- الأربعاء ديسمبر 14, 2011 8:34 am
#42161
كانت بداية سبعينات القرن الماضي في ليبيا مرحلة غير محددة المعالم، وظل هذا الأمر قائما حتى بعد «النقاط الخمس» التي أعلنها القذافي عام 1973 في خطاب زوارة الشهير، وأعلن فيها: إعلان الثورة الشعبية، والثورة الثقافية وتعطيل كل القوانين المعمل بها، وتطهير البلاد من جميع المرضى والمندسين، وإعلان الثورة الإدارية والقضاء على البيروقراطية.
لم تكشف حركة 1969 عن أيديولوجيتها بشكل بيّن، ولم يظهر هذا واضحا إلا عام 1977 عندما أعلن القذافي أن ليبيا سيكون اسمها من الآن فصاعدا «الجماهيرية» عوضا عن الجمهورية، حيث شرع القذافي في تطبيق كتابه الأخضر تطبيقا عمليا على المجتمع الليبي. ومن ذلك التاريخ تبنت ليبيا "الاشتراكية".
قبل الخوض في ما حدث عام 1977 وما بعده، ينبغي معرفة مقدمات هذا الانتقال الاستبدادي الفردي المطلق من بداية الانتقال من الجمهورية إلى الجماهيرية. ومن هذا التاريخ بالذات بدأت قبضة القذافي الحديدية الحقيقية وسلطته المطلقة تأخذان منحى استبداديا طاغيا.
بعيدا عن التحامل أو الإجحاف، كانت البداية حسنة ومشجعة، فقد تنفس المثقفون الليبيون الصعداء عندما علموا أن حركة الضباط تنوي اقامة حوار وطني كبير يجمع كل الأطياف والتيارات السياسية والدينية. وفعلا جاء الوعد وأقيمت ندوة كبرى تحت مسمى «ندوة الفكر الثوري» بثت على الهواء مباشرة، واستغرقت أسابيع واتسم فيها النقاش بالحرية التامة والمطلقة.
كان الليبيون يستمعون فيها لكل التيارات والتنظيمات السياسية داخل ليبيا. وكانوا ينصتون إلى الحوارات السياسية الناضجة والبناءة. والتصادمات الفكرية الممتعة والمتعددة.
يذكر أهل ذاك الزمان في ليبيا تلك الحادثة بين مدير الندوة الرائد بشير هوادي، عضو مجلس قيادة الثورة في ذلك الحين، والكاتب الكبير الصادق النيهوم. فقد انتقد هوادي لباس الصادق وطلب منه أن يترك لباس الجينز وأن يرتدي بدلة، أو لباسا أنيقا مقبولا. ولم يرد الصادق على هوادي. وفي اليوم التالي قدم الصادق باللباس نفسه، ولكنه كان يحمل معه بدلة أنيقة مع مشجبها، وعندما طلب هوادي من الصادق أن يتحدث، أشار إليه الصادق بأن يتوجه بسؤاله للبدلة.
بعد هذه الندوة بشهور قليلة سيق كثير من روادها إلى السجون. وقمعت حرية التعبير وكممت الأفواه. وسارع القذافي بعد ذلك إلى إعلان النقاط الخمس.
لم يتخلص القذافي من المفكرين والمثقفين الذين عارضوا أفكاره في ندوة الفكر الثوري فقط، ولكنه تمكن أيضا من التخلص من زملائه أعضاء الحركة الذين كانوا يكونون ما سمي «مجلس قيادة الثورة» فقد كان عددهم اثني عشر عضوا وهم الآن ثلاثة، واحد منهم تحت الإقامة الجبرية.
قبل إعلان القذافي عام 1977 بعام واحدعن قيام سلطة الشعب، وانبلاج عصر الجماهير أو عصر الانعتاق النهائي - وهي تسميات يحلو للقذافي أن يكررها في كل مناسبة - جاءت الأحداث الدامية في السابع من أبريل 76 والتي قال عنها القذافي شخصيا إنها قربت من قيام سلطة الشعب.
هناك روايتان لما حدث ذلك اليوم: رواية النظام أو رواية اللجان الثورية تقول: «إن ثورة الطلاب في ابريل قامت رفضا للنظام الرجعي المتعفن، ايماناً منها بمبادئ وفكر معمر القذافي الذي حرّض على القضاء النهائي على الرجعية المتخلفة في كل المؤسسات التعليمية آنذاك، والتي تعد أهم الركائز التي يعول عليها المجتمع الجماهيري الواعي، بثورة طلابية تكتسح الرجعية وتطهر المؤسسات التعليمية من بقاياها ومن العنكبوت الذي عشعش في العقول، وكبح حرية التفكير حيث اقتصر التعليم على فئة معينة ووحيدة، أما باقي افراد الشعب فكانوا محرومين من هذا الحق».
الرواية الثانية، كتبها التاريخ، فحكم بأن كل هذا الكلام الثوري ليس إلا ذرا للرماد في العيون، فالقذافي كان يهيئ لنموذجه الاشتركي المتمثل في الكتاب الأخضر. ولكنه كان يعرف أن أفكاره هذه ستصطدم برؤى طلبة الجامعات، فرأى أن يصفي حساباته معها أولا. واستخدم في ذلك مصطلحا واضحا هو «تطهير الجامعات من اليمين المتعفن».
فالنظام الفتي، في وقتها، كان يعد لهذا اليوم، وقام بإقحام الطلبة وإعدادهم في الملتقيات والمعسكرات العقائدية التي يسميها إلى الآن معسكرات «سواعد وأشبال الفاتح» ثم جزهم في الجامعات المختلفة لينفذوا إرادته وسياساته. وهذا ما حدث.
لقد كانت أحداث دامية قتل فيها عدد من الطلبة الذين كانوا من المعارضين لسياسة النظام ذي الرؤية الواحدة. كما زج بالكثير منهم في السجون ومكثوا فيها مددا طويلة جدا حيث دخلوها شبابا وخرجوا منها كهولا، وأطلق القذافي كثيرا منهم في مسرحية "دكه للسجون" ببلدوزر في ما سماه يوم «أصبح الصبح». لكن هناك أعداد من هؤلاء الطلاب لم يعودوا حتى اليوم إلى أهاليهم.
بيد أن ما حدث بعد هذا التاريخ سيظل من الأمور المريعة والمضحكة في الآن نفسه في تاريخ ليبيا الحديث. لقد تعرض المجتمع الليبي لأسوأ فوضى عرفتها المنطقة، عندما شرع القذافي في تطبيق أفكار كتابه الأخضر بالقوة على المجتمع الليبي.
من تحزّب خان
ولنبدأ بمقولة من مقولات هذا الكتاب وهي من «تحزب خان». حيث نكّل النظام بالحزبيين ومنع تشكيل الأحزاب تحت أي مسمى وزج بقادتها والمنتمين إليها في السجون. وطبق النظام مقولة «البيت لساكنه» بتعسف ومن دون استفتاء إذ أصبح كل انسان يسكن في بيت بالإيجار يملك هذا البيت. ولنتصور وقع هذا الأمر على القطاع العقاري الذي أحرقت ملفاته في ما بعد عمدا من قبل أجهزة النظام من اللجان الثورية، ليصبح من الصعب على أي شخص يملك عقارا تقديم دليل على ذلك. ووفقا لهذا التطبيق الفوضوي المجحف عمت الفوضى والتذمر، وسعى العقاريون إلى بيع أملاكهم بأثمان بخسة والفرار إلى الخارج.
ومما لا شك فيه أن القذافي نجح نجاحا باهرا في القضاء على الطبقة الثرية في المجتمع الليبي بمصادرة أملاكها والتضييق عليها ومحاصرتها وكان من أبرز هؤلاء الأثرياء عائلة "طاطاناكي" التي كانت تملك عقارات وأراض واسعة في طرابلس. ولكن بدأت تنمو في البلاد في ما بعد، طبقة أخرى من الأثرياء الجدد أكثر شراسة وثراء من طاطاناكي نفسها، لتأسس بعد ذلك للفساد والرشوة والمحسوبية والوساطة.
وقد أنفقت أموال طائلة على الكتاب الأخضر وطبع بكل اللغات الحية والميتة منها، وأنشئ له مركز رئيس في طرابلس سمي «المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر» يوظف الطلبة وأساتذة الجامعات من كل أرجاء الدنيا ويطلب منهم كتابة بحوث ودراسات حول هذا الكتاب مقابل أموال طائلة. وقام هذا المركز بإقامة الندوات في جامعات عالمية شهيرة مثل جامعة كاركاس في فنزويلا وجامعتي مدريد والسربون وأكرا في غانا بالإضافة إلى معظم الجامعات الأفريقية. وكان الطلبة من جميع أنحاء العالم يأتون للدراسة في ليبيا على نفقة هذا المركز، حيث يتم تدريسهم الكتاب الأخضر، وبعد ذلك يطلب منهم أن يكونوا «مبشرين بهذا الكتاب» يعني تدريسه وتوزيعه في بلدانهم مقابل أموال مجزية.
وهكذا أصبحت كل الكتب في ليبيا قربانا للكتاب الأخضر، وأصبح المثقفون الليبيون يئنون في صمت. وكان لا يجرؤ أحد منهم أن يخرج كتابا إلى النور، إلا ما كان موافقا لمزاج العقيد.
وفتح العقيد أبواب الرفاهية لنفسه وأسرته ولكتابه وأفكاره، ولكنه سدها في وجه شعبه، الذي ضيق الخناق عليه وحرمه من العيش الكريم.
الزحف.. الكارثة
الأسوأ من كل هذا، ما حدث بعد ذلك، إذ أطلق القذافي العنان للجانه الثورية بتحريض جموع العمال والحرفيين والقوى العاملة الأخرى على (الزحف) على المنشآت والمصانع والأماكن التي يعملون فيها لتشكيل لجان شعبية تدير هذه المصانع موهمينهم بأنهم سيتحولون من أجراء إلى شركاء، تطبيقا لمقولة «شركاء لا أجراء» وهي واحدة أخرى من مقولات الكتاب الأخضر. ومواكبة لهذا الهدف أمر القذافي بإصدار صحيفة سماها «الزحف الأخضر» في يناير 1980.
وبدأ العمال في الزحف على المصانع والمؤسسات والمحال التجارية وشكلوا فيها لجانا شعبية لتسيير أمورها وطردوا أصحابها الحقيقيين الذين هربوا وفضلوا السلامة على المال، ومن رفض من هؤلاء الخروج اضطر إلى ذلك اضطرارا بالقوة. وهنا ساء الحال في ليبيا، بسوء الإنتاج وقلته، إذ نقصت طاقات المصانع والمنشآت المزحوف عليها، بعد أن تولى رئاستها أناس ليست لهم الخبرة والحنكة، وليست لديهم معرفة بالأسواق العالمية التي توفر المواد وقطع الغيار اللازمة لهذه المصانع، فأهملت وخربت. ولم تمض خمس سنوات حتى نزعت ملكية جميع المصانع والشركات من أصحابها. وفي مواكبة هذا الحدث كان يجري أيضا تشكيل أمانات أو مثابات اللجان الثورية في كل مكان من ليبيا. وهذه اللجان التي أمر القذافي بتشكيلها كانت لها الصلاحيات الكاملة في كل شيء. فدبت الفوضى في كل مكان وعانى الشعب الليبي من بطش هذه اللجان وإرهابها إذ كانت تطبق حرفيا ما يقوله القذافي في خطاباته ولقاءاته ومحاضراته.
التصعيد
عاشت ليبيا سنين صعبة متوترة منذ بدأ القذافي في تطبيق نموذجه السياسي على المجتمع الليبي، فظهر ما سماه «التصعيد الشعبي» وهي عملية فوضوية حيث يختار الناس في مناطقهم المختلفة شخصا ويعينونه أمينا على الاقتصاد مثلا أو الصحة أو التعليم. وأدى هذا إلى هيمنة القبائل الكبرى على أعمدة الدولة. كما أن الاختيار لم يكن مدروسا فعادة ما يختار الناس شخصا ليس مؤهلا بل أميا وحدث هذا مرارا. كما أن الوقت الذي تستغرقه عملية الاختيار طويل جدا، مما أدى إلى إهمال الناس لأعمالها وحرفها ووظائفها، وظلوا يتغيبون عنها من دون حسيب أو رقيب. وكان لهذا مردود سيئ على الانتاج.
ورافق كل هذا (تشنج ثوري) استمر متأججا حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. كان القذافي خلالها في قمة اندفاعه الثوري، فكان لا يدع مناسبة إلا ويظهر في بدلة عسكرية بنياشينه وأوسمته وكأن ليبيا في حرب أبدية، صابا جام غضبه على الرجعية ومن يسميهم المندسين.
إن ما كان يحدث في ليبيا شيء غريب عجيب، أربعة عقود من الزمن ذهبت سدى، عاثت فيها اللجان الثورية فسادا وإرهابا للناس.. وحصرت فيها على الليبيين أنفاسهم.. وأرغمتهم بالقوة على ترديد مقولات القذافي.. وتدريسه في المدارس والجامعات، بل ذهب بهم الأمر إلى بث جزء من الكتاب الأخضر قبل أية نشرة إخبارية مسموعة أو مرئية. وما زال هذا الأمر قائما إلى الآن.
إن ليبيا بالكامل أصبحت ملك رجل واحد يتحكم في ناسها ومالها ونفطها وسمائها وأرضها. دكتاتورية مطلقة، كانت حتى برامج التلفزيون والراديو تدار بأمره وأمر مكتبه. وحدث مرة أن عبّر عن عدم رضائه عن برامج التلفزيون بأن قطع البث، ووضع صورة ثابتة لحذاء ظل الناس ينظرون إليه فترة ليست بالقصيرة.
وفي هوس جنون العظمة كان لا يقبل النجومية، أي أنه كان لا يسمح بذكر أسماء في نشرات الأخبار أو الصحف إذ كان يُكتفى بالقول مثلا أمين الصحة من دون ذكر اسمه. وقد حدث هذا للمنتخب الليبي لكرة القدم فكان محظورا ذكر اسم اللاعب ويذكر فقط رقمه.
الجمهرة
ذهب العقيد إلى أبعد من ذلك عندما رأى وجوها تلفزيونية تتألق فأعلن ما سماها (الجمهرة)، استباقا لطغيانها على صورته في الإذاعة. والجمهرة هي أن يأتي المواطنون إلى الإذاعة لقراءة نشرات الأخبار، فأضحت الإذاعة الليبية شبيهة بمسرح العرائس يأتي إليها المواطنون من مختلف ربوع البلاد ويطلبون قراءة النشرة. وقد قضى الليبيون شهورا ضاحكين ومنذهلين مما يحدث داخل الإذاعة. إلى أن اضطر إلى إنهائها بعدما كثرت الأخطاء والأغلاط الفظيعة حيث إن نشرات الأخبار تبث على الهواء مباشرة.
إن حكم القذافي المطلق ينطبق عليه تماما قول المؤرخ والسياسي الإنجليزي جون آكتون 1834 - 1902 إن «السلطة عادة ما تجنح للفساد، إلا أن السلطة المطلقة هي التي تفسد بشكل مطلق» وهو فعلا ما حدث في ليبيا. إذ ما كان لرأي أن يعلو فوق رأي العقيد. بل ما كان لأحد أن يجرؤ على إبداء أي رأي. فالرأي ما كان يراه العقيد.
لم تكشف حركة 1969 عن أيديولوجيتها بشكل بيّن، ولم يظهر هذا واضحا إلا عام 1977 عندما أعلن القذافي أن ليبيا سيكون اسمها من الآن فصاعدا «الجماهيرية» عوضا عن الجمهورية، حيث شرع القذافي في تطبيق كتابه الأخضر تطبيقا عمليا على المجتمع الليبي. ومن ذلك التاريخ تبنت ليبيا "الاشتراكية".
قبل الخوض في ما حدث عام 1977 وما بعده، ينبغي معرفة مقدمات هذا الانتقال الاستبدادي الفردي المطلق من بداية الانتقال من الجمهورية إلى الجماهيرية. ومن هذا التاريخ بالذات بدأت قبضة القذافي الحديدية الحقيقية وسلطته المطلقة تأخذان منحى استبداديا طاغيا.
بعيدا عن التحامل أو الإجحاف، كانت البداية حسنة ومشجعة، فقد تنفس المثقفون الليبيون الصعداء عندما علموا أن حركة الضباط تنوي اقامة حوار وطني كبير يجمع كل الأطياف والتيارات السياسية والدينية. وفعلا جاء الوعد وأقيمت ندوة كبرى تحت مسمى «ندوة الفكر الثوري» بثت على الهواء مباشرة، واستغرقت أسابيع واتسم فيها النقاش بالحرية التامة والمطلقة.
كان الليبيون يستمعون فيها لكل التيارات والتنظيمات السياسية داخل ليبيا. وكانوا ينصتون إلى الحوارات السياسية الناضجة والبناءة. والتصادمات الفكرية الممتعة والمتعددة.
يذكر أهل ذاك الزمان في ليبيا تلك الحادثة بين مدير الندوة الرائد بشير هوادي، عضو مجلس قيادة الثورة في ذلك الحين، والكاتب الكبير الصادق النيهوم. فقد انتقد هوادي لباس الصادق وطلب منه أن يترك لباس الجينز وأن يرتدي بدلة، أو لباسا أنيقا مقبولا. ولم يرد الصادق على هوادي. وفي اليوم التالي قدم الصادق باللباس نفسه، ولكنه كان يحمل معه بدلة أنيقة مع مشجبها، وعندما طلب هوادي من الصادق أن يتحدث، أشار إليه الصادق بأن يتوجه بسؤاله للبدلة.
بعد هذه الندوة بشهور قليلة سيق كثير من روادها إلى السجون. وقمعت حرية التعبير وكممت الأفواه. وسارع القذافي بعد ذلك إلى إعلان النقاط الخمس.
لم يتخلص القذافي من المفكرين والمثقفين الذين عارضوا أفكاره في ندوة الفكر الثوري فقط، ولكنه تمكن أيضا من التخلص من زملائه أعضاء الحركة الذين كانوا يكونون ما سمي «مجلس قيادة الثورة» فقد كان عددهم اثني عشر عضوا وهم الآن ثلاثة، واحد منهم تحت الإقامة الجبرية.
قبل إعلان القذافي عام 1977 بعام واحدعن قيام سلطة الشعب، وانبلاج عصر الجماهير أو عصر الانعتاق النهائي - وهي تسميات يحلو للقذافي أن يكررها في كل مناسبة - جاءت الأحداث الدامية في السابع من أبريل 76 والتي قال عنها القذافي شخصيا إنها قربت من قيام سلطة الشعب.
هناك روايتان لما حدث ذلك اليوم: رواية النظام أو رواية اللجان الثورية تقول: «إن ثورة الطلاب في ابريل قامت رفضا للنظام الرجعي المتعفن، ايماناً منها بمبادئ وفكر معمر القذافي الذي حرّض على القضاء النهائي على الرجعية المتخلفة في كل المؤسسات التعليمية آنذاك، والتي تعد أهم الركائز التي يعول عليها المجتمع الجماهيري الواعي، بثورة طلابية تكتسح الرجعية وتطهر المؤسسات التعليمية من بقاياها ومن العنكبوت الذي عشعش في العقول، وكبح حرية التفكير حيث اقتصر التعليم على فئة معينة ووحيدة، أما باقي افراد الشعب فكانوا محرومين من هذا الحق».
الرواية الثانية، كتبها التاريخ، فحكم بأن كل هذا الكلام الثوري ليس إلا ذرا للرماد في العيون، فالقذافي كان يهيئ لنموذجه الاشتركي المتمثل في الكتاب الأخضر. ولكنه كان يعرف أن أفكاره هذه ستصطدم برؤى طلبة الجامعات، فرأى أن يصفي حساباته معها أولا. واستخدم في ذلك مصطلحا واضحا هو «تطهير الجامعات من اليمين المتعفن».
فالنظام الفتي، في وقتها، كان يعد لهذا اليوم، وقام بإقحام الطلبة وإعدادهم في الملتقيات والمعسكرات العقائدية التي يسميها إلى الآن معسكرات «سواعد وأشبال الفاتح» ثم جزهم في الجامعات المختلفة لينفذوا إرادته وسياساته. وهذا ما حدث.
لقد كانت أحداث دامية قتل فيها عدد من الطلبة الذين كانوا من المعارضين لسياسة النظام ذي الرؤية الواحدة. كما زج بالكثير منهم في السجون ومكثوا فيها مددا طويلة جدا حيث دخلوها شبابا وخرجوا منها كهولا، وأطلق القذافي كثيرا منهم في مسرحية "دكه للسجون" ببلدوزر في ما سماه يوم «أصبح الصبح». لكن هناك أعداد من هؤلاء الطلاب لم يعودوا حتى اليوم إلى أهاليهم.
بيد أن ما حدث بعد هذا التاريخ سيظل من الأمور المريعة والمضحكة في الآن نفسه في تاريخ ليبيا الحديث. لقد تعرض المجتمع الليبي لأسوأ فوضى عرفتها المنطقة، عندما شرع القذافي في تطبيق أفكار كتابه الأخضر بالقوة على المجتمع الليبي.
من تحزّب خان
ولنبدأ بمقولة من مقولات هذا الكتاب وهي من «تحزب خان». حيث نكّل النظام بالحزبيين ومنع تشكيل الأحزاب تحت أي مسمى وزج بقادتها والمنتمين إليها في السجون. وطبق النظام مقولة «البيت لساكنه» بتعسف ومن دون استفتاء إذ أصبح كل انسان يسكن في بيت بالإيجار يملك هذا البيت. ولنتصور وقع هذا الأمر على القطاع العقاري الذي أحرقت ملفاته في ما بعد عمدا من قبل أجهزة النظام من اللجان الثورية، ليصبح من الصعب على أي شخص يملك عقارا تقديم دليل على ذلك. ووفقا لهذا التطبيق الفوضوي المجحف عمت الفوضى والتذمر، وسعى العقاريون إلى بيع أملاكهم بأثمان بخسة والفرار إلى الخارج.
ومما لا شك فيه أن القذافي نجح نجاحا باهرا في القضاء على الطبقة الثرية في المجتمع الليبي بمصادرة أملاكها والتضييق عليها ومحاصرتها وكان من أبرز هؤلاء الأثرياء عائلة "طاطاناكي" التي كانت تملك عقارات وأراض واسعة في طرابلس. ولكن بدأت تنمو في البلاد في ما بعد، طبقة أخرى من الأثرياء الجدد أكثر شراسة وثراء من طاطاناكي نفسها، لتأسس بعد ذلك للفساد والرشوة والمحسوبية والوساطة.
وقد أنفقت أموال طائلة على الكتاب الأخضر وطبع بكل اللغات الحية والميتة منها، وأنشئ له مركز رئيس في طرابلس سمي «المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر» يوظف الطلبة وأساتذة الجامعات من كل أرجاء الدنيا ويطلب منهم كتابة بحوث ودراسات حول هذا الكتاب مقابل أموال طائلة. وقام هذا المركز بإقامة الندوات في جامعات عالمية شهيرة مثل جامعة كاركاس في فنزويلا وجامعتي مدريد والسربون وأكرا في غانا بالإضافة إلى معظم الجامعات الأفريقية. وكان الطلبة من جميع أنحاء العالم يأتون للدراسة في ليبيا على نفقة هذا المركز، حيث يتم تدريسهم الكتاب الأخضر، وبعد ذلك يطلب منهم أن يكونوا «مبشرين بهذا الكتاب» يعني تدريسه وتوزيعه في بلدانهم مقابل أموال مجزية.
وهكذا أصبحت كل الكتب في ليبيا قربانا للكتاب الأخضر، وأصبح المثقفون الليبيون يئنون في صمت. وكان لا يجرؤ أحد منهم أن يخرج كتابا إلى النور، إلا ما كان موافقا لمزاج العقيد.
وفتح العقيد أبواب الرفاهية لنفسه وأسرته ولكتابه وأفكاره، ولكنه سدها في وجه شعبه، الذي ضيق الخناق عليه وحرمه من العيش الكريم.
الزحف.. الكارثة
الأسوأ من كل هذا، ما حدث بعد ذلك، إذ أطلق القذافي العنان للجانه الثورية بتحريض جموع العمال والحرفيين والقوى العاملة الأخرى على (الزحف) على المنشآت والمصانع والأماكن التي يعملون فيها لتشكيل لجان شعبية تدير هذه المصانع موهمينهم بأنهم سيتحولون من أجراء إلى شركاء، تطبيقا لمقولة «شركاء لا أجراء» وهي واحدة أخرى من مقولات الكتاب الأخضر. ومواكبة لهذا الهدف أمر القذافي بإصدار صحيفة سماها «الزحف الأخضر» في يناير 1980.
وبدأ العمال في الزحف على المصانع والمؤسسات والمحال التجارية وشكلوا فيها لجانا شعبية لتسيير أمورها وطردوا أصحابها الحقيقيين الذين هربوا وفضلوا السلامة على المال، ومن رفض من هؤلاء الخروج اضطر إلى ذلك اضطرارا بالقوة. وهنا ساء الحال في ليبيا، بسوء الإنتاج وقلته، إذ نقصت طاقات المصانع والمنشآت المزحوف عليها، بعد أن تولى رئاستها أناس ليست لهم الخبرة والحنكة، وليست لديهم معرفة بالأسواق العالمية التي توفر المواد وقطع الغيار اللازمة لهذه المصانع، فأهملت وخربت. ولم تمض خمس سنوات حتى نزعت ملكية جميع المصانع والشركات من أصحابها. وفي مواكبة هذا الحدث كان يجري أيضا تشكيل أمانات أو مثابات اللجان الثورية في كل مكان من ليبيا. وهذه اللجان التي أمر القذافي بتشكيلها كانت لها الصلاحيات الكاملة في كل شيء. فدبت الفوضى في كل مكان وعانى الشعب الليبي من بطش هذه اللجان وإرهابها إذ كانت تطبق حرفيا ما يقوله القذافي في خطاباته ولقاءاته ومحاضراته.
التصعيد
عاشت ليبيا سنين صعبة متوترة منذ بدأ القذافي في تطبيق نموذجه السياسي على المجتمع الليبي، فظهر ما سماه «التصعيد الشعبي» وهي عملية فوضوية حيث يختار الناس في مناطقهم المختلفة شخصا ويعينونه أمينا على الاقتصاد مثلا أو الصحة أو التعليم. وأدى هذا إلى هيمنة القبائل الكبرى على أعمدة الدولة. كما أن الاختيار لم يكن مدروسا فعادة ما يختار الناس شخصا ليس مؤهلا بل أميا وحدث هذا مرارا. كما أن الوقت الذي تستغرقه عملية الاختيار طويل جدا، مما أدى إلى إهمال الناس لأعمالها وحرفها ووظائفها، وظلوا يتغيبون عنها من دون حسيب أو رقيب. وكان لهذا مردود سيئ على الانتاج.
ورافق كل هذا (تشنج ثوري) استمر متأججا حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. كان القذافي خلالها في قمة اندفاعه الثوري، فكان لا يدع مناسبة إلا ويظهر في بدلة عسكرية بنياشينه وأوسمته وكأن ليبيا في حرب أبدية، صابا جام غضبه على الرجعية ومن يسميهم المندسين.
إن ما كان يحدث في ليبيا شيء غريب عجيب، أربعة عقود من الزمن ذهبت سدى، عاثت فيها اللجان الثورية فسادا وإرهابا للناس.. وحصرت فيها على الليبيين أنفاسهم.. وأرغمتهم بالقوة على ترديد مقولات القذافي.. وتدريسه في المدارس والجامعات، بل ذهب بهم الأمر إلى بث جزء من الكتاب الأخضر قبل أية نشرة إخبارية مسموعة أو مرئية. وما زال هذا الأمر قائما إلى الآن.
إن ليبيا بالكامل أصبحت ملك رجل واحد يتحكم في ناسها ومالها ونفطها وسمائها وأرضها. دكتاتورية مطلقة، كانت حتى برامج التلفزيون والراديو تدار بأمره وأمر مكتبه. وحدث مرة أن عبّر عن عدم رضائه عن برامج التلفزيون بأن قطع البث، ووضع صورة ثابتة لحذاء ظل الناس ينظرون إليه فترة ليست بالقصيرة.
وفي هوس جنون العظمة كان لا يقبل النجومية، أي أنه كان لا يسمح بذكر أسماء في نشرات الأخبار أو الصحف إذ كان يُكتفى بالقول مثلا أمين الصحة من دون ذكر اسمه. وقد حدث هذا للمنتخب الليبي لكرة القدم فكان محظورا ذكر اسم اللاعب ويذكر فقط رقمه.
الجمهرة
ذهب العقيد إلى أبعد من ذلك عندما رأى وجوها تلفزيونية تتألق فأعلن ما سماها (الجمهرة)، استباقا لطغيانها على صورته في الإذاعة. والجمهرة هي أن يأتي المواطنون إلى الإذاعة لقراءة نشرات الأخبار، فأضحت الإذاعة الليبية شبيهة بمسرح العرائس يأتي إليها المواطنون من مختلف ربوع البلاد ويطلبون قراءة النشرة. وقد قضى الليبيون شهورا ضاحكين ومنذهلين مما يحدث داخل الإذاعة. إلى أن اضطر إلى إنهائها بعدما كثرت الأخطاء والأغلاط الفظيعة حيث إن نشرات الأخبار تبث على الهواء مباشرة.
إن حكم القذافي المطلق ينطبق عليه تماما قول المؤرخ والسياسي الإنجليزي جون آكتون 1834 - 1902 إن «السلطة عادة ما تجنح للفساد، إلا أن السلطة المطلقة هي التي تفسد بشكل مطلق» وهو فعلا ما حدث في ليبيا. إذ ما كان لرأي أن يعلو فوق رأي العقيد. بل ما كان لأحد أن يجرؤ على إبداء أي رأي. فالرأي ما كان يراه العقيد.