- الأربعاء إبريل 16, 2008 7:18 am
#2891
سبتمبر 2002، شهر ميزته ثلاثة أحداث متصلة وبالغة الأهمية. الحدث الأول: أعلنت الولايات المتحدة، أقوى دولة في التاريخ، استراتيجية أمنية قومية جديدة مؤكدة أنها سوف تحتفظ بالسيطرة على العالم دائما، وأن أي تحد سوف يقابل بالقوة، والقوة هي الجانب الذي تتفوق فيه بلا منافس. وفي نفس الوقت، (الثاني) بدأت طبول الحرب تدق للتعبئة لغزو العراق. و(الحدث الثالث) افتتحت حملة انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونجرس، والذي سيقرر ما إذا كانت الإدارة قادرة على الاضطلاع بالمهام الراديكالية الموضوعة في الأجندة، على الصعيدين العالمي والمحلي.
إن "الاستراتيجية الاستعمارية الكبرى" الجديدة ـ كما عبر جون إيكنبري في كتاباته في الجريدة الشهيرة التابعة للمؤسسة الحاكمة، تقدم الولايات المتحدة بصفتها: "دولة ’مراجعة‘ revisionist state تقصد إلى فرض تفوقها الحالي على مسرح نظام عالمي تكون فيه هي مخرج الاستعراض"، نظام وحيد القطب "حيث لا دولة فيه ولا تحالف قادر على الوقوف أمامها كحاكم للعالم، وحامي حماه، والمنفذ لما شاءت فيه"([1]). ومثل كثيرين آخرين في نخبة السياسة الخارجية، حذر إيكنبري بأن هذه السياسات مشحونة بالخطر حتى على الولايات المتحدة نفسها.
والحماية لا يقصد بها حماية العالم،[العالم] الذي عارض الفكرة بشراسة، وإنما المعني هو حماية قوة وهيمنة الولايات المتحدة والمصالح التي تمثلها هذه الهيمنة. وخلال أشهر قليلة كشفت الدراسات أن الخوف من الولايات المتحدة وصل إلى مستويات عالية بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى فقدان الثقة بالقيادة السياسية. فقد أجري استفتاء عالمي في ديسمبر، لم يكد يلحظه أحد في الولايات المتحدة، وأظهر أنه لا يكاد يوجد أي دعم للخطط التي أعلنتها واشنطن بالقيام بحرب في العراق تقوم بها من جانب واحد الولايات المتحدة وحلفاؤها ـ أي التحالف الأمريكي-البريطاني.
وأخبرت واشنطن الأمم المتحدة بأنها يمكن أن تكون ذات فاعلية في الأمر بمساندة خطط الولايات المتحدة، أو يمكنها أن تكون مجرد هيئة لتبادل النقاش. فالولايات المتحدة لها "الحق الأعلى في القيام بحل عسكري"، هكذا قال كولين باول بتواضع أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عارض خطط الحرب أيضا بشدة: "عندما يتملكنا شعور قوي نحو أمر سوف نقوم به، حتى لو لم يتبع خطانا أحد"([2]).
وقد أوضح الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ازدرائهما للقانون والمؤسسات الدولية في مؤتمرهما في جزيرة الآزور عشية الغزو. ووجها إنذارا، ليس للعراق، وإنما لمجلس الأمن: اخضع وإلا سوف ننفذ الغزو دون موافقتكم التي ليس لها قيمة. وسوف نفعل ذلك سواء ترك صدام حسين وعائلته البلد أم لم يتركها.([3]) فالمبدأ الحاسم هو أن الولايات المتحدة لابد أن تفعل ما من شأنه أن يجعلها تحكم العراق.
وأعلن الرئيس بوش أن الولايات المتحدة "لها السلطة العليا لاستخدام القوة لضمان أمنها القومي"، من تهديد العراق سواء كان بصدام أو بدون صدام، طبقا لقانون بوش. فالولايات المتحدة سوف يسعدها أن تؤسس واجهة عربية، طبقا للتعبير الإنجليزي أيام شمسهم الذهبية، في الوقت الذي تزرع الولايات المتحدة هيمنتها بقوة في قلب أهم منطقة لإنتاج الطاقة في العالم. فالديمقراطية الرسمية ستكون بخير، على شرط أن تكون من النوع المستكين المقبول في الساحة الخلفية للولايات المتحدة، على الأقل إذا استرشدنا بالتاريخ وبالمجريات الآنية.
إن الاستراتيجية العظمى تعطي الولايات المتحدة سلطة تنفيذ حرب وقائية preventive war، وقائية، لا حربا استباقية pre-emptive. ومهما كانت التبريرات التي تحاول تسميتها بالحرب الاستباقية، فهي لا تسري على الحرب الوقائية، خاصة حيث أن الفكرة ينهض لتفسيرها المتحمسين لها الآن: استخدام القوة العسكرية للحد من تهديد مخترع أو متخيل، ومن ثم حتى التعبير بكلمة "وقائية" هو تعبير فضفاض للغاية. الحرب الوقائية هي، ببساطة شديدة، الجريمة العظمى التي تمت إدانتها في نورمبرج.
وقد فهم ذلك كل من لديهم بعض الاهتمام ببلادهم. وعندما غزت الولايات المتحدة العراق، كتب المؤرخ أرثر شليزنجر أن الاستراتيجية الكبيرة لبوش كانت "مشابهة بوضوح لنفس السياسة التي استخدمتها اليابان الإمبريالية أيام اعتدت على بيرل هاربور، في يوم يلطخه العار"، كما قال الرئيس الأمريكي السابق [فرانكلين روزفلت]. وأضاف شليزنجر أنه لا عجب أن موجة التعاطف العالمية التي احتضنت أمريكا بعد 11 سبتمبر، قد انتهت لتحل محلها موجة عالمية من كراهية الغطرسة الأمريكية والعسكرية الأمريكية" والاعتقاد بأن بوش "أكثر تهديدا للسلام من صدام حسين بكثير"([4]).
وبالنسبة للقيادة السياسية، والتي تعتبر "إعادة تدوير" للقطاعات الأشد رجعية في رئاسة كل من ريجان وبوش الأب، فإن موجة الكراهية العالمية ليست مشكلة كبيرة. ومن الطبيعي بالنسبة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أن يستعير كلمات رجل عصابات شيكاغو آل كابوني: "كلمة طيبة وبندقية أكثر منفعة من الكلمة الطيبة وحدها". فهم يفهمون تماما مثلهم في ذلك مثل نقاد مؤسستهم أن أفعالهم تزيد من خطورة تكاثر أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. ولكن ذلك أيضا ليس مشكلة كبيرة. فما يحظى بالأولوية القصوى لديهم هو تأسيس سيطرة عالمية وفرض أجندتهم المحلية، والتي تقصد إلى تجريد الشعوب من الإنجازات التقدمية التي اكتسبتها بالنضال الشعبي طوال القرن الماضي، وأن يتم تحويل التغييرات الجذرية إلى تغييرات مؤسساتية حتى تصبح استعادتها مرة أخرى أمرا في غاية الصعوبة.
ولا يكفي أن تُعلن القوة المسيطرة سياسة رسمية. فيجب أن يؤسس لها كأحد المعايير الجديدة في القانون الدولي بأفعال تكون مثالا لها. وهنا قد ينبري المعلقون المبرزون بشرح أن القانون أداة تتميز بالمرونة الشديدة، فالمعيار الجديد المرشد للفعل متاح الآن: مفهوم أن أولئك الذين يملكون البندقية هم وحدهم الذين يمكنهم وضع المعايير الجديدة وتعديل القانون الدولي.
والهدف المختار لابد أن يفي بشروط عديدة. فلابد أن يكون غير قادر على الدفاع عن نفسه، وأن يكون من الأهمية بحيث يستحق العناء، وأن يكون تهديدا بارزا لحياتنا، وأن يكون شرا مستطيرا، والعراق تتوفر فيه جميع الشروط. فالحالتان الأوليتان واضحتان. أما الثالثة، فيكفي أن نكرر أقوال بوش وبلير وزملائهما: إن الدكتاتور "يقوم بتصنيع تجميعي لأخطر أسلحة العالم [من أجل أن] يسيطر ويهيمن، أو يرهب، أو يهاجم"؛ كما أنه "استخدم هذه الأسلحة بالفعل على قرى كاملة تاركا آلافا من مواطنيه موتى، أو عمي، أو مشوهين. وإذا لم يكن هذا هو الشر، فما هو معنى الشر؟" وأكيد، ترن تصريحات بوش الجذابة رنينا صادقا. وهؤلاء الذين ساهموا في تعزيز الشر لن يذهبوا بدون عقاب: ومن بينهم، المتحدث بهذه الكلمات المتغطرسة وكل من معه حاليا، وكل من لحق بهم في تلك السنوات التي كانوا يؤيدون فيها صدام حسين، صاحب الشر المطلق، طويلا بعد ارتكابه لتلك الجرائم المروعة، وبعد الحرب الأولى مع العراق. ويفسر رجال إدارة بوش السبب: لقد أيدوه انطلاقا من واجبنا بمساعدة صادرات الولايات المتحدة.
ومن المؤثر أن نرى كيف كان سهلا بالنسبة لقادة مهذبين، وهم يعددون أسوأ جرائم صدام الشرير، أن يكتبواالكلمات الحاسمة التي كان ينبغي أن تضاف: "[ارتكب هذه الجرائم] بمساعدتنا، لأننا لا نأبه بمثل هذه الأمور". فالتأييد تغير إلى الإدانة بمجرد أن ارتكب صديقهم صدام أولى جرائمه الحقيقية، وهي عدم طاعة الأوامر (أو ربما سوء فهمها)، بغزوه للكويت. وكان العقاب قاسيا ـ لشعبه. أما الطاغية فقد هرب دون أن يمسه ضر، وازداد قوة بنظام العقوبات الذي تم تطبيقه من قبل حلفائه السابقين.
ومما يسهل كتمانه أيضا الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تعود إلى تأييد صدام بعد حرب الخليج مباشرة، وهو يحطم الثائرين الذين كان يمكن أن يطيحوا به. وشرح توماس فريدمان، كبير المراسلين الدبلوماسيين لصحيفة نيويورك تايمز أن أفضل ما يمكن للولايات المتحدة أن تتمناه هو: "مجلس رئاسي عراقي ذو قبضة حديدية بدون صدام حسين"، ولكن بما أن هذا الهدف فيما يبدو غير متاح، فإننا سنكتفي بالاختيار الثاني في الأفضلية".([5]) لقد فشل الثائرون لأن الولايات المتحدة وحلفاؤها كانوا يحتفظون “بوجهة نظر متفق عليها بالإجماع بأنه مهما كانت آثام الرئيس العراقي، إلا أنه قدم للغرب وللمنطقة أملا جديدا لاستقرار بلاده أكثر مما فعل الذين كانوا يعانون من القمع تحت حكمه"([6]).
تم كتمان كل هذا في التعليق على الأحزان الجماعية لضحايا سورة الغضب المعتمدة للسلطات الأمريكية من إرهاب صدام حسين، والذي قدم كتبرير للحرب على "أسس أخلاقية". كل هذا كان معروفا في 1991، ولكن تم تجاهله لأسباب تخص الدولة.
وكان لابد من إلهاب شعب الولايات المتحدة المتبرم بالسياط، ليصل إلى حالة نفسية تلائم حمى الحرب. فمنذ سبتمبر تدفقت التحذيرات القاسية عن التهديد الفظيع الذي يمثله صدام حسين للولايات المتحدة وعلاقاته بالقاعدة، مع إيحاءات عريضة بأنه كان له يد في غارة 11 سبتمبر. وعلقت محررة "نشرة علماء الطاقة الذرية" بأن كثيرا من التهم التي كانت "تجندل أمام [وسائل الإعلام] فشلت في إثارة الضحك، ولكن كلما زادت سخافتهم، كلما تحرقت الميديا لبلع الأمر بحذافيره كنوع من الامتحان للوطنية"([7]). وقد أتت مذبحة الدعاية بمفعولها. ففي خلال أسابيع، أصبح أغلبية الأمريكيين ينظرون إلى صدام باعتباره تهديدا رئيسيا للولايات المتحدة. وسرعان ما أصبح ما يقرب من نصفهم يعتقدون بأن العراق كان وراء الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر. وارتبط تأييدهم للحرب بهذه الاعتقادات. وكانت الحملة الإعلانية كافية لإعطاء الإدارة أغلبية ساحقة في انتخابات التجديد النصفي، حيث ألقى الناخبون اهتماماتهم العاجلة جانبا، وانساقوا تحت مظلة السلطة خوفا من عدو جهنمي.
واتضح النجاح الساحق للسياسة العامة عندما استطاع بوش، بتعبير أحد المعلقين: "تقديم خاتمة ريجانية قوية لحرب الأسابيع الستة على ظهر حاملة الطائرات أبراهام لنكولن في أول مايو". وربما تتعلق هذه الإشارة بإعلان الرئيس رونالد ريجان الفخور بأن أمريكا "تقف عاليا"، بعد غزوه لجرينادا في 1983، عاصمة أشجار جوزة الطيب في العالم، بهدف منع السوفييت من استخدامها لضرب الولايات المتحدة. وكان بوش، مثله مثل ريجان، قادرا على أن يعلن ـ دون اعتبار للتعليقات المتشككة في بلاده ـ بأنه فاز بـ "نصر في حرب على الإرهاب، بإزاحة أحد حلفاء القاعدة"([8]). ولم يكن ثمة أهمية لكونه لم يقدم دليلا يعتمد عليه لإثبات الصلة المزعومة بين صدام حسين وعدوه اللدود أسامة بن لادن، ولا لرفض هذا الاتهام من قبل المراقبين المختصين. كما لم تكن ثمة أهمية للصلة الوحيدة المعروفة بين النصر والإرهاب: يبدو أن الغزو كان "نكسة كبيرة في الحرب على الإرهاب"، فقد أدى إلى زيادة كبيرة في التجنيد لحركة القاعدة، وهو ما اعترف به كبار المسئولين في الولايات المتحدة.([9])
واكتشفت جريدة وول ستريت أن المشهد الهزلي جيد الإخراج لبوش على حاملة الطائرات "هو علامة على بدء حملة انتخابات 2004" التي يأمل البيت الأبيض "أن تقوم بقدر الإمكان على موضوعات الأمن القومي". وسوف تركز الحملة الانتخابية على "معركة العراق، لا الحرب"، وشرح كارل روف، كبير الاستراتيجيين السياسيين في الحزب الجمهوري، أن الحرب لابد أن تستمر، حتى لو كانت لمجرد السيطرة على شعب الولايات المتحدة([10]).
وقبل انتخابات 2002، قاد روف نشاطات الحزب إلى التركيز على موضوعات الأمن، وبذلك غير الانتباه بعيدا عن السياسات الجمهورية الداخلية غير المرغوبة شعبيا. وكل هذا هو طبيعة ثانية لهؤلاء المسئولين الحاليين المعاد تدويرهم من بقايا الريجانية. وهذه هي الطريقة التي يبقون بها على سلطتهم السياسية خلال دورتهم الأولى في الرئاسة. لقد قاموا بالضغط بانتظام على زر الذعر لتجنب المعارضة الشعبية للسياسات التي جعلت ريجان، في 1992، مكروها من الناس أكثر من أي من الرؤساء الأحياء، وهو الوقت الذي كان يمكن فيه أن يوضع في منزلة أقل حتى من ريتشارد نيكسون.
ورغم نجاحها المحدود، فإن حملة الدعاية المكثفة جعلت الناس لا يترددون في نواح جوهرية. واستمرت الأغلبية تفضل قيادة الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة في الأزمات الدولية، ويفضل كل اثنين من ثلاثة أن تقوم الأمم المتحدة، وليس الولايات المتحدة، بمباشرة إعادة الإعمار في العراق([11]).
عندما فشل جيش التحالف المحتل في اكتشاف أسلحة دمار شامل، تغير موقف الإدارة في الولايات المتحدة من الثقة التامة بأن العراق تمتلك أسلحة دمار شامل إلى موقف أن الاتهامات كانت "مبررة، باكتشاف أجهزة يمكنها، ومن المحتمل استخدامها لإنتاج أسلحة"([12]) ثم اقترح كبار المسئولين تحسينا في فكرة الحرب الوقائية، لتتضمن هجوم الولايات المتحدة على بلاد لديها "أسلحة قاتلة بكميات كبيرة". والتصحيح "يقترح أن الإدارة سوف تعمل في مواجهة نظام معادٍ ليس لديه إلا النية والقدرة على تطوير صناعة أسلحة دمار شامل"([13]). وبذلك كان خفض المعايير إلى لجوء للقوة هو أهم نتيجة لانهيار الحجة المعلنة للغزو.
وربما يكون أهم إنجاز للبروباجندا المنظورة هو الثناء على نظرة بوش لإحضار الديمقراطية إلى الشرق الأوسط وسط مظاهر غير عادية لكراهية الديمقراطية واحتقارها. وتم تصوير هذا بالتمييز الذي قامت به واشنطن بين أوروبا القديمة والجديدة، فالأولى تم التنديد بها، أما الجديدة فتم الترحيب بها وبشجاعتها. وكان المعيار محددا بشدة: تتكون أوروبا القديمة من حكومات تتخذ نفس الموقف الذي تتخذه الأغلبية بين شعوبها من الحرب على العراق؛ بينما أبطال أوروبا الجديدة يتبعون أوامر صادرة إليهم من كراوفورد، تكساس، دون النظر في معظم الحالات إلى تزايد أعداد الأغلبية من المواطنين الذين كانوا ضد الحرب. وأخذ المعلقون السياسيون يهذون حول أوروبا القديمة غير المطيعة وأمراضها النفسية، بينما نزل الكونجرس إلى مستوى الكوميديا الرديئة.
وفي النهاية الواعدة لهذه التشكيلة الواسعة من الآراء، أكد ريتشارد هولبروك، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة، على "نقطة بالغة الأهمية" وهي أن شعوب الأعضاء الثمانية لأوروبا الجديدة أكثر عددا من شعوب "أوروبا القديمة"، مما يثبت أن فرنسا وألمانيا في حالة "عزلة". وهما بالفعل كذلك، إلا إذا استسلمنا لهرطقة اليسار الراديكالي بأن الشعوب ربما يكون لها دور ما في الديمقراطية. وعندئذ، ناقش توماس فريدمان فكرة حرمان فرنسا من العضوية الدائمة في مجلس الأمن، لأنها لا تزال "في الحضانة، ولا تلعب كويس مع الآخرين". ويستتبع ذلك ولابد أن جميع شعوب أوروبا الجديدة لا يزالون في مدارس الرضع، على الأقل طبقا للاستفتاءات.([14])
أما تركيا فقد كانت حالة رائدة بشكل خاص. فقد قاومت حكومتها الضغط الهائل من الولايات المتحدة لتقديم أوراق اعتماد ديمقراطيتها بإتباع أوامر الولايات المتحدة وعدم الأخذ بآراء 95% من مواطنيها. ولم تتعاون تركيا. وأثار هذا الدرس في الديمقراطية غضب المعلقين في الولايات المتحدة، حتى أن بعضهم أخذ يعدد جرائم تركيا ضد الأكراد في سنوات 1990، والتي كانت قبل ذلك من الموضوعات المحظورة بسبب الدور الأمريكي الصارخ فيما حدث، رغم أن ذلك تم إخفاءه بمهارة أيضا في نوبة الندب والنواح.
أما النقطة الحاسمة في هذا الموضوع فقد عبر عنها بول ولفووتز، نائب وزير الدفاع، الذي أدان الإدارة العسكرية التركية لأنهم "لم يقوموا بالدور القيادي القوي الذي كنا نتوقعه منهم" ـ أي أنهم لم يتدخلوا لمنع الحكومة التركية من احترام رأي للشعب الذي لا أهمية له. وهنا كان على تركيا أن تتخذ خطوة وتقول: "لقد ارتكبنا خطأ ـ فلنحاول أن نفهم كيف يمكن أن نساعد الأمريكيين قدر الإمكان"([15]). وكان موقف ولفوويتز مفيدا للغاية لأنه تم تصويره باعتباره الشخصية الرائدة في حملة الإدارة لمقرطة الشرق الأوسط.
إن الغضب في أوروبا القديمة أعمق جذورا من مجرد احتقار الديمقراطية. فقد كانت الولايات المتحدة تنظر دائما إلى الاتحاد الأوروبي نظرة تتسم ببعض التناقض والازدواجية. في العام الذي توجه فيه هنري كيسنجر إلى أوروبا منذ ثلاثين عاما، نصح الأوروبيين بأن يجعلوا مسئولياتهم في المنطقة داخل "النطاق العام للنظام الذي تتبعه الولايات المتحدة". فلا يجب أن تحث أوروبا سعيها في مسارها المستقل، القائم على أرضيتها الصناعية والمالية الفرنسية ـ الألمانية.
والآن تمتد اهتمامات إدارة الولايات المتحدة أيضا إلى شمال شرق آسيا، أهم منطقة اقتصادية في العالم، ذات المصادر الرحبة، والاقتصادات الصناعية المتقدمة، وهي المنطقة الواعدة بالاكتمال والتي قد تراودها أيضا فكرة تحدي النطاق العام للنظام العالمي، والذي أعلنت واشنطن أنه يجب الحفاظ عليه إلى الأبد، بالقوة إن لزم الأمر.
إن "الاستراتيجية الاستعمارية الكبرى" الجديدة ـ كما عبر جون إيكنبري في كتاباته في الجريدة الشهيرة التابعة للمؤسسة الحاكمة، تقدم الولايات المتحدة بصفتها: "دولة ’مراجعة‘ revisionist state تقصد إلى فرض تفوقها الحالي على مسرح نظام عالمي تكون فيه هي مخرج الاستعراض"، نظام وحيد القطب "حيث لا دولة فيه ولا تحالف قادر على الوقوف أمامها كحاكم للعالم، وحامي حماه، والمنفذ لما شاءت فيه"([1]). ومثل كثيرين آخرين في نخبة السياسة الخارجية، حذر إيكنبري بأن هذه السياسات مشحونة بالخطر حتى على الولايات المتحدة نفسها.
والحماية لا يقصد بها حماية العالم،[العالم] الذي عارض الفكرة بشراسة، وإنما المعني هو حماية قوة وهيمنة الولايات المتحدة والمصالح التي تمثلها هذه الهيمنة. وخلال أشهر قليلة كشفت الدراسات أن الخوف من الولايات المتحدة وصل إلى مستويات عالية بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى فقدان الثقة بالقيادة السياسية. فقد أجري استفتاء عالمي في ديسمبر، لم يكد يلحظه أحد في الولايات المتحدة، وأظهر أنه لا يكاد يوجد أي دعم للخطط التي أعلنتها واشنطن بالقيام بحرب في العراق تقوم بها من جانب واحد الولايات المتحدة وحلفاؤها ـ أي التحالف الأمريكي-البريطاني.
وأخبرت واشنطن الأمم المتحدة بأنها يمكن أن تكون ذات فاعلية في الأمر بمساندة خطط الولايات المتحدة، أو يمكنها أن تكون مجرد هيئة لتبادل النقاش. فالولايات المتحدة لها "الحق الأعلى في القيام بحل عسكري"، هكذا قال كولين باول بتواضع أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عارض خطط الحرب أيضا بشدة: "عندما يتملكنا شعور قوي نحو أمر سوف نقوم به، حتى لو لم يتبع خطانا أحد"([2]).
وقد أوضح الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ازدرائهما للقانون والمؤسسات الدولية في مؤتمرهما في جزيرة الآزور عشية الغزو. ووجها إنذارا، ليس للعراق، وإنما لمجلس الأمن: اخضع وإلا سوف ننفذ الغزو دون موافقتكم التي ليس لها قيمة. وسوف نفعل ذلك سواء ترك صدام حسين وعائلته البلد أم لم يتركها.([3]) فالمبدأ الحاسم هو أن الولايات المتحدة لابد أن تفعل ما من شأنه أن يجعلها تحكم العراق.
وأعلن الرئيس بوش أن الولايات المتحدة "لها السلطة العليا لاستخدام القوة لضمان أمنها القومي"، من تهديد العراق سواء كان بصدام أو بدون صدام، طبقا لقانون بوش. فالولايات المتحدة سوف يسعدها أن تؤسس واجهة عربية، طبقا للتعبير الإنجليزي أيام شمسهم الذهبية، في الوقت الذي تزرع الولايات المتحدة هيمنتها بقوة في قلب أهم منطقة لإنتاج الطاقة في العالم. فالديمقراطية الرسمية ستكون بخير، على شرط أن تكون من النوع المستكين المقبول في الساحة الخلفية للولايات المتحدة، على الأقل إذا استرشدنا بالتاريخ وبالمجريات الآنية.
إن الاستراتيجية العظمى تعطي الولايات المتحدة سلطة تنفيذ حرب وقائية preventive war، وقائية، لا حربا استباقية pre-emptive. ومهما كانت التبريرات التي تحاول تسميتها بالحرب الاستباقية، فهي لا تسري على الحرب الوقائية، خاصة حيث أن الفكرة ينهض لتفسيرها المتحمسين لها الآن: استخدام القوة العسكرية للحد من تهديد مخترع أو متخيل، ومن ثم حتى التعبير بكلمة "وقائية" هو تعبير فضفاض للغاية. الحرب الوقائية هي، ببساطة شديدة، الجريمة العظمى التي تمت إدانتها في نورمبرج.
وقد فهم ذلك كل من لديهم بعض الاهتمام ببلادهم. وعندما غزت الولايات المتحدة العراق، كتب المؤرخ أرثر شليزنجر أن الاستراتيجية الكبيرة لبوش كانت "مشابهة بوضوح لنفس السياسة التي استخدمتها اليابان الإمبريالية أيام اعتدت على بيرل هاربور، في يوم يلطخه العار"، كما قال الرئيس الأمريكي السابق [فرانكلين روزفلت]. وأضاف شليزنجر أنه لا عجب أن موجة التعاطف العالمية التي احتضنت أمريكا بعد 11 سبتمبر، قد انتهت لتحل محلها موجة عالمية من كراهية الغطرسة الأمريكية والعسكرية الأمريكية" والاعتقاد بأن بوش "أكثر تهديدا للسلام من صدام حسين بكثير"([4]).
وبالنسبة للقيادة السياسية، والتي تعتبر "إعادة تدوير" للقطاعات الأشد رجعية في رئاسة كل من ريجان وبوش الأب، فإن موجة الكراهية العالمية ليست مشكلة كبيرة. ومن الطبيعي بالنسبة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أن يستعير كلمات رجل عصابات شيكاغو آل كابوني: "كلمة طيبة وبندقية أكثر منفعة من الكلمة الطيبة وحدها". فهم يفهمون تماما مثلهم في ذلك مثل نقاد مؤسستهم أن أفعالهم تزيد من خطورة تكاثر أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. ولكن ذلك أيضا ليس مشكلة كبيرة. فما يحظى بالأولوية القصوى لديهم هو تأسيس سيطرة عالمية وفرض أجندتهم المحلية، والتي تقصد إلى تجريد الشعوب من الإنجازات التقدمية التي اكتسبتها بالنضال الشعبي طوال القرن الماضي، وأن يتم تحويل التغييرات الجذرية إلى تغييرات مؤسساتية حتى تصبح استعادتها مرة أخرى أمرا في غاية الصعوبة.
ولا يكفي أن تُعلن القوة المسيطرة سياسة رسمية. فيجب أن يؤسس لها كأحد المعايير الجديدة في القانون الدولي بأفعال تكون مثالا لها. وهنا قد ينبري المعلقون المبرزون بشرح أن القانون أداة تتميز بالمرونة الشديدة، فالمعيار الجديد المرشد للفعل متاح الآن: مفهوم أن أولئك الذين يملكون البندقية هم وحدهم الذين يمكنهم وضع المعايير الجديدة وتعديل القانون الدولي.
والهدف المختار لابد أن يفي بشروط عديدة. فلابد أن يكون غير قادر على الدفاع عن نفسه، وأن يكون من الأهمية بحيث يستحق العناء، وأن يكون تهديدا بارزا لحياتنا، وأن يكون شرا مستطيرا، والعراق تتوفر فيه جميع الشروط. فالحالتان الأوليتان واضحتان. أما الثالثة، فيكفي أن نكرر أقوال بوش وبلير وزملائهما: إن الدكتاتور "يقوم بتصنيع تجميعي لأخطر أسلحة العالم [من أجل أن] يسيطر ويهيمن، أو يرهب، أو يهاجم"؛ كما أنه "استخدم هذه الأسلحة بالفعل على قرى كاملة تاركا آلافا من مواطنيه موتى، أو عمي، أو مشوهين. وإذا لم يكن هذا هو الشر، فما هو معنى الشر؟" وأكيد، ترن تصريحات بوش الجذابة رنينا صادقا. وهؤلاء الذين ساهموا في تعزيز الشر لن يذهبوا بدون عقاب: ومن بينهم، المتحدث بهذه الكلمات المتغطرسة وكل من معه حاليا، وكل من لحق بهم في تلك السنوات التي كانوا يؤيدون فيها صدام حسين، صاحب الشر المطلق، طويلا بعد ارتكابه لتلك الجرائم المروعة، وبعد الحرب الأولى مع العراق. ويفسر رجال إدارة بوش السبب: لقد أيدوه انطلاقا من واجبنا بمساعدة صادرات الولايات المتحدة.
ومن المؤثر أن نرى كيف كان سهلا بالنسبة لقادة مهذبين، وهم يعددون أسوأ جرائم صدام الشرير، أن يكتبواالكلمات الحاسمة التي كان ينبغي أن تضاف: "[ارتكب هذه الجرائم] بمساعدتنا، لأننا لا نأبه بمثل هذه الأمور". فالتأييد تغير إلى الإدانة بمجرد أن ارتكب صديقهم صدام أولى جرائمه الحقيقية، وهي عدم طاعة الأوامر (أو ربما سوء فهمها)، بغزوه للكويت. وكان العقاب قاسيا ـ لشعبه. أما الطاغية فقد هرب دون أن يمسه ضر، وازداد قوة بنظام العقوبات الذي تم تطبيقه من قبل حلفائه السابقين.
ومما يسهل كتمانه أيضا الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تعود إلى تأييد صدام بعد حرب الخليج مباشرة، وهو يحطم الثائرين الذين كان يمكن أن يطيحوا به. وشرح توماس فريدمان، كبير المراسلين الدبلوماسيين لصحيفة نيويورك تايمز أن أفضل ما يمكن للولايات المتحدة أن تتمناه هو: "مجلس رئاسي عراقي ذو قبضة حديدية بدون صدام حسين"، ولكن بما أن هذا الهدف فيما يبدو غير متاح، فإننا سنكتفي بالاختيار الثاني في الأفضلية".([5]) لقد فشل الثائرون لأن الولايات المتحدة وحلفاؤها كانوا يحتفظون “بوجهة نظر متفق عليها بالإجماع بأنه مهما كانت آثام الرئيس العراقي، إلا أنه قدم للغرب وللمنطقة أملا جديدا لاستقرار بلاده أكثر مما فعل الذين كانوا يعانون من القمع تحت حكمه"([6]).
تم كتمان كل هذا في التعليق على الأحزان الجماعية لضحايا سورة الغضب المعتمدة للسلطات الأمريكية من إرهاب صدام حسين، والذي قدم كتبرير للحرب على "أسس أخلاقية". كل هذا كان معروفا في 1991، ولكن تم تجاهله لأسباب تخص الدولة.
وكان لابد من إلهاب شعب الولايات المتحدة المتبرم بالسياط، ليصل إلى حالة نفسية تلائم حمى الحرب. فمنذ سبتمبر تدفقت التحذيرات القاسية عن التهديد الفظيع الذي يمثله صدام حسين للولايات المتحدة وعلاقاته بالقاعدة، مع إيحاءات عريضة بأنه كان له يد في غارة 11 سبتمبر. وعلقت محررة "نشرة علماء الطاقة الذرية" بأن كثيرا من التهم التي كانت "تجندل أمام [وسائل الإعلام] فشلت في إثارة الضحك، ولكن كلما زادت سخافتهم، كلما تحرقت الميديا لبلع الأمر بحذافيره كنوع من الامتحان للوطنية"([7]). وقد أتت مذبحة الدعاية بمفعولها. ففي خلال أسابيع، أصبح أغلبية الأمريكيين ينظرون إلى صدام باعتباره تهديدا رئيسيا للولايات المتحدة. وسرعان ما أصبح ما يقرب من نصفهم يعتقدون بأن العراق كان وراء الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر. وارتبط تأييدهم للحرب بهذه الاعتقادات. وكانت الحملة الإعلانية كافية لإعطاء الإدارة أغلبية ساحقة في انتخابات التجديد النصفي، حيث ألقى الناخبون اهتماماتهم العاجلة جانبا، وانساقوا تحت مظلة السلطة خوفا من عدو جهنمي.
واتضح النجاح الساحق للسياسة العامة عندما استطاع بوش، بتعبير أحد المعلقين: "تقديم خاتمة ريجانية قوية لحرب الأسابيع الستة على ظهر حاملة الطائرات أبراهام لنكولن في أول مايو". وربما تتعلق هذه الإشارة بإعلان الرئيس رونالد ريجان الفخور بأن أمريكا "تقف عاليا"، بعد غزوه لجرينادا في 1983، عاصمة أشجار جوزة الطيب في العالم، بهدف منع السوفييت من استخدامها لضرب الولايات المتحدة. وكان بوش، مثله مثل ريجان، قادرا على أن يعلن ـ دون اعتبار للتعليقات المتشككة في بلاده ـ بأنه فاز بـ "نصر في حرب على الإرهاب، بإزاحة أحد حلفاء القاعدة"([8]). ولم يكن ثمة أهمية لكونه لم يقدم دليلا يعتمد عليه لإثبات الصلة المزعومة بين صدام حسين وعدوه اللدود أسامة بن لادن، ولا لرفض هذا الاتهام من قبل المراقبين المختصين. كما لم تكن ثمة أهمية للصلة الوحيدة المعروفة بين النصر والإرهاب: يبدو أن الغزو كان "نكسة كبيرة في الحرب على الإرهاب"، فقد أدى إلى زيادة كبيرة في التجنيد لحركة القاعدة، وهو ما اعترف به كبار المسئولين في الولايات المتحدة.([9])
واكتشفت جريدة وول ستريت أن المشهد الهزلي جيد الإخراج لبوش على حاملة الطائرات "هو علامة على بدء حملة انتخابات 2004" التي يأمل البيت الأبيض "أن تقوم بقدر الإمكان على موضوعات الأمن القومي". وسوف تركز الحملة الانتخابية على "معركة العراق، لا الحرب"، وشرح كارل روف، كبير الاستراتيجيين السياسيين في الحزب الجمهوري، أن الحرب لابد أن تستمر، حتى لو كانت لمجرد السيطرة على شعب الولايات المتحدة([10]).
وقبل انتخابات 2002، قاد روف نشاطات الحزب إلى التركيز على موضوعات الأمن، وبذلك غير الانتباه بعيدا عن السياسات الجمهورية الداخلية غير المرغوبة شعبيا. وكل هذا هو طبيعة ثانية لهؤلاء المسئولين الحاليين المعاد تدويرهم من بقايا الريجانية. وهذه هي الطريقة التي يبقون بها على سلطتهم السياسية خلال دورتهم الأولى في الرئاسة. لقد قاموا بالضغط بانتظام على زر الذعر لتجنب المعارضة الشعبية للسياسات التي جعلت ريجان، في 1992، مكروها من الناس أكثر من أي من الرؤساء الأحياء، وهو الوقت الذي كان يمكن فيه أن يوضع في منزلة أقل حتى من ريتشارد نيكسون.
ورغم نجاحها المحدود، فإن حملة الدعاية المكثفة جعلت الناس لا يترددون في نواح جوهرية. واستمرت الأغلبية تفضل قيادة الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة في الأزمات الدولية، ويفضل كل اثنين من ثلاثة أن تقوم الأمم المتحدة، وليس الولايات المتحدة، بمباشرة إعادة الإعمار في العراق([11]).
عندما فشل جيش التحالف المحتل في اكتشاف أسلحة دمار شامل، تغير موقف الإدارة في الولايات المتحدة من الثقة التامة بأن العراق تمتلك أسلحة دمار شامل إلى موقف أن الاتهامات كانت "مبررة، باكتشاف أجهزة يمكنها، ومن المحتمل استخدامها لإنتاج أسلحة"([12]) ثم اقترح كبار المسئولين تحسينا في فكرة الحرب الوقائية، لتتضمن هجوم الولايات المتحدة على بلاد لديها "أسلحة قاتلة بكميات كبيرة". والتصحيح "يقترح أن الإدارة سوف تعمل في مواجهة نظام معادٍ ليس لديه إلا النية والقدرة على تطوير صناعة أسلحة دمار شامل"([13]). وبذلك كان خفض المعايير إلى لجوء للقوة هو أهم نتيجة لانهيار الحجة المعلنة للغزو.
وربما يكون أهم إنجاز للبروباجندا المنظورة هو الثناء على نظرة بوش لإحضار الديمقراطية إلى الشرق الأوسط وسط مظاهر غير عادية لكراهية الديمقراطية واحتقارها. وتم تصوير هذا بالتمييز الذي قامت به واشنطن بين أوروبا القديمة والجديدة، فالأولى تم التنديد بها، أما الجديدة فتم الترحيب بها وبشجاعتها. وكان المعيار محددا بشدة: تتكون أوروبا القديمة من حكومات تتخذ نفس الموقف الذي تتخذه الأغلبية بين شعوبها من الحرب على العراق؛ بينما أبطال أوروبا الجديدة يتبعون أوامر صادرة إليهم من كراوفورد، تكساس، دون النظر في معظم الحالات إلى تزايد أعداد الأغلبية من المواطنين الذين كانوا ضد الحرب. وأخذ المعلقون السياسيون يهذون حول أوروبا القديمة غير المطيعة وأمراضها النفسية، بينما نزل الكونجرس إلى مستوى الكوميديا الرديئة.
وفي النهاية الواعدة لهذه التشكيلة الواسعة من الآراء، أكد ريتشارد هولبروك، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة، على "نقطة بالغة الأهمية" وهي أن شعوب الأعضاء الثمانية لأوروبا الجديدة أكثر عددا من شعوب "أوروبا القديمة"، مما يثبت أن فرنسا وألمانيا في حالة "عزلة". وهما بالفعل كذلك، إلا إذا استسلمنا لهرطقة اليسار الراديكالي بأن الشعوب ربما يكون لها دور ما في الديمقراطية. وعندئذ، ناقش توماس فريدمان فكرة حرمان فرنسا من العضوية الدائمة في مجلس الأمن، لأنها لا تزال "في الحضانة، ولا تلعب كويس مع الآخرين". ويستتبع ذلك ولابد أن جميع شعوب أوروبا الجديدة لا يزالون في مدارس الرضع، على الأقل طبقا للاستفتاءات.([14])
أما تركيا فقد كانت حالة رائدة بشكل خاص. فقد قاومت حكومتها الضغط الهائل من الولايات المتحدة لتقديم أوراق اعتماد ديمقراطيتها بإتباع أوامر الولايات المتحدة وعدم الأخذ بآراء 95% من مواطنيها. ولم تتعاون تركيا. وأثار هذا الدرس في الديمقراطية غضب المعلقين في الولايات المتحدة، حتى أن بعضهم أخذ يعدد جرائم تركيا ضد الأكراد في سنوات 1990، والتي كانت قبل ذلك من الموضوعات المحظورة بسبب الدور الأمريكي الصارخ فيما حدث، رغم أن ذلك تم إخفاءه بمهارة أيضا في نوبة الندب والنواح.
أما النقطة الحاسمة في هذا الموضوع فقد عبر عنها بول ولفووتز، نائب وزير الدفاع، الذي أدان الإدارة العسكرية التركية لأنهم "لم يقوموا بالدور القيادي القوي الذي كنا نتوقعه منهم" ـ أي أنهم لم يتدخلوا لمنع الحكومة التركية من احترام رأي للشعب الذي لا أهمية له. وهنا كان على تركيا أن تتخذ خطوة وتقول: "لقد ارتكبنا خطأ ـ فلنحاول أن نفهم كيف يمكن أن نساعد الأمريكيين قدر الإمكان"([15]). وكان موقف ولفوويتز مفيدا للغاية لأنه تم تصويره باعتباره الشخصية الرائدة في حملة الإدارة لمقرطة الشرق الأوسط.
إن الغضب في أوروبا القديمة أعمق جذورا من مجرد احتقار الديمقراطية. فقد كانت الولايات المتحدة تنظر دائما إلى الاتحاد الأوروبي نظرة تتسم ببعض التناقض والازدواجية. في العام الذي توجه فيه هنري كيسنجر إلى أوروبا منذ ثلاثين عاما، نصح الأوروبيين بأن يجعلوا مسئولياتهم في المنطقة داخل "النطاق العام للنظام الذي تتبعه الولايات المتحدة". فلا يجب أن تحث أوروبا سعيها في مسارها المستقل، القائم على أرضيتها الصناعية والمالية الفرنسية ـ الألمانية.
والآن تمتد اهتمامات إدارة الولايات المتحدة أيضا إلى شمال شرق آسيا، أهم منطقة اقتصادية في العالم، ذات المصادر الرحبة، والاقتصادات الصناعية المتقدمة، وهي المنطقة الواعدة بالاكتمال والتي قد تراودها أيضا فكرة تحدي النطاق العام للنظام العالمي، والذي أعلنت واشنطن أنه يجب الحفاظ عليه إلى الأبد، بالقوة إن لزم الأمر.