منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#41387
محمد بن علي المحمود

دائما ما نؤكد - في سياق مناقشتنا أو مُساءلتنا لعلاقتنا مع الآخر - أن هذا الآخر (= العالم الغربي المتقدم) ليس عالما واحدا، لا من حيث ثوابته السياسية المرتبطة ضرورةً بمصالحه، ولا من حيث طبيعته الاجتماعية الخاصة التي تُؤثر فينا على نحو ما ؛ نتيجة لاستحقاقات العولمة، ولا من حيث طبيعته الثقافية التي يتكئ عليها ويصدر عنها، والتي تُشكل مستويات التحيز والعنصرية والانغلاق من جهة، والانفتاح والتقبل والتسامح من جهة أخرى .


التغيير ضرورة، وشرط أولي للتقدم . وكل بلد يحتاج إلى التغيير بصورة ما. لكن، وبما أن التغيير السياسي خلال هذه السنة تدور رحاه في حدود العالم العربي، لا الإسلامي، فإن الحديث هنا سيتحدد في عالمنا العربي الذي بدأ رحلة التغيير لقناعته بضرورة التغيير من أجل تجاوز سلبيات واقعه المعاش


هذا ما نُؤكده دائما، ونحاول توسيع نطاق الاستبصار به كلما تحدثنا عن الغرب ؛ لنؤكد تبعا لذلك أن التعاطي مع هذا الغرب المتقدم يجب أن يأخذ هذا الاختلاف والتباين في حسابه، وأن أي تجاهل لهذا الاختلاف لابد أن يقودنا إلى سوء الفهم، ومن ثم، إلى الوقوع في شَرك ثقافة التطرف والانغلاق ؛ لأن من مقدمات الوقوع في شركها الجهل المؤدي إلى تنميط الآخر، ذلك التنميط الذي يؤدي إلى عدم أخذ كل صور الاختلاف والتباين بعين الاعتبار .

في المقابل، نحن في العالمين : العربي والإسلامي لسنا عالما واحدا بأي مستوى من مستويات الرصد والقياس . نعم، تُوجد كثير من عناصر التشابه والتماثل، بل والتطابق أحيانا . لكن، يبقى الاختلاف عميقا، وأحيانا يصل إلى درجة التضاد التام .

هذا التباين والاختلاف حقيقة واضحة، لا تحتاج لجهد استثنائي من أجل اكتشافها . فبكل المقاييس، أفغانستان ليست كماليزيا، وقطر ليست كالصومال، والعراق ليس كالمغرب، والسعودية ليست كأندونسيا، بل والأردن ليست كسورية ؛ رغم كل صور التشابه بينهما، ورغم التداخل الطبيعي الذي تفرضه حقائق الجغرافيا والثقافة والتاريخ ...إلخ .

التغيير ضرورة، وشرط أولي للتقدم . وكل بلد يحتاج إلى التغيير بصورة ما. لكن، وبما أن التغيير السياسي خلال هذه السنة تدور رحاه في حدود العالم العربي، لا الإسلامي، فإن الحديث هنا سيتحدد في عالمنا العربي الذي بدأ رحلة التغيير لقناعته بضرورة التغيير من أجل تجاوز سلبيات واقعه المعاش .

لكن، إذا كان التغيير ضرورة من جهة، والاختلاف والتباين بين أقطار هذا العالم العربي حقيقة واقعية من جهة أخرى، فإن التغيير الحادث، أو الذي يجب أن يحدث ؛ لابد أن يكون مختلفا في طبيعته، وفي مستواه، وفي الوسائل التي لابد أن يتذرع بها للوصول إلى بُعده الغائي .

لايمكن أن يكون التغيير في بلد مشكلته الأولى تكمن في الاستبداد السياسي وفي القمع الأمني، هو ذاته التغيير (بذات المستوى وبذات النوع) الذي لابد أن يحدث في بلد آخر، مشكلته الأولى تكمن في الفقر وانعدام أو تواضع مصادر الدخل .

لايمكن أن يكون التغيير في بلد مشكلته الأولى تكمن في وقوع وعيه أسيرا لثقافة دينية تقليدية متزمتة لاتزال تقوده إلى الوراء، هو ذاته التغيير (بذات المستوى وبذات النوع) الذي لابد أن يحدث في بلد مشكلته الأولى تكمن في الخبل السياسي الذي أدخله في سلسلة حروب انتهت به إلى حالة بائسة من التشظي والانقسام .

في تصوري أن الدول العربية يمكن تقسيمها، من حيث حاجتها إلى التغيير كَمًّاً وكيفاً، إلى أربعة أقسام ؛ وفق ما تحقق ويتحقق على يديها من تقدم في المجال الإنساني والمادي، أو وفق ما تتسبب به من إعاقة للتقدم في هذا المجال أو ذاك . وهذه الأقسام الأربعة يمكن الإشارة إليها بشيء من التجاوز على هذا النحو :

1 دُول طغيانية قمعية متوحشة، قامت بعمليات إبادة جمعية أو شبه جمعية على نحو دوري، وقد تم رصد هذه العمليات وإدانتها من قبل مُعظم دول العالم، فضلًا عن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان . هذه الدول ليس لديها رادع من أي نوع، لا من دين، ولا من أخلاق، ولا من حِسٍّ إنساني، ولا حتى من مغالطة قانونية، بل هي تمارس القمع علانية، كما تريد، وفي أي وقت تشاء .

هذا هو النوع الأول . ويمكن اعتبار عراق صدام، وسورية الأسد، وليبيا القذافي، نماذج لهذا النوع الذي سحق ويسحق الإنسان بالكامل، ولديه استعداد لفعل المزيد، ولو وصل الأمر إلى إفناء مُعظم الشعب بأسلحة الدمار الشامل، فضلا عن الأسلحة التقليدية التي واجه ويواجه بها شعبه في وضح النهار .

2 دول تحدرت من سلالة عسكرية، تمنح شيئا من الحرية، وتحقق شيئا من التقدم، وتتبنّى خيار الاعتدال في سياستها الخارجية، وللقانون فيه كثير من المصداقية ؛ إلا أن أجهزتها الأمنية تغوّلت إلى حد بعيد، وأصبح الجهاز الأمني والعسكري طبقة متمايزة أو شبه متمايزة، طبقة تستأثر بالكثير دون وجه حق، بينما لا تُنجِز على أرض الواقع إلا القليل . ولا شك أن مصر مبارك كانت نموذجاً لهذا النوع الذي يُمثّل الطغيان الناعم، كما يُقال .

3 دول قطعت خطوات لا بأس بها، سواء على مستوى التقدم المادي أو على مستوى التقدم الإنساني الخاص، لا سيما وأنها بدأت من نقطة الصفر، إضافة إلى كونها لا تزال تجد كثيرا من الممانعة الاجتماعية / الدينية تجاه معظم الخطوات التي تخطوها نحو الانفتاح . أي أن أية خطوة تقدمية في أي اتجاه ليست يسيرة كما يبدو، بل هي خاضعة لأكثر من حساب .

4 دول حققت في مدى ثلاثة أو أربعة عقود ما عجزت عن تحقيقه بعض الدول في قرن كامل . بعضها وصل إلى درجات مبهرة، وبات أحد مراكز الجذب المالي والسياحي والإعلامي . ولا شك أنه لولا مستويات التنظيم العالية، وضمانات الحقوق المتوفرة ؛ لما استطاعت أن تُنافس دول العالم المتحضر في اجتذاب نشطاء المال والسياحة والإعلام .

ليس من الموضوعية العلمية وضع دولة أنجزت الكثير، دولة تنتمي إلى القسم الرابع (الإمارات مثلاً)، في سياق واحد مع دولة طُغيانية عقمت عن أي إنجاز ؛ بسبب وضعها السياسي، دولة تنتمي إلى القسم الأول (ليبيا مثلاً) ؛ لمجرد أن اللسان العربي يجمعهما .

الوعي بالاختلاف بين هذه الأقسام - رغم نسبية التوصيف - ضرورة ؛ لأن ثمة مواقف حاسمة تترتب عليها، أو يجب أن تترتب عليها . فمثلًا، إذا كان التدخل الدولي العسكري مطلوباً في عراق صدام، بل وفي كل دول القسم الأول، فإنه ليس مقبولا بحال في بقية الأقسام . ولهذا طالما أوضحتُ أنه من العته السياسي، الذي ينتاب الثوريين العرب كثيرا، وضع (مبارك) في خانة واحدة مع (صدام)، فضلًا عن أولئك الذين يَلعنون مبارك، وفي الوقت نفسه يبكون بالدموع وبالكلمات على صدّام !.

أذكرُ عندما عزمت قوات التحالف الدولي على غزو العراق أنني كتبتُ مقالا أشير فيه إلى أنني أعدُّ ما تقوم به هذه القوات الدولية تحريراً وليس احتلالًا، وأن صدام هو الذي كان يحتل العراق، ولابد من تحريرالعراق . حينها، قال لي أحدهم منفعلًا : هل تؤيد أن تحتل أمريكا وطنك والخليج ؟

لاشك أن هذا سؤال يعكس حالة جهل مرعب بالفرق بين دُول مستقرة، حققت كثيرا من المنجزات، وأخطاؤها في مجال حقوق الإنسان استثنائية وعابرة ويتم تلافيها في معظم الأحيان، ودولة أخرى مختلفة أشد ما يكون الاختلاف، دولة تنتهج بوحشية قمع الإنسان، وتمارس الإبادة الجماعية علانية، ولم تحقق لشعبها بعد كل هذا إلا الدمار.

إلى اليوم، لا يزال كثيرون يخلطون بين هذه الأقسام عن جهل أو عن عمد . لا يزال كثيرون يريدون أن تتعاطى شعوب دول الخليج مع حكوماتها كما يتعاطى الشعب السوري مع جلاّديه، وكأن الوضع الإنساني هنا يشابه أو يقارب الوضع الإنساني هناك . يفعلون ذلك ؛ مع أنهم يدركون أن الفرق كبير وهائل ؛ أياً كانت آلية الرصد والقياس .

أحدهم يكتب بياناً أو مناشدة، يُظهر فيها حرصه وغيرته على الحريات، ويدعو صراحة إلى العفو عن مجرمين ثبتت علاقتهم بالإرهاب، وأدينوا على هذا الأساس من قبل القضاء، كما يدعو - في البيان نفسه - إلى غض الطرف عن بعض مثيري الشغب وممارسي العنف في المنطقة الشرقية، أولئك الذين لم يتحركوا إلا تحت وطأة ما يتعرض له الحزب الإيراني اللبناني وحليفه السوري في هذه الأيام من مآزق تقف به على مشارف الفناء .

لا يعني الإيمان بحرية التعبير عن الرأي، والدفاع عن الحقوق، والمطالبة بالمساواة، أن يُدافع الإنسان عن شخصيات ثبتت علاقتها بتنظيمات مسلحة في العراق، ولا أن يضع الثائرين على إيقاع ما يحدث في سورية ولبنان، في مصاف المطالبين - سلميا - بالعدل والمساوة . فهؤلاء وأولئك ليسوا مُعبّرين عن رأي أو منافحين عن قضية، وإنما هم مرتبطون بعلائق تنظيمية مع جماعات الإرهاب أو مع دول الإرهاب .

نحن قد حققنا كثيرا مما نطمح إليه ؛ رغم كل العقبات التي تفرضها معادلات التوازن الداخلي . ولهذا، فأي مغامرة تُعرّض الاستقرار للخطر ستكون مُدانة من الجميع، ولن يشفع لأصحابها أنهم يرفعون راية الدفاع عن الحقوق .

وبعيداً عن حقيقة كون بعضهم يُحاول، ولو من طرف خفي، ومنذ أمد طويل، تحقيق شيء من الحضور ولو على حساب مستقبل الوطن، فإننا جميعا، وبوضوح، لا نرضى بأي تفريق أو تمييز بين أبناء الوطن الواحد، ونحن جميعا ضد أية فكرة أو مقولة أو واقعة في هذا السياق . لكننا في الوقت نفسه نرفض أن يتم استغلال أي شعار حقوقي في هذا المجال من أجل تحقيق مكاسب سياسية، سواء أكانت مكاسب فردية وخاصة، أم كانت مكاسب لحسابات تقع خارج حدود الوطن، الوطن الذي هو اليوم بحاجة إلى التمييز بوضوح بين دعاة الحقوق، وبين تجار الحقوق..