منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By سعيد الغامدي3.5
#41315

ارتكنت العلاقات التركية الإيرانية منذ منتصف القرن السادس عشر إلى أساس براغماتي صلب تجلى في حسن الجوار القائم على تحييد الخلافات المذهبية واحتواء التوترات المتجددة، فضلا عن توازن المصالح المستند إلى توازن القوى بين الطرفين، اللذين تجمعهما علاقات تجارية متنامية، علاوة على التنسيق في المسائل الأمنية المتعلقة بأفغانستان وباكستان، كما حركات التمرد المسلح التي تقض مضاجع نظامي أنقرة وطهران.

هذا إلى جانب توافق جيوستراتيجي يتأتى من اعتبار تركيا لإيران فاعلا رئيسا يصعب الولوج المستقر من دونه إلى وسط آسيا وجنوبها، واعتبار إيران لتركيا جسرا آمنا يبقي على وشائج التواصل بين طهران والغرب في أصعب الظروف.

وفي ظل التداعيات الملفتة للربيع العربي الذي أظل منطقة طالما شكلت مسرحا مهما للتنافس بين أنقرة وطهران، برأسها أطلت علامات الاستفهام متسائلة عن إمكانية تأثر أسس العلاقات التركية الإيرانية بتلك التداعيات، التي أضافت إلى مظاهر التوتر المزمنة العديدة بين البلدين بؤرا وبواعث جديدة، كان من أبرزها:

"
سلطت موافقة تركيا المثيرة على استضافة الرادارات الخاصة بالدرع الصاروخية الأطلسية، الضوءَ على مدى تفاقم أزمة الثقة التي خيمت على العلاقات التركية الإيرانية في ظل الربيع العربي
"
الدرع الصاروخية الأطلسية
سلطت موافقة تركيا المثيرة على استضافة الرادارات الخاصة بالدرع الصاروخية الأطلسية ببلدة "كوراجيك" بولاية "ملاطيا" التركية الحدودية مع إيران، الضوءَ على مدى تفاقم أزمة الثقة التي خيمت على العلاقات التركية الإيرانية في ظل الربيع العربي.

ففي حين تصرّ أنقرة على أن موافقتها تلك لا تتعدى كونها تناغما إستراتيجيا مع متطلبات العضوية في الناتو، تشتم طهران فيها رائحة تهديد فعلي لها معتبرة إياها فصلا في مخطط غربي إسرائيلي تركي لتجريدها من مزيتها الإستراتيجية النسبية المتمثلة في ترسانتها من منظومات الصواريخ متوسطة وطويلة المدى، التي تعتبر أداة الردع الإيرانية الأهم في مواجهة الهجمات الإسرائيلية أو الأميركية المحتملة ضد أية أهداف إيرانية.

وتعي طهران جيدا أن حكومة العدالة كانت قد حسمت أمرها تجاه مشروع الدرع الصاروخية بعد تفاقم أجواء عدم الثقة بينها وبين طهران مؤخرا على خلفية مضي الأخيرة قدما في مساعيها الخفية لعسكرة برنامجها النووي، إضافة إلى الثورة السورية وتنامي هواجس دوائر تركية بشأن دعم إيران لجماعات كردية تركية مسلحة كما تنظيمات إسلامية وحركات شيعية، إذ لم يستبعد خبراء أمنيون أتراك تورط إيران في دعم العمليات الأخيرة لحزب العمال الكردستاني داخل تركيا، لا سيما أن طهران كانت قد أفرجت عن الرجل الثاني في الحزب بعد فترة وجيزة من اعتقاله وقبل أيام من تلك العمليات ضمن صفقة أبرمتها مع قيادات كردستانية.

لذا، لم تكتف أنقرة بالموافقة فقط على استضافة الرادارات الخاصة بالدرع الصاروخية، وفقا لشروطها المتمثلة في تحويله من أميركي إلى أطلسي ومشاطرتها للناتو في الإشراف على تلك الرادارات كما في عملية تحليل المعلومات التي تتمخض عنها، وإنما طالبت أيضا بمنظومات صواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت لحماية أراضيها ضد أية تهديدات إقليمية محتملة.

الترويج للنموذج التركي
في خضم التحولات المفصلية التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط، لاحت في الأفق نذر تنافس بين مشروعين: أولهما، إيراني يسوّق لنظام حكم ثيوقراطي ويقود "محور الممانعة" والتصدي لما يعتبره مؤامرات غربية وهيمنة أميركية وإسرائيلية، ولا يتورع عن التدخل في شؤون دول الجوار مستخدما أدوات صلبة وناعمة في آن.

وثانيهما، تركي يستخدم القوة الناعمة كالديمقراطية والتنمية الاقتصادية والجمع بين الإسلام والعلمانية والحداثة من دون تدخل في شؤون الغير، وهو نموذج تحديثي يستند إلى ثالوث الجيش والإدارة والاعتدال الإسلامي. وفي حين لا يلقى المشروع الأول رواجا عربيا أو دعما غربيا، يحظى الآخر بمستوى ما من القبول العربي والتأييد الغربي.

"
ثمة تنافس بين مشروعين: أولهما إيراني يسوق لنظام حكم ثيوقراطي، وثانيهما تركي يستخدم القوة الناعمة كالديمقراطية والتنمية الاقتصادية والجمع بين الإسلام والعلمانية
"
وقد بدت ملامح التنافس بين المشروعين واضحة في غير موضع بدءا من القوقاز وآسيا الوسطى، مرورا ببلاد الشام والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي، وانتهاء بأفريقيا. وفي الآونة الأخيرة، وتحديدا خلال جولة أردوغان بشمال أفريقيا، بدأت إيران تلمس تحركا محموما من قبل حكومة العدالة لتسويق نموذجها المدعوم غربيا بغية تقليص المد الإيراني، إذ ترى إيران في احتضان أنقرة للمعارضة السورية محاولة لفرض نظام سوري موالٍ للأتراك يقود بدوره إلى تكرار سيناريو معركة جال ديران عام 1514 التي هزم فيها الشاه إسماعيل الصفوي أمام السلطان العثماني سليم الأول، وفتحت الطريق أمام العثمانيين للسيطرة على الجنوب عبر مرج دابق عام 1516، ثم الحجاز ومصر في السنة التالية ومن بعدهما العراق عام 1534.

وبناء عليه، طالب المستشار العسكري لمرشد الثورة الإيرانية تركيا بضرورة إعادة النظر في مسعاها لتسويق ما اعتبره "علمانية مسلمة غير متوقعة ولا يمكن تصورها" في العالم العربي، وهددها بأنها ستواجه مشاكل مع شعبها ومع جيرانها، كما ستقوم كل من سوريا والعراق وإيران بإعادة تقييم علاقاتها معها، إذا لم تتراجع.

الأزمة السورية
نظرا لكونها عنصر تقاطع بين المشروعين التركي والإيراني، فقد فرضت سوريا نفسها كرقم صعب في معادلة العلاقات بين أنقرة وطهران، ليس على خلفية تباين مواقف كل منهما حيال انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد فحسب، وإنما بجريرة الحسبة المعقدة للخسائر والمكاسب المتوقعة لكلا الطرفين حالة سقوط ذلك النظام.

فلقد أفضى تحول أنقرة نحو دعم الانتفاضة السورية إلى شن بعض وسائل الإعلام الإيرانية هجوما على حكومة العدالة وصل حد اتهامها بالنفاق وتنفيذ سياسات أميركا وإسرائيل لإسقاط نظام بشار الأسد، توطئة لتحقيق أهداف ثلاثة: أولها، فصل سوريا عن إيران بما يضع الأخيرة في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والأميركيين. والثاني، إيقاف الدعم الإيراني لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين وفك الارتباط بين طهران وحزب الله. وثالثها، حمل دمشق على إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل بما يتماشى وحسابات الأخيرة.

وفي هذا السياق، جاءت تهديدات طهران لأنقرة التي حذرها مبعوث خاص للرئيس أحمدي نجاد، من أن استعمال أية قواعد عسكرية تركية للهجوم على سوريا سيعرض تركيا لقصف صاروخي إيراني.

"
نظرا لكونها عنصر تقاطع بين المشروعين التركي والإيراني، فقد فرضت سوريا نفسها كرقم صعب في معادلة العلاقات بين الطرفين، على خلفية الخسائر والمكاسب المتوقعة لكلا الطرفين حالة سقوط ذلك النظام
"
كذلك، لاحت مؤخرا محاولات الاصطفاف الإقليمي التي تقودها طهران ودمشق بالتعاون مع بغداد ضد التوجهات والمشاريع التركية الجديدة حيال سوريا وإيران والمنطقة ككل. فلقد حملت زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى بغداد نهاية أغسطس/آب الماضي ومباحثاته مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بين ثناياها إيحاءات بجهود تمهيدية لحوار ثلاثي موسع يضم إيران بغرض بلورة إستراتيجية حازمة لحمل حكومة العدالة على مراجعة مواقفها وحساباتها إزاء الدول الثلاث، كما مشاركتها في الدرع الصاروخية.

في غضون ذلك، لم يتورع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن رهن مصير معاهدة التعاون الإستراتيجي المبرمة بين بلاده وتركيا بالتزام حكومة العدالة بالتعهدات المائية الواجب على تركيا تقديمها للعراق من مياه دجلة والفرات. هذا ناهيك عن تهديدات نظام بشار الأسد لحكومة العدالة باستخدام ما بحوزته من أوراق ضغط متعددة، ليس أقلها الورقة الكردية، لإجبار أنقرة على تعديل مواقفها تجاه ما يجري الآن في سوريا، وهي التهديدات التي تتسق مع تهديدات ومطالبات إيرانية سابقة مشابهة لتركيا.

وفي رد منها على ذلك الاصطفاف الإقليمي الجديد، انبرت حكومة العدالة التركية لإعادة صياغة تحالفاتها الإقليمية، فعرض وزير خارجيتها على مصر "الجديدة" تأسيس ما أسماه "محور ديمقراطية" جديد في الشرق الأوسط، يكون بمثابة رافعة لتحالف بين أنقرة والقاهرة بعد أن ارتبكت تحالفات تركيا مع سوريا وإسرائيل، الأمر الذي علقت عليه صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية بالقول: "إن نظاماً جديداً في منطقة تموج بالثورات قد بزغ".

استمرار التفاهم
برغم الزخم الواضح في بواعث التوتر بين أنقرة وطهران جراء الربيع العربي، ثمة مؤشرات عدة تشي باستمرار السمت التفاهمي لعلاقاتهما. فبقدر ما يطوي ذلك الربيع بين ثناياه من تحديات، يمكن القول إنه لم يخلُ من محفزات للإبقاء على ذلك السمت.

فمع حالة الضبابية الشديدة التي باتت تلف المشهد الشرق أوسطي، قد لا تجد أنقرة وطهران بُدا من الاستقواء ببعضها البعض على خلفية عدم ثقتهما بواشنطن وتل أبيب ومخططاتهما بشأن إعادة هندسة المنطقة.

ففي حين تتطلع أنقرة من جانبها إلى توسيع دائرة عمقها الجيوستراتيجي قدر المستطاع ليكون رصيدا مهما يعزز موقفها التفاوضي مع حلفائها الغربيين ويعظم من فرص ولوجها إلى فردوسها الأوروبي، وظهيرا موازيا أو خيارا بديلا تلوذ به حالة إخفاق أو تعثر رهاناتها على الغرب، وهو ما يفسر إخراج وثيقة الأمن القومي التركية للعام 2010 كلا من روسيا وسوريا وإيران واليونان من خانة العدو الخارجي، تحرص طهران في مسعى آخر على الاحتفاظ بنافذة إستراتيجية حيوية تطل من خلالها على المجتمع الدولي، سواء لأغراض المناورة أو التقارب ما استطاعت لأحدهما أو لكليهما سبيلا، وتبقي عبرها الباب مواربا أمام أية صفقة جديدة محتملة بأي وقت بين النظام الأكثر براغماتية في طهران ونظرائه على الجانب الآخر، سواء أولئك المترقبين في كل من واشنطن وتل أبيب، أو هؤلاء القلقين المترددين بشأن التقارب معها في سائر بلدان العالم العربي والإسلامي.

ومن رحم ذلك التصور، انبلجت مبادرات وخطى التقارب بين أنقرة وطهران هذه الأيام. فعلى مستوى التحرك الثنائي، لم يوصد الجانبان كلية باب الحوار مع دول قوقازية وغربية حول مشروع "نابوكو" لنقل النفط والغاز من وسط آسيا إلى أوروبا عبر تركيا وإيران دون المرور بالأراضي الروسية.

وعلى الصعيد التركي، عمدت حكومة العدالة إلى طمأنة طهران بشأن نشر رادارات للدرع الصاروخية الأطلسية في تركيا وتعزيز إجراءات بناء الثقة معها مؤكدة أنها لا تستهدف إيران، كما شدد وزير الخارجية التركي خلال استقباله علي فتح الله، مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون آسيا والمحيط الهادئ مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول، على أن أحداً لا يستطيع تهديد أمن إيران عبر الأراضي التركية، التي أكد أنها لن تكون ركيزة للدفاع عن أمن إسرائيل.

وإبان زيارة وزير الخارجية الإيراني لتركيا قبل نهاية الشهر ذاته، شكك أوغلو في إمكانية تورط طهران بمؤامرة لاغتيال السفير السعودي بواشنطن.

أما الجانب الإيراني، فلم يتورع بدوره عن إظهار حرصه على توثيق عرى التعاون مع الشريك التركي، فخلال الاجتماع الوزاري الأخير لوزراء الدول الثماني الإسلامية في شهر أكتوبر/تشرين الأول، دعا وزير التجارة والصناعة الإيراني كلا من مصر وتركيا لتعزيز الشراكة بين البلدان الثلاثة.

"
ثمة مؤشرات عدة تشي باستمرار السمت التفاهمي بين طهران وأنقرة، فبقدر ما يطوي الربيع العربي بين ثناياه من تحديات، يمكن القول إنه لم يخل من محفزات للإبقاء على ذلك السمت
"
وفى مسعى منها لتقليص الفجوة بينها وبين أنقرة حول الوضع الراهن في سوريا، أدانت طهران أعمال القتل والعنف هناك داعية نظام بشار الأسد لتبني إصلاحات وإطلاق المعتقلين السياسيين، وسحب الجيش من المناطق السكنية، وتأسيس مجلس سياسي لمعالجة الأوضاع، واتخاذ ما يلزم لإجهاض العبث في مستقبل سوريا والمنطقة.

وأكد وزير الخارجية الإيراني حرص بلاده على الوقوف مع الشعب السوري لنيل حقوقه في الحرية والديمقراطية. وهي مؤشرات تحول مهمة في موقف طهران إزاء نظام دمشق ربما تفسر ما أوردته مصادر سورية عن تهديدات بشار الأسد لإيران بإطلاع الولايات المتحدة على خريطة مخازن الأسلحة التابعة لحزب الله في لبنان حال توقف طهران عن دعم نظام الأسد.

وتأسيسا على ما سبق، يجوز الادعاء بأن التأثير المحتمل للربيع العربي على العلاقات التركية الإيرانية ربما لا يصل إلى مستوى يعرج بها من حالة التنافس التاريخي المحكوم والمحدد السقف إلى حالة الصراع أو المواجهة، وإن أسهم في توسيع دوائر ومجالات هذا التنافس وتعلية سقفه بعض الشيء، طالما أن معادلة توازن القوى والمصالح التي تحكم العلاقات بين البلدين لم يطاولها أي تغيير جوهري قد يخل بها.