- الخميس سبتمبر 29, 2011 2:50 am
#39286
حاولت روسيا السيطرة على الأقاليم التابعة للدولة العثمانية لاسيما البلقان مستغلة ضعف الدولة العثمانية، و فعرضت مشروعها التقسيمي على الدول الأوربية، متخذة من الدين ذريعة لإعلان الحرب على الدولة العثمانية، فروسيا كانت بحكم اعتناقها للمذهب الأرثوذكسي المسيحي تجد في نفسها وريثا للدولة البيزنطية، و كان قياصرتها يحلمون بذلك اليوم الذي يستطيعون فيه دخول القسطنطينية، التي تمكن العثمانيون سنة 1453 من فتحها، بينما كانت مصالحها الجغرافية و المادية و الاستراتيجية تقتضي منها ضرورة تحديد علاقاتها بالدولة التي تسيطر على المضايق و تحديدا مضيقي البوسفور و الدردنيل، إما عن طريق القضاء عليها، أو التغلغل في أوصالها لتحريك سياساتها، أو على الأقل ضمان حرية المرور لسفنها التجارية و الحربية في كل الأوقات بهذه الممرات، و إغلاقها أمام السفن المعادية روسيا([1] ).
وروسيا تعد أكثر الدول الأوربية اهتماما و أطماعا في البلقان، فلقد كانت خلال الفترة التي أعقبت الحروب النابليونية معنية بزيادة حجم صادراتها من القمح الذي كانت تزرعه بكميات كبيرة، وكان ميناء " أوديسا " من أهم و اشهر الموانئ التي يصدر عن طريقها، ولما كانت ولايتا "ولاشيا" و "مولدافيا" العثمانيتان في البلقان تصدران كميات كبيرة منه أيضا بصورة مكنتهما من منافسة صادرات روسيا من أوديسا، فقد سعى القيصر الروسي "نيقولا الأول"([2])، إلى السيطرة على هاتين الولايتين، بهدف التحكم في إنتاجها بما يفيد روسيا، حتى يتسنى له التحكم في البلقان المتطلع إلى روسيا([3]).
أما بالنسبة للسياسة الروسية تجاه الدولة العثمانية، فقد أضحى تدخل القيصر الروسي في شؤون الدولة العثمانية سياسة تقليدية لها، كخطوة أولى في سبيل تحقيق الأهداف الدائمة للسيطرة على المضايق (البوسفور و الدردنيل)، ومن ثم النفوذ إلى البحر المتوسط، والمياه الدافئة([4])، لذلك اتجهت سياستها خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر إلى العمل على إضعاف الدولة العثمانية، بمحاربتها و مساندة الشعوب البلقانية في ثوراتها التحررية ضد الدولة العثمانية، و انتزاع ما يمكن انتزاعه من ممتلكاتها، فعلى سبيل المثال حاولت روسيا في عشرينيات القرن التاسع عشر مساعدة اليونانيين الأرثوذكس في ثورتهم ضد الإمبراطورية العثمانية([5])، واعتقد القيصر الروسي في العام 1853 أن بامكانه طرح قضية إنهاء المسألة الشرقية بصورة جذرية، فعرض على السفير البريطاني في روسيا مشروعا لتقسيم الدولة العثمانية، تأخذ روسيا، بموجبه المضايق و تحتل الآستانة مؤقتا، أما الولايات العثمانية في أوربا فتتحد في دولة مستقلة، مقابل ذلك تأخذ بريطانيا، مصر و رودس و قبرص([6])، لكن بريطانيا رفضت ذلك المشروع.
وفيما يتعلق بحقيقة البعد الديني للصراع الروسي العثماني، فقد ظهرت قضية الأماكن المقدسة في فلسطين، و هي قضية كانت تثير عواطف جدية، و كان جوهر المشكلة يكمن في إدارة أماكن الحج في القدس، لا سيما كنيسة الميلاد في بيت لحم، في وقت حاولت الحكومة العثمانية حفظ التوازن بين المزاعم المتناقضة للكاثوليك من ناحية، والأرثوذكس من ناحية أخرى، لكن روسيا استغلت ما عرف باسم "أزمة البقاع المسيحية في فلسطين" للتحرش بالدولة العثمانية، و ترجع أصول هذه الأزمة إلى نهاية الحروب الصليبية حين أصبحت الأماكن المقدسة و ما حولها ملكا مشتركا للطوائف المسيحية جميعا، فقد كانت الكنيسة الأرثوذكسية أقوى الكنائس المسيحية داخل الدولة العثمانية باعتبارها ممثلة لأكثر من ثلاثة عشر مليون من رعايا السلطان، الذين ادعت روسيا حمايتها لهم، وفي الوقت نفسه ادعت فرنسا حمايتها للكاثوليك؛ ذلك على الرغم من أن المعاهدات التي عقدت مع الدولة العثمانية لم تنص صراحة على مثل هذه الحماية، فان الدولتين حاولتا تأكيد نفوذها على رعايا السلطان غير المسلمين عن طريق توفير حماية خاصة لكل منهما، في نفس الوقت الذي ركزت فيه مختلف الديانات و المذاهب المسيحية تنافسها في فلسطين على الطموح إلى السيطرة على كل عمل يتصل بالبقاع المسيحية المقدسة([7]).
حصل بطريرك الأرثوذكس في القدس عام 1843 على موافقة السلطات العثمانية على انفصاله عن بطريرك الآستانة، و أخذ يقوي سلطته بمساعدة القيصر و دعمه، وعلى الجانب الفرنسي قامت الحكومة الفرنسية بمساعدة الكاثوليك و طالبت بامتيازات جديدة عام 1850، فاشتد الاحتكاك بين روسيا و فرنسا، حيث حاولت كل منهما الضغط على السلطان الذي سعى إلى الالتزام بالحياد و عدم إغضاب أي من الطرفين، و على الرغم من تهديد روسيا للسلطان بقطع علاقتها الدبلوماسية معه إذا ما استسلم للضغط الفرنسي، فقد قرر السلطان في العام 1852 إعطاء بعض الامتيازات لرجال الدين الكاثوليك، أهمها تسليمهم المفاتيح الثلاثة الخاصة بالأبواب الرئيسية لكنيسة العذراء و السراديب الكائنة تحت كنيسة المهد في بيت لحم، فأدى هذا العمل بدوره إلى استياء روسيا قيصرا و شعبا، لذا أرسل القيصر مبعوثا للتفاوض مع الباب العالي بشان توطيد مركز روسيا في البقاع المسيحية المقدسة، و في الوقت نفسه حاولت كسب ود بريطانيا بتكرار عروضه السابقة الخاصة بتقسيم أملاك "الرجل المريض" و ذلك في محاولة منه لعزل فرنسا([8]). اعتقدت روسيا أن تزايد نفوذ فرنسا في الدولة العثمانية و في أوروبا يعد بمثابة دعم للاتجاهات التحريرية و الثورية في بريطانيا و ألمانيا([9]).
أثارت مسألة حيازة مفاتيح كنيسة بيت لحم العواطف، ثم انتهى هذا النزاع التافه في سنة 1852 بالتسوية التي و ضعتها الحكومة العثمانية وأثارت غضب روسيا، التي اعتقدت أن تزايد النفوذ الفرنسي في الدولة العثمانية و أوروبا يعد بمثابة دعم و تأييد للاتجاهات التحررية و الثورية في كل من بريطانية و ألمانيا، و من اجل ذلك قرر القيصر نيقولا الأول الذي سحق دون رحمة ثورة بولندا، و ساعد النمسا سنة 1848 م في القضاء على ثورة المجر، قرر إرسال بعثة إلى استنبول من أجل التفاوض مع السلطان العثماني للحصول امتيازات للرعايا الأرثوذكس([10]).
ترأس البعثة التي أرسلتها روسيا إلى استنبول "منشكوف"، بصفته سفيرا غير عادي للتفاوض في قضية الأماكن المقدسة، وذهبت هذه البعثة في ظروف كان القيصر فيها يعتقد خطأ أن بريطانيا لن تعترض سبيل اقتسام أملاك الدولة العثمانية([11])، و على الرغم من أن البعثة تظاهرت بان غرضها هو البحث في قضية الأماكن المقدسة، إلا أنه في الحقيقة لم يكن القصد من إرسالها إلا إيجاد أسباب الشقاق للتوصل إلى إعلان الحرب بحجة مقبولة لدى الدول الأوربية، فسافر هذا المبعوث من سان بطرسبورج في 10 فبراير 1853، مارا بأقاليم روسيا الجنوبية، قاصدا الأستانة و أخذ يراقب تجمع الجيوش بقرب التخوم العثمانية، و يستعرضها باحتفال زائد و ذلك لزيادة الإيهام و التأثير على أفكار رجال الدولة و عظمائها([12])، كما أن روسيا استهدفت أيضا من إرسال هذه البعثة انتزاع معاهدة جديدة لا تقل أهميتها عن معاهدة "اونكيار سكلسي"([13]).
وصل المبعوث الروسي إلى الأستانة في 9 مارس 1853 على متن سفينة حربية و معه عدد كبير من الدبلوماسيين و العسكريين الروس، لاعتقاد القيصر الروسي أن ضخامة الوفد المفاوض سيحدث أثرا عميقا في نفوس العثمانيين، و بيّن منشكوف انه ليس للقيصر مطامع شخصية في الدولة العثمانية، و إنما يهدف إلى تحقيق مطالب رعاياه في فرض حماية روسيا على رعايا السلطان الأرثوذكس([14])، أي أن البعثة حاولت التظاهر بالبحث عن السلم، مع أن الغرض الحقيقي منها هو تهديد السلطان العثماني، لكي لا يستجيب لمطالب فرنسا، وبهذا تلخصت مهمة منشكوف، الذي لم يتصف بالكياسة و اللياقة في انتزاع فرمان من الباب العالي لإرجاع الحالة في الأراضي المقدسة إلى ما كانت عليه قبل شباط (فبراير) 1852، والحصول على فرمان آخر أو أشد بتأكيد حقوق الرعايا الأرثوذكس و حماية روسيا لهم، و في حالة اعتراض فرنسا أو تهديدها للباب العالي يعقد منشكوف مع الدولة العثمانية معاهدة دفاعية سرية.
لقد أفرزت المفاوضات أن منشكوف كان رجلا متكبرا متغطرسا، يرمي قبل كل شيء إلى إذلال وزراء السلطان، لذا وجد من مهمته العمل على طرد فؤاد أفندي من منصب وزير الخارجي العثماني، و هو ما يعني امتهانا واضحا للسلطان و الوزراء و للحكومة العثمانية، فضلا عن امتعاض بريطانيا و فرنسا، اللتان اعتبرتا ذلك صدمة عنيفة للسياسة الغربية و دليلا على أن الباب العالي منحرف إلى جانب الروس، و أن مهمة منشكوف سوف تنتهي بفوز يفوق الفوز الذي سجله أدولف في مفاوضاته في اونكيار سكلسي عام 1833([15]).
طلب اللورد كلاوندون، وزير خارجية بريطانيا، من الدبلوماسي الخطير (السير ستراتفورد دي رد كليفSirstrattford de red Cliffe )([16])، أن يقطع إجازته في لندن و يعود فورا إلى مقر عمله من أجل إحباط المفاوضات الروسية العثمانية بكل وسيلة ومهما كلفه الأمر، وعلى الجانب الآخر طلبت الحكومة الفرنسية من قائد أسطولها في البحر المتوسط أن يرسل بعض وحداته إلى المياه العثمانية، و نشطت الحكومتان لعزل روسيا بعد تأكدهما أن الهدف الحقيقي لمهمة منشكوف هو تحويل قضية الأماكن المقدسة من خلاف مذهبي بين الكاثوليك و الأرثوذكس إلى أزمة سياسية تستفيد منها الحكومة الروسية، و ذلك أما بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية، أو على الأقل كسب امتيازات جديدة داخل الدولة العثمانية([17]).
و بينما كانت الحكومتان الفرنسية و البريطانية تتشاوران في الأمر، كان منشكوف، الذي زاده انتصاره على فؤاد أفندي غطرسة و استكبارا، يجمع حوله مساعديه و رجال السفارة و يتدارس معهم نصوص مذكراته إلى الباب العالي، و في 16 آذار(مارس) سلم منشكوف السلطان العثماني مذكرة، و اتبعها بأخرى في 22 من الشهر نفسه، طلب فيهما و بإلحاح شديد إنهاء مسالة الأراضي المقدسة، بحيث يضمن استمرار حقوق الأرثوذكس و يضع حدا لتعديات الرهبان، وسحب مفتاح كنيسة بيت لحم منهم، ووضع قبر السيدة العذراء في ذمة الروم وحدهم وإعطاء حرية ترميم قبة كنيسة القيامة، وفي تلك الأثناء قام السفير البريطاني في الآستانة بتشجيع الوزراء العثمانيين على الوقوف في وجه المطامع الروسية مؤكدا لهم إن بريطانيا لن تتركهم وحدهم، و شرحت الحكومة البريطانية لفرنسا في الوقت نفسه حقيقة أهداف البعثة الروسية، واقتنعت فرنسا بوجهة النظر البريطانية و بضرورة التساهل في مشكلة بيت المقدس و بيت لحم، لتضيع على الروس كل حجة للانتقال بالموضوع من خلاف مذهبي إلى مشكلة سياسية، و بناء على رغبة الحكومة البريطانية، وعملا بنصيحتها قبلت حكومة الباب العالي القسم الأكبر من المطالب الروسية الواردة في المذكرتين الروسيتين المذكورتين، وأصدر السلطان في 4 أيار (مايو) 1853 فرمانا جديدا يحل الأزمة على الوجه الذي أراده مبعوث الحكومة الروسية، بعد أن وافق سفير بريطانيا و فرنسا في الآستانة على ما ورد في الفرمان اعتقادا منهما أن ذلك سيفتح الباب في القريب لمطالب جديدة يتقدم بها منشكوف، فيكشف عن حقيقة مهمته و خفايا السياسة الروسية في الإمبراطورية العثمانية([18]).
و فعلا جاءت التطورات مؤيدة لوجهة نظر بريطانيا، فبعد أن وافقت الحكومة العثمانية على مطالب منشكوف، قدم إلى الباب العالي مذكرة جديدة طلب فيها ضرورة إعلان استقلال الجبل الأسود، و عزل وزير الصرب الذي كانت روسيا تعتبره خصما لسياستها، و بعد مناقشة هذه المذكرة الجديدة مع سفير بريطانيا في الآستانة كتب الباب العالي إلى منشكوف يقول له، أن ما طلبه اعتداء على حقوق السلطان و تدخلا صريحا في شؤون الدولة العثمانية، و خروجا عن مهمته التي انتهت بصدور فرمان في 4 أيار، كما اخبره فيه بان الباب العالي لن يقوم على أي تغيير للأوضاع الراهنة في البلقان، إلا بعد أخذ رأي الدول الأوربية الأخرى و موافقتها، فشكل هذا الرد صدمة لمنشكوف الذي أرسل بدوره إلى الباب العالي مشروع معاهدة في 5 أيار 1853 م على غرار معاهدة اونكيار سكلسي، و أرفقه بمذكرة تحمل صفة الإنذار، أكد فيها انه لا يعتبر فرمان 4 أيار كافيا، و طلب الاعتراف لروسيا بحق الأرثوذكس في حماية مطلقة غير مقيدة، و أعطى الحكومة العثمانية مهلة للرد على مذكرته تنتهي في10 أيار، يكون بعدها القيصر الروسي حرا في التصرف كما يشاء لتامين المصالح الروسية، و اعتمد السلطان العثماني على رفض كل من بريطانيا و فرنسا، للموافقة على الطلب الروسي، و في النهاية اخبر الديوان منشكوف قبل نهاية مدة الإنذار، أنه لا يعتقد أن السلطان مستعدا لتوقيع أي معاهدة تنال من استقلاله، و تحد من سلطته الشرعية على رعاياه، أما الروم الأرثوذكس فأكد أنهم يتمتعون في ظل السلطان بحرياتهم كاملة، و خاطبه بما نصه: "و إذا أردت دليلا على هذا فان التظاهرات الواسعة التي قام بها الأرثوذكس احتفاء بك يوم وصولك إلى الآستانة، بدون أن تمس حريتهم بأقل مساس أوضح الأدلة"([19]).
حدد الديوان لمنشكوف الثالث عشر من أيار، أي بعد انقضاء المهلة بثلاثة أيام موعدا لمقابلة السلطان و تسلم الرد على مذكرته، و في ذلك اليوم توفيت والدة السلطان، فطلب الديوان من منشكوف تأجيل المقابلة إلى يوم آخر، و لكنه أصر على المقابلة في موعدها، فاستاء السلطان كثيرا و أصدر في الحال أمر بإقالة الوزراء جميعا، و إسناد الصدارة العظمى إلى رشيد باشا و أدخل في الوزارة أشد الساسة العثمانيين عداء لروسيا، و في 17 أيار، بلغ منشكوف قرارا من مجلس الوزراء الجديد، و هيئة العلماء برفض المطالب الروسية، ورد إنذار 5 أيار 1853([20])، و بهذا قطع السفير الروسي العلاقات مع الباب العالي، و غادر الآستانة على متن إحدى المراكب الروسية في 18 أيار مهددا الدولة العثمانية باحتلال الجنود الروسي لإمارتي "الأفلاق و البغدان".
و بذلك فشلت المفاوضات الروسية العثمانية، و تقدمت القوات الروسية لاحتلال ولايتي الدانوب. لتبدأ من هنا حرب القرم، التي شغلت مكانا فريدا في تاريخ أوروبا خلال القرن التاسع عشر، و في الحقيقة تعد آخر حرب دارت على نطاق واسع دون الاعتماد فيها على إمكانات العلم الحديثة، إذ اشتركت فيها دول أوروبية إلى جانب الدولة العثمانية كان لها أهدافا و مطامع جعلتها تقف في صف العثمانيين ضد روسيا، معلنة رفضها أي مشروع لتقسيم الدولة العثمانية بين الدول الأوروبية.
فبعد فشل المفاوضات الروسية العثمانية و رفض السلطان العثماني للمطالب الروسية المتعلقة بإعلان الحماية على الأرثوذكس من رعايا الدولة العثمانية الذين يزيد عددهم على عشرة ملايين نسمة، أعلنت روسيا الحرب ضد الدولة العثمانية عام 1853([21])، فعبرت القوات الروسية نهر بروت الفاصل بين أملاك الدولتين و احتلت ولايتي الدانوب (رومانيا فيما بعد) في الثالث من يوليو 1853 التابعتين للسلطان العثماني من الناحية الاسمية، بحجة أن ذلك تدبير وقائي، أعقب ذلك نشاط دبلوماسي أوروبي للحيلولة دون حدوث حرب أوروبية([22])، فوجه السلطان العثماني إنذارا إلى روسيا بضرورة إخلاء الولايتين، و إلا فإنه يضطر لإعلان الحرب عليها، في وقت دعمت بريطانيا و فرنسا الموقف العثماني و تقدمت الجيوش العثمانية بقيادة عمر باشا([23])، الذي تمكن من تحقيق انتصارات هامة على الجيش الروسي، عندما طرده إلى مناطق ما وراء الدانوب و انتصر عليه في القفقاس([24])، كما وصل الأسطولان الفرنسي و البريطاني إلى مضيق البوسفور للتدخل إلى جانب الدولة العثمانية، فهاجم الأسطول الروسي ميناء سينوب العثماني على البحر الأسود، و دمر السفن العثمانية المتواجدة فيه بعد معركة شرسة في تشرين الثاني 1853، و على الرغم من انضمام بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية فان روسيا لم تتراجع عن موقفها، مما اضطر الطرفين إلى إعلان الحرب ضدها([25]).
اختلفت مواقف الدول الأوروبية تجاه النزاع الروسي العثماني، فتدخلت بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية في هذه الحرب، بسبب أن لكل من الدولتين أهداف تريدان تحقيقها عن طريق الاشتراك بهذه الحرب، أي أن التدخل البريطاني الفرنسي ضد روسيا لم يكن حبا في الدولة العثمانية و للمحافظة على أملاكها، إنما كان الطرفان يريدان الإبقاء على الدولة العثمانية ضعيفة حتى يسهل الانقضاض عليها فريسة سهلة، ففي أعقاب الحروب النابليونية نشطت حركة الاختراعات في مجالات النقل البري و البحري على سكك حديدية بين أوروبا و الشرق الأقصى، و أخذت بريطانيا تفكر في مد خط ملاحي في انهار العراق، أو مد خط حديدي بين الإسكندرونة و الموصل و بغداد و البصرة، بغرض تامين الاتصال السريع بالشرق الأقصى، و كانت ترى ضرورة منع روسيا من الوصول إلى منطقة الشرق الأدنى، بينما كانت وجهة النظر الروسية مختلفة تماما، و هي ضرورة حصولها على القسطنطينية، مقابل قيام بريطانيا بمثل هذه المشروعات في العراق و مصر لتتوازن معها، في وقت كان مفهوم التوازن الدولي عند بريطانيا، يتلخص بسياسة الدفاع عن كيان الدولة العثمانية لمنع روسيا من الوصول إلى المضايق([26])، وظل هذا الموقف البريطاني ثابتا ومعروفا منذ بروز روسيا قوة كبرى مناوئة للدولة العثمانية و مزاحمة لبريطانيا في مناطق نفوذها في البحر المتوسط والهند وفارس. لقد كانت بريطانيا تريد الإبقاء على الدولة العثمانية و تريد المحافظة على سلامتها ضمانا لمصالح كثيرة، فضلا عن حرصها على استمرار السلم الأوروبي، و عدم الإخلال بتوازن القوة في أوروبا([27])، كما استهدفت حماية طريق الهند، عن طريق إبقاء الدولة العثمانية كحاجز لمواجهة التوسع الروسي وعرقلته، لهذا اتجهت إلى إتباع سياسة تتلخص في الدفاع عن الدولة العثمانية، و مساندة حركة الإصلاحات فيها([28]). ولكن بإبقائها ضعيفة لأن من شان ذلك في المنظور البريطاني، جعل ميزان القوى الدولية في صالح بريطانيا، وأن توسع أي دولة أوروبية على حساب الدولة العثمانية أو أملاكها، يقلب ميزان القوى، و هناك سبب آخر جعل بريطانيا تحاول الإبقاء عليها ضعيفة، أنها كانت تريد أن تنقض عليها فريسة سهلة في الوقت المناسب، و تحصل على النصيب الأكبر منها بما يؤمن مصالحها الاستعمارية، فأخذت بريطانيا تزحف على الخليج العربي منذ أن وضعت أقدامها في الهند، فمنذ أواخر القرن الثامن عشر ظهر اهتمام بريطانيا بصداقة الدول العثمانية، و رأت أن مصالحها الاستعمارية و التجارية و الاستراتيجية تفرض عليها أن تعارض كل تقسيم للدولة العثمانية أو الاعتداء على أرضها، من هذا نفهم سبب رفضها استيلاء فرنسا على مصر و الذي وجدت فيه خطرا يهدد مصالحها في الشرق، لذلك تحالفت مع الدولة العثمانية لإخراج الفرنسيين، و أخذت مذ ذاك تلعب دورا هاما في المسالة الشرقية([29])، و تطبيقا لذلك وقفت أيضا إلى جانب العثمانيين ضد محمد علي عام 1840 كي لا يقيم قوة عربية جديدة في الشرق.
أما فرنسا فقد ربطتها بالدولة العثمانية علاقات ودية منذ أن قام السلطان العثماني بإعطاء الرعايا الفرنسيين امتيازات داخل الدولة العثمانية، و من بينها الإعفاء من الضرائب و منح الحكومة الفرنسية بعض الحقوق في الأماكن المقدسة في فلسطين، الأمر الذي انعكس سلبا على روسيا، فسعت للحصول على امتيازات مماثلة للامتيازات التي حصل عليها الرعايا الفرنسيين([30])، لكن موقف فرنسا تجاه النزاع الروسي العثماني اختلف عن الموقف البريطاني بسبب اختلاف المصالح الفرنسية، فقد كان الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث([31])، يعتبر بلده طرفا رئيسيا في هذا النزاع، كونه يتطلع إلى كسب تأييد الحزب الكاثوليكي في فرنسا وبذا يستهدف من دخوله السيطرة على الأماكن المقدسة، و يسعى لتحقيق بعض الانتصارات الخارجية من أجل إخراج فرنسا من عزلتها بعد مؤتمر فيينا عام 1815، و تمزيق التسوية التي أفقدتها حدودها الطبيعية([32])، كما كانت فرنسا تهدف من تدخلها إلى جانب الدولة العثمانية، حرمان روسيا من نفوذها في البلقان، بعد هزيمتها أمام الدولة العثمانية، و منع مرابطة السفن الحربية الروسية في البحر الأسود، و عودة ولايتي الأفلاق و البغدان للسيطرة العثمانية([33]).
لكن المنافسة الدولية و الأطماع الاستعمارية أدت إلى تذبذب السياسة الفرنسية إزاء الدولة العثمانية فوقفت بجانبها في بعض المواقف، ووقف ضدها في مواقف أخرى، فعندما استؤنف القتال بين فرنسا و الدول الأوروبية سنة 1803 أغرى نابليون بالانضمام إليه، و إعلان الحرب على أعدائه عام 1806، ثم تخلى عنها، كما أن فرنسا ساندت الثورة اليونانية (1821_1830) ضد الدولة العثمانية، كما ساندت محمد علي في حركته الانفصالية عن الدولة العثمانية (1830_1840)، فضلا عن أنها تحالفت مع الدولة العثمانية في حرب القرم ضد روسيا، في نفس الوقت الذي كانت تتطلع للاستيلاء على المغرب العربي الخاضع للعثمانيين، فدبرت مؤامرة الجزائر 1830([34]).
وهكذا أجبرت المصالح الدول الأوربية على الاصطفاف في هذه الحرب كل في المكان الذي يرى أنه يحقق مصالحه، بدا الحلفاء هجومهم على شبه جزيرة القرم، و حدثت معركة سيواستوبول بعد أن انضمت بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية، و ذلك في 6 شباط (فبراير) 1854، بهدف القضاء على قوة روسيا في البحر الأسود، بعد أن جلت روسيا عن ولايتي الدانوب نتيجة لضغوط النمسا و تهديداتها، و على الرغم من احتلال النمسا للولايتين، فان بريطانيا و فرنسا نقلتا الحرب إلى شبه جزيرة القرم، باتجاه ميناء سيواستوبول، القاعدة البحرية الروسية في شبه الجزيرة؛ فقام الحلفاء بحصار الميناء مدة عام كامل لاقوا خلاله مصاعب كبيرة، بسبب برودة الجو فضلا عن تفشي وباء الكوليرا بين الحلفاء خلال المراحل الأولى للحرب، و كلف احتلال سيواستوبول أكثر من خمسة وعشرين ألف قتيل من جميع الأطراف، و من بينهم قادة كبار من الطرفين([35])، و بعد سلسلة من المعارك بين الطرفين سقط ميناء سيواستوبول في 9 أيلول 1855، و انهزم الروس، و لكن كفة روسيا في جبهة القفقاس رجحت بعد أن استولوا على مدينة قارص، و بذلك تم وضع نهاية للحرب([36]).
بعد سقوط ميناء سيواستوبول بمدة قصيرة، توفي القيصر الروسي نيقولا الأول، و خلفه في الحكم الاسكندر الثاني([37])، الذي عرف بتركيزه الاهتمام على أمور روسيا الداخلية، و لما شعر بان متابعة الحرب أصبح أمرا صعبا، في ظل الأزمة المالية التي تعانيها روسيا، و خسائر الأسطول الروسي، فضلا عن الهزائم التي حلت بجيشه في الحرب، فجنح إلى السلم([38])، و أمام شعور النمساويين بان نهاية الحرب باتت وشيكة، أرسلت النمسا أوائل عام 1856 إنذارا إلى روسيا، فأجابت روسيا بالقبول، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار الحرب([39])، وتم الاتفاق بين النمسا و بريطانيا و فرنسا بعد مداولات مستفيضة على شروط الصلح التي كانت قد قدمتها النمسا إلى روسيا، منذ كانون أول 1855 بصورة إنذار للانضمام إلى الحلفاء في حالة رفضها([40])، و على أثر الموافقة الروسية تم عقد مؤتمر الصلح في باريس في 30 آذار 1856.
أن تمكن الفرنسيين و الإنكليز من تحقيق هدفهم في تحطيم الأسطول الروسي، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى عقد الصلح، لأنه يكون في مقدور روسيا القيام في حوض البحر المتوسط، و تم تثبيت السيطرة البحرية الكاملة للحلفاء في البحر الأسود، فاكتفى الحلفاء بهذا النصر ورفضوا التقدم وراء سيواستوبول، كما أن السبب الآخر هو اختلاف وجهات النظر الفرنسية عن البريطانية من حيث استمرار الحرب، لأن نابليون الثالث أصرّ على وقف هذه الحرب، الأمر الذي أرغم حلفائه على وقفها، مع أنهم كانوا يريدون الاستمرار فيها بغية إذلال روسيا تماما، و من ثم يتم القضاء على دورها في السياسة الأوروبية، في وقت أصبح بوسع الرأي العام الأوروبي متابعة سير العمليات الحربية خطوة خطوة بفضل المراسلين العسكريين و الصور الفوتوغرافية، و التي بدأت بالظهور في الصحف([41]).
تضمنت معاهدة باريس عدة نقاط هامة، أهمها حرية الملاحة في نهر الدانوب، و تشكيل لجنة دولية للإشراف على ذلك، و الاعتراف بالسيادة العثمانية على المضايق، و إعلان حياد البحر الأسود، على أن كل من ولايتي الأفلاق و البغدان باستقلال ذاتي ضمن الدولة العثمانية، وأن يحترم استقلال الدولة العثمانية، وعدم التدخل في شؤونها مقابل أن تتعهد بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان([42])، كما تضمنت اعتراف السلطان بالمساواة التامة بين رعاياه على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، أي أنه لا يحق لأي دولة أجنبية التدخل في شؤون رعايا السلطان([43]). و من البنود الأخرى التي تضمنتها المعاهدة قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بين الدولة العثمانية وغيرها من الدول، و حرية الملاحة في نهر الطونة، وإعادة سيواستوبول إلى روسيا، مقابل أن تكون قارص للدولة العثمانية([44])، ومن ثم تسترجع ولايتي الدانوب وضعهما (الاستقلال الذاتي) تحت سيادة السلطان العثماني، بشرط بقائهما تحت الضمانة المشتركة للدول الكبرى التي وعدت بعدم التدخل في شؤونها في المستقبل، فضلا عن محافظة صربيا على استقلالها الذاتي تحت سيادة السلطان، ووفق الضمان المشترك من جانب الدول، و احتفظ العثمانيون بحق وضع حاميات في الأراضي الصربية، كما وعدت الدول بالتوسط لحل أي خلاف عثماني صربي([45]).
فيما كانت المفاوضات جارية من اجل عقد الصلح بين روسيا و الدولة العثمانية، كان السلطان العثماني عبد الحميد يعد وثيقة جديدة للإصلاح عرفت باسم "خط همايون"، صدر هذا الخط قبل أسبوع من عقد مؤتمر باريس 1856، أي في يوم 18 شباط 1856، و اتخذت الدولة العثمانية وفقا لمضمون هذا الخط خطوات إصلاحية إيجابية لخير رعاياها، فأقر السلطان كافة المبادئ التي وردت في خط شريف كولخانة 1839، والتي يتعلق أكثرها بحقوق الطوائف غير الإسلامية و مصالحها، إذ تضمن الخط بصفة خاصة بالتأكيد على مبدأ المساواة القانونية و المدنية لكافة رعايا الدولة و حقوقهم في خدمتها([46]).
لقد كان الخط الهمايوني أدق بكثير و أكثر تفصيلا من خط شريف كولخانة 1839، فهو يضمن للطوائف غير المسلمة احترام حصانتها التقليدية و حرية العبادة، و ممارسة شعائرها الدينية و بناء معابدها بشروط يتوافر فيها التسامح([47]). كما أكد الخط الهمايوني على المساواة في المعاملة بين جميع الطوائف ومنع استعمال الألفاظ التي تحط من قيمة غير المسلمين، و تأمين الحرية الدينية لأهل كل المذاهب، و إفساح المجال أمام كافة رعايا السلطان للمساهمة في خدمة الدولة و ذلك عن طريق تعيينهم في الوظائف واستفادتهم من خدمات الدولة التعليمية، بالإضافة إلى إنشاء محاكم مختلفة للفصل في القضايا المدنية و الجنائية، وأما الدعاوى الخاصة بالأحوال الشخصية و الإرث فتحال إلى المحاكم الشرعية بالنسبة للمسلمين، و إلى المحاكم الطائفية بالنسب لغير المسلمين([48])، والمساواة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق و الواجبات، لا سيما في مجال الخدمة العسكرية، فأصبح الجميع يخضعون لقانون التجنيد العسكري، و تم إعادة تنظيم الهياكل الإدارية، كما أصبح جميع رعايا الإمبراطورية متساوين فيما يتعلق بالضرائب، و القضاء، و كذلك الالتحاق بمدارس واحدة([49]).
و على الرغم من أن الخط الهمايوني جاء نتيجة للضغط الخارجي، على عكس خط شريف كولخانة، فقد تشابه الخطان في كثير من النقاط، فكلاهما صدر بمرسوم سلطاني جاد اللهجة، وتكررت في الخط الهمايوني الضمانات التي أعلنت في عام 1839، و أن كانت هناك بعض الاختلافات، فخط 1856 م كان أكثر دقة في تحديد التغييرات الواجب إجراؤها، و لم يظهر فيه انقسام الشخصية الذي اتضح في الخط السابق، كما أن صيغته كانت أكثر عصرية، و أكثر اقتباسا عن الغرب بصورة لم تعهد من قبل في الوثائق العثمانية، و ذلك لأنه لم يستشهد بآية قرآنية واحدة أو بقوانين الإمبراطورية القديمة وأمجادها، وكان ذلك أمرا خطيرا من الناحية النفسية، و أن لم يكن المرسوم برمته يتطلع إلى الأمام أكثر مما يستوحي الماضي، و لقد أكد المرسوم من جديد على تطبيق الخدمة العسكرية على المسلمين وغير المسلمين، كما نص على المحافظة على الحقوق والامتيازات التي تمتع بها رؤساء الملل الإسلامية، و تمتع كل ملل الإمبراطورية بمواطنة عثمانية عامة، ووعد السلطان بإيجاد نظام ضريبي أكثر عدالة، كما وعد بتبويب القانون الجنائي والتجاري، وإصلاح نظام السجون، وإنشاء محاكم مختلطة في القضايا الخاصة بالمسلمين وغير المسلمين([50]).
وهكذا أكد الخط الهمايوني بشكل خاص على المساواة المدنية والاجتماعية لجميع رعايا الدولة، واعترف بمساواتهم في خدمة الحكومة، ولكن مبدأ المساواة لم يطبق تماما؛ فقد ظلت الخدمة العسكرية محصورة بالمسلمين وحدهم، كما ظلت الوظائف الإدارية والقضائية شبه محصورة بالمسلمين، وظلت الدول الأوروبية تدّعي حماية الطوائف المسيحية، ففرنسا تدّعي حماية الكاثوليك، وروسيا تعتبر نفسها حامية للأرثوذكس، وبريطانيا تعد نفسها حامية البروتستانت([51]). وكان من أهم أهداف خط شريف كولخانة استثارة عطف الدول الكبرى على الدولة العثمانية، وكذلك استهداف الخط مساندة الأوروبيين للدولة ضد روسيا التي ما لبثت أن وافقت على شروط النمسا والتي بني عليها صلح باريس عام 1856 الموقع عليه من قبل الدول الكبرى، و مملكة بيدمونت و الدولة العثمانية([52]).
نستنتج أن حرب القرم التي دارت بين روسيا من جهة وبين الدولة العثمانية وحلفائها من جهة أخرى، بدأت عندما أخذت روسيا كعادتها في إثارة المشاكل ضد الدولة العثمانية و اتخذت من الدين ذريعة لإعلان الحرب ضدها، حيث رغب كل من القيصر نيقولا الأول و الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في الظهور بمظهر حامي المسيحيين في بيت المقدس و ما حولها، فالقيصر نيقولا يدعى حمايته لطائفة الأرثوذكس، ونابليون الثالث يطالب بالمزيد من الامتيازات للمسيحيين هناك من رعايا الكنيسة الكاثوليكية، واشتد التنافس بين روسيا و فرنسا من ناحية، والدولة العثمانية من ناحية أخرى، وحدثت حرب القرم في شبه جزيرة القرم، و كان من أهم المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية ضد روسيا معركة سيواستوبول في 9 أيلول 1855، و كلف احتلالها أكثر من 25 ألف قتيل من جميع الأطراف، ثم وضعت نهاية لحرب القرم بعقد مؤتمر باريس سنة 1856 م .
بينت حرب القرم ما كانت عليه روسيا من ضعف، فقد كانت الدول تظن أن روسيا أقوى بكثير من حقيقتها، و لم يعد لها بعد حرب القرم قيمة كبيرة في مسائل أوروبا. كما كان لحرب القرم انعكاسات هامة داخل الدولة العثمانية، حيث تم إصدار مجموعة من الإصلاحات و التنظيمات من بينها الخط الهمايوني، أما على الصعيد العالمي فقد كان لهذه الحرب انعكاسات هامة على الدول الأوروبية فمن بين ابرز هذه الانعكاسات أنها حطمت التحالف الروسي النمساوي، و بذلك أصبح بمقدور الشعوب التواقة للتحرر و الاستقلال تحقيق أهدافها، و خاصة ألمانيا وإيطاليا، حيث أصبحت أوضاع أوروبا أكثر ملاءمة لتحقيق وحدتها، و قد انصرفت روسيا بعد الحرب إلى الاهتمام بشؤونهما الداخلية، و أهملت شؤون القارة إلى حد ما، يضاف إلى ذلك أن ما حدث في الحرب من بؤس و عذاب و أمراض أثارت الرأي العام الأوروبي، و ساعد ذلك فيما بعد على ظهور منظمة الصليب الأحمر، كما أن البيان الذي صدر عن مؤتمر باريس 1856 وضع الأسس والقواعد الدولية للحصار البحري، ونص على تحريم القرصنة.
وفي النهاية يتبين أن العامل الديني لم يكن عاملا أساسيا في نشوب حرب القرم و إنما كان ذريعة اتخذتها روسيا لإعلان الحرب ضد الدولة العثمانية، من اجل تحقيق أطماعها داخل أقاليم هذه الدولة، فقامت بعرض مشروع تقسيم أملاك الدولة العثمانية على فرنسا وبريطانيا، لكن هاتين الدولتين رفضتا المشروع الروسي، ليس من منطلق مساندة الدولة العثمانية والمحافظة على أملاكها، إنما كان مبنيا على رغبة بريطانية و فرنسية في الإبقاء على الدولة العثمانية ضعيفة، حتى يتسنى لهما السيطرة على الأقاليم الخاضعة لها في مراحل قادمة.
حاولت روسيا السيطرة على الأقاليم التابعة للدولة العثمانية لاسيما البلقان مستغلة ضعف الدولة العثمانية، و فعرضت مشروعها التقسيمي على الدول الأوربية، متخذة من الدين ذريعة لإعلان الحرب على الدولة العثمانية، فروسيا كانت بحكم اعتناقها للمذهب الأرثوذكسي المسيحي تجد في نفسها وريثا للدولة البيزنطية، و كان قياصرتها يحلمون بذلك اليوم الذي يستطيعون فيه دخول القسطنطينية، التي تمكن العثمانيون سنة 1453 من فتحها، بينما كانت مصالحها الجغرافية و المادية و الاستراتيجية تقتضي منها ضرورة تحديد علاقاتها بالدولة التي تسيطر على المضايق و تحديدا مضيقي البوسفور و الدردنيل، إما عن طريق القضاء عليها، أو التغلغل في أوصالها لتحريك سياساتها، أو على الأقل ضمان حرية المرور لسفنها التجارية و الحربية في كل الأوقات بهذه الممرات، و إغلاقها أمام السفن المعادية روسيا([1] ).
وروسيا تعد أكثر الدول الأوربية اهتماما و أطماعا في البلقان، فلقد كانت خلال الفترة التي أعقبت الحروب النابليونية معنية بزيادة حجم صادراتها من القمح الذي كانت تزرعه بكميات كبيرة، وكان ميناء " أوديسا " من أهم و اشهر الموانئ التي يصدر عن طريقها، ولما كانت ولايتا "ولاشيا" و "مولدافيا" العثمانيتان في البلقان تصدران كميات كبيرة منه أيضا بصورة مكنتهما من منافسة صادرات روسيا من أوديسا، فقد سعى القيصر الروسي "نيقولا الأول"([2])، إلى السيطرة على هاتين الولايتين، بهدف التحكم في إنتاجها بما يفيد روسيا، حتى يتسنى له التحكم في البلقان المتطلع إلى روسيا([3]).
أما بالنسبة للسياسة الروسية تجاه الدولة العثمانية، فقد أضحى تدخل القيصر الروسي في شؤون الدولة العثمانية سياسة تقليدية لها، كخطوة أولى في سبيل تحقيق الأهداف الدائمة للسيطرة على المضايق (البوسفور و الدردنيل)، ومن ثم النفوذ إلى البحر المتوسط، والمياه الدافئة([4])، لذلك اتجهت سياستها خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر إلى العمل على إضعاف الدولة العثمانية، بمحاربتها و مساندة الشعوب البلقانية في ثوراتها التحررية ضد الدولة العثمانية، و انتزاع ما يمكن انتزاعه من ممتلكاتها، فعلى سبيل المثال حاولت روسيا في عشرينيات القرن التاسع عشر مساعدة اليونانيين الأرثوذكس في ثورتهم ضد الإمبراطورية العثمانية([5])، واعتقد القيصر الروسي في العام 1853 أن بامكانه طرح قضية إنهاء المسألة الشرقية بصورة جذرية، فعرض على السفير البريطاني في روسيا مشروعا لتقسيم الدولة العثمانية، تأخذ روسيا، بموجبه المضايق و تحتل الآستانة مؤقتا، أما الولايات العثمانية في أوربا فتتحد في دولة مستقلة، مقابل ذلك تأخذ بريطانيا، مصر و رودس و قبرص([6])، لكن بريطانيا رفضت ذلك المشروع.
وفيما يتعلق بحقيقة البعد الديني للصراع الروسي العثماني، فقد ظهرت قضية الأماكن المقدسة في فلسطين، و هي قضية كانت تثير عواطف جدية، و كان جوهر المشكلة يكمن في إدارة أماكن الحج في القدس، لا سيما كنيسة الميلاد في بيت لحم، في وقت حاولت الحكومة العثمانية حفظ التوازن بين المزاعم المتناقضة للكاثوليك من ناحية، والأرثوذكس من ناحية أخرى، لكن روسيا استغلت ما عرف باسم "أزمة البقاع المسيحية في فلسطين" للتحرش بالدولة العثمانية، و ترجع أصول هذه الأزمة إلى نهاية الحروب الصليبية حين أصبحت الأماكن المقدسة و ما حولها ملكا مشتركا للطوائف المسيحية جميعا، فقد كانت الكنيسة الأرثوذكسية أقوى الكنائس المسيحية داخل الدولة العثمانية باعتبارها ممثلة لأكثر من ثلاثة عشر مليون من رعايا السلطان، الذين ادعت روسيا حمايتها لهم، وفي الوقت نفسه ادعت فرنسا حمايتها للكاثوليك؛ ذلك على الرغم من أن المعاهدات التي عقدت مع الدولة العثمانية لم تنص صراحة على مثل هذه الحماية، فان الدولتين حاولتا تأكيد نفوذها على رعايا السلطان غير المسلمين عن طريق توفير حماية خاصة لكل منهما، في نفس الوقت الذي ركزت فيه مختلف الديانات و المذاهب المسيحية تنافسها في فلسطين على الطموح إلى السيطرة على كل عمل يتصل بالبقاع المسيحية المقدسة([7]).
حصل بطريرك الأرثوذكس في القدس عام 1843 على موافقة السلطات العثمانية على انفصاله عن بطريرك الآستانة، و أخذ يقوي سلطته بمساعدة القيصر و دعمه، وعلى الجانب الفرنسي قامت الحكومة الفرنسية بمساعدة الكاثوليك و طالبت بامتيازات جديدة عام 1850، فاشتد الاحتكاك بين روسيا و فرنسا، حيث حاولت كل منهما الضغط على السلطان الذي سعى إلى الالتزام بالحياد و عدم إغضاب أي من الطرفين، و على الرغم من تهديد روسيا للسلطان بقطع علاقتها الدبلوماسية معه إذا ما استسلم للضغط الفرنسي، فقد قرر السلطان في العام 1852 إعطاء بعض الامتيازات لرجال الدين الكاثوليك، أهمها تسليمهم المفاتيح الثلاثة الخاصة بالأبواب الرئيسية لكنيسة العذراء و السراديب الكائنة تحت كنيسة المهد في بيت لحم، فأدى هذا العمل بدوره إلى استياء روسيا قيصرا و شعبا، لذا أرسل القيصر مبعوثا للتفاوض مع الباب العالي بشان توطيد مركز روسيا في البقاع المسيحية المقدسة، و في الوقت نفسه حاولت كسب ود بريطانيا بتكرار عروضه السابقة الخاصة بتقسيم أملاك "الرجل المريض" و ذلك في محاولة منه لعزل فرنسا([8]). اعتقدت روسيا أن تزايد نفوذ فرنسا في الدولة العثمانية و في أوروبا يعد بمثابة دعم للاتجاهات التحريرية و الثورية في بريطانيا و ألمانيا([9]).
أثارت مسألة حيازة مفاتيح كنيسة بيت لحم العواطف، ثم انتهى هذا النزاع التافه في سنة 1852 بالتسوية التي و ضعتها الحكومة العثمانية وأثارت غضب روسيا، التي اعتقدت أن تزايد النفوذ الفرنسي في الدولة العثمانية و أوروبا يعد بمثابة دعم و تأييد للاتجاهات التحررية و الثورية في كل من بريطانية و ألمانيا، و من اجل ذلك قرر القيصر نيقولا الأول الذي سحق دون رحمة ثورة بولندا، و ساعد النمسا سنة 1848 م في القضاء على ثورة المجر، قرر إرسال بعثة إلى استنبول من أجل التفاوض مع السلطان العثماني للحصول امتيازات للرعايا الأرثوذكس([10]).
ترأس البعثة التي أرسلتها روسيا إلى استنبول "منشكوف"، بصفته سفيرا غير عادي للتفاوض في قضية الأماكن المقدسة، وذهبت هذه البعثة في ظروف كان القيصر فيها يعتقد خطأ أن بريطانيا لن تعترض سبيل اقتسام أملاك الدولة العثمانية([11])، و على الرغم من أن البعثة تظاهرت بان غرضها هو البحث في قضية الأماكن المقدسة، إلا أنه في الحقيقة لم يكن القصد من إرسالها إلا إيجاد أسباب الشقاق للتوصل إلى إعلان الحرب بحجة مقبولة لدى الدول الأوربية، فسافر هذا المبعوث من سان بطرسبورج في 10 فبراير 1853، مارا بأقاليم روسيا الجنوبية، قاصدا الأستانة و أخذ يراقب تجمع الجيوش بقرب التخوم العثمانية، و يستعرضها باحتفال زائد و ذلك لزيادة الإيهام و التأثير على أفكار رجال الدولة و عظمائها([12])، كما أن روسيا استهدفت أيضا من إرسال هذه البعثة انتزاع معاهدة جديدة لا تقل أهميتها عن معاهدة "اونكيار سكلسي"([13]).
وصل المبعوث الروسي إلى الأستانة في 9 مارس 1853 على متن سفينة حربية و معه عدد كبير من الدبلوماسيين و العسكريين الروس، لاعتقاد القيصر الروسي أن ضخامة الوفد المفاوض سيحدث أثرا عميقا في نفوس العثمانيين، و بيّن منشكوف انه ليس للقيصر مطامع شخصية في الدولة العثمانية، و إنما يهدف إلى تحقيق مطالب رعاياه في فرض حماية روسيا على رعايا السلطان الأرثوذكس([14])، أي أن البعثة حاولت التظاهر بالبحث عن السلم، مع أن الغرض الحقيقي منها هو تهديد السلطان العثماني، لكي لا يستجيب لمطالب فرنسا، وبهذا تلخصت مهمة منشكوف، الذي لم يتصف بالكياسة و اللياقة في انتزاع فرمان من الباب العالي لإرجاع الحالة في الأراضي المقدسة إلى ما كانت عليه قبل شباط (فبراير) 1852، والحصول على فرمان آخر أو أشد بتأكيد حقوق الرعايا الأرثوذكس و حماية روسيا لهم، و في حالة اعتراض فرنسا أو تهديدها للباب العالي يعقد منشكوف مع الدولة العثمانية معاهدة دفاعية سرية.
لقد أفرزت المفاوضات أن منشكوف كان رجلا متكبرا متغطرسا، يرمي قبل كل شيء إلى إذلال وزراء السلطان، لذا وجد من مهمته العمل على طرد فؤاد أفندي من منصب وزير الخارجي العثماني، و هو ما يعني امتهانا واضحا للسلطان و الوزراء و للحكومة العثمانية، فضلا عن امتعاض بريطانيا و فرنسا، اللتان اعتبرتا ذلك صدمة عنيفة للسياسة الغربية و دليلا على أن الباب العالي منحرف إلى جانب الروس، و أن مهمة منشكوف سوف تنتهي بفوز يفوق الفوز الذي سجله أدولف في مفاوضاته في اونكيار سكلسي عام 1833([15]).
طلب اللورد كلاوندون، وزير خارجية بريطانيا، من الدبلوماسي الخطير (السير ستراتفورد دي رد كليفSirstrattford de red Cliffe )([16])، أن يقطع إجازته في لندن و يعود فورا إلى مقر عمله من أجل إحباط المفاوضات الروسية العثمانية بكل وسيلة ومهما كلفه الأمر، وعلى الجانب الآخر طلبت الحكومة الفرنسية من قائد أسطولها في البحر المتوسط أن يرسل بعض وحداته إلى المياه العثمانية، و نشطت الحكومتان لعزل روسيا بعد تأكدهما أن الهدف الحقيقي لمهمة منشكوف هو تحويل قضية الأماكن المقدسة من خلاف مذهبي بين الكاثوليك و الأرثوذكس إلى أزمة سياسية تستفيد منها الحكومة الروسية، و ذلك أما بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية، أو على الأقل كسب امتيازات جديدة داخل الدولة العثمانية([17]).
و بينما كانت الحكومتان الفرنسية و البريطانية تتشاوران في الأمر، كان منشكوف، الذي زاده انتصاره على فؤاد أفندي غطرسة و استكبارا، يجمع حوله مساعديه و رجال السفارة و يتدارس معهم نصوص مذكراته إلى الباب العالي، و في 16 آذار(مارس) سلم منشكوف السلطان العثماني مذكرة، و اتبعها بأخرى في 22 من الشهر نفسه، طلب فيهما و بإلحاح شديد إنهاء مسالة الأراضي المقدسة، بحيث يضمن استمرار حقوق الأرثوذكس و يضع حدا لتعديات الرهبان، وسحب مفتاح كنيسة بيت لحم منهم، ووضع قبر السيدة العذراء في ذمة الروم وحدهم وإعطاء حرية ترميم قبة كنيسة القيامة، وفي تلك الأثناء قام السفير البريطاني في الآستانة بتشجيع الوزراء العثمانيين على الوقوف في وجه المطامع الروسية مؤكدا لهم إن بريطانيا لن تتركهم وحدهم، و شرحت الحكومة البريطانية لفرنسا في الوقت نفسه حقيقة أهداف البعثة الروسية، واقتنعت فرنسا بوجهة النظر البريطانية و بضرورة التساهل في مشكلة بيت المقدس و بيت لحم، لتضيع على الروس كل حجة للانتقال بالموضوع من خلاف مذهبي إلى مشكلة سياسية، و بناء على رغبة الحكومة البريطانية، وعملا بنصيحتها قبلت حكومة الباب العالي القسم الأكبر من المطالب الروسية الواردة في المذكرتين الروسيتين المذكورتين، وأصدر السلطان في 4 أيار (مايو) 1853 فرمانا جديدا يحل الأزمة على الوجه الذي أراده مبعوث الحكومة الروسية، بعد أن وافق سفير بريطانيا و فرنسا في الآستانة على ما ورد في الفرمان اعتقادا منهما أن ذلك سيفتح الباب في القريب لمطالب جديدة يتقدم بها منشكوف، فيكشف عن حقيقة مهمته و خفايا السياسة الروسية في الإمبراطورية العثمانية([18]).
و فعلا جاءت التطورات مؤيدة لوجهة نظر بريطانيا، فبعد أن وافقت الحكومة العثمانية على مطالب منشكوف، قدم إلى الباب العالي مذكرة جديدة طلب فيها ضرورة إعلان استقلال الجبل الأسود، و عزل وزير الصرب الذي كانت روسيا تعتبره خصما لسياستها، و بعد مناقشة هذه المذكرة الجديدة مع سفير بريطانيا في الآستانة كتب الباب العالي إلى منشكوف يقول له، أن ما طلبه اعتداء على حقوق السلطان و تدخلا صريحا في شؤون الدولة العثمانية، و خروجا عن مهمته التي انتهت بصدور فرمان في 4 أيار، كما اخبره فيه بان الباب العالي لن يقوم على أي تغيير للأوضاع الراهنة في البلقان، إلا بعد أخذ رأي الدول الأوربية الأخرى و موافقتها، فشكل هذا الرد صدمة لمنشكوف الذي أرسل بدوره إلى الباب العالي مشروع معاهدة في 5 أيار 1853 م على غرار معاهدة اونكيار سكلسي، و أرفقه بمذكرة تحمل صفة الإنذار، أكد فيها انه لا يعتبر فرمان 4 أيار كافيا، و طلب الاعتراف لروسيا بحق الأرثوذكس في حماية مطلقة غير مقيدة، و أعطى الحكومة العثمانية مهلة للرد على مذكرته تنتهي في10 أيار، يكون بعدها القيصر الروسي حرا في التصرف كما يشاء لتامين المصالح الروسية، و اعتمد السلطان العثماني على رفض كل من بريطانيا و فرنسا، للموافقة على الطلب الروسي، و في النهاية اخبر الديوان منشكوف قبل نهاية مدة الإنذار، أنه لا يعتقد أن السلطان مستعدا لتوقيع أي معاهدة تنال من استقلاله، و تحد من سلطته الشرعية على رعاياه، أما الروم الأرثوذكس فأكد أنهم يتمتعون في ظل السلطان بحرياتهم كاملة، و خاطبه بما نصه: "و إذا أردت دليلا على هذا فان التظاهرات الواسعة التي قام بها الأرثوذكس احتفاء بك يوم وصولك إلى الآستانة، بدون أن تمس حريتهم بأقل مساس أوضح الأدلة"([19]).
حدد الديوان لمنشكوف الثالث عشر من أيار، أي بعد انقضاء المهلة بثلاثة أيام موعدا لمقابلة السلطان و تسلم الرد على مذكرته، و في ذلك اليوم توفيت والدة السلطان، فطلب الديوان من منشكوف تأجيل المقابلة إلى يوم آخر، و لكنه أصر على المقابلة في موعدها، فاستاء السلطان كثيرا و أصدر في الحال أمر بإقالة الوزراء جميعا، و إسناد الصدارة العظمى إلى رشيد باشا و أدخل في الوزارة أشد الساسة العثمانيين عداء لروسيا، و في 17 أيار، بلغ منشكوف قرارا من مجلس الوزراء الجديد، و هيئة العلماء برفض المطالب الروسية، ورد إنذار 5 أيار 1853([20])، و بهذا قطع السفير الروسي العلاقات مع الباب العالي، و غادر الآستانة على متن إحدى المراكب الروسية في 18 أيار مهددا الدولة العثمانية باحتلال الجنود الروسي لإمارتي "الأفلاق و البغدان".
و بذلك فشلت المفاوضات الروسية العثمانية، و تقدمت القوات الروسية لاحتلال ولايتي الدانوب. لتبدأ من هنا حرب القرم، التي شغلت مكانا فريدا في تاريخ أوروبا خلال القرن التاسع عشر، و في الحقيقة تعد آخر حرب دارت على نطاق واسع دون الاعتماد فيها على إمكانات العلم الحديثة، إذ اشتركت فيها دول أوروبية إلى جانب الدولة العثمانية كان لها أهدافا و مطامع جعلتها تقف في صف العثمانيين ضد روسيا، معلنة رفضها أي مشروع لتقسيم الدولة العثمانية بين الدول الأوروبية.
فبعد فشل المفاوضات الروسية العثمانية و رفض السلطان العثماني للمطالب الروسية المتعلقة بإعلان الحماية على الأرثوذكس من رعايا الدولة العثمانية الذين يزيد عددهم على عشرة ملايين نسمة، أعلنت روسيا الحرب ضد الدولة العثمانية عام 1853([21])، فعبرت القوات الروسية نهر بروت الفاصل بين أملاك الدولتين و احتلت ولايتي الدانوب (رومانيا فيما بعد) في الثالث من يوليو 1853 التابعتين للسلطان العثماني من الناحية الاسمية، بحجة أن ذلك تدبير وقائي، أعقب ذلك نشاط دبلوماسي أوروبي للحيلولة دون حدوث حرب أوروبية([22])، فوجه السلطان العثماني إنذارا إلى روسيا بضرورة إخلاء الولايتين، و إلا فإنه يضطر لإعلان الحرب عليها، في وقت دعمت بريطانيا و فرنسا الموقف العثماني و تقدمت الجيوش العثمانية بقيادة عمر باشا([23])، الذي تمكن من تحقيق انتصارات هامة على الجيش الروسي، عندما طرده إلى مناطق ما وراء الدانوب و انتصر عليه في القفقاس([24])، كما وصل الأسطولان الفرنسي و البريطاني إلى مضيق البوسفور للتدخل إلى جانب الدولة العثمانية، فهاجم الأسطول الروسي ميناء سينوب العثماني على البحر الأسود، و دمر السفن العثمانية المتواجدة فيه بعد معركة شرسة في تشرين الثاني 1853، و على الرغم من انضمام بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية فان روسيا لم تتراجع عن موقفها، مما اضطر الطرفين إلى إعلان الحرب ضدها([25]).
اختلفت مواقف الدول الأوروبية تجاه النزاع الروسي العثماني، فتدخلت بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية في هذه الحرب، بسبب أن لكل من الدولتين أهداف تريدان تحقيقها عن طريق الاشتراك بهذه الحرب، أي أن التدخل البريطاني الفرنسي ضد روسيا لم يكن حبا في الدولة العثمانية و للمحافظة على أملاكها، إنما كان الطرفان يريدان الإبقاء على الدولة العثمانية ضعيفة حتى يسهل الانقضاض عليها فريسة سهلة، ففي أعقاب الحروب النابليونية نشطت حركة الاختراعات في مجالات النقل البري و البحري على سكك حديدية بين أوروبا و الشرق الأقصى، و أخذت بريطانيا تفكر في مد خط ملاحي في انهار العراق، أو مد خط حديدي بين الإسكندرونة و الموصل و بغداد و البصرة، بغرض تامين الاتصال السريع بالشرق الأقصى، و كانت ترى ضرورة منع روسيا من الوصول إلى منطقة الشرق الأدنى، بينما كانت وجهة النظر الروسية مختلفة تماما، و هي ضرورة حصولها على القسطنطينية، مقابل قيام بريطانيا بمثل هذه المشروعات في العراق و مصر لتتوازن معها، في وقت كان مفهوم التوازن الدولي عند بريطانيا، يتلخص بسياسة الدفاع عن كيان الدولة العثمانية لمنع روسيا من الوصول إلى المضايق([26])، وظل هذا الموقف البريطاني ثابتا ومعروفا منذ بروز روسيا قوة كبرى مناوئة للدولة العثمانية و مزاحمة لبريطانيا في مناطق نفوذها في البحر المتوسط والهند وفارس. لقد كانت بريطانيا تريد الإبقاء على الدولة العثمانية و تريد المحافظة على سلامتها ضمانا لمصالح كثيرة، فضلا عن حرصها على استمرار السلم الأوروبي، و عدم الإخلال بتوازن القوة في أوروبا([27])، كما استهدفت حماية طريق الهند، عن طريق إبقاء الدولة العثمانية كحاجز لمواجهة التوسع الروسي وعرقلته، لهذا اتجهت إلى إتباع سياسة تتلخص في الدفاع عن الدولة العثمانية، و مساندة حركة الإصلاحات فيها([28]). ولكن بإبقائها ضعيفة لأن من شان ذلك في المنظور البريطاني، جعل ميزان القوى الدولية في صالح بريطانيا، وأن توسع أي دولة أوروبية على حساب الدولة العثمانية أو أملاكها، يقلب ميزان القوى، و هناك سبب آخر جعل بريطانيا تحاول الإبقاء عليها ضعيفة، أنها كانت تريد أن تنقض عليها فريسة سهلة في الوقت المناسب، و تحصل على النصيب الأكبر منها بما يؤمن مصالحها الاستعمارية، فأخذت بريطانيا تزحف على الخليج العربي منذ أن وضعت أقدامها في الهند، فمنذ أواخر القرن الثامن عشر ظهر اهتمام بريطانيا بصداقة الدول العثمانية، و رأت أن مصالحها الاستعمارية و التجارية و الاستراتيجية تفرض عليها أن تعارض كل تقسيم للدولة العثمانية أو الاعتداء على أرضها، من هذا نفهم سبب رفضها استيلاء فرنسا على مصر و الذي وجدت فيه خطرا يهدد مصالحها في الشرق، لذلك تحالفت مع الدولة العثمانية لإخراج الفرنسيين، و أخذت مذ ذاك تلعب دورا هاما في المسالة الشرقية([29])، و تطبيقا لذلك وقفت أيضا إلى جانب العثمانيين ضد محمد علي عام 1840 كي لا يقيم قوة عربية جديدة في الشرق.
أما فرنسا فقد ربطتها بالدولة العثمانية علاقات ودية منذ أن قام السلطان العثماني بإعطاء الرعايا الفرنسيين امتيازات داخل الدولة العثمانية، و من بينها الإعفاء من الضرائب و منح الحكومة الفرنسية بعض الحقوق في الأماكن المقدسة في فلسطين، الأمر الذي انعكس سلبا على روسيا، فسعت للحصول على امتيازات مماثلة للامتيازات التي حصل عليها الرعايا الفرنسيين([30])، لكن موقف فرنسا تجاه النزاع الروسي العثماني اختلف عن الموقف البريطاني بسبب اختلاف المصالح الفرنسية، فقد كان الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث([31])، يعتبر بلده طرفا رئيسيا في هذا النزاع، كونه يتطلع إلى كسب تأييد الحزب الكاثوليكي في فرنسا وبذا يستهدف من دخوله السيطرة على الأماكن المقدسة، و يسعى لتحقيق بعض الانتصارات الخارجية من أجل إخراج فرنسا من عزلتها بعد مؤتمر فيينا عام 1815، و تمزيق التسوية التي أفقدتها حدودها الطبيعية([32])، كما كانت فرنسا تهدف من تدخلها إلى جانب الدولة العثمانية، حرمان روسيا من نفوذها في البلقان، بعد هزيمتها أمام الدولة العثمانية، و منع مرابطة السفن الحربية الروسية في البحر الأسود، و عودة ولايتي الأفلاق و البغدان للسيطرة العثمانية([33]).
لكن المنافسة الدولية و الأطماع الاستعمارية أدت إلى تذبذب السياسة الفرنسية إزاء الدولة العثمانية فوقفت بجانبها في بعض المواقف، ووقف ضدها في مواقف أخرى، فعندما استؤنف القتال بين فرنسا و الدول الأوروبية سنة 1803 أغرى نابليون بالانضمام إليه، و إعلان الحرب على أعدائه عام 1806، ثم تخلى عنها، كما أن فرنسا ساندت الثورة اليونانية (1821_1830) ضد الدولة العثمانية، كما ساندت محمد علي في حركته الانفصالية عن الدولة العثمانية (1830_1840)، فضلا عن أنها تحالفت مع الدولة العثمانية في حرب القرم ضد روسيا، في نفس الوقت الذي كانت تتطلع للاستيلاء على المغرب العربي الخاضع للعثمانيين، فدبرت مؤامرة الجزائر 1830([34]).
وهكذا أجبرت المصالح الدول الأوربية على الاصطفاف في هذه الحرب كل في المكان الذي يرى أنه يحقق مصالحه، بدا الحلفاء هجومهم على شبه جزيرة القرم، و حدثت معركة سيواستوبول بعد أن انضمت بريطانيا و فرنسا إلى جانب الدولة العثمانية، و ذلك في 6 شباط (فبراير) 1854، بهدف القضاء على قوة روسيا في البحر الأسود، بعد أن جلت روسيا عن ولايتي الدانوب نتيجة لضغوط النمسا و تهديداتها، و على الرغم من احتلال النمسا للولايتين، فان بريطانيا و فرنسا نقلتا الحرب إلى شبه جزيرة القرم، باتجاه ميناء سيواستوبول، القاعدة البحرية الروسية في شبه الجزيرة؛ فقام الحلفاء بحصار الميناء مدة عام كامل لاقوا خلاله مصاعب كبيرة، بسبب برودة الجو فضلا عن تفشي وباء الكوليرا بين الحلفاء خلال المراحل الأولى للحرب، و كلف احتلال سيواستوبول أكثر من خمسة وعشرين ألف قتيل من جميع الأطراف، و من بينهم قادة كبار من الطرفين([35])، و بعد سلسلة من المعارك بين الطرفين سقط ميناء سيواستوبول في 9 أيلول 1855، و انهزم الروس، و لكن كفة روسيا في جبهة القفقاس رجحت بعد أن استولوا على مدينة قارص، و بذلك تم وضع نهاية للحرب([36]).
بعد سقوط ميناء سيواستوبول بمدة قصيرة، توفي القيصر الروسي نيقولا الأول، و خلفه في الحكم الاسكندر الثاني([37])، الذي عرف بتركيزه الاهتمام على أمور روسيا الداخلية، و لما شعر بان متابعة الحرب أصبح أمرا صعبا، في ظل الأزمة المالية التي تعانيها روسيا، و خسائر الأسطول الروسي، فضلا عن الهزائم التي حلت بجيشه في الحرب، فجنح إلى السلم([38])، و أمام شعور النمساويين بان نهاية الحرب باتت وشيكة، أرسلت النمسا أوائل عام 1856 إنذارا إلى روسيا، فأجابت روسيا بالقبول، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار الحرب([39])، وتم الاتفاق بين النمسا و بريطانيا و فرنسا بعد مداولات مستفيضة على شروط الصلح التي كانت قد قدمتها النمسا إلى روسيا، منذ كانون أول 1855 بصورة إنذار للانضمام إلى الحلفاء في حالة رفضها([40])، و على أثر الموافقة الروسية تم عقد مؤتمر الصلح في باريس في 30 آذار 1856.
أن تمكن الفرنسيين و الإنكليز من تحقيق هدفهم في تحطيم الأسطول الروسي، كان من أهم الأسباب التي أدت إلى عقد الصلح، لأنه يكون في مقدور روسيا القيام في حوض البحر المتوسط، و تم تثبيت السيطرة البحرية الكاملة للحلفاء في البحر الأسود، فاكتفى الحلفاء بهذا النصر ورفضوا التقدم وراء سيواستوبول، كما أن السبب الآخر هو اختلاف وجهات النظر الفرنسية عن البريطانية من حيث استمرار الحرب، لأن نابليون الثالث أصرّ على وقف هذه الحرب، الأمر الذي أرغم حلفائه على وقفها، مع أنهم كانوا يريدون الاستمرار فيها بغية إذلال روسيا تماما، و من ثم يتم القضاء على دورها في السياسة الأوروبية، في وقت أصبح بوسع الرأي العام الأوروبي متابعة سير العمليات الحربية خطوة خطوة بفضل المراسلين العسكريين و الصور الفوتوغرافية، و التي بدأت بالظهور في الصحف([41]).
تضمنت معاهدة باريس عدة نقاط هامة، أهمها حرية الملاحة في نهر الدانوب، و تشكيل لجنة دولية للإشراف على ذلك، و الاعتراف بالسيادة العثمانية على المضايق، و إعلان حياد البحر الأسود، على أن كل من ولايتي الأفلاق و البغدان باستقلال ذاتي ضمن الدولة العثمانية، وأن يحترم استقلال الدولة العثمانية، وعدم التدخل في شؤونها مقابل أن تتعهد بتحسين أحوال الرعايا المسيحيين في البلقان([42])، كما تضمنت اعتراف السلطان بالمساواة التامة بين رعاياه على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، أي أنه لا يحق لأي دولة أجنبية التدخل في شؤون رعايا السلطان([43]). و من البنود الأخرى التي تضمنتها المعاهدة قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بين الدولة العثمانية وغيرها من الدول، و حرية الملاحة في نهر الطونة، وإعادة سيواستوبول إلى روسيا، مقابل أن تكون قارص للدولة العثمانية([44])، ومن ثم تسترجع ولايتي الدانوب وضعهما (الاستقلال الذاتي) تحت سيادة السلطان العثماني، بشرط بقائهما تحت الضمانة المشتركة للدول الكبرى التي وعدت بعدم التدخل في شؤونها في المستقبل، فضلا عن محافظة صربيا على استقلالها الذاتي تحت سيادة السلطان، ووفق الضمان المشترك من جانب الدول، و احتفظ العثمانيون بحق وضع حاميات في الأراضي الصربية، كما وعدت الدول بالتوسط لحل أي خلاف عثماني صربي([45]).
فيما كانت المفاوضات جارية من اجل عقد الصلح بين روسيا و الدولة العثمانية، كان السلطان العثماني عبد الحميد يعد وثيقة جديدة للإصلاح عرفت باسم "خط همايون"، صدر هذا الخط قبل أسبوع من عقد مؤتمر باريس 1856، أي في يوم 18 شباط 1856، و اتخذت الدولة العثمانية وفقا لمضمون هذا الخط خطوات إصلاحية إيجابية لخير رعاياها، فأقر السلطان كافة المبادئ التي وردت في خط شريف كولخانة 1839، والتي يتعلق أكثرها بحقوق الطوائف غير الإسلامية و مصالحها، إذ تضمن الخط بصفة خاصة بالتأكيد على مبدأ المساواة القانونية و المدنية لكافة رعايا الدولة و حقوقهم في خدمتها([46]).
لقد كان الخط الهمايوني أدق بكثير و أكثر تفصيلا من خط شريف كولخانة 1839، فهو يضمن للطوائف غير المسلمة احترام حصانتها التقليدية و حرية العبادة، و ممارسة شعائرها الدينية و بناء معابدها بشروط يتوافر فيها التسامح([47]). كما أكد الخط الهمايوني على المساواة في المعاملة بين جميع الطوائف ومنع استعمال الألفاظ التي تحط من قيمة غير المسلمين، و تأمين الحرية الدينية لأهل كل المذاهب، و إفساح المجال أمام كافة رعايا السلطان للمساهمة في خدمة الدولة و ذلك عن طريق تعيينهم في الوظائف واستفادتهم من خدمات الدولة التعليمية، بالإضافة إلى إنشاء محاكم مختلفة للفصل في القضايا المدنية و الجنائية، وأما الدعاوى الخاصة بالأحوال الشخصية و الإرث فتحال إلى المحاكم الشرعية بالنسبة للمسلمين، و إلى المحاكم الطائفية بالنسب لغير المسلمين([48])، والمساواة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق و الواجبات، لا سيما في مجال الخدمة العسكرية، فأصبح الجميع يخضعون لقانون التجنيد العسكري، و تم إعادة تنظيم الهياكل الإدارية، كما أصبح جميع رعايا الإمبراطورية متساوين فيما يتعلق بالضرائب، و القضاء، و كذلك الالتحاق بمدارس واحدة([49]).
و على الرغم من أن الخط الهمايوني جاء نتيجة للضغط الخارجي، على عكس خط شريف كولخانة، فقد تشابه الخطان في كثير من النقاط، فكلاهما صدر بمرسوم سلطاني جاد اللهجة، وتكررت في الخط الهمايوني الضمانات التي أعلنت في عام 1839، و أن كانت هناك بعض الاختلافات، فخط 1856 م كان أكثر دقة في تحديد التغييرات الواجب إجراؤها، و لم يظهر فيه انقسام الشخصية الذي اتضح في الخط السابق، كما أن صيغته كانت أكثر عصرية، و أكثر اقتباسا عن الغرب بصورة لم تعهد من قبل في الوثائق العثمانية، و ذلك لأنه لم يستشهد بآية قرآنية واحدة أو بقوانين الإمبراطورية القديمة وأمجادها، وكان ذلك أمرا خطيرا من الناحية النفسية، و أن لم يكن المرسوم برمته يتطلع إلى الأمام أكثر مما يستوحي الماضي، و لقد أكد المرسوم من جديد على تطبيق الخدمة العسكرية على المسلمين وغير المسلمين، كما نص على المحافظة على الحقوق والامتيازات التي تمتع بها رؤساء الملل الإسلامية، و تمتع كل ملل الإمبراطورية بمواطنة عثمانية عامة، ووعد السلطان بإيجاد نظام ضريبي أكثر عدالة، كما وعد بتبويب القانون الجنائي والتجاري، وإصلاح نظام السجون، وإنشاء محاكم مختلطة في القضايا الخاصة بالمسلمين وغير المسلمين([50]).
وهكذا أكد الخط الهمايوني بشكل خاص على المساواة المدنية والاجتماعية لجميع رعايا الدولة، واعترف بمساواتهم في خدمة الحكومة، ولكن مبدأ المساواة لم يطبق تماما؛ فقد ظلت الخدمة العسكرية محصورة بالمسلمين وحدهم، كما ظلت الوظائف الإدارية والقضائية شبه محصورة بالمسلمين، وظلت الدول الأوروبية تدّعي حماية الطوائف المسيحية، ففرنسا تدّعي حماية الكاثوليك، وروسيا تعتبر نفسها حامية للأرثوذكس، وبريطانيا تعد نفسها حامية البروتستانت([51]). وكان من أهم أهداف خط شريف كولخانة استثارة عطف الدول الكبرى على الدولة العثمانية، وكذلك استهداف الخط مساندة الأوروبيين للدولة ضد روسيا التي ما لبثت أن وافقت على شروط النمسا والتي بني عليها صلح باريس عام 1856 الموقع عليه من قبل الدول الكبرى، و مملكة بيدمونت و الدولة العثمانية([52]).
نستنتج أن حرب القرم التي دارت بين روسيا من جهة وبين الدولة العثمانية وحلفائها من جهة أخرى، بدأت عندما أخذت روسيا كعادتها في إثارة المشاكل ضد الدولة العثمانية و اتخذت من الدين ذريعة لإعلان الحرب ضدها، حيث رغب كل من القيصر نيقولا الأول و الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في الظهور بمظهر حامي المسيحيين في بيت المقدس و ما حولها، فالقيصر نيقولا يدعى حمايته لطائفة الأرثوذكس، ونابليون الثالث يطالب بالمزيد من الامتيازات للمسيحيين هناك من رعايا الكنيسة الكاثوليكية، واشتد التنافس بين روسيا و فرنسا من ناحية، والدولة العثمانية من ناحية أخرى، وحدثت حرب القرم في شبه جزيرة القرم، و كان من أهم المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية ضد روسيا معركة سيواستوبول في 9 أيلول 1855، و كلف احتلالها أكثر من 25 ألف قتيل من جميع الأطراف، ثم وضعت نهاية لحرب القرم بعقد مؤتمر باريس سنة 1856 م .
بينت حرب القرم ما كانت عليه روسيا من ضعف، فقد كانت الدول تظن أن روسيا أقوى بكثير من حقيقتها، و لم يعد لها بعد حرب القرم قيمة كبيرة في مسائل أوروبا. كما كان لحرب القرم انعكاسات هامة داخل الدولة العثمانية، حيث تم إصدار مجموعة من الإصلاحات و التنظيمات من بينها الخط الهمايوني، أما على الصعيد العالمي فقد كان لهذه الحرب انعكاسات هامة على الدول الأوروبية فمن بين ابرز هذه الانعكاسات أنها حطمت التحالف الروسي النمساوي، و بذلك أصبح بمقدور الشعوب التواقة للتحرر و الاستقلال تحقيق أهدافها، و خاصة ألمانيا وإيطاليا، حيث أصبحت أوضاع أوروبا أكثر ملاءمة لتحقيق وحدتها، و قد انصرفت روسيا بعد الحرب إلى الاهتمام بشؤونهما الداخلية، و أهملت شؤون القارة إلى حد ما، يضاف إلى ذلك أن ما حدث في الحرب من بؤس و عذاب و أمراض أثارت الرأي العام الأوروبي، و ساعد ذلك فيما بعد على ظهور منظمة الصليب الأحمر، كما أن البيان الذي صدر عن مؤتمر باريس 1856 وضع الأسس والقواعد الدولية للحصار البحري، ونص على تحريم القرصنة.
وفي النهاية يتبين أن العامل الديني لم يكن عاملا أساسيا في نشوب حرب القرم و إنما كان ذريعة اتخذتها روسيا لإعلان الحرب ضد الدولة العثمانية، من اجل تحقيق أطماعها داخل أقاليم هذه الدولة، فقامت بعرض مشروع تقسيم أملاك الدولة العثمانية على فرنسا وبريطانيا، لكن هاتين الدولتين رفضتا المشروع الروسي، ليس من منطلق مساندة الدولة العثمانية والمحافظة على أملاكها، إنما كان مبنيا على رغبة بريطانية و فرنسية في الإبقاء على الدولة العثمانية ضعيفة، حتى يتسنى لهما السيطرة على الأقاليم الخاضعة لها في مراحل قادمة.