- الجمعة ديسمبر 02, 2011 1:59 pm
#40698
لم يعرف تاريخ الفكر السياسي الإسلامي مشكلة تتعلق بالربط أو الفصل بين الإسلام والسياسة، أو بين الدين والدولة، إلا في العصر الحديث، بعد سقوط بعض الدول العربية والإسلامية تحت هيمنة الاستعمار الغربي. فتاريخ الصراع على السلطة في العالم الإسلامي قبل ذلك الوقت لم يسجل أزمة أو منافسة على المستوى المرجعي، بل كانت جميع الأطراف المتنافسة والمتصارعة تنتمي إلى المرجعية الإسلامية وحدها، على اختلاف في الفهم والتطبيق طبعا. وهكذا فإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة والحكم بدأت تظهر في أدبيات الفكر السياسي العربي بعد اتصال المسلمين العرب بالغرب الحديث في ما سمي آنذاك بعصر النهضة العربية؛ أي في القرن التاسع عشر، حيث ظهر تياران يحملان مشروعاً نهضوياً في العالم العربي، أحدهما يدعو إلى الاقتباس من العلوم الغربية ما يضمن نهضة العرب والمسلمين ولا يتعارض مع مبادئ دينهم وثقافتهم الإسلامية، والآخر يدعو إلى الانفتاح الكامل على الغرب وإلى القطيعة الكاملة مع تاريخ أو ماضي المسلمين وثقافتهم مستلهماً التجربة الأوروبية التي خاضت صراعاً تاريخياً واجتماعياً نشب بين السلطة الدينية المتمثلة بالكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا، وبين السلطة السياسية وعلى رأسها ملوك وأباطرة أوروبا ومعهم من يؤيدهم من العلماء والمفكرين.
لقد استمر السّجال والنقاش حول هذه الإشكالية –إشكالية علاقة الإسلام بالسياسة- بالتطور والتعقيد حتى أنه لم يتوقف عند حدود البحث حول علاقة "السلطة الدينية" –على افتراض وجود سلطة دينية خارج سلطة النبوة والوحي في التاريخ الإسلامي- بـ"السلطة المدنية" أو السياسية –أيضاً على افتراض إمكانية وجودها مجردة عن المؤثرات العقدية والثقافية والاجتماعية- بل إن هذا النقاش، ونتيجةً لفرضياته الخاطئة تلك، تجاوز حدود البحث حول التوظيف السياسي للدين ليدخل في مجال البحث حول علاقة الإسلام بالدولة، بل وبالمجتمع بشكل عام. بمعنى آخر فإن إشكالية علاقة الإسلام بالسياسة انتقلت من بحث موضوع فصل الدين عن السياسة، لتتحول إلى دعوة تغيير اجتماعي جذري تروِّج لفصل كامل التراث العربي والإسلامي –بكل ما يتضمنه من عقيدة وثقافة وتاريخ وقيم- عن حاضر المجتمع العربي ومستقبله من خلال منهجية نقض وتفكيك التراث المتقمصة لتجربة الحداثة الغربية في صراعها التاريخي والاجتماعي مع الكنيسة الكاثوليكية. وسوف تتحول هذه المنهجية فيما بعد إلى تنميط للفكر العربي الذي استسلم أمام الفكر الغربي وانجرف إلى تصنيم فلسفاته وتقديس فرضياته حيث تعامل معها على أساس اعتبارها قوانين كونية تنسحب على جميع الأمم والمجتمعات.
وقد أدى هذا التطور المعقد في مسيرة البحث حول إشكالية علاقة الإسلام بالشأن العام السياسي والاجتماعي إلى دخول الفكر السياسي العربي والإسلامي في أزمة تتنافس فيها نخبتان ثقافيتان تحولتا خلال عصر النهضة العربية إلى تيارين متناقضين في مرجعيتيهما ومختلفين في تصوريهما لمتطلبات وشروط تحقيق النهضة العربية والخروج من حالة الجمود والتخلف. وتمثل هذان التياران بالتيار الإصلاحي الإسلامي والتيار العلماني.
وبينما تصدر التيار الإصلاحي الإسلامي حركة النهضة العربية من خلال نزوعه إلى شرعنة مشروع التحديث والاقتباس من الغرب، ومن خلال توجهه نحو إعادة قراءة وبناء الفكر السياسي الإسلامي بطريقة توفيقية تماهي بعض مدلولات المصطلحات الإسلامية مع المفاهيم السياسية الحديثة وتصالح فيما بين التقليدي الأصيل والحديث الوافد، اتجه رواد التيار العلماني –مستفيدين من جهود الإصلاحيين في شرعنة مشروع التحديث- نحو الترويج للعلمانية وعلاقة الدين بالدولة والمجتمع، مركزين على بحث علاقة الدين مع العلم والتقدم، وعلى ربط هذه العلاقة ودورها بالتخلف والانحطاط، وذلك على غرار ما فعل مفكرو "التنوير" الغربيون في محاولاتهم لتقويض دور الدين في المجتمع الأوروبي، دون مراعاة للفروق الواضحة بين المسيحية والإسلام في مجال الحكم والسياسة الشرعية، ودون الأخذ بالاعتبار اختلاف التجربة التاريخية للعالم العربي عن تجربة أوروبا التي تبلور خلالها الفكر الغربي الحديث.
وهكذا دخل الفكر العربي النهضوي في أزمة المرجعيات:
الأولى: مرجعية الجذور أو الانتماء إلى الهوية العربية والإسلامية التي تتمسك بجذورها وعقيدتها الإسلامية، وتبحث من موقع الأصالة في ماهية وكمية الاقتباس المطلوب لتحقيق وإنجاح مشروع النهضة. وتُظهر أدبيات وكتابات أقطاب هذه المرجعية إدراكهم بأن التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي لا تقتصر على ضرورة التحديث وتحقيق النهضة، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة الاستعداد لمواجه الوجه الأخر "للحداثة"، وهو ما يتمثل في التنافس الاستعماري على السيطرة والهيمنة على مقدرات العالم الإسلامي من خلال محاولاته المستمرة في التوسع والاختراق الثقافي.
أما المرجعية الثانية: المرجعية العلمانية، فقد تبنت مشروع "التنوير" الغربي الذي ينطلق من الاعتقاد بأن نهضة الشعوب لا تتحقق إلى من خلال عبور نفق "الحداثة" الغربية التي تحمل قيماً إنسانية وقوانين كونية صالحة لجميع الأمم والشعوب. وبالتالي فإن رواد العلمانية "التنويريين" رأوا أنه لا يمكن للعالم العربي والإسلامي أن ينجز نهضته ويواجه تحديات الحداثة بدون الانخراط في العالم المتحضر –والمقصود هنا العالم الغربي طبعاً- وتبني الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوربية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما فيها القيم الأخلاقية. وعلى هذا فقد انطلق رواد التيار العلماني من قاعدة نقد التراث والدين كأساس لتحقيق مشروع التنوير الذي لا يرى في الموروث الديني السائد سوى السلبيات والتخلف والرجعية، في حين أنه لا يرى عند الآخر (الغربي) المتفوق سوى الإيجابيات والتقدم والتحضر. لذلك فإن هذا الانبهار بتفوق الغرب والسخط على الواقع العربي المتأخر دفع التحليل العلماني لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة نحو الارتكاز في منطلقاته الأساسية على فرضيات خاطئة حالت دون تبني منهجية موضوعية، ليس فقط في قراءة التراث الإسلامي ودراسة الظروف التاريخية لتطور الفكر السياسي الإسلامي، بل أيضاً في دراسة العوامل التاريخية والموضوعية التي مهدت لظهور وتطور الفكر السياسي الحديث في أوروبا.
ويتجلى خطأ الفرضيات التي ارتكز عليها التحليل العلماني لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة في الخلط الذي كثيراً ما يقع فيه المفكرون العلمانيون عندما يطرحون قضية تجريد السلطة السياسية أو "الزمنية" عن المؤثرات العقدية والثقافية والاجتماعية المتفاعلة معها طرحاً ممتزجاً أو محمَّلاً بالمفاهيم الغربية الحديثة المثقلة بأيديولوجيات "التنوير" و"الحداثة" مع إسقاطهم لمصطلحاتها على ظروف تاريخية تقع خارج المكان والزمان الذي ظهرت وتبلورت فيه هذه المصطلحات والمفاهيم. فقضايا مثل فصل "السلطة الدينية" عن "السلطة السياسية"، أو فصل "الدين" عن "الدولة"، أو فصل "الإسلام عن السياسة"، أو فصل "الدين عن المجتمع" كثيراً ما تناقش أو تطرح ضمن هذه العبارات المركبة من مصطلحات مشبعة بالأيديولوجيا دون تفكيك عناصرها وتوضيح المجالات المتعلقة بهذه العناصر والمصطلحات.
فبحث قضية فصل "السلطة الدينية" عن "السلطة السياسية" - على سبيل المثال - يتطلب بالضرورة - بالإضافة إلى تحديد الأشخاص أو الجهات التي تمثل كلاً من هاتين السلطتين - تحديد ماهية ومجال عمل كل منهما على حدة. ونظراً لوضوح هذه المحددات في التجربة التاريخية الأوروبية استطاع الفكر الغربي الحديث، إلى درجة ما، إنجاز هذا الفصل بين هاتين السلطتين، إذ كان من الواضح الذي لا لبس فيه أن البابا، في قرون أوروبا الوسطى، كان يمثل السلطة الدينية حيث أنه كان يحتكر صلاحية تفسير نصوص الديانة المسيحية، بالإضافة إلى دوره في إضفاء صفة القداسة على شرعية السلطات السياسية للملوك والأباطرة. ومع قيام حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي كسرت من ذاك الاحتكار للدين بدا أن هذه الديانة تفصل وبوضوح جليّ بين "ما لقيصر" الذي يمثل السلطة السياسية، وبين "ما لله"؛ الذي تختص ببيانه السلطة الدينية، وبالتالي كان من الممكن، نظرياً، فصل مجال هاتين السلطتين عن بعضيهما البعض.
أما إذا أردنا أن ننقل التجربة الأوروبية ونسقط مقدماتها وخصائصها وعناصرها، المرتبطة جوهريا
بنتائجها، على التجربة التاريخية الإسلامية دون الأخذ بعين الاعتبار خصائص وعناصر هذه التجربة، التي لم تشهد في تاريخها سلطة دينية كسلطة البابا، فإننا بكل تأكيد لن نحصل على نتائج موضوعية أو منطقية، على الأقل من الناحية النظرية.
وهكذا بالنسبة لأشكال الطرح الأخرى التي تتبنى قضية فصل "الدين" عن "الدولة" أو فصل "الإسلام عن السياسة"، أو فصل "الدين عن المجتمع" فإنها غالباً ما تأتي في إطار نمط فكري يحمل تصوراً أيديولوجياً يعبر عن مفهوم المفكرين والفلاسفة الغربيين للدين المسيحي كما جاء في عصر الأنوار وفي فكر الحداثة. والمثير للدهشة والغرابة أن التنميط الفكري - الذي درج عليه العديد من المفكرين "التنويريين" الذين دأبوا على نقل فكر الحداثة بكل ما يحمله من قيم ومفاهيم غربية دون نقد حقيقي أو دراسة متأنية تفصل وتميز بين جوانبه الإيجابية التي تنسجم مع تاريخ وثقافة العرب والمسلمين وبين جوانبه السلبية التي لا تحمل سوى التناقضات ولا تؤدي إلا إلى المزيد من التمزق في المجتمع والتأزم في الفكر - وصل من الاستسلام للفكر الغربي ومن الهزيمة النفسية أمام حضارته لدرجة أن هناك دعوات ممن يحملون لواء "التنوير" المرموقين تدفع المسلمين نحو تقبل ما يأتي في الكتب والمراجع الدينية المسيحية من نصوص تأيد فصل الدين –المسيحي طبعاً- عن السياسة في إطار مناقشتهم لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة. فنجدهم يستشهدون مراراً وتكراراً بما ينقلونه عن الإنجيل، كمقولة: "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، دون دراسة موضوعية لمدى توافق هذا المفهوم مع نظرة الإسلام أو مع مصادره كما تفهمها مختلف المذاهب الإسلامية.
لذلك فإن دراسة الفكر السياسي الإسلامي بموضوعية تربط مراحل تطوره بالتجربة التاريخية التي مر بها – لا بتجارب المجتمعات الأخرى - كفيلة بأن تظهر بوضوح غياب هذه الإشكالية عن تفكير المسلمين الأوائل، مما يدل على أن هذه الإشكالية لم تشكل في أذهانهم وتجاربهم قضية بحاجة إلى البحث والدراسة وأنها مختلقة أو مستوردة من مجتمعات عاشت تجارب مختلفة عن تجارب مجتمعاتنا، وخضعت لفلسفات وقيم لا تتفق ولا تنسجم مع قيمنا ومعتقداتنا
لقد استمر السّجال والنقاش حول هذه الإشكالية –إشكالية علاقة الإسلام بالسياسة- بالتطور والتعقيد حتى أنه لم يتوقف عند حدود البحث حول علاقة "السلطة الدينية" –على افتراض وجود سلطة دينية خارج سلطة النبوة والوحي في التاريخ الإسلامي- بـ"السلطة المدنية" أو السياسية –أيضاً على افتراض إمكانية وجودها مجردة عن المؤثرات العقدية والثقافية والاجتماعية- بل إن هذا النقاش، ونتيجةً لفرضياته الخاطئة تلك، تجاوز حدود البحث حول التوظيف السياسي للدين ليدخل في مجال البحث حول علاقة الإسلام بالدولة، بل وبالمجتمع بشكل عام. بمعنى آخر فإن إشكالية علاقة الإسلام بالسياسة انتقلت من بحث موضوع فصل الدين عن السياسة، لتتحول إلى دعوة تغيير اجتماعي جذري تروِّج لفصل كامل التراث العربي والإسلامي –بكل ما يتضمنه من عقيدة وثقافة وتاريخ وقيم- عن حاضر المجتمع العربي ومستقبله من خلال منهجية نقض وتفكيك التراث المتقمصة لتجربة الحداثة الغربية في صراعها التاريخي والاجتماعي مع الكنيسة الكاثوليكية. وسوف تتحول هذه المنهجية فيما بعد إلى تنميط للفكر العربي الذي استسلم أمام الفكر الغربي وانجرف إلى تصنيم فلسفاته وتقديس فرضياته حيث تعامل معها على أساس اعتبارها قوانين كونية تنسحب على جميع الأمم والمجتمعات.
وقد أدى هذا التطور المعقد في مسيرة البحث حول إشكالية علاقة الإسلام بالشأن العام السياسي والاجتماعي إلى دخول الفكر السياسي العربي والإسلامي في أزمة تتنافس فيها نخبتان ثقافيتان تحولتا خلال عصر النهضة العربية إلى تيارين متناقضين في مرجعيتيهما ومختلفين في تصوريهما لمتطلبات وشروط تحقيق النهضة العربية والخروج من حالة الجمود والتخلف. وتمثل هذان التياران بالتيار الإصلاحي الإسلامي والتيار العلماني.
وبينما تصدر التيار الإصلاحي الإسلامي حركة النهضة العربية من خلال نزوعه إلى شرعنة مشروع التحديث والاقتباس من الغرب، ومن خلال توجهه نحو إعادة قراءة وبناء الفكر السياسي الإسلامي بطريقة توفيقية تماهي بعض مدلولات المصطلحات الإسلامية مع المفاهيم السياسية الحديثة وتصالح فيما بين التقليدي الأصيل والحديث الوافد، اتجه رواد التيار العلماني –مستفيدين من جهود الإصلاحيين في شرعنة مشروع التحديث- نحو الترويج للعلمانية وعلاقة الدين بالدولة والمجتمع، مركزين على بحث علاقة الدين مع العلم والتقدم، وعلى ربط هذه العلاقة ودورها بالتخلف والانحطاط، وذلك على غرار ما فعل مفكرو "التنوير" الغربيون في محاولاتهم لتقويض دور الدين في المجتمع الأوروبي، دون مراعاة للفروق الواضحة بين المسيحية والإسلام في مجال الحكم والسياسة الشرعية، ودون الأخذ بالاعتبار اختلاف التجربة التاريخية للعالم العربي عن تجربة أوروبا التي تبلور خلالها الفكر الغربي الحديث.
وهكذا دخل الفكر العربي النهضوي في أزمة المرجعيات:
الأولى: مرجعية الجذور أو الانتماء إلى الهوية العربية والإسلامية التي تتمسك بجذورها وعقيدتها الإسلامية، وتبحث من موقع الأصالة في ماهية وكمية الاقتباس المطلوب لتحقيق وإنجاح مشروع النهضة. وتُظهر أدبيات وكتابات أقطاب هذه المرجعية إدراكهم بأن التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي لا تقتصر على ضرورة التحديث وتحقيق النهضة، بل تتجاوز ذلك إلى ضرورة الاستعداد لمواجه الوجه الأخر "للحداثة"، وهو ما يتمثل في التنافس الاستعماري على السيطرة والهيمنة على مقدرات العالم الإسلامي من خلال محاولاته المستمرة في التوسع والاختراق الثقافي.
أما المرجعية الثانية: المرجعية العلمانية، فقد تبنت مشروع "التنوير" الغربي الذي ينطلق من الاعتقاد بأن نهضة الشعوب لا تتحقق إلى من خلال عبور نفق "الحداثة" الغربية التي تحمل قيماً إنسانية وقوانين كونية صالحة لجميع الأمم والشعوب. وبالتالي فإن رواد العلمانية "التنويريين" رأوا أنه لا يمكن للعالم العربي والإسلامي أن ينجز نهضته ويواجه تحديات الحداثة بدون الانخراط في العالم المتحضر –والمقصود هنا العالم الغربي طبعاً- وتبني الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوربية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما فيها القيم الأخلاقية. وعلى هذا فقد انطلق رواد التيار العلماني من قاعدة نقد التراث والدين كأساس لتحقيق مشروع التنوير الذي لا يرى في الموروث الديني السائد سوى السلبيات والتخلف والرجعية، في حين أنه لا يرى عند الآخر (الغربي) المتفوق سوى الإيجابيات والتقدم والتحضر. لذلك فإن هذا الانبهار بتفوق الغرب والسخط على الواقع العربي المتأخر دفع التحليل العلماني لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة نحو الارتكاز في منطلقاته الأساسية على فرضيات خاطئة حالت دون تبني منهجية موضوعية، ليس فقط في قراءة التراث الإسلامي ودراسة الظروف التاريخية لتطور الفكر السياسي الإسلامي، بل أيضاً في دراسة العوامل التاريخية والموضوعية التي مهدت لظهور وتطور الفكر السياسي الحديث في أوروبا.
ويتجلى خطأ الفرضيات التي ارتكز عليها التحليل العلماني لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة في الخلط الذي كثيراً ما يقع فيه المفكرون العلمانيون عندما يطرحون قضية تجريد السلطة السياسية أو "الزمنية" عن المؤثرات العقدية والثقافية والاجتماعية المتفاعلة معها طرحاً ممتزجاً أو محمَّلاً بالمفاهيم الغربية الحديثة المثقلة بأيديولوجيات "التنوير" و"الحداثة" مع إسقاطهم لمصطلحاتها على ظروف تاريخية تقع خارج المكان والزمان الذي ظهرت وتبلورت فيه هذه المصطلحات والمفاهيم. فقضايا مثل فصل "السلطة الدينية" عن "السلطة السياسية"، أو فصل "الدين" عن "الدولة"، أو فصل "الإسلام عن السياسة"، أو فصل "الدين عن المجتمع" كثيراً ما تناقش أو تطرح ضمن هذه العبارات المركبة من مصطلحات مشبعة بالأيديولوجيا دون تفكيك عناصرها وتوضيح المجالات المتعلقة بهذه العناصر والمصطلحات.
فبحث قضية فصل "السلطة الدينية" عن "السلطة السياسية" - على سبيل المثال - يتطلب بالضرورة - بالإضافة إلى تحديد الأشخاص أو الجهات التي تمثل كلاً من هاتين السلطتين - تحديد ماهية ومجال عمل كل منهما على حدة. ونظراً لوضوح هذه المحددات في التجربة التاريخية الأوروبية استطاع الفكر الغربي الحديث، إلى درجة ما، إنجاز هذا الفصل بين هاتين السلطتين، إذ كان من الواضح الذي لا لبس فيه أن البابا، في قرون أوروبا الوسطى، كان يمثل السلطة الدينية حيث أنه كان يحتكر صلاحية تفسير نصوص الديانة المسيحية، بالإضافة إلى دوره في إضفاء صفة القداسة على شرعية السلطات السياسية للملوك والأباطرة. ومع قيام حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي كسرت من ذاك الاحتكار للدين بدا أن هذه الديانة تفصل وبوضوح جليّ بين "ما لقيصر" الذي يمثل السلطة السياسية، وبين "ما لله"؛ الذي تختص ببيانه السلطة الدينية، وبالتالي كان من الممكن، نظرياً، فصل مجال هاتين السلطتين عن بعضيهما البعض.
أما إذا أردنا أن ننقل التجربة الأوروبية ونسقط مقدماتها وخصائصها وعناصرها، المرتبطة جوهريا
بنتائجها، على التجربة التاريخية الإسلامية دون الأخذ بعين الاعتبار خصائص وعناصر هذه التجربة، التي لم تشهد في تاريخها سلطة دينية كسلطة البابا، فإننا بكل تأكيد لن نحصل على نتائج موضوعية أو منطقية، على الأقل من الناحية النظرية.
وهكذا بالنسبة لأشكال الطرح الأخرى التي تتبنى قضية فصل "الدين" عن "الدولة" أو فصل "الإسلام عن السياسة"، أو فصل "الدين عن المجتمع" فإنها غالباً ما تأتي في إطار نمط فكري يحمل تصوراً أيديولوجياً يعبر عن مفهوم المفكرين والفلاسفة الغربيين للدين المسيحي كما جاء في عصر الأنوار وفي فكر الحداثة. والمثير للدهشة والغرابة أن التنميط الفكري - الذي درج عليه العديد من المفكرين "التنويريين" الذين دأبوا على نقل فكر الحداثة بكل ما يحمله من قيم ومفاهيم غربية دون نقد حقيقي أو دراسة متأنية تفصل وتميز بين جوانبه الإيجابية التي تنسجم مع تاريخ وثقافة العرب والمسلمين وبين جوانبه السلبية التي لا تحمل سوى التناقضات ولا تؤدي إلا إلى المزيد من التمزق في المجتمع والتأزم في الفكر - وصل من الاستسلام للفكر الغربي ومن الهزيمة النفسية أمام حضارته لدرجة أن هناك دعوات ممن يحملون لواء "التنوير" المرموقين تدفع المسلمين نحو تقبل ما يأتي في الكتب والمراجع الدينية المسيحية من نصوص تأيد فصل الدين –المسيحي طبعاً- عن السياسة في إطار مناقشتهم لإشكالية علاقة الإسلام بالسياسة. فنجدهم يستشهدون مراراً وتكراراً بما ينقلونه عن الإنجيل، كمقولة: "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، دون دراسة موضوعية لمدى توافق هذا المفهوم مع نظرة الإسلام أو مع مصادره كما تفهمها مختلف المذاهب الإسلامية.
لذلك فإن دراسة الفكر السياسي الإسلامي بموضوعية تربط مراحل تطوره بالتجربة التاريخية التي مر بها – لا بتجارب المجتمعات الأخرى - كفيلة بأن تظهر بوضوح غياب هذه الإشكالية عن تفكير المسلمين الأوائل، مما يدل على أن هذه الإشكالية لم تشكل في أذهانهم وتجاربهم قضية بحاجة إلى البحث والدراسة وأنها مختلقة أو مستوردة من مجتمعات عاشت تجارب مختلفة عن تجارب مجتمعاتنا، وخضعت لفلسفات وقيم لا تتفق ولا تنسجم مع قيمنا ومعتقداتنا