- الاثنين مايو 23, 2011 10:07 pm
#36204
المفكر الاسلامي ابن خلدون
ولد عبد الرحمن ابن خلدون الاسم الكامل : ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي في تونس عام 1332 في أسرة أندلسية الأصل من مدينة اشبيلية، هاجرت إلى المغرب، ثم قدمت إلى تونس أثناء بداية حكم الحفصيين، و شغل أفرادها مناصب سياسية رفيعة داخل البلاط الحفصي. نشأ بتونس في محيط أرستقراطي، و مثل أقرانه باشر مبكرا حفظ القرآن الكريم،
وبعد ذلك درس اللغة العربية و العلوم الشرعية على يد والده الذي كان متبحرا فيهما، و درس أيضا بجامع الزيتونة ، و هناك تشرب بعلوم عصره النقلية و العقلية. كان ابن خلدون يرغب في التفرغ للعلم على منوال والده ، لكن الطاعون الجارف الذي اجتاح تونس سنة 1348 غير مسار حياته؛ إذ بوفاة أبيه و عدد كبير من شيوخ جامع الزيتونة و هجرة عدد من المتبقين منهم على قيد الحياة إلى المغرب، قرر بعيد ذلك ترك العلم و الاتجاه نحو الوظائف المخزنية، رغم أخطارها، للقيام بأوده على غرار أجداه .
أول وظيفة تولاها ابن خلدون كانت سنة 1350، وظيفة كاتب مراسلات الوزير محمد بن تافراكين. و لما سقط ابن تافراكين سنة 1352 ترك ابن خلدون تونس و رحل إلى بسكرة بالجزائر ، ومنها انتقل إلى قسنطينة. في سنة 1354 رجع إلى مدينة تونس، و هناك تزوج . في نفس السنة هاجر إلى فاس، و بسرعة اندمج في بلاط السلطان المريني أبى عنان الذي أصبح يشغل منصب كاتبه الخاص. و ظل ابن خلدون في منصبه قرابة عامين و نصف إلى أن اتهمه السلطان بالتآمر مع أمير بجاية، فأمر بالقبض عليه و سجنه سنة 1357 ، و ظل في سجنه قرابة سنتين، ثم عفا عنه السلطان وأعاده إلى وظيفته الأولى، التي بقي يشغلها ما يناهز عن الأربع سنوات. و في مدينة فاس التي كانت تمثل آنذاك عاصمة العلم بأقصى الغرب الإسلامي زاد تفقها في المسائل الشرعية بفعل مخالطته لشيوخ جامع القرويين، وزادت معرفته بدواخل عالم السياسة بفعل موقعه داخل البلاط الأميري. و في هذه الفترة كتب مسودة مقدمة كتابه العبر.
رحل ابن خلدون إلى الأندلس و التحق بحاشية السلطان محمد بن يوسف بن الأحمر أمير غرناطة، فكان مستشاره الأريب ، بحيث أغدق عليه العطايا ، ثم توترت العلاقة ما بينهما، فغادر الأندلس إلى بجاية بالجزائر سنة 1365 ، وهناك تولى لفترة قصيرة منصب الحجابة. إثر ذلك انتقل إلى بسكرة بجنوب الجزائر، و بقي بها خمس سنين بعيدا عن عالم البلاطات السلطانية، عاكفا على مطالعة كتب الفقه و كتب التاريخ الإسلامي.
هاجر إلى تلمسان ليشغل منصب حاجب الأمير أبي حمو من بني عبد الوادي، لكن بفعل الحرب ما بين بني عبد الوادي و المرينين حكام فاس قرر الرجوع من جديد إلى بسكرة، و في الطريق أسر من طرف أعوان المرينين، و لينقذ نفسه قبل بأن يخلع بيعته لأبي حمو و الاشتغال مع أعدائه المرينين. في مدينة فاس اكتوى أيضا بدسائس البلاط ، و سجن ، و لم ينجو من محبسه إلا بفعل تدخل صديقه أمير مراكش، لكنه بقي هناك و التحق بسلك التدريس في جامع القرويين . في سنة 1374 غادر فاس إلى قلعة بني سلامة في الجزائر، و بها قضى قرابة أربع سنوات انصرف خلالها إلى تحرير كتاب المقدمة الشهير، و شرع في تصنيف كتابه العبر، ثم نقحه بعد ذلك وهذبه، وألحق به تواريخ الأمم.
في سنة 1378 رجع إلى مدينة تونس عاصمة الحفصيين. و لما استقر بالحاضرة انهال عليه طلبة العلم ، فأثار ذلك حفيظة بعض شيوخ جامع الزيتونة، على رأسهم ابن عرفة. كره ابن خلدون أجواء السعاية التي كانت تلاحقه منذ شبابه في منطقة المغرب العربي، فقرر الهجرة إلى مصر سنة 1382 أيام حكم الملك الظاهر برقوق، و بالقاهرة باشر التدريس بالأزهر. هناك ذاع صيته كفقيه مالكي متبحر في علوم الدين، و في سنة 1384 عين في منصب قاضي قضاة مالكية. و في تلك السنة غرق المركب البحري الذي كان يقل زوجته و أبنائه القادمين من تونس ، فكان ذلك المصاب أخطر حدث أثر فيه، رغم كثرة المصائب التي ألمت به سابقا .
أقام ابن خلدون في مصر قرابة أربع وعشرين عاما لم يغادرها إلا سنة 1387 للحج ، و سنة 1399 لزيارة القدس ، و سنة 1400 للشام برفقة السلطان الناصر فرج الذي خرج للدفاع عنها ضد زحف المغول بقيادة تيمورلنك . بعد هزيمة الناصر فرج و عودته إلى مصر أجبر ابن خلدون على البقاء في الشام جليسا لتيمورلنك، الذي رغم فضاعته إلا أنه قدر ذكاء ابن خلدون و سعة علمه. لما ضجر من جو المعارك و من غربته داخل بلاط مغولي، استأذن ابن خلدون تيمورلنك للعودة إلى مصر على أساس أنه ذاهب لجلب كتبه التي لا يستغني عنها، لكنه في قرار نفسه كان مقررا عدم الرجوع، فأذن له. و بعد عودته إلى مصر نقح كتبه وأتمها، ثم وافته المنية في رمضان عام 1406 ، وكان حينئذ قاضي قضاة المالكية فيها، و دفن في القاهرة بمقابر الصوفية خارج باب النصر.
أهم مؤلفات ابن خلدون هو " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، الذي قدم له بمقدمة شهيرة طغت شهرتها على الكتاب نفسه. و له أيضا شرح البردة و هي كتاب في مدح الرسول، و كتاب لباب المحصل في أصول الدين ، وهو تلخيص كتاب الفخر الرازي في علم التوحيد. وكتاب في الحساب، ورسالة في المنطق.
ابن خلدون عبقري من عباقرة الإنسانية، و فيه قال المؤرخ و المفكر الأنقليزي أرنولد توينبي جملة شهيرة : " تصوّر ابن خلدون و صاغ فلسفة للتاريخ تمثل بما لا يدع أي مجال للشك أعظم عمل كان قد أنجزه الفكر البشري في كل العصور و في كل البلدان " . لقد توفرت عدة عوامل لتجعل منه ذلك الشخص الذي يحظى بإجلال كل من اطلع على آثاره، خصوصا منها كتاب المقدمة. من تلك العوامل :
* ذكاءه الفطري الذي صقله في صغره محيط عائلي متوازن، يسوده جو علمي تغذيه مكتبة عائلية تراكمت كتبها الموروثة عن أسلافه منذ وجودهم بالأندلس.
* مزاولته للتعلم بجامع الزيتونة الذي كان أثناء القرن الرابع عشر يمكن منتسبيه من الحصول على تكوين متنوع يشمل العلوم الدينية و العلوم العقلية، و كان به مدرسون يعدون من أفضل ما هو موجود آنذاك بالعالم الإسلامي.
* مخالطته للعلماء منذ صباه في تونس، و مواصلته ذلك في فاس و غرناطة و تلمسان و القاهرة . و عدم استنكافه من مناظرة أقرانه الذين كان يتمتع بمغالبتهم فكريا بالنظر إلى ذكائه الثاقب و سرعة بديهته و معرفته الموسوعية. كل ذلك ساعده على التروي في أحكامه، و في نفس الوقت دربه على الاعتداد بنفسه؛ فهو يعرف أنه استنبط علما جديدا سماه علم العمران ، و هناك من يسميه الآن علم الاجتماع أو علم الأنتروبولوجيا، حتى أن عديد الدارسين اعتبروه جد هذين العلمين المعاصرين.
* تعدد تجاربه السياسية طيلة نصف قرن، من توليه مهمة كتابة المراسلات لدى الوزير ابن تافركين بتونس سنة 1350 إلى مخالطته لتيمورلنك سنة 1400. صحيح أنه طيلة تلك الفترة لم يشغل مناصب رسمية إلا لما يناهز عشر سنوات، إلا أنه كان طوال المدة في قلب الأحداث السياسية في المناطق المتعددة التي استقر بها، سواء بإرادته كطرف في تلك الأحداث، أو بالرغم منه، أو كشاهد عيان محايد. كل ذلك متـّن معرفته بآليات تحرك الوقائع التاريخية و ساعده على صياغة منهج تاريخي عقلاني يرفض الأقوال العجائبية و الأسطورية، يعتمد الملاحظة الدقيقة للأحداث، و يقوم على مكافحة المصادر ببعضها لانتقاء أصوبها، و البحث عن الأسباب الحقيقية للسيرورات التاريخية. و ساعده أيضا على صياغة نظرية أجيال الدول : مرحلة الفتوة، فمرحلة النضج، ثم مرحلة التدهور و من ثمة الوفاة.
* شدة معرفته بالأوساط الحضرية، فهو ابن الأرستقراطية المدينية و متطبع بطبائعها، و لكنه كان أيضا عارفا بالأوساط البدوية العربية خصوصا قبائل الذواوذة المستقرين بجهة بسكرة الذين استقر قربهم قرابة خمس سنوات، و القبائل البربرية الزناتية التي كانت متوطنة بنواحي تلمسان. كل ذلك أثـّر في رسم ملامح نظرته للعمران البشري و ساعده على صياغة نظرية العصبية.
* توليه مهام القضاء في مدن متعددة ، خصوصا بمصر ، و لو أن ذلك كان بصفة متقطعة راوح فيها ما بين الإثبات والعزل بفعل دسائس البلاط و دسائس المتخاصمين، فتكونت له معرفة جيدة بخبايا النفس البشرية ، و بمشاكل المجتمع و الاقتصاد اللذان كتب فيهما فصولا عميقة و متفردة.
* توليه لمهام التدريس في مدن متعددة، أهمها تونس و فاس و القاهرة، فكان لإظهار تفوقه مجبرا على تكوين معرفة متينة ذات سمات موسوعية؛ بحيث شملت المسائل الشرعية، و التاريخ الإسلامي و الأعجمي، و الحسابيات، و الفلسفة ... كل ذلك ظهر في منهجه البحثي العقلاني المتفرد بحسب مقاييس عصره، و حتى بمقاييس الحاضر.
* قدرته على نقد نفسه، و على تعديل أفكاره و تصويبها، فهو لم يفرغ من كتابة الصيغة النهاية لكتاب العبر و مقدمته إلا سنة 1402، أي قبيل وفاته بأربع سنين، لما بلغ عمره سبعة عقود.
السلطة مبنية عند ابن خلدون على الغلبة والغلبة في العربية هو الهيمنة وصنف أول من الغلبة هي الرئاسة والغلبة إنما تكون بالعصبية الذي يسمح بالرئاسة التي تترجم chef. ان الملك صنف آخر من الرئاسة ونمط آخر من الغلبة وهي السؤدد وصاحبه متبوع وليس عليهم قهر في أحكامه والقهر هو الذي يميز الملك عن الرئاسة
Domination هي هيمنة تقليدية وكاريزماتية وقانونية نجدها عند ابن خلدون، ان الهيمنة التي مصدرها الدين والنبوة وهو مماثل لمفهوم السلطة السلطة الكاريزماتية (النبي هو كاريزم). أما الهيمنة التقليدية فتحدث عندما يتحول الملك إلى تقليد نجده عند ابن خلدون بقوله إذا استقرت الدولة استغنت عن العصبية وتصبح بالوراثة. تحول الملك إلى ملك مبني على الزمن والعادة. في حين أن الهينة القانونية الشرعية والعقلانية، اذ يؤكد ابن خلدون إلى تأكيد ضرورة بناء الحكم على القوانين عندما يصرح:" فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة في ذلك كما أن الشأن في الفرس وغيرهم
يميز ابن خلدون بين قوانين العقلاء وقوانين ترجع إلى الله التي يسميها السياسة الدينية ولكن السياسة العقلية هي مبنية على قوانين الغاية منها المصلحة العامة. كما تفوق السياسة الدينية على السياسة العقلية في علاقة بالآخرة بينما في مجال الدنيا فالتفوق يكون إلى السياسة الدينية.
النوع الآخر من الملك هو الخلافة وهنا يحيل إلى نوعين من القوانين: القانون العقلي الذي يستند إلى المصلحة العامة والشرع الذي يستند إلى النجاة في الآخرة
أنماط العمل أربعة وأنماط الهيمنة ثلاث فقط وهذا خلل في حد ذاته. أشار الخالدي خطأ شائع من قبل الباحثين حول التناقض بين الخلافة والملك، لكن الملك الذي يناقض الخلافة هو الجبروتية والكسروية بينما الملك الذي هو خلافة فهو الحكم الصالح.
حتى فكرة وجوب النبوات فهي غير برهانية في السياسة وقد تتم من دون ذلك لأن أهل المجوس لهم أنظمة سياسية ناجحة. النظرة الخلدونية العلمية هي نظرة تنسيبية تاريخية للملك.
ابن خلدون تجرأ على تفسير الدين بالسياسة والتاريخ، زمن الطرطوشي فيه أكبر من حرية الفكر والتعبير أكثر من زمن ابن خلدون ان الرغبة في الإصلاح عند ابن خلدون ليست ناتجة عن فقدانه للإيمان الديني بل متأتية من إيمانه العميق بصدقية النص الديني.
ظهور الكاريزم ضرورة تاريخية من أجل التغيير في طريقة بناء الدول من قدوم العصبيات من البادية والسيطرة على الحكم في المدينة إلى الاعتماد على دعوة دينية تتشكل كإيديولوجية تتعالى على الواقع من أجل تأسيس الدولة على الفكرة والهيمنة الأيديولوجية.
زد على ذلك أن البحث في علاقة الدين بالسياسة عند ابن خلدون والتصريح بأن ابن خلدون كانت له جرأة قراءة الدين من وجهة نظر سياسية وأن قوله بأن الدعوة السياسية ولا تقوم إلا بدعوة دينية وأن الدعوة الدينية لا تقوم إلا بالعصبية هو رأي يغلب الاجتماعي الطبيعي على الإلهي والشريعة ويجعل المقدس مجال صراع وتجاذب من طرف رجال السياسة، وهو أيضا توصيف يجعل من ابن خلدون واحد من الذين خاضوا في تجربة الإصلاح الديني عند العرب والمسلمين،
يمر معظم الباحثين في الدراسات الخلدونية سريعا على المقدمة السادسة التي تتحدث عن تعريف الإنسان على أنه "مدني بالطبع" وكأن هذا الأمر بديهي ولا يثير أي إشكال، لكن إذا كانت كلمة مدني تعني سياسي والإنسان حيواني سياسيun animal politique في المدونة القديمة فإنها لا تعني نفس الشيء في الفلسفة السياسية العربية والحديثة. فأين موطن البداهة والإشكال في ذلك؟ ولماذا يجب أن نتوقف عند هذا التعريف البديهي للإنسان ونفكر فيه؟ وما المقصود بالسياسة في المدونة القديمة والوسيطة؟ وما الذي يميز النظرة الخلدونية؟
السياسة في التصور الخلدوني وخاصة في المقدمة تعني فن تدبير الشأن الإنساني أي الحكم فحسب وليست لها علاقة بتدبير الصنائع والمنزل والمدينة، كما أن كلمة مدني وكلمة سياسي كان مصيرها الانتقال إلى كائن اجتماعيun animal sociable.
تمثل المدينة تجمع اجتماعي والسياسة تلحق فيما بعد، إن المرة الوحيدة التي تم فيها الجمع بين السياسة والمدنية في الفلسفة العربية كانت مع مفهومي العلم المدني والسياسة المدنية هي عند الفارابي ولكن ما قام به ابن خلدون هو رفض هذه المدونة القديمة.
ماهو وضع ابن خلدون في الفلسفة العربية والفلسفة العالمية من جهة التناول للمسألة السياسية ؟
ابن خلدون هو أرسطي في تفكيره السياسي وبعيدا كل البعد عن المثالية الأفلاطونية وغير أرسطي في نفس الوقت،فهو أرسطي لاحتفاظه بمفهوم المدينة ولاعتباره الإنسان مدني بالطبع في المرة الأولى دون مناقشة ذلك ولكنه عندما يتكلم عن كتاب السياسة لأرسطو فهو في الحقيقة يتحدث عن كتاب سر الأسرار المنسوب إلى أرسطو خطا وليس عن كتاب السياسة المعروف والمتداول.
السياسة عند العرب هي سياسة طوباوية تهتم بما ينبعي أن يكون وتغطي الواقع التاريخي بطبقة من التأويلات المضللة وابن خلدون يحاول أن يؤسس السياسة بمعنى الحكم المرتبط بالوازع والسلطان
من هذا المنطلق يفيد مفهوم السياسة عند بن خلدون فن الحكم وأما المفهوم القديم Polisفيعني تدبير المدن ومفهوم مدني بعيد كل البعد عن مفهوم سياسي وقريب من مفهوم اجتماعي.
من المعلوم أن ابن خلدون هبط من السماء إلى الأرض وحاول دحض الفلسفة السياسية المثالية وينتج خطاب علمي حول مجال السياسة سمي عند البعض علم السياسة وعند ابن خلدون نفسه علم العمران البشري وإقصائه للفلسفة الكلاسيكية هو إقصاء للسياسة المعيارية التي تطلب السعادة في الدنيا والآخرة لتجاوز ربط النبوة والسياسة في عيون الحكمة والكتاب العاشر من الشفاء ويحتفظ بالسياسة بالمعنى التوصيفي غير المعياري والذي يمكن أن نسميه الواقعية السياسية إلا باستثناء السياسة النبوية وذلك لانبهار الناس بالنبي.
السياسة المعيارية التوصيفية الخلدونية تتلاءم مع الاستبداد السياسي وذلك لغياب مفهوم الحرية في الفكر السياسي في الفلسفة العربية القائم على باراديغم الخضوع والطاعة والشوكة والغلبة والطاعة والعصبية.
لم يقترح ابن خلدون فلسفة سياسية جديدة بل اقترح نظرة واقعية براغماتية تعتمد على علم الفقه والسياسة الاصطلاحية والعرفية التي نقلها عن الفرس والساسانيين والهنود
ابن خلدون وحكومة المصالح العامة
الإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة
وأما ابن خلدون فهو يرى الحكومة من المصالح العامة وقد فوض أمرها إلى الأمة، والمهم في نظر الشارع أن يكون للمجتمع نظام وحكومة مقتدرة تؤمن مصالحها وتقمع الاضطرابات الداخلية وتصد هجمات العدو الأجنبي، ولا شك أن أحكام الشريعة هي الأساس لدى المسلمين في محتوى النظام وضوابط العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فالشكل النهائي لهذا النظام هو الملكية ولا شيء سواها.
فالقبول بالملكية لا ينافي في رأي ابن خلدون التدين، وإنما يعتقد أنه من القضايا المعقولة والطبيعية التي منها الملكية، والإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة.
ولما كان ابن خلدون كأسلافه قد عاش في فضاء يسود فيه التغلب ساحة السياسة، والحكم في أذهان المسلمين والمفكرين المسلمين سلطة مطلقة، لذا اعتبر الملكية المستبدة أمرا طبيعيا، وليس لديه تصور واضح عن مسؤولية الحاكم تجاه شعبه، فكيف يمكنه إذن أن يجد حلا بشريا لتحقيق وتنفيذ هذه المسؤولية أو يضع أنظمة للرقابة على السلطة السياسية؟ وبالتالي فإن الملك مسؤول أمام الله وليس أمام الشعب الذي ليس له إلا التسليم للحاكم من غير تردد.
ولد عبد الرحمن ابن خلدون الاسم الكامل : ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي في تونس عام 1332 في أسرة أندلسية الأصل من مدينة اشبيلية، هاجرت إلى المغرب، ثم قدمت إلى تونس أثناء بداية حكم الحفصيين، و شغل أفرادها مناصب سياسية رفيعة داخل البلاط الحفصي. نشأ بتونس في محيط أرستقراطي، و مثل أقرانه باشر مبكرا حفظ القرآن الكريم،
وبعد ذلك درس اللغة العربية و العلوم الشرعية على يد والده الذي كان متبحرا فيهما، و درس أيضا بجامع الزيتونة ، و هناك تشرب بعلوم عصره النقلية و العقلية. كان ابن خلدون يرغب في التفرغ للعلم على منوال والده ، لكن الطاعون الجارف الذي اجتاح تونس سنة 1348 غير مسار حياته؛ إذ بوفاة أبيه و عدد كبير من شيوخ جامع الزيتونة و هجرة عدد من المتبقين منهم على قيد الحياة إلى المغرب، قرر بعيد ذلك ترك العلم و الاتجاه نحو الوظائف المخزنية، رغم أخطارها، للقيام بأوده على غرار أجداه .
أول وظيفة تولاها ابن خلدون كانت سنة 1350، وظيفة كاتب مراسلات الوزير محمد بن تافراكين. و لما سقط ابن تافراكين سنة 1352 ترك ابن خلدون تونس و رحل إلى بسكرة بالجزائر ، ومنها انتقل إلى قسنطينة. في سنة 1354 رجع إلى مدينة تونس، و هناك تزوج . في نفس السنة هاجر إلى فاس، و بسرعة اندمج في بلاط السلطان المريني أبى عنان الذي أصبح يشغل منصب كاتبه الخاص. و ظل ابن خلدون في منصبه قرابة عامين و نصف إلى أن اتهمه السلطان بالتآمر مع أمير بجاية، فأمر بالقبض عليه و سجنه سنة 1357 ، و ظل في سجنه قرابة سنتين، ثم عفا عنه السلطان وأعاده إلى وظيفته الأولى، التي بقي يشغلها ما يناهز عن الأربع سنوات. و في مدينة فاس التي كانت تمثل آنذاك عاصمة العلم بأقصى الغرب الإسلامي زاد تفقها في المسائل الشرعية بفعل مخالطته لشيوخ جامع القرويين، وزادت معرفته بدواخل عالم السياسة بفعل موقعه داخل البلاط الأميري. و في هذه الفترة كتب مسودة مقدمة كتابه العبر.
رحل ابن خلدون إلى الأندلس و التحق بحاشية السلطان محمد بن يوسف بن الأحمر أمير غرناطة، فكان مستشاره الأريب ، بحيث أغدق عليه العطايا ، ثم توترت العلاقة ما بينهما، فغادر الأندلس إلى بجاية بالجزائر سنة 1365 ، وهناك تولى لفترة قصيرة منصب الحجابة. إثر ذلك انتقل إلى بسكرة بجنوب الجزائر، و بقي بها خمس سنين بعيدا عن عالم البلاطات السلطانية، عاكفا على مطالعة كتب الفقه و كتب التاريخ الإسلامي.
هاجر إلى تلمسان ليشغل منصب حاجب الأمير أبي حمو من بني عبد الوادي، لكن بفعل الحرب ما بين بني عبد الوادي و المرينين حكام فاس قرر الرجوع من جديد إلى بسكرة، و في الطريق أسر من طرف أعوان المرينين، و لينقذ نفسه قبل بأن يخلع بيعته لأبي حمو و الاشتغال مع أعدائه المرينين. في مدينة فاس اكتوى أيضا بدسائس البلاط ، و سجن ، و لم ينجو من محبسه إلا بفعل تدخل صديقه أمير مراكش، لكنه بقي هناك و التحق بسلك التدريس في جامع القرويين . في سنة 1374 غادر فاس إلى قلعة بني سلامة في الجزائر، و بها قضى قرابة أربع سنوات انصرف خلالها إلى تحرير كتاب المقدمة الشهير، و شرع في تصنيف كتابه العبر، ثم نقحه بعد ذلك وهذبه، وألحق به تواريخ الأمم.
في سنة 1378 رجع إلى مدينة تونس عاصمة الحفصيين. و لما استقر بالحاضرة انهال عليه طلبة العلم ، فأثار ذلك حفيظة بعض شيوخ جامع الزيتونة، على رأسهم ابن عرفة. كره ابن خلدون أجواء السعاية التي كانت تلاحقه منذ شبابه في منطقة المغرب العربي، فقرر الهجرة إلى مصر سنة 1382 أيام حكم الملك الظاهر برقوق، و بالقاهرة باشر التدريس بالأزهر. هناك ذاع صيته كفقيه مالكي متبحر في علوم الدين، و في سنة 1384 عين في منصب قاضي قضاة مالكية. و في تلك السنة غرق المركب البحري الذي كان يقل زوجته و أبنائه القادمين من تونس ، فكان ذلك المصاب أخطر حدث أثر فيه، رغم كثرة المصائب التي ألمت به سابقا .
أقام ابن خلدون في مصر قرابة أربع وعشرين عاما لم يغادرها إلا سنة 1387 للحج ، و سنة 1399 لزيارة القدس ، و سنة 1400 للشام برفقة السلطان الناصر فرج الذي خرج للدفاع عنها ضد زحف المغول بقيادة تيمورلنك . بعد هزيمة الناصر فرج و عودته إلى مصر أجبر ابن خلدون على البقاء في الشام جليسا لتيمورلنك، الذي رغم فضاعته إلا أنه قدر ذكاء ابن خلدون و سعة علمه. لما ضجر من جو المعارك و من غربته داخل بلاط مغولي، استأذن ابن خلدون تيمورلنك للعودة إلى مصر على أساس أنه ذاهب لجلب كتبه التي لا يستغني عنها، لكنه في قرار نفسه كان مقررا عدم الرجوع، فأذن له. و بعد عودته إلى مصر نقح كتبه وأتمها، ثم وافته المنية في رمضان عام 1406 ، وكان حينئذ قاضي قضاة المالكية فيها، و دفن في القاهرة بمقابر الصوفية خارج باب النصر.
أهم مؤلفات ابن خلدون هو " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، الذي قدم له بمقدمة شهيرة طغت شهرتها على الكتاب نفسه. و له أيضا شرح البردة و هي كتاب في مدح الرسول، و كتاب لباب المحصل في أصول الدين ، وهو تلخيص كتاب الفخر الرازي في علم التوحيد. وكتاب في الحساب، ورسالة في المنطق.
ابن خلدون عبقري من عباقرة الإنسانية، و فيه قال المؤرخ و المفكر الأنقليزي أرنولد توينبي جملة شهيرة : " تصوّر ابن خلدون و صاغ فلسفة للتاريخ تمثل بما لا يدع أي مجال للشك أعظم عمل كان قد أنجزه الفكر البشري في كل العصور و في كل البلدان " . لقد توفرت عدة عوامل لتجعل منه ذلك الشخص الذي يحظى بإجلال كل من اطلع على آثاره، خصوصا منها كتاب المقدمة. من تلك العوامل :
* ذكاءه الفطري الذي صقله في صغره محيط عائلي متوازن، يسوده جو علمي تغذيه مكتبة عائلية تراكمت كتبها الموروثة عن أسلافه منذ وجودهم بالأندلس.
* مزاولته للتعلم بجامع الزيتونة الذي كان أثناء القرن الرابع عشر يمكن منتسبيه من الحصول على تكوين متنوع يشمل العلوم الدينية و العلوم العقلية، و كان به مدرسون يعدون من أفضل ما هو موجود آنذاك بالعالم الإسلامي.
* مخالطته للعلماء منذ صباه في تونس، و مواصلته ذلك في فاس و غرناطة و تلمسان و القاهرة . و عدم استنكافه من مناظرة أقرانه الذين كان يتمتع بمغالبتهم فكريا بالنظر إلى ذكائه الثاقب و سرعة بديهته و معرفته الموسوعية. كل ذلك ساعده على التروي في أحكامه، و في نفس الوقت دربه على الاعتداد بنفسه؛ فهو يعرف أنه استنبط علما جديدا سماه علم العمران ، و هناك من يسميه الآن علم الاجتماع أو علم الأنتروبولوجيا، حتى أن عديد الدارسين اعتبروه جد هذين العلمين المعاصرين.
* تعدد تجاربه السياسية طيلة نصف قرن، من توليه مهمة كتابة المراسلات لدى الوزير ابن تافركين بتونس سنة 1350 إلى مخالطته لتيمورلنك سنة 1400. صحيح أنه طيلة تلك الفترة لم يشغل مناصب رسمية إلا لما يناهز عشر سنوات، إلا أنه كان طوال المدة في قلب الأحداث السياسية في المناطق المتعددة التي استقر بها، سواء بإرادته كطرف في تلك الأحداث، أو بالرغم منه، أو كشاهد عيان محايد. كل ذلك متـّن معرفته بآليات تحرك الوقائع التاريخية و ساعده على صياغة منهج تاريخي عقلاني يرفض الأقوال العجائبية و الأسطورية، يعتمد الملاحظة الدقيقة للأحداث، و يقوم على مكافحة المصادر ببعضها لانتقاء أصوبها، و البحث عن الأسباب الحقيقية للسيرورات التاريخية. و ساعده أيضا على صياغة نظرية أجيال الدول : مرحلة الفتوة، فمرحلة النضج، ثم مرحلة التدهور و من ثمة الوفاة.
* شدة معرفته بالأوساط الحضرية، فهو ابن الأرستقراطية المدينية و متطبع بطبائعها، و لكنه كان أيضا عارفا بالأوساط البدوية العربية خصوصا قبائل الذواوذة المستقرين بجهة بسكرة الذين استقر قربهم قرابة خمس سنوات، و القبائل البربرية الزناتية التي كانت متوطنة بنواحي تلمسان. كل ذلك أثـّر في رسم ملامح نظرته للعمران البشري و ساعده على صياغة نظرية العصبية.
* توليه مهام القضاء في مدن متعددة ، خصوصا بمصر ، و لو أن ذلك كان بصفة متقطعة راوح فيها ما بين الإثبات والعزل بفعل دسائس البلاط و دسائس المتخاصمين، فتكونت له معرفة جيدة بخبايا النفس البشرية ، و بمشاكل المجتمع و الاقتصاد اللذان كتب فيهما فصولا عميقة و متفردة.
* توليه لمهام التدريس في مدن متعددة، أهمها تونس و فاس و القاهرة، فكان لإظهار تفوقه مجبرا على تكوين معرفة متينة ذات سمات موسوعية؛ بحيث شملت المسائل الشرعية، و التاريخ الإسلامي و الأعجمي، و الحسابيات، و الفلسفة ... كل ذلك ظهر في منهجه البحثي العقلاني المتفرد بحسب مقاييس عصره، و حتى بمقاييس الحاضر.
* قدرته على نقد نفسه، و على تعديل أفكاره و تصويبها، فهو لم يفرغ من كتابة الصيغة النهاية لكتاب العبر و مقدمته إلا سنة 1402، أي قبيل وفاته بأربع سنين، لما بلغ عمره سبعة عقود.
السلطة مبنية عند ابن خلدون على الغلبة والغلبة في العربية هو الهيمنة وصنف أول من الغلبة هي الرئاسة والغلبة إنما تكون بالعصبية الذي يسمح بالرئاسة التي تترجم chef. ان الملك صنف آخر من الرئاسة ونمط آخر من الغلبة وهي السؤدد وصاحبه متبوع وليس عليهم قهر في أحكامه والقهر هو الذي يميز الملك عن الرئاسة
Domination هي هيمنة تقليدية وكاريزماتية وقانونية نجدها عند ابن خلدون، ان الهيمنة التي مصدرها الدين والنبوة وهو مماثل لمفهوم السلطة السلطة الكاريزماتية (النبي هو كاريزم). أما الهيمنة التقليدية فتحدث عندما يتحول الملك إلى تقليد نجده عند ابن خلدون بقوله إذا استقرت الدولة استغنت عن العصبية وتصبح بالوراثة. تحول الملك إلى ملك مبني على الزمن والعادة. في حين أن الهينة القانونية الشرعية والعقلانية، اذ يؤكد ابن خلدون إلى تأكيد ضرورة بناء الحكم على القوانين عندما يصرح:" فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة في ذلك كما أن الشأن في الفرس وغيرهم
يميز ابن خلدون بين قوانين العقلاء وقوانين ترجع إلى الله التي يسميها السياسة الدينية ولكن السياسة العقلية هي مبنية على قوانين الغاية منها المصلحة العامة. كما تفوق السياسة الدينية على السياسة العقلية في علاقة بالآخرة بينما في مجال الدنيا فالتفوق يكون إلى السياسة الدينية.
النوع الآخر من الملك هو الخلافة وهنا يحيل إلى نوعين من القوانين: القانون العقلي الذي يستند إلى المصلحة العامة والشرع الذي يستند إلى النجاة في الآخرة
أنماط العمل أربعة وأنماط الهيمنة ثلاث فقط وهذا خلل في حد ذاته. أشار الخالدي خطأ شائع من قبل الباحثين حول التناقض بين الخلافة والملك، لكن الملك الذي يناقض الخلافة هو الجبروتية والكسروية بينما الملك الذي هو خلافة فهو الحكم الصالح.
حتى فكرة وجوب النبوات فهي غير برهانية في السياسة وقد تتم من دون ذلك لأن أهل المجوس لهم أنظمة سياسية ناجحة. النظرة الخلدونية العلمية هي نظرة تنسيبية تاريخية للملك.
ابن خلدون تجرأ على تفسير الدين بالسياسة والتاريخ، زمن الطرطوشي فيه أكبر من حرية الفكر والتعبير أكثر من زمن ابن خلدون ان الرغبة في الإصلاح عند ابن خلدون ليست ناتجة عن فقدانه للإيمان الديني بل متأتية من إيمانه العميق بصدقية النص الديني.
ظهور الكاريزم ضرورة تاريخية من أجل التغيير في طريقة بناء الدول من قدوم العصبيات من البادية والسيطرة على الحكم في المدينة إلى الاعتماد على دعوة دينية تتشكل كإيديولوجية تتعالى على الواقع من أجل تأسيس الدولة على الفكرة والهيمنة الأيديولوجية.
زد على ذلك أن البحث في علاقة الدين بالسياسة عند ابن خلدون والتصريح بأن ابن خلدون كانت له جرأة قراءة الدين من وجهة نظر سياسية وأن قوله بأن الدعوة السياسية ولا تقوم إلا بدعوة دينية وأن الدعوة الدينية لا تقوم إلا بالعصبية هو رأي يغلب الاجتماعي الطبيعي على الإلهي والشريعة ويجعل المقدس مجال صراع وتجاذب من طرف رجال السياسة، وهو أيضا توصيف يجعل من ابن خلدون واحد من الذين خاضوا في تجربة الإصلاح الديني عند العرب والمسلمين،
يمر معظم الباحثين في الدراسات الخلدونية سريعا على المقدمة السادسة التي تتحدث عن تعريف الإنسان على أنه "مدني بالطبع" وكأن هذا الأمر بديهي ولا يثير أي إشكال، لكن إذا كانت كلمة مدني تعني سياسي والإنسان حيواني سياسيun animal politique في المدونة القديمة فإنها لا تعني نفس الشيء في الفلسفة السياسية العربية والحديثة. فأين موطن البداهة والإشكال في ذلك؟ ولماذا يجب أن نتوقف عند هذا التعريف البديهي للإنسان ونفكر فيه؟ وما المقصود بالسياسة في المدونة القديمة والوسيطة؟ وما الذي يميز النظرة الخلدونية؟
السياسة في التصور الخلدوني وخاصة في المقدمة تعني فن تدبير الشأن الإنساني أي الحكم فحسب وليست لها علاقة بتدبير الصنائع والمنزل والمدينة، كما أن كلمة مدني وكلمة سياسي كان مصيرها الانتقال إلى كائن اجتماعيun animal sociable.
تمثل المدينة تجمع اجتماعي والسياسة تلحق فيما بعد، إن المرة الوحيدة التي تم فيها الجمع بين السياسة والمدنية في الفلسفة العربية كانت مع مفهومي العلم المدني والسياسة المدنية هي عند الفارابي ولكن ما قام به ابن خلدون هو رفض هذه المدونة القديمة.
ماهو وضع ابن خلدون في الفلسفة العربية والفلسفة العالمية من جهة التناول للمسألة السياسية ؟
ابن خلدون هو أرسطي في تفكيره السياسي وبعيدا كل البعد عن المثالية الأفلاطونية وغير أرسطي في نفس الوقت،فهو أرسطي لاحتفاظه بمفهوم المدينة ولاعتباره الإنسان مدني بالطبع في المرة الأولى دون مناقشة ذلك ولكنه عندما يتكلم عن كتاب السياسة لأرسطو فهو في الحقيقة يتحدث عن كتاب سر الأسرار المنسوب إلى أرسطو خطا وليس عن كتاب السياسة المعروف والمتداول.
السياسة عند العرب هي سياسة طوباوية تهتم بما ينبعي أن يكون وتغطي الواقع التاريخي بطبقة من التأويلات المضللة وابن خلدون يحاول أن يؤسس السياسة بمعنى الحكم المرتبط بالوازع والسلطان
من هذا المنطلق يفيد مفهوم السياسة عند بن خلدون فن الحكم وأما المفهوم القديم Polisفيعني تدبير المدن ومفهوم مدني بعيد كل البعد عن مفهوم سياسي وقريب من مفهوم اجتماعي.
من المعلوم أن ابن خلدون هبط من السماء إلى الأرض وحاول دحض الفلسفة السياسية المثالية وينتج خطاب علمي حول مجال السياسة سمي عند البعض علم السياسة وعند ابن خلدون نفسه علم العمران البشري وإقصائه للفلسفة الكلاسيكية هو إقصاء للسياسة المعيارية التي تطلب السعادة في الدنيا والآخرة لتجاوز ربط النبوة والسياسة في عيون الحكمة والكتاب العاشر من الشفاء ويحتفظ بالسياسة بالمعنى التوصيفي غير المعياري والذي يمكن أن نسميه الواقعية السياسية إلا باستثناء السياسة النبوية وذلك لانبهار الناس بالنبي.
السياسة المعيارية التوصيفية الخلدونية تتلاءم مع الاستبداد السياسي وذلك لغياب مفهوم الحرية في الفكر السياسي في الفلسفة العربية القائم على باراديغم الخضوع والطاعة والشوكة والغلبة والطاعة والعصبية.
لم يقترح ابن خلدون فلسفة سياسية جديدة بل اقترح نظرة واقعية براغماتية تعتمد على علم الفقه والسياسة الاصطلاحية والعرفية التي نقلها عن الفرس والساسانيين والهنود
ابن خلدون وحكومة المصالح العامة
الإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة
وأما ابن خلدون فهو يرى الحكومة من المصالح العامة وقد فوض أمرها إلى الأمة، والمهم في نظر الشارع أن يكون للمجتمع نظام وحكومة مقتدرة تؤمن مصالحها وتقمع الاضطرابات الداخلية وتصد هجمات العدو الأجنبي، ولا شك أن أحكام الشريعة هي الأساس لدى المسلمين في محتوى النظام وضوابط العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فالشكل النهائي لهذا النظام هو الملكية ولا شيء سواها.
فالقبول بالملكية لا ينافي في رأي ابن خلدون التدين، وإنما يعتقد أنه من القضايا المعقولة والطبيعية التي منها الملكية، والإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة.
ولما كان ابن خلدون كأسلافه قد عاش في فضاء يسود فيه التغلب ساحة السياسة، والحكم في أذهان المسلمين والمفكرين المسلمين سلطة مطلقة، لذا اعتبر الملكية المستبدة أمرا طبيعيا، وليس لديه تصور واضح عن مسؤولية الحاكم تجاه شعبه، فكيف يمكنه إذن أن يجد حلا بشريا لتحقيق وتنفيذ هذه المسؤولية أو يضع أنظمة للرقابة على السلطة السياسية؟ وبالتالي فإن الملك مسؤول أمام الله وليس أمام الشعب الذي ليس له إلا التسليم للحاكم من غير تردد.