واسكانهن في القوقاز. وحسب طلب يرمولوف فقد ارسلت له من المركز عدة الاف من البنات الشابات والارامل مع اطفالهن. اي حسب خطة بطرس العظيم يتم ادخال الحضارة بواسطة الاجانب.

وكما نرى فان السلطة الروسية انذاك كانت متأكدة من ان احسن الطرق لادخال الحضارة الى المنطقة، ليس العمل مع السكان المحليين، بل اسكان الروس في المنطقة.

ولم يسأل لا السكان المحليين ولا المهجرين عن موافقتهم. ومن المعلوم فان المهجرين الروس تحملوا عذابا نتيجة تنفيذ الخطة الامبراطورية هذه.

واخيرا فان الشيشان لم ترغبوا بالتحضر، بل بالعيش على ضوء قواعدهم التي تختلف جذريا عن القوقازيين الاخرين. وعلى خلاف الاقوام الجبلية الاخرى، حيث ظهر الاعيان(الوجهاء) الذين كانت السلطة الروسية تتفق معهم، فان الشيشانيين اعتبروا نفسهم متساوين. وان شخصية الشيشاني لا تحدد بثروته ومعلوماته، ولا باصله، بل قبل كل شئ على اساس غنائمه الحربية. كما ان القيصرية لم تجد في الشيشان من تتباحث معه من قيادات وبنى اجتماعية يكون بامكانها ضمان تنفيذ الاتفاقات. وعندما كانت تظهر مثل هذه القيادات في القوقاز كانت السلطة الروسية تحاول الاتفاق معها وكسبها، واحسن مثال لذلك هو شامل الاسطوري.

الامام شامل

ان التاريخ الروسي الرسمي يسمي شامل باحترام بانه "قائد مشهور وموحد جبليي داغستان والشيشان قي نضالهم ضد الروس ومن اجل الاستقلال". وشامل الداغستاني ولد حسب بعض المصادر في عام 1797 وحسب اخرى عام 1799 وكان من المناصرين للمذهب الجديد الداعي الى انقاذ الروح وغفران الخطايا، عن طريق حرب الجهاد المقدسة ضد الروس. وعند استلامه السلطة كامام لداغستان تمكن شامل من توحيد الداغستانين والشيشانيين تحت راياته، حيث استمرت سلطته 25 سنة. وتكللت الحرب الجارية مع روسيا بنجاحات واخفاقات، ولكن في نهاية عام 1843 اصبح شامل السيد المطلق لداغستان والشيشان مؤقتا. وقسمت في زمنه الشيشان الى ثمان مناطق – ادارها نوابه، وبلغ تعداد قواته في افضل الاوقات 60 الف رجل. وكان اقرب مساعدي النواب هم تلاميذ شامل، وهؤلاء شكلوا حرسه الخاص. وكانت القيادة العليا بيد رجال الدين. وحاول شامل فرض الشريعة الاسلامية على كل المناطق التي كانت تحت سيطرته، والتي تعارضت مع العادات الروسية القديمة.

وبقيت السلطة معتمدة على الايمان والقوة، اذ كان الجلاد يرافق شامل دائما. لقد اثارت نزوات الشيشان شامل والروس على حد سواء. وللامام غير قليل من وجهات النظر السلبية جدا حول الشيشانيين. واثناء المباحثات مع الروس نوه شامل مرات عديدة بان من مصلحتهم فسح المجال له "لتقييد "القوقاز المتمرد والشيشان خاصة.

وتنتشر حاليا بين القومييين القوقاز، والشيشانيين بشكل خاص، وجهة نظر بسيطة وبدائية عن شامل بعيدة جدا عن الواقع، فحواها يفيد بانه-"قرر الاستشهاد من اجل حرية الشعب في النضال ضد المستعمرين الروس". وكتب شامل عام 1836 الى الجنرال كلوك فون كلوكين قائد القوات الروسية في داغستان: "مادمت باقيا على قيد الحياة ستجدونني مجدا وخادما لا يمكنه خيانة الحكومة الروسية". وكان الشرط الوحيد هو "اطلب منكم فقط عدم التدخل في القتال فيما بيننا،وسوف ينتصر الاشجع منا ويتم اخضاع الجانحين، ويستتب النظام والسلطة وعندها يحل بعون الله الهدوء." وطبعا ماجاء في وعود شامل كونه"خادم مطيع للحكومة الروسية" في اوج "حرب الجهاد ضد الكفرة"ماهي الا حيل دبلوماسية، الا ان فكرة "كبح"الجبليين تتطابق تماما مع رغبة الامبراطور.

وكانت الاساليب متقاربة فلقد اعترف شامل فيما بعد: "لقد استخدمت ضد الجبليين اساليب قاسية، وقتل الكثيرون تنفيذا لاوامري.. ضربت الشاتونيين والانديين وطالبوتين والاجكيريين، لقد ضربتهم، كما تعلمون لا بسبب طاعتهم لروسيا التي لم يظهيروها انذاك، بل بسبب طبائعهم الخبيثة التي تميل الى السرقة و السطو، التي من الصعب عليهم التخلص منها. لذلك فانا لا اشعر بالخجل من اعمالي ولا اخاف الاجابة عنها امام الله".

وفي نهاية الامر هزم شامل واسره الروس في قرية "غونيب" عام 1859 حيث حاول الاختفاء. وتفيد المعلومات التاريخية بان الامام شامل توجه الى غونيب برفقة قافلة غنية، الا انه وصلها وهو لايملك شيئا سوى سلاحه الشخصي والفرس التي كان يركبها، لقد سرقه اثناء الطريق رجال من القرى المجاورة. عندما كان شامل قويا كانوا يهابونه، وعندما ضعف – سرقوه.

ولم يكن الاسر لشامل ثقيلا جدا. قال الكسندر الثاني، الذي برز في حرب القوقاز وقلد وسام"صليب غيورغي" عندما مثل الامام امامه: "انا سعيد جدا لانك اخيرا في روسيا،واسف لان هذا لم يحدث قبل هذا الوقت. سوف لن تندم، وسنصبح اصدقاء". وتم نقل الامام الى كالوغا وخصص له راتبا جيدا، وبعد ان هدأت الامور في القوقاز، سمح له بالذهاب الى مكة المكرمة، حيث وافاه الاجل ودفن هناك. لقد عثر بعده على مجموعة من الرسائل معنونة الى الامبراطور الروسي والتي تضمن الشكر والولاء. وفي احدى المرات القى الامام خطبة قال فيها :"ان العجوز شامل يأسف لانه لن يولد مرة ثانية لكي يسخر حياته لخدمة القيصر الابيض الذي اعيش من نعمه". يمكن الشك في مصداقية كلمات العجوز، ولكن من ناحية ثانية لم يجبره احد على قولها. ولم يعلن شامل عند مغادرته الى مكة عن رغبته في تجديد النضال ضد الروس. لقد دفن الامام الاسطوري في مقبرة جنة البقيع بالمدينة المنورة احد اولاده جنرالا روسيا وخدم روسيا بأخلاص، اما ابنه الثاني فاصبح جنرالا تركيا وحارب ضد الروس، فيما اصبح حفيده سعيد بك ضابطا فرنسيا، ساهم بنشاط في شهر سبتمبر/ايلول عام 1920 في محاربة السلطة السوفيتية في جنوب روسيا.

اوحى اسر شامل بقرب تسوية موضوع القوقاز بشكل نهائي. هذه الحرب التي استمرت للفترة من 1801 و1864 كلفت الروس، حسب بعض المعطيات، 77 الف قتيل. وبالتاكيد كلفت الجبليين اكثر من هذا، اذ لم يقم احد باحتسابها لعدم امكانية ذلك.

وكانت من نتائج الحرب هجرة جماعية للشيشانيين الى الخارج، وخاصة الى تركيا، التي وعدتهم باستقبال حافل. ولم تمنع روسيا ذلك، حتى ان هناك معلومات تؤكد منح المهاجرين مساعدات مالية قليلة. ونظرا لطلبات الكثيرين المقدمة الى الحكومة الروسية بالسماح لهم بالعودة الى بيوتهم، يمكن القول انه لم يكن استقبالهم في تركيا جيدا.

لقد وقع الشيشان بين نارين، فروسيا التي حاربت تركيا مرات عديدة لم تكن لها رغبة في قبول الذين كانوا "مستعدين باشارة واحدة الموت من اجل عظمة تركيا"، سيما وان العديد من هؤلاء بقوا في القوقاز. لقد وضع الامبراطور الكساندر الثاني تاشيرة على مجموعة طلبات للعودة وهي " لايمكن الحديث عن العودة ". الا ان هناك من حصل على الموافقة بشكل فردي. وبقى الجزء الاكبر من المهاجرين في تركيا.

القوقاز: القرن العشرون. تهجير الشيشانيين

بعد سنة 1864 هدأ بركان القوقاز بعض الوقت، بالرغم من حصول بعض الحوادث، وخاصة في الشيشان. وانفجر هذا البركان من جديد بعد ضعف السلطة المركزية نتيجة ثورة عام 1917 والحرب الاهلية. في هذا الوقت يتم احتلال القوقاز مرة من قبل الحرس الابيض ومرة من قبل الجيش الاحمر، وبصعوبة كبيرة تم تثبيت السلطة السوفيتية في المنطقة.

ومن الصعب في هذه الفترة فصل النضال السياسي عن عمليات قطع الطرق. فازدادت الاشتباكات بين سكان الشيشان وداغستان بسبب السرقات واختطاف النساء، بهدف الحصول على الفدية. وهناك حقائق كثيرة لقيام الشيشان بالسرقات وخطف النساء. وردا على ذلك تبدأ عمليات تجريد القرى الشيشانية من السلاح الواحدة تلو الاخرى. وتشير التقارير الى جمع المئات والاف قطع السلاح بعد استخدام القوة فقط.، وتشبه طريقة عمل قوات الامن الروسية والجيش في تلك الفترة الى حد كبير الاسلوب الذي استخدم قبل الثورة، اي في البداية مباحثات مع الاعيان بهدف حل الموضوع سلميا، وكقاعدة كان هذا يرفض، على اثر ذلك تطلق طلقات تحذيرية يتبعها رمي حقيقي. بعد تهديم عدد من المنازل يفرض على القرية تسليم السلاح، ولكن بالكامل اذ ان التفتيش كان يزيد من عدد قطع السلاح المصادرة. وكما تشير الوثائق، كان هذا يحدث عمليا في جميع المناطق السكنية الشيشانية.

ومع كل هذه الاجرات فأنه في سنة 1929 حدثت انتفاضة تبعتها انتفاضة ثانية سنة 1932 وبعد القضاء على المقاومة يحصل هدوء مؤقت قبل اندلاع الحرب الوطنية العظمى (1941 – 1945 ). ففي خريف عام 1941 يحصل نشاط لحركات التمرد، مستفيدين من قرب خطوط الجبهة من شمال القوقاز. كانت الهجمات تتم على الكولخوزات والقطع العسكرية الصغيرة. وكما تشهد الوثائق تمكن بعض المتمردين من اقامة اتصالات مع القيادة الالمانية وقدمت المساعدة لقطعات المشاة الجبلية المتقدمة نحو الجنوب الشرقي التابعة لمجموعة جيوش "الجنوب". وبعد طرد القوات الالمانية من القوقاز انشغل الجيش السوفييتي وقوات امن الدولة من جديد بالشيشان، وفي نهاية فبراير/شباط عام 1944 تم تهجير مئات الالاف من الشيشان بالقوة الى كازاخستان.

كل ماذكر اعلاه حقيقة واقعة، ونتيجة عمليات الاضطهاد والتنكيل نكب مئات الالاف من الناس، الذين اكثرهم كانوا بدون ذنب تماما. وبدأت العمليات هذه المرة بمبادرة من قبل يوسف جوكاشفيلي، احد سكان القوقاز الاصليين وهو نفسه ستالين- الشخص الذي بدون شك يعرف جيدا تاريخ المنطقة ونفسية الشيشان. اكثر من ذلك كان قائد الحزب يعرف جيدا الطرق التقليدية التي يستخدمها الجبليون في سطواتهم. لقد ترأس يوسف ستالين عام 1906- 1907 عمليات نزع الملكية وراء القوقاز وبمعنى آخر انه سطى على البنوك، وغيرها من الدوائر، وذلك لتمويل النشاط الثوري لحزب البلاشفة.

لفد تمت عمليات تهجير الشيشان وغيرهم من شعوب الاتحاد السوفييتي في زمن معمعان الحرب العالمية الثانية. ومن الصعب القول هل حقا ستالين "اب الشعوب" كما كان يسمى انذاك تذكر الماضي وتخوف فعلا من حدوث خيانات جماعية من جانب الشيشانيين، ام استخدم الحرب كحجة لبدء الاضطهاد. ونظرا لطبيعة ستالين المعقدة يمكن ان يكون السبب اي خيار. وبنهاية الامر يمكن ان تكون فكرة تهجير الشيشان حدثت ليس فقط في تاريخ روسيا، بل وفي التجربة الغربيةايضا : نذكر بانه في هذه الفترة بالذات تم في الولايات المتحدة الامريكية حجز اليابانيين في معسكرات اعتقال.

كل هذه الاحداث – حروب القوقاز في القرن التاسع عشر و تهجير الشيشان في الشيشان في اربعينيات القرن العشرين اوجد ارضية وايديولوجيا لحروب جديدة في الشيشان.