«الوجه الآخر» عندما يصبح الإعلامي مرآة المسؤول
منــح الصــلح
في الكتاب الممتع الراقي الذي ألفته الإعلامية بإذاعة "مونتي كارلو" غابي لطيف بعنوان "بصمات على الهواء" خصت الكاتبة برضا ظاهر عن النفس برنامجاً إذاعياً كانت قد أعدته بعنوان "الوجه الآخر" وقد بثته محطة "مونتي كارلو" بين 1997 و2001 وكان ضيوفه عدداً من الشخصيات السياسية والثقافية ذات المساهمة والوهج في تاريخنا المعاصر كلبنانيين. وقد سعت كما تقول من خلال الأحاديث التي أجرتها الى أن تستكشف معالم الأمس والمفاصل المهمة التي مرت بها حياة ضيوفها ممن تعرفت على تجربتهم الثقافية والإنسانية وخلفيات الخيارات التي سلكوها. كان هدفها كما قالت الغوص في بعض من خلفية الانسان الذي تحاوره ومقومات تكوينه والظروف التي جعلته هو هو.
وتضيف غابي لطيف: "وجدت الكثير من الأجوبة عن أسئلة كنت أطرحها على نفسي بعقلية عالم آثار ينقب عن الكنوز الدفينة محاولة أن أعبر هكذا من بين الثقوب الى الداخل ، وكلما استطعت التوغل الى داخل الآخر كنت أعتبر أن مهمتي حققت هدفها وحتى هذه اللحظة لم أرتوِ بعد من هذا النهج او الخط الإذاعي.
الذاتيون غير الموضوعيين والموضوعيون غير الذاتيين كلاهما لا يحلق وإن أجاد. وغابي لطيف ليست من هؤلاء ولا من أولئك. فسرها الآسر هو أنها ذاتية ولولا أنها ذاتية لما أبدعت وتوهجت، كما أنها لولا الموضوعية لما سادت ونمت وأخذت موقعها الثابت والراقي
لقد كان عند غابي لطيف باستمرار الى جانب هاجس الاغتناء بالنمو الذاتي قصد التعرف الى الآخر الذي تحاوره، والتعاطي معه بما يجعله يعطي أفضل ما عنده.
نلفت نظر القارئ في كتاب "بصمات على الهواء" سعة دائرة الشخصيات التي حاورتها الإعلامية وتعدديتها من رجال دين كاغناطيوس الرابع هزيم والإمام محمد مهدي شمس الدين ، والعلامة الشيخ المتوفى بالأمس القريب السيد محمد حسين فضل الله، الى البطريرك ميشال صباح بطرك القدس اللاتيني ثم رجال فكر كبطرس بطرس غالي الى غسان سلامة الى فؤاد بطرس الى منح الصلح ثم الى رجال فن ذوي جمهور واسع كمنصور الرحباني ووديع الصافي وعمر الشريف وزكي ناصيف.
وتستعرض الإعلامية النجمة في كتابها كل هؤلاء وهم يمدون المستمعين والقراء من خلال إذاعة "مونتي كارلو" بفيض من تجاربهم وسيرهم الشيّقة وقد كانوا معبرين عن الناس سنوات بعد سنوات.
من إذاعة "مونتي كارلو" أخذت الشخصية الإعلامية عاشقة مهنتها ووطنها التعددي المنفتح لبنان كل ما تشاء من تواصل أغناها وأغنى المستمعين وأسهم في تطوير أداء محاوريها وكأنهم شأن الكبار من المعلمين لا ينفكون عن العلم وهم يسجلون بصماتهم على الهواء. وتميز مفهومها لعملها المهني بأنه تشاركٌ بينها وبين ضيوفها مستخدمي الوسيلة الاعلامية من الساسة وقادة الأدب بأفكار ومعلومات مستحقة لأن يعرفها الناس. وكلا الطرفين، الإعلامي ورجل السياسة أو الفكر ، متعاون أو مفروض به أن يكون متعاوناً على تجويد المادة – الرسالة الى المستمع.
ليس الإعلامي أو الإعلامية، كما تقول غابي لطيف، هو صاحب الرسالة التي يجري تبليغها للمستمع بل بقدر ما هو أو هي طارحُ مادة وأفكار للمدعو ضيفا الى الكلام فإليه التوجه ومنه التوجيه إلا أن دور المذيع الرفيع المستوى كما في حالة غابي لطيف ينبغي أن لا يسقط من الحساب. فالمقود في يد الإعلامية وهي طارحة السؤال والسؤال "نصف الجواب" كما يقول الفرنسيون، وقد يصبح طارح السؤال أحياناً قائد السفينة إن لم يكن كلياً فإلى حد كبير سواء انتبه الى ذلك ضيف الاذاعة ومعه الكثرة من المستمعين أم لم يستمعوا.
كل هذه حقائق من الشيوع بحيث أصبحت غير خافية على بسطاء الناس فضلاً عن ثعالبهم. حتى باتت العامة تسأل عن الإعلامي مثير المواضيع قبل أن تسأل عن المسؤول، وتعتقد أنها بذلك عرفت الخبر اليقين قبل أن تسمع الحوار والرأي الفصل.
ليست هذه حقائق لبنانية أو عربية أو عالم ثالثية فقط، بل هي أيضاً وبشكل أوضح حقائق في البلدان الأكثر تقدما، في أميركا وأوروبا، حيث ينظر الناس بجدية أكثر الى شخص الإعلامي الذي سيأخذ الحديث قبل رئيس الجمهورية أو الوزير أو الكبير الذي سيعطيه. وهكذا فالنجوم من الإعلاميين في البلاد المتقدمة يلاحقهم دون غيرهم الهواة والمحترفون من طلاب المعرفة والمتابعة والحشرية هواة السياسة وغير السياسة بلا تمييز.
وقد يعجب الإعلاميون بأنفسهم نتيجة ذلك أيما إعجاب ولا يخفون ذلك أو يخفونه أحياناً كما فعلت وتفعل غابي لطيف. فقديمها وجديدها اللذان يضمهما كتابها "بصمات على الهواء" يشهدان لها بالموهبة المتوهجة وحب المهنة والخبرة بأوزان محدثيها المتنوعي المواهب والمشارب والمستويات، في إطار من الكبر الأصيل والذوق الشرقي – الغربي المؤصل الموجودين عند قلة من المشارقة العائشين في الغرب. والمتعلقين ببلدهم وكل حبة تراب فيه.
الذاتيون غير الموضوعيين والموضوعيون غير الذاتيين كلاهما لا يحلق وإن أجاد. وغابي لطيف ليست من هؤلاء ولا من أولئك. فسرها الآسر هو انها ذاتية ولولا أنها ذاتية لما أبدعت وتوهجت، كما أنها لولا الموضوعية لما سادت ونمت وأخذت موقعها الثابت والراقي.
إن الذاتية والموضوعية هما الكفيلتان بأن تكون الشخصية مبدعة ومقنعة معا، مختلفة عن غيرها وقادرة على التواصل مع الغير. كان الرضا عن المنتج الاذاعي هو الأساس في حساب الإعلامية اللبنانية لا الزهو بالذات الى حد التغول على القرار السياسي ومزاحمة المتحدث.
إن التشدد مع النفس هو الذي اتخذته غابي رفيقاً ونهجاً لها في حياتها المهنية وتطورها بل في تقويمها لدورها، وقد لعبت التساؤلات المقلقة دوراً مستمراً وإيجابياً في عملها ونموها أكثر مما فعلت الأجوبة المطمئنة وأنواع الثناء عليها، فقد نظرت دائماً الى من تحاور على أنه رفيق رحلة مفترض أن تكون له أرجحية في عيون الناس وفي عرف الزمن. وهذا لا ينقص من دورها والمطلوب أن ينجح الطرفان المتحدث والإعلامي متكاملين.
ومن هنا فالنجاح المهني للإعلامي همّ دائم عند غابي لطيف فهل هو كذلك وبالقدر نفسه عند السياسي، وصاحب الحديث الذي عرفت غابي لطيف دائماً كيف تأخذ منه ببراعة وتعطيه بكرم.؟
في "بصمات على الهواء" تتكشف لدى القارئ/ المستمع شراكة الإعلامي من جهة ، والمفكر والسياسي ورجل القرار من جهة ثانية، وهي شراكة فيها من التكامل والتساند أكثر مما يتصور الكثيرون فالإعلامي ليس متلقياً فحسب ولا ممراً غير ذي أثر فيه للمادة الفكرية أو المعلومة ، ولا هو مكبر صوت أو مخفض بل هو مختلف عن ذلك كثيراً ولعل أهم ما في كتاب غابي لطيف أنه يشرح طبيعة هذه العلاقة بوقائع الذاتية الموضوعية، تلك هي مفتاح شخصية غابي لطيف وسر الجودة في عملها فهي كمذيعة إعلامية تغرف ، ككل ممارس إذاعي ، من منبع الذات الغنية، فهي فنانة بالاختيار والقرار، ولكنها محكومة أيضاً بالموضوعية أكثر مما هو مطلوب من أي شخص آخر، ولعل سر غابي لطيف أنها عرفت ما يمكن أن يعطيها التمسك بهذه الثنائية الخلافية الذاتية والموضوعية معاً، الأمر الذي يحتاج إليه الاعلامي المحترِم لمهنته والأصيل فيها. ولعله من دون هذين العنصرين معاً لا إعلام محبوب ومحترم معاً، ولا إعلامية كبيرة إلا مروراً بهذين الشرطين ولا يكون الإعلامي ذا مستوى إلا بالذاتية والموضوعية مجتمعين لتغدو الذاتية والموضوعية معاً وكأنهما واحد.
لقد مضى الزمن الذي كان فيه اللبناني العائش في أوروبا أو أميركا يعتبر نفسه بمجرد وجوده في الخارج، محققا أحلام أهله في وطنه الأصلي الذين لا يتوقفون عن الاشادة بدول الخارج مرددين: "الله يعمرك يا بلاد برا". كان الريحاني وجبران خليل جبران وكل النجوم الأدبية والسياسية التي لمعت في الخارج تحذر اللبنانيين وكل العرب من عقدة النقص تجاه الأجنبي التي يمثلها الإعجاب المفرط ببلاد برا.
وإذا كان أولئك الكبار أخذوا مكانهم بين أهل التنوير بسبب ما نفخوا في نفوس الشرقيين من الفخر ببلدانهم، ودعوة الآخرين من شعوب العالم الى الاعجاب بإنتاج هذه البلاد فلعل من خير ما في نفس وعقل غابي لطيف هو أنها كانت وظلت معتزة بطلائعيي الفكر التنويري في بلادها. فهي منهم وهذا كتابها الأخير والجميل "بصمات على الهواء" يشهد بذلك.
تكاد تقول في عملها وكتاباتها مشيرة الى أشخاص أحرار وكبار من بلادها هؤلاء هم نحن لا لأنهم ضد الغرب ، وهم أحرار في ذلك إذا كان هذا هو خيارهم ، بل لأنهم من أهل التنوير. وحسب غابي لطيف انها حرصت في إنتاجها في اذاعة "مونتي كارلو" على تقديم فكر اللبنانيين والعرب التنويريين خير تقديم صادقة مع نفسها ووطن آبائها وأجدادها، ولكن غير ناسية سبق الغير لهم في الكثير من المجالات. وهي كإعلامية متشددة مع نفسها ومع أسرة الإعلاميين اللبنانيين والعرب لا لشيء بل لأن مفهوم الإعلام يتطور باستمرار ، وهي تريده حديثاً وعصرياً ودقيقاً في محاسبة نفسه متشدداً في المفهوم المهني الدقيق للإعلام ودور الإعلاميات والإعلاميين العرب. وهو أمر غير متوافر بما فيه الكفاية حتى الآن فالغير يتطور ويتقدم بسرعة أكثر مما نفعل.