- الجمعة إبريل 01, 2011 5:31 pm
#33889
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
الاتجاه للتراث الإسلامي خاصة في المجالين الاجتماعي والسياسي لنفض الغبار عنه واستمداد مادة للنهضة والاعتزاز يقع في إطار الواجبات التي ينبغي على الأكاديميين والباحثين الاضطلاع بها، فالتراث الإسلامي لم يكن مجرد أفكار وكلمات كُتبت في أوانها ثم طواها النسيان ضمن الكتب الصفراء كما يحلو للبعض أن يسميها، بل تحمل بطون هذا التراث فكراً ناضجاً وطاقات تنتظر التفجير وكما قال أحد المستشرقين "وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجّر ابن عبد الوهاب بعضها وما زال البعض الآخر ينتظر التفجير"، في إشارة إلى الثورة الإصلاحية التي توّجت بقيام المملكة العربية السعودية وتخليص الإسلام مما علق به من الخرافات والانحرافات العقائدية والاجتماعيـة في تلك الفترة.
ولا أعني بالعودة للتراث واستخراج أفكاره وخلاصاته التخندق عن التراث والاحتماء بصدفته، وإنما الغوص في أعماقه وإعادة هضمه وتمثيله للخروج بثمرته التي تساهم في النهضة وفي معالجة معضلات العصر ومدلهمات الزمـان.
واستصحاب التراث في طريق النهضة هو بمثابة الانطلاق من أساس متين وركن وثيق، إذاً لا نهضة حقيقية لمن لم ينطلق من أصوله وثوابته، وتراثنا بحمد الله ممتليء بعناصر الحيوية ويفيض بمقومات التطوّر والنهضة، ولكن أصحاب العقلية الانهزامية أمام الآخر سيما الغرب لا يرون كل ذلك.
والإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوَرْدي البصري الذي نحن بصدد دراسة أفكاره السياسية هو علم من أعلام الأمة ورجل من أبرز رجالات السياسة في الدولة العباسية، امتدت حياته بين (364 و450هـ- 974م، 1058م)، وعاصر الثقافة الإسلامية المتألقة في ذلك الوقت والتي كانت تتسم بالرقي العلمي وتلاقح الثقافات، واختير سفيراً بين رجالات الدولة العباسية في بغداد وبني بويه من سنة (381- 422هـ) فكانت له منـزلة كريمة عند الخليفة القادر بالله وعند آل بويه كذلك(1).
وقد بلغ الماوردي من العلم مبلغاً عظيماً وولي القضاء في مدن إسلامية عديدة حتى لُقِّب بأقضى القضاة، وكان موسوعياً في علمه، متعدداً في مصنفاته فهو فقيه وأصولي ومحدث ومفسِّر وشاعر، ومرب كبير ومفكِّر شهير، وهو إلى جانب ذلك كان سياسياً يقاوم ولا يساوم(2)، قال عنه الإمام ابن كثير "كان حليماً وقوراً أديباً، لم ير أصحابه ذراعه يوماً من الدهر من شدة تحرزه وأدبه"(3).
وللماوردي تراث من المؤلفات يتجاوز الخمسة عشر كتاباً منها الكتب الشرعية والسياسية الاجتماعية واللغوية الأدبية، ولعل ما يهمنا هو مؤلفاته السياسية التي تضم:-
1/ الأحكام السلطانية والولايات الدينية.
2/ نصيحة الملوك.
3/ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك.
4/ قوانين الوزارة وسياسية الملك أو أدب الوزير.
وقد توزعت الأفكار السياسية للماوردي في عدد آخر من كتبه لا سيما كتاب أدب الدنيا والدين الذي يوصف بأنه وضع أرضية معلوماتية واسعة يهدف الماوردي من ورائها إلى رسم الطريق لسياسة شاملة للناس كافة وأنه أراد من خلال أدب الدنيا والدين أن يصمم اتجاهاً لرؤية علمية وآفاقاً بعيدة حاوية لمضامين مؤلفاته السياسية التي أراد لها أن تتحد بذلك الإطار وتنحصر في حدوده(4).
المجتمع والسلطة في أدب الدنيا والدين:
من الواضح أن الماوردي استبق علماء الاجتماع بقرون طويلة حينما أسس السلطة في فكره على أسس اجتماعية وجعل الأساس الاجتماعي من أهم أركان الفعل السياسي، ففي كتابه أدب الدنيا والدين حينما أراد الحديث عن أدب الدنيا بدأه بعبارة "الإنسان مدني بطبعه"(5). ثم فصل في حقائق الاجتماع الإنساني خاصة ما يتعلق بنشأة الحياة الاجتماعية موضحاً بإسهاب ما يتعلق بتفصيلاتها وضروراتها ومقوماتها بجانب الأركان التي تبنى عليها الحياة الاجتماعية المثلى.
والماوردي في سياق حديثه عن الإنسان وحاجته إلى الاجتماع والتعاون مع بني جنسه يقول: "وإنما حض الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز، نعمةً عليه ولطفاً به، ليكون ذل الحاجة ومهانة العجز يمنعانه من طغيان الغنى وبغي القدرة، لأن الطغيان مركوز في طبعه إذا استغنى والبغي مُسْتول عليه إذ قَدَر"(6)، وفي هذا إشارة دقيقة من الماوردي إلى أن المجتمع يكون دائماً بحاجة إلى سلطة تنظّم أوضاعه وتدير وحداته بصيغة تتوافق وحجم المجتمع وبساطته وتعقيده.
ووضع الماوردي ستة أسس للحياة الاجتماعية المثلى أوضحها بقوله "أعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، في قواعدها إن تفرعت وهي: دينٌ متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخِصب دائم، وأملٌ فسيح"(7).
والماوردي يضع الدين على رأس الأسس الستة للحياة الاجتماعية المُثلى ويعتبره أقوى قاعدة في صلاح الحياة واستقامتها وانتظامها وسلامتها لأنه يصرف النفوس عن شهواتها ويقهر السرائر ويزجر الضمائر ويراقب النفوس في الخلوة وينصح لها في الملمات(8).
فالدين كما هو معلوم وسيلة ضبط ذاتية للفرد ووسيلة ضبط موضوعية على مستوى المجتمع، والدين إحدى أهم الوسائل في تدعيم تماسك المجتمع وترابطه، وقد أكدت كثير من الدراسات الميدانية والبحوث الحقلية لعدد من علماء الاجتماع والأنثربولوجي في الغرب دور الدين في ضبط سلوك الأفراد في المجتمع.
ثم يضع الماوردي الأساس الثنائي للحياة الاجتماعية المثلى: السلطان القاهر الذي تتألف برهبته الأهواء المختلفة وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، ويلتقي الناس على طاعته والاحتكام إليه في خلافاتهم وخصوماتهم، فيكون عامل وحدة واجتماع وتلاقي وتعاضد سيما إن عمل بالأساس الثالث للحياة الاجتماعية المثلى وهو العدل الشامل الذي يدعو للإلفة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان ومعلوم أن الجور والظلم يفسد ضمائر الناس ويؤذن بالخراب والزوال للممالك والدول، والعدل هو التوسط والاعتدال، فما جاور الاعتدال فهو خروج عن العدل، ولا يوجد فساد في أي مكان وإلا وتجد أحد أسبابه الخروج عن العدل.
والأساس الرابع هو الأمن العام الذي تطمئن به النفوس وتنتشر فيه الهمم ويسكن فيه البريء ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة وقديماً قيل "الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش"، وانعدام الأمن يقطع المواطنين عن مصالحهم ويكبِّل حركتهم وسعيهم في طلب الأرزاق وغيرها ويجعلهم في خوف ووجل دائم ينغص عليهم حياتهم.
والأساس الخامس هو خصب دار دائم وهو ما نطلق عليه في زماننا هذا اقتصاد قوى لأن المادة هي قوام حياة الناس ولا يستقيم لهم بدونها عيش ولا دين، والماوردي يضع العامل الاقتصادي كأحد أهم معضدات البناء الاجتماعي، لما له من تأثير مباشر وغير مباشر في الحياة الاجتماعية، والملاحظ أن الأسس السابقة ما عدا الأساس الأول ترتبط بالسلطان والدولة خاصة العدل والأمن والاقتصاد والدين إلى حدٍ ما، أيضاً يرتبط بالسلطان لأنه الذي يطبّق أحكامه ويأطر الناس على مبادئه وأصوله وأوامره ونواهيه، وهي كذلك بالمقابل مرتبطة بالمجتمع ولا تنفك عنه، فالعدل للرعية والأمن كذلك لها والاقتصاد هو ما تقوم به حياتها ومعاشها، فالماوردي في تأسيسه لأفكاره السياسية يجعلها لا تنفك عن نبض المجتمع وليس كما فعل نيقولا ميكافيلي الذي جعل لأميره أن يفعل ما يشاء تحت مسوغ "الغاية تبرر الوسيلة".
أما الأساس السادس والأخير فهو أمل فسيح يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه فلولا أن الأواخر ينتفعون بما أنشأ الأوائل لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكن وأراضي الحرث وغيرها من ضرورات الحياة، واتساع الآمال هو من أهم أسباب عمران الدنيا وصلاحها وانتقالها بالعمران والإنشاءات من جيل إلى جيل، ولو قصرت الآمال، ما تجاوز الواحد حاجة يومه ولكانت الدنيا تنتقل إلى من بعده خراباً وهكذا، فلا تكون الدنيا دار صالحة للعيش.
وخلاصة ما نخرج منه من التعمّق في كتاب أدب الدنيا والدين أن الماوردي يهدف إلى معالجة النشوء الاجتماعي من خلال الشكل الأوَّلي للمجتمع سواء في ماله علاقة بأمور الحياة أو الدين ويمكن أن يوصف ما ورد في الكتاب في القضايا السياسية والاجتماعية أنه تمهيد لأفكار الماوردي السياسية التي يتوجها في خلاصة فكره في كتاب الأحكام السلطانية مروراً بالكتب الأخرى.
الأفكار السياسية في كتب الماوردي الأخرى:
الماوردي في كتابيه نصيحة الملوك وقوانين الوزارة وسياسة الملك ناقش السلوك السياسي والاجتماعي نصحاً وتوجيهاً وإيضاحاً لما يجب أن يكون عليه الملك والوزير في أدبيات السياسة الإسلامية سيما وأن الواقع أيام الماوردي يوضح مدى تردي حال الخلافة والوزارة في الدولة الإسلامية إبان التسلط البويهي على الخلافة كما هو معلوم.
وتطرّق الماوردي في كتابه نصيحة الملوك لمعالجة ظاهرة الفساد والاختلال في الممالك وأحوال الملوك وإلزامهم بالعدل ورياضة النفس وتقوى الله ومجالسة العلماء والبعد عن الطمع وغيرها من الصفات التي تضع الملك حسب الصورة التي يريدها الإسلام في أدبياته، كما أنه أفرد أبواباً في نصيحة الملوك للجوانب السياسية العملية للملك تخص تعامله تجاه الآخرين من الخاصة والعامة وما يتعلق بتدبير الأحوال والتعامل مع العدو وغيرهـا.
أما كتاب قوانين الوزارة وسياسة الملك ففيه يوجه الماوردي نصحه للوزير بدلاً من الملك مبتدئاً بتحديد معنى الوزارة، مفرقاً بين نوعين من الوزارة(9) :-
الأولى: وزارة التفويض: ووصفها بأنها تجمع بين كفايتي السيف والقلم وهي أعم نظراً وأنفذ أمراً وحدّد مهمتها بالاستيلاء على التدبير والحل والعقد والتقليد والعزل، ووزارة التفويض تشبه في زماننـا هذا رئيس الوزراء أو الوزير الأول.
الثانية: وزارة التنفيذ: وتختص بأربعة أمور هي:- السفارة بين الملك وأهل مملكته ومد الملك بالرأي والمشورة وان يكون عيناً للملك وأن يشكِّل حضوراً دائماً ولا يغيب إذا أريد ولا يسأم إذا أُعيد، وقد أجاز الماوردي تولي أهل الذمة لوزارة التنفيذ دون وزارة التفويض وهذا يوضح مدى التقدّم الكبير في فكر الماوردي بان يجتهد في تشريع هذه المسألة ويوجد لها المبررات استناداً على ما يمليه الظرف الواقـع.
أما كتاب تسهيل النظر وتعجيل الظفر فيراه البعض يُمثل مرحلة ناضجة في الفكر السياسي الماوردي بحث فيه بتأنٍ ماهية السلطة وبنيتها وفلسفتها وقوانين صيرورتها، وظهرت فيه آراء الماوردي المجردة وقلّت فيه الاقتباسات من الثقافات الأخرى وتطوّر فيه الطرح من الاجتماع المجرد كما في أدب الدنيا والدين إلى الاجتماع بصيغة سياسية، والكتاب مقسم إلى بابين رئيسيين يختص أحدهما بالأخلاق التي ينبغي على الحاكم أن يتخلّق بها والآخر يخصصه للسياسة التي ينبغي على الحاكم إتباعهـا.
والماوردي وضع كتابه هذا في سياقه التاريخي، وترك لأهل كل زمان أخذ ما يناسب وقتهم فيقول "وقد أوجزت في هذا الكتاب من سياسة الملك ما أحكم المتقدمون قواعده، فإن لكل ملة مسيرة ولكل زمان سريرة "وفي هذه الجملة إيضاح أن الكتاب يعالج سريرة ذلك الزمان، وهذا يدل على مدى دقة فهم الماوردي لاحتياجات كل زمان، فهو في زمانه كان متطوراً على من قبله وعلى كثير ممن جاء بعده ويكفي أنه كان متفوقاً على ابن خلدون الذي تفصله منه حوالي خمسة قرون، فالماوردي تبنى العصبية القبلية والعصبية الدينية في قيام الدولة بينما اكتفى ابن خلدون بالعصبية القبلية التي يراها الماوردي منكفئة إلى داخل نفسها وأن حمية القرابة قد يعترضها ما يمنع الإلفة ويبعث على الفرقة، لذلك يُشدّد الماوردي على ضرورة اقتران العصبية بالدين لأنه العامل الذي يستطيع أن يروضها ويضعها في الإطار الصحيح(10).
ويحدد الماوردي في كتابه أربع قواعد لسياسة الملك هي: عمارة البلدان وحراسة الرعية وتدبير الجند وتقدير الأموال، ثم يشدد على الحاكم بضرورة تخيّر الأعوان وتهذيبهم وتهذيب حاشيته وتفقّد أحوال رعيته وتفقده للأحوال العامة(11).
أما كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية فهو يمثل عصارة فكر الماوردي السياسي وخلاصة خبراته النظرية والميدانية لمعالجة الوضع المضطرب للأمة في عصر الماوردي في ظل ضعف الخلافة وتسلط البويهيين، فهو من خلال أفكاره عمل على معالجة الاختلالات في سياق البناء الاجتماعي الذي يشملها، ولذلك كانت الخلافة الإسلامية نقطة انطلاق محورية للماوردي باعتبارها الشكل التاريخي للسلطة في الإسلام وهي الشكل المتاح حالياً، ويخشى الماوردي أن يتفرّق الناس إذا بدأ النقاش حول شكل السلطة والوقت لا يسعف لإنتاج أشكال جديدة للسلطة، فكان أن سعى لتقويتها واستمرارها بعد تقييمه ونقده الواعي للواقع الذي يعيش فيه، فجاءت أفكاره معبّرة بصدق عال عن إشكاليات ذلك العصر وتضع المعالجات للواقع المضطرب آنذاك.
ويُلاحَظ أن كتاب الأحكام السلطانية حَفَلَ بالنصائح والتحذيرات من مغبة استمرار الواقع البائس للمجتمع والدولة في العهد العباسي في ظل ضعف الخليفة العباسي وتسلّط الأمير البويهي، ويحرك الماوردي في ذلك حرصه على استقرار السلطة واستمرارها وتخلّصها من كل ما يقعد بها، فمعالجته لقضية الخلافة وبيانه لكل ما ينبغي أن تكون عليه، هو في الواقع تحريض للخلافة لكي ترتفع إلى المستوى الذي يريده لها الشرع والمجتمع، وتحريض للمجتمع لكي يعود لسابق عهده، لأن ضعف الخلافة واضطراب كيان المؤسسة السياسية جاء نتيجة لتصدع الجسم المجتمعي إلى كيانات وطوائف إلى جانب أن المجتمع كان واد والخلافة في وادٍ آخر.
تفرد التنظير السياسي للماوردي:
أهم مميزات التنظير السياسي الماوردي أنه ينطلق من البناء الاجتماعي والثقافة السائدة خلال الحقبة التي عاشها واستطاع أن يوظف متغيرات عصره مع سوءها لصالح أفكاره السياسية التي ترمي الوصول للدولة الإسلامية الأنموذج نظرياً وعملياً.
كما تتميز أفكار الماوردي السياسية بالترابط والتدرج الموضوعي ابتداء من أدب الدنيا والدين مروراً بنصيحة الملوك وقوانين الوزارة وتسهيل النظر وتعجيل الظفر وانتهاءاً بالأحكام السلطانية الذي يمثل ثمرة نضوج الفكر السياسي الماوردي، لذلك من يكتفي بقراءة الأحكام السلطانية فقط فهو غير مؤهّل للحكم على الماوردي وأفكاره السياسية ما لم يتتبع فكره عن بداياته إلى منتهاه.
وتُعد معالجة الماوردي لعقدة إمارة الاستيلاء التي استعصت على الذين سبقوه أو عاصروه هي إحدى الإضافات المتفردة في فكر الماوردي السياسي، فأمارة الاستيلاء كما يقول الماوردي هي: "أن يستولى الأمير بالقوة على بلاد فيقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين(12)، فالماوردي أفلح في إعطاء إمارة الاستيلاء صبغتها الشرعية وصفتها القانونية وحسم الجدل المتطاول حول شرعيتها استناداً على مجموعة من الحجج أهمها استمرارية الشرعية للخلافة ومركزية السلطة وحفظ حقوق الأمة واجتماع الكلمة على الإلفة، وقد وصف تنظير الماوردي لأمارة الاستيلاء بأنه نقطة مضيئة وإضافة مبدعة في فكر الماوردي السياسي(13).
ومن تفردات الفكر السياسي للماوردي إجازته لتولي أهل الذمة لمنصب وزارة التنفيذ كما ذكرنا آنفاً، فهذا تشريع غير مسبوق من الماوردي استدعى فيه كل حصيلته الفقهية والفكرية والاستنباطية ليستخرج للأمة حكم شرعي راعى فيه فقه الواقع ومقتضى العصر، وما زالت الدول المسلمة سيما التي توجد فيها أقليات من أهل الكتاب مدينة للماوردي بهذا الحكم.
وأفكار الماوردي السياسية يلاحظ عليها دائماً أنها مرتبطة بالواقع المجتمعي وبعيدة عن التهويمات الفلسفية أو الشطحات التأملية، والدولة عند الماوردي مرتبطة بالمجتمع وتسير في ركابه وتمثل انعكاساً حقيقياً لما يختلج في داخل المجتمع، فالفكرة السياسية عند الماوردي هي نتاج لما يمور في داخل المجتمع بموضوعية وواقعية مجردة، والماوردي من كل ما طرح في كتاباته يرمي للوصول إلى نظرية عامة في الحكم يمكن تطبيقها عملياً على الواقع لتضع الحلول لمشكلاته وتنهي الاضطراب السائد فيه، لذلك يعتبره الكثيرون واضع الأسس النظرية للحكم في الإسـلام(14).
ومن أفضل إسهامات الماوردي السياسية أنه بعد تشخيص الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يضع الحلول ويقترح البدائل المناسبة لكل إشكالية، وقد لا يسعفه الواقع المؤلم أن يصرح بالداء فيكتفي بالحديث عن الشكل الأمثل لموطن الداء فيعرف المتابع الحصيف ما يريده الماوردي.
إن كتابات الماوردي لا سيما السياسية والاجتماعية تحتاج إلى إعادة قراءة مرات ومرات، أولاً لمعرفة رموزنا الفكرية والانتصار لها بالتعرف بدقة على فكرها وإسهامها، وثانياً: للاستفادة من مخزونها المعرفي، وثالثاً لتلهمنا ونحن نتلمّس طريق النهضة والارتقاء، فنرجو أن تكون هذه الورشة عصف ذهني (Prain Storming) نخرج منها بما يفيدنا في مستقبل الأمـة.
الاتجاه للتراث الإسلامي خاصة في المجالين الاجتماعي والسياسي لنفض الغبار عنه واستمداد مادة للنهضة والاعتزاز يقع في إطار الواجبات التي ينبغي على الأكاديميين والباحثين الاضطلاع بها، فالتراث الإسلامي لم يكن مجرد أفكار وكلمات كُتبت في أوانها ثم طواها النسيان ضمن الكتب الصفراء كما يحلو للبعض أن يسميها، بل تحمل بطون هذا التراث فكراً ناضجاً وطاقات تنتظر التفجير وكما قال أحد المستشرقين "وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض فجّر ابن عبد الوهاب بعضها وما زال البعض الآخر ينتظر التفجير"، في إشارة إلى الثورة الإصلاحية التي توّجت بقيام المملكة العربية السعودية وتخليص الإسلام مما علق به من الخرافات والانحرافات العقائدية والاجتماعيـة في تلك الفترة.
ولا أعني بالعودة للتراث واستخراج أفكاره وخلاصاته التخندق عن التراث والاحتماء بصدفته، وإنما الغوص في أعماقه وإعادة هضمه وتمثيله للخروج بثمرته التي تساهم في النهضة وفي معالجة معضلات العصر ومدلهمات الزمـان.
واستصحاب التراث في طريق النهضة هو بمثابة الانطلاق من أساس متين وركن وثيق، إذاً لا نهضة حقيقية لمن لم ينطلق من أصوله وثوابته، وتراثنا بحمد الله ممتليء بعناصر الحيوية ويفيض بمقومات التطوّر والنهضة، ولكن أصحاب العقلية الانهزامية أمام الآخر سيما الغرب لا يرون كل ذلك.
والإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوَرْدي البصري الذي نحن بصدد دراسة أفكاره السياسية هو علم من أعلام الأمة ورجل من أبرز رجالات السياسة في الدولة العباسية، امتدت حياته بين (364 و450هـ- 974م، 1058م)، وعاصر الثقافة الإسلامية المتألقة في ذلك الوقت والتي كانت تتسم بالرقي العلمي وتلاقح الثقافات، واختير سفيراً بين رجالات الدولة العباسية في بغداد وبني بويه من سنة (381- 422هـ) فكانت له منـزلة كريمة عند الخليفة القادر بالله وعند آل بويه كذلك(1).
وقد بلغ الماوردي من العلم مبلغاً عظيماً وولي القضاء في مدن إسلامية عديدة حتى لُقِّب بأقضى القضاة، وكان موسوعياً في علمه، متعدداً في مصنفاته فهو فقيه وأصولي ومحدث ومفسِّر وشاعر، ومرب كبير ومفكِّر شهير، وهو إلى جانب ذلك كان سياسياً يقاوم ولا يساوم(2)، قال عنه الإمام ابن كثير "كان حليماً وقوراً أديباً، لم ير أصحابه ذراعه يوماً من الدهر من شدة تحرزه وأدبه"(3).
وللماوردي تراث من المؤلفات يتجاوز الخمسة عشر كتاباً منها الكتب الشرعية والسياسية الاجتماعية واللغوية الأدبية، ولعل ما يهمنا هو مؤلفاته السياسية التي تضم:-
1/ الأحكام السلطانية والولايات الدينية.
2/ نصيحة الملوك.
3/ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك.
4/ قوانين الوزارة وسياسية الملك أو أدب الوزير.
وقد توزعت الأفكار السياسية للماوردي في عدد آخر من كتبه لا سيما كتاب أدب الدنيا والدين الذي يوصف بأنه وضع أرضية معلوماتية واسعة يهدف الماوردي من ورائها إلى رسم الطريق لسياسة شاملة للناس كافة وأنه أراد من خلال أدب الدنيا والدين أن يصمم اتجاهاً لرؤية علمية وآفاقاً بعيدة حاوية لمضامين مؤلفاته السياسية التي أراد لها أن تتحد بذلك الإطار وتنحصر في حدوده(4).
المجتمع والسلطة في أدب الدنيا والدين:
من الواضح أن الماوردي استبق علماء الاجتماع بقرون طويلة حينما أسس السلطة في فكره على أسس اجتماعية وجعل الأساس الاجتماعي من أهم أركان الفعل السياسي، ففي كتابه أدب الدنيا والدين حينما أراد الحديث عن أدب الدنيا بدأه بعبارة "الإنسان مدني بطبعه"(5). ثم فصل في حقائق الاجتماع الإنساني خاصة ما يتعلق بنشأة الحياة الاجتماعية موضحاً بإسهاب ما يتعلق بتفصيلاتها وضروراتها ومقوماتها بجانب الأركان التي تبنى عليها الحياة الاجتماعية المثلى.
والماوردي في سياق حديثه عن الإنسان وحاجته إلى الاجتماع والتعاون مع بني جنسه يقول: "وإنما حض الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز، نعمةً عليه ولطفاً به، ليكون ذل الحاجة ومهانة العجز يمنعانه من طغيان الغنى وبغي القدرة، لأن الطغيان مركوز في طبعه إذا استغنى والبغي مُسْتول عليه إذ قَدَر"(6)، وفي هذا إشارة دقيقة من الماوردي إلى أن المجتمع يكون دائماً بحاجة إلى سلطة تنظّم أوضاعه وتدير وحداته بصيغة تتوافق وحجم المجتمع وبساطته وتعقيده.
ووضع الماوردي ستة أسس للحياة الاجتماعية المثلى أوضحها بقوله "أعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، في قواعدها إن تفرعت وهي: دينٌ متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخِصب دائم، وأملٌ فسيح"(7).
والماوردي يضع الدين على رأس الأسس الستة للحياة الاجتماعية المُثلى ويعتبره أقوى قاعدة في صلاح الحياة واستقامتها وانتظامها وسلامتها لأنه يصرف النفوس عن شهواتها ويقهر السرائر ويزجر الضمائر ويراقب النفوس في الخلوة وينصح لها في الملمات(8).
فالدين كما هو معلوم وسيلة ضبط ذاتية للفرد ووسيلة ضبط موضوعية على مستوى المجتمع، والدين إحدى أهم الوسائل في تدعيم تماسك المجتمع وترابطه، وقد أكدت كثير من الدراسات الميدانية والبحوث الحقلية لعدد من علماء الاجتماع والأنثربولوجي في الغرب دور الدين في ضبط سلوك الأفراد في المجتمع.
ثم يضع الماوردي الأساس الثنائي للحياة الاجتماعية المثلى: السلطان القاهر الذي تتألف برهبته الأهواء المختلفة وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، ويلتقي الناس على طاعته والاحتكام إليه في خلافاتهم وخصوماتهم، فيكون عامل وحدة واجتماع وتلاقي وتعاضد سيما إن عمل بالأساس الثالث للحياة الاجتماعية المثلى وهو العدل الشامل الذي يدعو للإلفة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان ومعلوم أن الجور والظلم يفسد ضمائر الناس ويؤذن بالخراب والزوال للممالك والدول، والعدل هو التوسط والاعتدال، فما جاور الاعتدال فهو خروج عن العدل، ولا يوجد فساد في أي مكان وإلا وتجد أحد أسبابه الخروج عن العدل.
والأساس الرابع هو الأمن العام الذي تطمئن به النفوس وتنتشر فيه الهمم ويسكن فيه البريء ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة وقديماً قيل "الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش"، وانعدام الأمن يقطع المواطنين عن مصالحهم ويكبِّل حركتهم وسعيهم في طلب الأرزاق وغيرها ويجعلهم في خوف ووجل دائم ينغص عليهم حياتهم.
والأساس الخامس هو خصب دار دائم وهو ما نطلق عليه في زماننا هذا اقتصاد قوى لأن المادة هي قوام حياة الناس ولا يستقيم لهم بدونها عيش ولا دين، والماوردي يضع العامل الاقتصادي كأحد أهم معضدات البناء الاجتماعي، لما له من تأثير مباشر وغير مباشر في الحياة الاجتماعية، والملاحظ أن الأسس السابقة ما عدا الأساس الأول ترتبط بالسلطان والدولة خاصة العدل والأمن والاقتصاد والدين إلى حدٍ ما، أيضاً يرتبط بالسلطان لأنه الذي يطبّق أحكامه ويأطر الناس على مبادئه وأصوله وأوامره ونواهيه، وهي كذلك بالمقابل مرتبطة بالمجتمع ولا تنفك عنه، فالعدل للرعية والأمن كذلك لها والاقتصاد هو ما تقوم به حياتها ومعاشها، فالماوردي في تأسيسه لأفكاره السياسية يجعلها لا تنفك عن نبض المجتمع وليس كما فعل نيقولا ميكافيلي الذي جعل لأميره أن يفعل ما يشاء تحت مسوغ "الغاية تبرر الوسيلة".
أما الأساس السادس والأخير فهو أمل فسيح يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه فلولا أن الأواخر ينتفعون بما أنشأ الأوائل لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكن وأراضي الحرث وغيرها من ضرورات الحياة، واتساع الآمال هو من أهم أسباب عمران الدنيا وصلاحها وانتقالها بالعمران والإنشاءات من جيل إلى جيل، ولو قصرت الآمال، ما تجاوز الواحد حاجة يومه ولكانت الدنيا تنتقل إلى من بعده خراباً وهكذا، فلا تكون الدنيا دار صالحة للعيش.
وخلاصة ما نخرج منه من التعمّق في كتاب أدب الدنيا والدين أن الماوردي يهدف إلى معالجة النشوء الاجتماعي من خلال الشكل الأوَّلي للمجتمع سواء في ماله علاقة بأمور الحياة أو الدين ويمكن أن يوصف ما ورد في الكتاب في القضايا السياسية والاجتماعية أنه تمهيد لأفكار الماوردي السياسية التي يتوجها في خلاصة فكره في كتاب الأحكام السلطانية مروراً بالكتب الأخرى.
الأفكار السياسية في كتب الماوردي الأخرى:
الماوردي في كتابيه نصيحة الملوك وقوانين الوزارة وسياسة الملك ناقش السلوك السياسي والاجتماعي نصحاً وتوجيهاً وإيضاحاً لما يجب أن يكون عليه الملك والوزير في أدبيات السياسة الإسلامية سيما وأن الواقع أيام الماوردي يوضح مدى تردي حال الخلافة والوزارة في الدولة الإسلامية إبان التسلط البويهي على الخلافة كما هو معلوم.
وتطرّق الماوردي في كتابه نصيحة الملوك لمعالجة ظاهرة الفساد والاختلال في الممالك وأحوال الملوك وإلزامهم بالعدل ورياضة النفس وتقوى الله ومجالسة العلماء والبعد عن الطمع وغيرها من الصفات التي تضع الملك حسب الصورة التي يريدها الإسلام في أدبياته، كما أنه أفرد أبواباً في نصيحة الملوك للجوانب السياسية العملية للملك تخص تعامله تجاه الآخرين من الخاصة والعامة وما يتعلق بتدبير الأحوال والتعامل مع العدو وغيرهـا.
أما كتاب قوانين الوزارة وسياسة الملك ففيه يوجه الماوردي نصحه للوزير بدلاً من الملك مبتدئاً بتحديد معنى الوزارة، مفرقاً بين نوعين من الوزارة(9) :-
الأولى: وزارة التفويض: ووصفها بأنها تجمع بين كفايتي السيف والقلم وهي أعم نظراً وأنفذ أمراً وحدّد مهمتها بالاستيلاء على التدبير والحل والعقد والتقليد والعزل، ووزارة التفويض تشبه في زماننـا هذا رئيس الوزراء أو الوزير الأول.
الثانية: وزارة التنفيذ: وتختص بأربعة أمور هي:- السفارة بين الملك وأهل مملكته ومد الملك بالرأي والمشورة وان يكون عيناً للملك وأن يشكِّل حضوراً دائماً ولا يغيب إذا أريد ولا يسأم إذا أُعيد، وقد أجاز الماوردي تولي أهل الذمة لوزارة التنفيذ دون وزارة التفويض وهذا يوضح مدى التقدّم الكبير في فكر الماوردي بان يجتهد في تشريع هذه المسألة ويوجد لها المبررات استناداً على ما يمليه الظرف الواقـع.
أما كتاب تسهيل النظر وتعجيل الظفر فيراه البعض يُمثل مرحلة ناضجة في الفكر السياسي الماوردي بحث فيه بتأنٍ ماهية السلطة وبنيتها وفلسفتها وقوانين صيرورتها، وظهرت فيه آراء الماوردي المجردة وقلّت فيه الاقتباسات من الثقافات الأخرى وتطوّر فيه الطرح من الاجتماع المجرد كما في أدب الدنيا والدين إلى الاجتماع بصيغة سياسية، والكتاب مقسم إلى بابين رئيسيين يختص أحدهما بالأخلاق التي ينبغي على الحاكم أن يتخلّق بها والآخر يخصصه للسياسة التي ينبغي على الحاكم إتباعهـا.
والماوردي وضع كتابه هذا في سياقه التاريخي، وترك لأهل كل زمان أخذ ما يناسب وقتهم فيقول "وقد أوجزت في هذا الكتاب من سياسة الملك ما أحكم المتقدمون قواعده، فإن لكل ملة مسيرة ولكل زمان سريرة "وفي هذه الجملة إيضاح أن الكتاب يعالج سريرة ذلك الزمان، وهذا يدل على مدى دقة فهم الماوردي لاحتياجات كل زمان، فهو في زمانه كان متطوراً على من قبله وعلى كثير ممن جاء بعده ويكفي أنه كان متفوقاً على ابن خلدون الذي تفصله منه حوالي خمسة قرون، فالماوردي تبنى العصبية القبلية والعصبية الدينية في قيام الدولة بينما اكتفى ابن خلدون بالعصبية القبلية التي يراها الماوردي منكفئة إلى داخل نفسها وأن حمية القرابة قد يعترضها ما يمنع الإلفة ويبعث على الفرقة، لذلك يُشدّد الماوردي على ضرورة اقتران العصبية بالدين لأنه العامل الذي يستطيع أن يروضها ويضعها في الإطار الصحيح(10).
ويحدد الماوردي في كتابه أربع قواعد لسياسة الملك هي: عمارة البلدان وحراسة الرعية وتدبير الجند وتقدير الأموال، ثم يشدد على الحاكم بضرورة تخيّر الأعوان وتهذيبهم وتهذيب حاشيته وتفقّد أحوال رعيته وتفقده للأحوال العامة(11).
أما كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية فهو يمثل عصارة فكر الماوردي السياسي وخلاصة خبراته النظرية والميدانية لمعالجة الوضع المضطرب للأمة في عصر الماوردي في ظل ضعف الخلافة وتسلط البويهيين، فهو من خلال أفكاره عمل على معالجة الاختلالات في سياق البناء الاجتماعي الذي يشملها، ولذلك كانت الخلافة الإسلامية نقطة انطلاق محورية للماوردي باعتبارها الشكل التاريخي للسلطة في الإسلام وهي الشكل المتاح حالياً، ويخشى الماوردي أن يتفرّق الناس إذا بدأ النقاش حول شكل السلطة والوقت لا يسعف لإنتاج أشكال جديدة للسلطة، فكان أن سعى لتقويتها واستمرارها بعد تقييمه ونقده الواعي للواقع الذي يعيش فيه، فجاءت أفكاره معبّرة بصدق عال عن إشكاليات ذلك العصر وتضع المعالجات للواقع المضطرب آنذاك.
ويُلاحَظ أن كتاب الأحكام السلطانية حَفَلَ بالنصائح والتحذيرات من مغبة استمرار الواقع البائس للمجتمع والدولة في العهد العباسي في ظل ضعف الخليفة العباسي وتسلّط الأمير البويهي، ويحرك الماوردي في ذلك حرصه على استقرار السلطة واستمرارها وتخلّصها من كل ما يقعد بها، فمعالجته لقضية الخلافة وبيانه لكل ما ينبغي أن تكون عليه، هو في الواقع تحريض للخلافة لكي ترتفع إلى المستوى الذي يريده لها الشرع والمجتمع، وتحريض للمجتمع لكي يعود لسابق عهده، لأن ضعف الخلافة واضطراب كيان المؤسسة السياسية جاء نتيجة لتصدع الجسم المجتمعي إلى كيانات وطوائف إلى جانب أن المجتمع كان واد والخلافة في وادٍ آخر.
تفرد التنظير السياسي للماوردي:
أهم مميزات التنظير السياسي الماوردي أنه ينطلق من البناء الاجتماعي والثقافة السائدة خلال الحقبة التي عاشها واستطاع أن يوظف متغيرات عصره مع سوءها لصالح أفكاره السياسية التي ترمي الوصول للدولة الإسلامية الأنموذج نظرياً وعملياً.
كما تتميز أفكار الماوردي السياسية بالترابط والتدرج الموضوعي ابتداء من أدب الدنيا والدين مروراً بنصيحة الملوك وقوانين الوزارة وتسهيل النظر وتعجيل الظفر وانتهاءاً بالأحكام السلطانية الذي يمثل ثمرة نضوج الفكر السياسي الماوردي، لذلك من يكتفي بقراءة الأحكام السلطانية فقط فهو غير مؤهّل للحكم على الماوردي وأفكاره السياسية ما لم يتتبع فكره عن بداياته إلى منتهاه.
وتُعد معالجة الماوردي لعقدة إمارة الاستيلاء التي استعصت على الذين سبقوه أو عاصروه هي إحدى الإضافات المتفردة في فكر الماوردي السياسي، فأمارة الاستيلاء كما يقول الماوردي هي: "أن يستولى الأمير بالقوة على بلاد فيقلده الخليفة أمارتها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين(12)، فالماوردي أفلح في إعطاء إمارة الاستيلاء صبغتها الشرعية وصفتها القانونية وحسم الجدل المتطاول حول شرعيتها استناداً على مجموعة من الحجج أهمها استمرارية الشرعية للخلافة ومركزية السلطة وحفظ حقوق الأمة واجتماع الكلمة على الإلفة، وقد وصف تنظير الماوردي لأمارة الاستيلاء بأنه نقطة مضيئة وإضافة مبدعة في فكر الماوردي السياسي(13).
ومن تفردات الفكر السياسي للماوردي إجازته لتولي أهل الذمة لمنصب وزارة التنفيذ كما ذكرنا آنفاً، فهذا تشريع غير مسبوق من الماوردي استدعى فيه كل حصيلته الفقهية والفكرية والاستنباطية ليستخرج للأمة حكم شرعي راعى فيه فقه الواقع ومقتضى العصر، وما زالت الدول المسلمة سيما التي توجد فيها أقليات من أهل الكتاب مدينة للماوردي بهذا الحكم.
وأفكار الماوردي السياسية يلاحظ عليها دائماً أنها مرتبطة بالواقع المجتمعي وبعيدة عن التهويمات الفلسفية أو الشطحات التأملية، والدولة عند الماوردي مرتبطة بالمجتمع وتسير في ركابه وتمثل انعكاساً حقيقياً لما يختلج في داخل المجتمع، فالفكرة السياسية عند الماوردي هي نتاج لما يمور في داخل المجتمع بموضوعية وواقعية مجردة، والماوردي من كل ما طرح في كتاباته يرمي للوصول إلى نظرية عامة في الحكم يمكن تطبيقها عملياً على الواقع لتضع الحلول لمشكلاته وتنهي الاضطراب السائد فيه، لذلك يعتبره الكثيرون واضع الأسس النظرية للحكم في الإسـلام(14).
ومن أفضل إسهامات الماوردي السياسية أنه بعد تشخيص الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يضع الحلول ويقترح البدائل المناسبة لكل إشكالية، وقد لا يسعفه الواقع المؤلم أن يصرح بالداء فيكتفي بالحديث عن الشكل الأمثل لموطن الداء فيعرف المتابع الحصيف ما يريده الماوردي.
إن كتابات الماوردي لا سيما السياسية والاجتماعية تحتاج إلى إعادة قراءة مرات ومرات، أولاً لمعرفة رموزنا الفكرية والانتصار لها بالتعرف بدقة على فكرها وإسهامها، وثانياً: للاستفادة من مخزونها المعرفي، وثالثاً لتلهمنا ونحن نتلمّس طريق النهضة والارتقاء، فنرجو أن تكون هذه الورشة عصف ذهني (Prain Storming) نخرج منها بما يفيدنا في مستقبل الأمـة.