الفكرة السائدة في مبادئ الثورات: أن الأنظمة الحاكمة هي المتسبب الوحيد في كل ما تعانيه الشعوب من مشكلات.
الفكرة السائدة في مبادئ الثورات:
أن الأنظمة الحاكمة هي المتسبب الوحيد في كل ما تعانيه الشعوب من مشكلات.
وتبعا لهذه الفكرة فإن الشعور السائد أيضا: أن زوال الحكام مع أنظمتهم، سيحل المشكلات، ويزيل المعاناة كليا، أو يخفف كثيرا.
هناك فكرة أخرى، قد تبدو معاكسة أو مغايرة نوعا ما، إلى حد ما..؟!.
شرح ذلك: أن المشكلة لا تتولد من سبب أو متسبب واحد، حتى ينضم إليه سبب آخر.
وفقا لهذا، فإن معاناة الناس لها سببان وليس واحدا:
- الأول: السلطة الحاكمة.
- الثاني: الشعوب نفسها !!!.
وكيف تكون الشعوب سببا في معاناة نفسها، وطرفا متسببا في مشكلات ذاتها ؟!.
التعليل: أن الحكام والأنظمة الحاكمة ما كانت لتستبد وتطغى وتظلم، لولا عون الشعوب نفسها على ذلك؛ يعني أن الشعوب أعانت على نفسها بنفسها، من غير شعور منها.
وإلى اليوم لم تدرك هذه الحقيقة، ولا زالت تلقي باللائمة على سبب واحد هو: الحاكم.
هل كان الحاكم أو المسئول ليطغى، لو لم يجد من يزين له الطغيان، ويعينه عليه، ويحميه من كل معارض ؟.
هل كان ليطغى، لو لم يجد من يخنع ويرضخ، فيسلم للطغيان وربما برر له، ويترك النصيحة وإنكار المنكر، ويقول: نفسي، نفسي، لا شأن لي بغيري ؟.
كل من يطغى، فما طغى إلا لأنه وجد من يطغيه، من أعوان يمدونه في الغي مدا، يمدحونه بغير ما فيه، ويبررون له الظلم، أو يسكتون عنه، لا ينصحون له بشيء. ومن رعية يطيعونه خوفا على معايشهم، فيذلون أنفسهم ويهينون ذاتهم، ويرضون حياة الأنعام.
وإلا فإن الحاكم نفس واحدة لا غير، لو قام عليه اثنان أو ثلاثة، ما استطاع مقاومتهم، وأعوانه وحواشيه ليسوا سوى واحد من الألف، فالكثرة الجارفة للشعب..
فكيف يتحكم فرد بمصير ملايين، لو كان لهم علم بطريق الحرية والكرامة وإرادة فيهما؟.
ما تحكم بهم إلا لأنهم أعانوه على أنفسهم..
وقد ضرب الله تعالى مثلا على هذا؛ فرعون وقومه، حين قال سبحانه:
- {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين}.
قصة ذات عبرة، فيها تجسيد لسبب طغيان الحاكم..
وهكذا، كل قصص الطغيان تكون بذات الأحداث، مع تبدل الأشخاص؛ ينسب الحاكم لنفسه فضلا كاذبا، ويمتع نفسه بإذلال شعبه، وسوقهم إلى المنكر والمحرم الجلي، فيصادف على ذلك طواعية شعبه، وقبولهم ومسارعتهم في كل بلية وجريمة لأجل رضاه، حتى يأتيهم من العقاب ما أتى فرعون وقومه - وإن اختلفت صورة العقوبة - إذا لم يوجد من يقف ضد سلطة الطغيان، يأمره وينهاه ويخوفه بالله ويعظه، لا يخاف في الله لومة لائم.
فإن وجدت هذه الفئة، دفع الله بها عقوبة تشمل الطاغية ورعيته، كما قال تعالى:
- {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
والعقوبات تتنوع، ففي الأمم السابقة، كانت عقوبات استئصالية، في شكل ريح صرر عاتية، أو صيحة قاتلة، أو حجارة من السماء، أو عذاب الظلة، أو طوفان يغرق الجميع.
أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا عذاب يستأصل الناس، فأمته باقية إلى قيام الساعة، لكنه يأتي في أشكال أخر: فقر، شقاء وعنت، وضيق في الحياة وفي النفس، واضطهاد الحاكم وإذلاله الناس، سجون وتعذيب.. أو كوارث طبيعية؛ زلازل، فيضان بركان، أو سيول عارمة، أو عدوان محتل.
فما يعانيه الناس اليوم من حكامهم، ليس سببه "الحكام" وحدهم، إنما يشترك معهم فيها "الشعوب" نفسها، هي من فتح الطريق على عذاباتها ؟!!.
وإذا أردنا علاج مشكلة تسلط الحكام، فلا يمكن إلا بمعرفة أن الداء متولد من الطرفين:
من الحاكم والشعوب.. من الراعي والرعية.. من الرئيس والمرؤوس.
اجتمعا على أنواع من المنكر؛ هذا يأمر وهذا يطيع.. هذا يزين ويمد وهذا يطغى ويستكبر لتسقط أوضاع البلاد في الهاوية، وتتردى معايش الناس وحرياتهم وكرامتهم.
والحاكم وإن كان واحدا، إلا أنه إزاء مجموع الأمة، فلا يقارن بواحد من أفراد الناس، فأمره ونهيه يشمل الجميع، فالصحيح أن يقارن بمجموع الأمة كلها في أثره.
فإذا أمر بمعروف، فمعروفه يشمل كل الناس، وإذا أمر بمنكر، فمنكره على الناس جميعا، فثوابه عظيم، وعقابه عظيم.
فهم هذا المعنى مفيد للعدل في الحكم عليه؛ فإن الناس ينظرون إلى أحكامه الجائرة، ويحاسبونه عليها، ويحملونه ظلم الناس جميعا، وقد لا ينظرون إلى أحكامه العادلة، ويعلمون أن له ثواب الناس جميعا بها، إن أخلص النية لله تعالى.
إن منصب الحاكم منصب فتنة وبلاء؛ لأجل ذلك تدافعه أهل العلم والدين.. خافوه على أنفسهم، وأقبل عليه المحبون للدنيا، وسارع إليه الثائرون، جهلا منهم بخطره، فما فيه إما ثواب عظيم وأجر جزيل، أو عقاب أليم وخزي عظيم.
فالحاكم محتاج إلى عون على الحق، وألا يعان على باطل، ولو كره، لكن الدنيا مليئة بالذين يفسدون على الحاكم قلبه ونفسه، ولو كان فيه ميل إلى الصلاح، بنفاقهم وخداعهم وكذبهم، ومع ذلك، فليس كل الناس كذلك، فلو قاوم أهل الحق مد النفاق حول الحاكم، وأخلصوا له النصيحة، وقاوموا اعوجاجه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبروا على ذلك، لكان من أثره اضمحلال عمل أهل النفاق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - (ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) رواه أحمد.- ( الدين النصيحة. ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله ؟( قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم.ذلك أهم الواجبات في إصلاح سلوك الحاكم..
ثم يأتي بعد نصح أهل النصح، وجهد أهل الحسبة: مهمة الرعية والشعب.
عليه مخالفة الحاكم والمسئول – على الدوام وبكل طريق ووسيلة، ليس بطريق المظاهرات فحسب - فيما يأمر به من ظلم أو منكر، مهما كان الوعيد أو الإغراء، في موقف يكشف عن صدق مع الله تعالى، وحزم مع المسيء المذنب، ولو كان ذا منصب، مع أدب وعقل وروية وحكمة، بالصبر على ما يصدر منه من سفاهة أو تخويف، بالركون والاستناد إلى حفظ الله تعالى وقوته وقدرته على صرف السوء، كما قال تعالى:
- { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام * ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
- {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا}وكل شعب ثار وتظاهر ضد أخطاء السلطة، فليس له عذر بعد اليوم في ترك مهمة نصح الحاكم، بطاعته في المعروف ومعصيته في المعصية؛ فإن من عرض نفسه للقتل بالثورة والتظاهر، هو أقدر على ما دونه، وفي مستطاعه النصح بوسائل آمنة.الواجب الثالث لاستصلاح الحاكم: نقاء علاقة الإنسان بربه.
بخلوه من الإصرار على كبائر الذنوب، ومجاهرته بها، قيل: "كيفما تكونوا يولى عليكم".يعني: إن كنتم صالحين تولى أمركم إمام صالح، وإن كنتم مجرمين تولاكم مجرم.
وحين كان القاضي يجلس العام والعامين لا يأتيه متخاصمان، كان إمامهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولما تولاهم مثل يزيد قتل الحسين بن علي رضي الله عنه ظلما.
قال عبد الملك بن مروان في الناس فقال:
- "أيها الناس!، أنصفوا منا؛ تريد منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تقوموا فينا بسيرة رعيتهما".
بتلك المهمات الثلاثة كلها، يجتمع للناس أسباب انتفاء الشر كشرور الحكام، فإما أن يولي أمرهم خيرهم، أو يرضيهم حتى يكشف عنهم جور الحكام قريبا.
وكل ذلك مع استصحاب الدعاء، فإنه سلاح مجرب، وقد أهلك الله به عتاة، قال تعالى: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}.ثم قال: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون}.
ذلك لو كان عاتيا، فإن كان مسلما له وعليه، فالدعاء له أصلح وأنفع