منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#35734
كانت مجموعة من السيناريوهات قد وضعت لتناول سورية، الدولة والمجتمع، والانقضاض عليها وعلى دورها الذي لعبته وتلعبه على مستوى المنطقة والعالم، وفي أكثر من ملف ومعادل سياسي، ومن أهم هذه السيناريوهات السيناريو المصري ثم السيناريو الليبي، أما بالنسبة للسيناريو المصري فقد كان مستبعدا منذ اللحظات الأولى، لأن أسباباً مهمة حالت دون تطبيقه، أهمها أن المقارنة بين الحراك العام للداخل السوري يختلف عنه على الجانب المصري، إضافة إلى أن جملة معطيات وحيثيات واسعة وعديدة حالت دون إحداث نوع من المطابقة والمقارنة بين مكونات واصطفافات الداخل السوري والداخل المصري..
لقد كان من المستبعد جداً أن يؤخذ بالسيناريو المصري في ظل إخفاق واضح لجهة إحداث حشد جماهيري واسع وكبير يقوم باحتلال ساحة في العاصمة السورية، ويدير عملية ضغط مفتوحة ومكشوفة على سياسات القيادة السورية، أو يستطيع أن يثبت أمام حشد جماهيري واسع سوف يهب للدفاع عن المنجزات الحقيقية لسياسات وضعت سورية في المكانة المتقدمة التي منحتها أن تلعب دورها الخلاق خلال السنوات الماضية..

إذاً.. كان لا بد من التركيز على السيناريو الآخر، ونعني به السيناريو الليبي، باعتبار أن هذا السيناريو يتسع لجملة واسعة من المداخلات والعبث والدعم والتصدير الإعلامي الذي يمكنه أن يصدّر حالة (الثورة الافتراضية)، باعتبار أن هذه (الثورة المفترضة) سوف تسهم أكثر من أي سيناريو آخر في إعادة إنتاج الداخل السوري، وتقسيمه، وأن القيادة السورية سوف تُدفع عندها باتجاه الدفاع عن الجزء المتبقي في يدها، ويبدأ الانحسار والتقدم على الطريقة الليبية باتجاه العاصمة السورية، ومجرد أن تدخل هذه القيادة بمبدأ الدفاع عن العاصمة هذا يعني أنها سوف تقع في مطب جديد وهو مواجهة أدوات (الثورة المفترضة)، ومن أهم هذه الأدوات هم (الثوار)، الأمر الذي يستدعي، وعلى الطريقة الليبية ذاتها، تدخلا لحماية هؤلاء (الثوار)، ثم العمل أكثر على الدفاع عن مطالبهم، وبالطبع فإن الجغرافيا السياسية هنا سوف تلعب الدور الأكبر في تحسين شروط السيناريو ذاته، لكون الخليج العربي، (المدافع عن حريات الشعب العربي)، على مرمى حجر من الحدود السورية، وأن دولة الكيان وقدراته العسكرية سوف تكون تحت الطلب العربي لحماية (حق الإنسان) في العيش الكريم، والدفاع عن (كرامته) و(سيادته)!!..
من هنا نرى أن السيناريو الليبي كان هو الأهم والأكثر قابلية لإحداث تغييرات واسعة على خارطة المنطقة وخاصة في الشرق العربي، وتجاوز الدور السوري، فكان الإعداد واضحاً من جهة الجنوب السوري، ونعني بذلك محافظة درعا، وفي تقديرنا أن المسألة لم تكن منذ لحظتها الأولى مسألة مطالب، أو مسألة محددة بمجموعة من الملاحظات على قضايا حراك يمس السلطة التنفيذية، وإن كانت هذه القضايا وتلك الملاحظات موجودة، باعتبار أن التجاوزات والملاحظات عامة على أكثر من مساحة من حيثيات الجغرافيا السورية، إلا أننا نعتقد أن هذه الملاحظات استثمرت واستغلت كي تشكل نواة حراك يأخذ الجنوب السوري إلى لحظته الساخنة، والاشتغال عليه بشكل تصاعدي كي يبنى عليه إمكانية تمرير السيناريو..
ما يؤكد مثل هذا الكلام أو هذه الرؤية جملة الأحداث التي كانت تسير متسارعة، حيث تراكمت بشكل غير طبيعي، وتدحرجت كتلة المشاكل واتسعت مساحة الاحتدام بشكل غير منطقي، رغم محاولات الاستيعاب الواسعة التي جاءت من طرف القيادة السورية وبعض مؤسسات الدولة، الأمر الذي صدّر مشهداً غير دقيق أو صحيح، خلاصته أن الدولة أضحت ضعيفة وليس بمقدور القيادة ومؤسسات الدولة أن تتصرف في مواجهة هذا التصاعد، أو هذه الاستطالات التي نالت من جغرافيا واسعة من هذه المنطقة..
أمر آخر يمكن متابعته، حيث يشير بوضوح أن هناك من كان يدفع باتجاه الأزمة، وباتجاه أن يصل المشهد إلى ما كان مطلوبا أن يصل إليه، وهو أن عمليات وخطوات الاستيعاب المتعددة التي كانت تقوم بها مؤسسات الدولة، وتحديدا من خلال مقام الرئاسة، كانت دائماً تقابل بما يدفع المشهد إلى ما هو أكثر إرباكا ورفضا لجملة المتفق عليه، أو الحل الذي يسهم في إخماد هذا الحريق، حيث كنا نلاحظ أن هناك تسارعا واضحاً ولعبا فاضحا للاحتيال والالتفاف على المنجز الذي يتم التوصل إليه في كل مرّة، والتحوّل الحاد في مجريات الأحداث، ومنذ الساعات الأولى لها، حيث كان مطلوبا أن يدفع بكتلة بشرية إلى التظاهر أو الاحتجاج، وكان مطلوبا أن يرتفع سقف المطالب، وألا يتم الموافقة أو الاتفاق على أي شيء تقدمه الدولة، وكان مطلوبا أن يكون هناك دم وضحايا بغية إشراك أكبر عدد ممكن من الأهالي، ومن شرائح ومكونات وجغرافيا متنوعة، والبناء أخيراً على حالة جديدة تؤسس لمعنى (الثورة المفترضة)..
إن الإعلام الذي كان يخلق مناخات هذا المشهد الافتراضي لمثل هذه الحالة لم يخف هذا السيناريو، وإنما دفع بمن ينظّر لهذا المعنى كي يطفو ويعوم على سطح الأحداث، حيث جاء على لسان عزمي بشارة وخلال الأيام الأولى للأحداث قوله، فيما معناه: (إن ما يحصل في درعا انتفاضة تقوم بها نخب مثقفة من أبناء المنطقة، احتجاجاً على تراكمات من القمع، إضافة إلى عدم وجود بنية تحتية صالحة ومواكبة لتطلعات الشعب السوري)، طبعا هذا الكلام جاء من خلال شاشة ومؤسسة (الجزيرة)..
ضف إلى ذلك أن هناك من استدعي، ومن باريس، ومن قبل المؤسسة ذاتها، كي يبدأ بالمساهمة بوضع الأساس النظري لمثل هذا السيناريو وهذا التوجه، وبدأ يقترب شيئاً فشيئا، ومنذ الأيام الأولى، من مفهوم (الثوار)، من خلال تركيزه على مفهوم (الشباب)، وبدء العمل على هذه الصيغة باعتبارها مقدمة رئيسية وأساسية للدفع باتجاه مفهوم (الثوار)، ثم مفهوم (الثورة)..
أما بالنسبة لمسقطات هذا السيناريو على الأرض فقد كانت الأحداث أكثر وضوحا، إن لم نقل أكثر فضحا، حيث سارعت مجموعات مسلحة إلى التركيز على إعادة، أو تكرار، ذات الإجراءات التي حصلت على المستوى الليبي، فبعد أن تشكلت الرافعة الشعبية من خلال اتساع رقعة الدم، وتوريط الأهالي وإدخالهم في لحظة الصدام مع الدولة، كان لابد من العمل على تطهير الجغرافيا، وفي الوقت الذي انسحبت فيه الدولة من شوارع مدينة درعا، وبطلب تكرر أكثر من مرة على ألسنة بعض الذين سمعت أصواتهم، أصبحت هناك سيطرة كاملة لجهات مسلحة على شوارع المدينة، وهي نقطة مهمة في إطار الحسم الذي كان يتجه إليه هذا السيناريو..
هنا كان لابد من الانتقال إلى المدن والأرياف، حيث حصل ذلك وبسرعة لم نكن نتصورها، غير أن الأمر بقي غير محسوم في ظل وجود قطعات عسكرية في هذه المناطق، وهي قطعات عسكرية مقاتلة، تقف على الحدود السورية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي استدعى عشرات الهجمات من قبل عناصر مسلحة أرادت أن تعيد المشهد الليبي ذاته، وكانت هذه العناصر تدخل في مواجهة بعض عناصر القوات المسلحة، فسقط منهم عشرات الشهداء، وذلك في اللعب على معنى أن ينضم جزء من الجيش إلى (الثوار)، وهي اللحظة التي يُحسم فيها مفهوم (الثوار)، ويترسخ في ظل ذلك مفهوم ومقولة (الثورة)، وطبعا (الثورة) هنا على (نظام الرئيس بشار الأسد)!!..
من هذه النقطة بالذات يبدأ زحف (الثوار) على العاصمة السورية، في ظل تحييد أدوات مهمة ومشروعة يمكن أن تستعملها الدولة في مواجهة هذا المشهد الافتراضي، باعتبار أن هناك ضغطا إعلاميا وأدوات سياسية متعددة سوف تستعمل ضد مؤسسات الدولة، بفضل مواقف، سياسية واقتصادية واجتماعية، سوف تتصاعد، من قبل حكومات ومنظمات وجهات دولية وإقليمية وعربية، تأخذ باتجاه التضييق على القيادة السورية، وتدفعها إلى أن تكون مربكة وغير قادرة على مواكبة الأحداث المتراكمة.. إضافة إلى مشاهد يتم الاشتغال عليها، ومن زوايا وجهات أخرى، ونعني بها أحداث حمص وبانياس واللاذقية، التي سوف تعمل على إضعاف وإشغال أجزاء مهمة ومتعددة من جسد الدولة، حيث تدخلها في حرب طائفية تفقدها القدرة على المبادرة..
هذا هو المشهد الافتراضي الذي تم الاشتغال عليه، والعمل على تسليكه، غير أن السوريين كانوا الأقدر على مواجهته، والأكفأ على ردّه، وذلك من خلال مجموعة من الأسباب التي سوف نتوقف عندها في مقال قادم..
وبالنتيجة.. نعم لقد سقط السيناريو الليبي على أخذ سورية أو تمزيقها، تماما في المفصل الذي أراده البعض أن يكون عتبة الانقضاض على سورية، ونعني به المفصل الجنوبي، حيث تقدمت الدولة من خلال المؤسسة العسكرية المتماسكة، ووعي الشعب السوري الذي أدرك البعد الحقيقي للمؤامرة، وبدلا من أن يكون الجنوب الخاصرة الرخوة لهذا الاختراق أصبح نافذة الضوء التي كشفت حقيقة السيناريو والأدوار التي كانت قد أعدت.

المصدر / صحيفة الوطن