دار الخليج - غسان العزي
لطالما كان الإسلام السياسي قريباً من المعسكر الغربي بقيادته الأمريكية ضد الاتحاد السوفييتي “الشيوعي الملحد” خلال الحرب الباردة . لكن القطيعة بين الاثنين بدأت في فبراير/شباط من العام 1992 عندما صدر عن حلف الأطلسي إعلان ينظر فيه إلى “الأصولية الإسلامية” بوصفها تهديداً قد يحل محل التهديد الشيوعي المنصرم . كانت الولايات المتحدة المنهمكة في إعادة ترتيب النظام الدولي بحاجة إلى “تهديد” ذي طابع كوني حضاري يحل محل التهديد الشيوعي الذي عمل مثل شماعة أو ذريعة لكل السياسات الدفاعية والخارجية الغربية . فكيف يمكن تبرير تقوية وتدعيم حلف الأطلسي بدل حله كما فعل حلف وارسو؟ وكيف يمكن تبرير إنفاق تسلحي هائل بعد نهاية الحرب الباردة؟ وكيف يمكن تبرير سياسات هجومة دولية في غياب تهديدات حقيقية؟ وبالطبع جاءت هجمات 11 سبتمبر/أيلول لتصب في اتجاه السياسة الدولية المرسومة للولايات المتحدة وحلف الأطلسي .
بعدها سالت دماء كثيرة في أفغانستان والعراق وغير مكان في عالم عجزت واشنطن عن التحكم بمساره، فاضطرت إلى انكفاء نسبي قد يكون مؤقتاً أو دائماً بحسب التطورت المستقبلية . ولم تعد ثمّة من حاجة إلى الاستمرار في استثمار التطرف الإسلامي المتمثّل بتنظيم القاعدة، فأعطت واشنطن الأمر بتصفية قائده جسدياً . ويبدو أنها اقتنعت بفكرة ريتشارد هاس التي يقاسمه إياها مفكرون أوروبيون كثر، والقائلة إنه ينبغي السماح للأحزاب الإسلامية بالوصول إلى السلطة حتى يتبين فشلها، فتفقد مصداقيتها وشعبيتها، ذلك أنها ستكون أعجز من غيرها عن حل المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية التي تَعِدُ بحلها في حال ارتقت إلى السلطة . كان الفرنسي أوليفييه روا قد قال هذا الكلام في كتاب موسوم ب”فشل الإسلام السياسي” صدر في العام 1993 تعليقاً على إجهاض العملية الانتخابية الجزائرية بعد اتضاح نجاح الإسلاميين فيها . وقد حصل الأمر نفسه بعد نجاح حركة (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، رغم أن هذه الانتخابات جرت تحت إشراف غربي (برئاسة جيمي كارتر) شهد على حريتها ونزاهتها .
هذا الموقف من الانتخابات الجزائرية ثم الفلسطينية، سدّد ضربة قاصمة للادعاءات الغربية عن قيم الحرية والديمقراطية والاقتراع .
لكن يبدو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً قد اتخذوا القرار بالسير في ركاب الثورات العربية أملاً في استغلال نتائجها، ولو أنها قد ترفع الإسلام السياسي إلى الحكم . فهذا الأخير لن يكون متطرفاً إذا وصل إلى السلطة عن طريق الاقتراع العام وبتأثير من النموذج التركي الناجح المتمثل بحزب العدالة والتنمية . لقد توصلوا إلى القناعة أن الديكتاتوريات المتشددة هي التي تقوي عضد الأصولية المتشددة كرد فعل على القمع والإرهاب السلطوي . وكان مشروع دمقرطة الشرق الأوسط الكبير قد فشل، لأن فريقاً أمريكياً متشدداً هو الآخر حمله إلى المنطقة بالطائرات المقاتلة والبوارج الحربية . كان لابد للديمقراطية من أن تنبثق من الشعوب المعنية لا أن يتم إسقاطها من الجو أو فرضها بالقوة أو استيرادها معلبة .
انتخابات المجلس التأسيسي في تونس تأتي في هذا السياق، سياق الديمقراطية التي تنبع من المجتمعات ولا تفرض من الخارج . وإذا كانت النتائج المنبثقة عنها قد أعادت إحياء المخاوف من حلول الإسلاميين في السلطة محل الديكتاتوريات المنحلة، فإن المراقبة الموضوعية تفرض وضع الأمور في نصابها الحقيقي بدل الانسياق وراء كتاب غربيين مسكونين بالخوف من الإسلام لأسباب غير موضوعية .
صحيح أن هذا الخوف أججه إعلان رئيس المجلس الانتقالي الليبي عن تطبيق الشريعة الإسلامية وعودة التعددية الزوجية وما شابه، واحتمال فوز الإخوان المسلمين في مصر في الانتخابات التشريعية المقبلة، وعودة الإخوان المسلمين السوريين إلى الساحة بعد غياب قسري، الا أن ليبيا انتخبت رئيساً لحكومتها الانتقالية لا علاقة له البتة بالإسلام السياسي، وفي مصر فإن خطاب الإخوان لا ينفك يتقدم في طريق الاعتدال والانفتاح، وفي سوريا يلتزم الإخوان النموذج التركي ويسكنون العواصم الأوروبية . أما حزب النهضة التونسي الذي فاز في انتخابات المجلس التأسيسي فإن خطاب زعيمه راشد الغنوشي بعد الفوز لم يبتعد خطوة واحدة عن قناعاته المعلنة منذ تأسيسه في ثمانينات القرن المنصرم عن الحريات العامة في الإسلام كما يراه الحزب، والذي يتقدم ربما على مفاهيم الحريات العامة في الفكر الليبرالي الغربي نفسه . أكثر من ذلك فإن نموذج الحكم الذي يبدو أنه يتبلور أمامنا في تونس من خلال ائتلاف ثلاثي وهو نموذج عروبي إسلامي علماني حداثوي يمثل تعريباً أو تَوْنَسَةً للنموذج التركي الذي سبق أن امتدحه راشد الغنوشي خلال حملته الانتخابية . وقد حرص الغنوشي على إعطاء أكثر الإشارات طمأنة للسوق حين ذهب إلى مركز البورصة بعيد إعلان نتيجة الانتخابات التي فازت فيها أكثر من أربعين سيدة على لوائح حزب النهضة ومنهن المحجبات والسافرات لا فرق، وحين أعلن الرغبة بالعمل مع المتدينين وغير المتدينين، وحين هنأ وتلقى تهنئة خصومه في هذه الانتخابات .
في الغرب نفسه لم تبلغ نسبة المشاركة في الانتخابات يوماً الثمانين في المئة، كما حدث في تونس ولم يقف الناس ساعات طوالاً تحت الشمس الحارقة في انتظار وصولهم إلى صندوق الاقتراع، ولم تبلغ الانتخابات هذا القدر من النزاهة والحرية تحت إشراف محلي خالص، ولا ننسى أنها المرة الأولى في تاريخ تونس والعالم العربي كله . لقد شكلت تونس نقطة انطلاق الثورات العربية أو حجر الدومينو الأول الذي دفع الأحجار الباقية إلى التساقط واحداً بعد الآخر، وها هي تشكل التجربة الديمقراطية الأولى التي تقول للعالم أجمع إن العرب قادرون على ممارسة الديمقراطية بكل تفاصيلها، وإن الإسلام السياسي ليس بعبعاً أو فزاعة، وهو يفوز في انتخابات ويفشل في غيرها كحال الأحزاب العلمانية والقومية واليسارية واليمينية منها . وفوزه هذه المرة لا يعني بالضرورة أن الديكتاتوريات البائدة تركت مكانها لأحزاب ذات طابع محدد، بل لديمقراطيات حرة فيها المجال يتسع لكل العقائد والأيديولوجيات والبرامج .